الطريق نحو الانتخابات البلدية في شمال شرق سوريا: العملية المشوّهة والواقع الهش
تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
تمهيد:
في سياق المشروع الخاص بقوات سوريا الديمقراطية “قسد” ضمن مناطق سيطرتها شمال شرق سوريا، وبعد أن قامت بإصدار العقد الاجتماعي الجديد أواخر عام 2023 أصدر “مجلس الشعوب الديموقراطي” الذي يُعدّ الجهة التشريعية وفق العقد الاجتماعي المشار له، أربعة قوانين خاصة بتنفيذ العمليات الانتخابية، وهي تباعاً: قانون المفوّضية العليا للانتخابات رقم 2، وقانون البلدية واتحاد البلديات رقم 4، وقانون الانتخابات البلدية رقم 5، وقانون التقسيمات الإدارية رقم 6 لعام 2024، ومن ثم شرعت في الإعلان عن الانتخابات البلدية بناء على ذلك الإطار القانوني الناظم، والتي كان من المفترض تنفيذها في 11 حزيران 2024.
على الرغم من أن هذه الانتخابات ليست الأولى كحال العقد الاجتماعي، إذ تعود أول انتخابات في مناطق “قسد” إلى أواخر عام 2017 ومطلع عام 2018. فقد أُجريت انتخابات على مراحل ثلاث تضمّنت: انتخاب اللجان المحلية للأحياء ثم انتخاب المجالس المحلية، أعقبها انتخاب “مجلس الشعوب” في المقاطعة التي تتألف منها “الإدارة الذاتية” آنذاك، وأخيراً انتخاب “مجلس الشعوب الديمقراطي” الذي يُعدّ السلطة التشريعية للمنطقة ككل[1].
رغم ذلك استدعت هذه الخطوة الجديدة ردود فعل غاضبة على المستوى الوطني، حيث أعلنت كتل المجلس الوطني الكردي مقاطعة العملية بوصفها غير مشروعة، فيما خرجت مظاهرات للمُهجّرين السوريين من مناطق شمال شرق سوريا رفضاً لهذه العملية بوصفها خطوة لترسيخ الأمر الواقع، وشرعنة تقسيم سوريا والتغيير الديمغرافي، وعلى ذات النحو جاءت مواقف قوى الثورة والمعارضة، وبطبيعة الحال أدانت التصريحات التركية العملية الانتخابية، مع التلويح بالعمليات العسكرية[2]، وترافق مع ما سبق، نقاش عام للسوريين على وسائل التواصل الاجتماعي حول الخطوة وآثارها المختلفة ومن أبرزها: ترسيخ مشروع “قسد” ورؤيتها الخاصة لحاضر ومستقبل سوريا، والمُضيّ بخطوات جديدة نحو الفدرالية كخطوة نحو التقسيم… إلخ[3].
يطرح ما سبق مجموعة من التساؤلات لعلّ، أبرزها:
- هل يُعدّ الواقع القائم في مناطق سيطرة “قسد” مناسباً لإجراء انتخابات محلية؟
- ماهي الخلفية الفلسفية التي تقف وراء القواعد القانونية التي أصدرتها “قسد” كإطار ناظم للانتخابات؟
- هل يمثل رفض غالبية القوى السورية تحديداً المحسوبة على قوى الثورة والمعارضة، لهذه الانتخابات نوعاً من “ازدواجية المعايير” على اعتبار أن هذه القوى ذاتها تُؤيّد بل وتدعو لانتخابات في مناطق شمال غرب سوريا؟
ينقسم هذا التقرير التحليلي إلى أربعة أقسام: نستعرض في القسم الأول المعايير الدولية للعمليات الانتخابية لتقييم توافر هذه الظروف في مناطق “قسد”، وفي الثاني نُحلّل الإطار القانوني للعملية وأهداف النصوص الخاصة بها، فيما نُركّز في الثالث على تحليل المواقف المحلية والدولية الانتخابات، لنستعرض في القسم الأخير جدليّة ضرورة خوض تجارب انتخابية محلية مع تعطّل الحل السياسي الشامل.
أولاً: الانتخابات بين المعايير الدولية والسياق العام في مناطق “قسد”: بيئة غير مُهيّأة للانتخابات
يتضمن القانون الدولي مبادئ رئيسة واضحة للانتخاب والترشّح بوصفها جزءاً رئيساً من حقوق الإنسان الأساسية، وهو ما تجسّد في إعلانات دولية عديدة مثل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (مادة 21) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (مادة 25)[4].
ونظراً لحساسيّة هذا الحق وضوابط تطبيقه عملياً فإن متطلّبات العملية الانتخابية متعدّدة، حيث ترتبط بثلاثة جوانب رئيسة[5]: الأولى: البيئة العامة التي تناسب تنفيذ عمليات انتخابية[6]، والثانية: ترتبط بالنصوص القانونية الناظمة لها، وأخيراً الجوانب اللوجستية والفنية لإدارتها[7].
بالتركيز على المعيار الأساسي الأول وهو البيئة العامة السليمة لإجراء الانتخابات في أي مكان، يمكن القول بأنها البيئة التي تتصف بكونها تحترم حقوق الإنسان، وتتيح لجميع الأفراد ممارسة حقَّي الانتخاب والترشّح، وبناء عليه فإن توفّر هذه البيئة يرتبط بمجموعة من الحقوق الرئيسة التي لا بُدّ من توافرها[8]، وفي مقدمة هذه الحقوق تبرز: حرية الرأي والتعبير، والمساواة وعدم التمييز، وحرية التشكيل والاشتراك في الجمعيات السلميّة، وحق التجمع والتظاهر السلمي، فضلاً عن الحق في الأمن الشخصي[9].
عموماً لا تُعدّ الحالة السورية مناسبة لإجراء انتخابات تكشف عن الإرادة الشعبية، وعلى هذا النحو حدد قرار مجلس الأمن 2254 وجود البيئة الآمنة والمحايدة كشرط لازم لإجراء انتخابات عامة[10].
بالانتقال من المعايير الرئيسة السابقة إلى الحالة الفعلية في مناطق سيطرة “قسد” ابتداء من عام 2023 على الأقل[11]، يمكن تحليل مدى توافر البيئة الداعمة للعملية الانتخابية من خلال سبر مدى وفاء “السلطة” -بغضّ النظر عن شرعيتها– بمتطلّبات العملية الانتخابية الرئيسة القائمة على احترام حقوق الإنسان المشار إليها أعلاه والوفاء بها وحمايتها[12]، من خلال رصد الحالة العامة لهذه الحقوق.
فيما يتعلّق بحرية الرأي والتعبير وحق التظاهر السلمي؛ تكشف طريقة التعاطي مع احتجاجات الفلاحين حول تسعيرة القمح الرسمية وهي الاحتجاجات المتزامنة مع التحضير للانتخابات الحالية عن غياب هذه الحقوق، حيث نفّذت “قسد” عمليات اعتقال ترهيبية لنحو 50 متظاهراً في مختلف مناطق سيطرتها[13]، وتم الاعتداء على صحفيّين أثناء تغطية هذه التظاهرات[14]، وهو ما يظهر كنهج مستمر في التعاطي مع الاحتجاجات الشعبية حول القضايا الجوهرية كما حصل في تظاهرات سابقة في منبج أو دير الزور احتجاجاً على غياب المواد الأساسية أو حملات التجنيد القسري[15].
بالانتقال إلى واقع حرية تشكيل الجمعيات والأحزاب والاشتراك فيها، يسيطر الهاجس الأمني لدى “قسد” على تنفيذ الأنشطة المدنيّة المختلفة، حيث تستخدم الأخيرة مختلف أدواتها بما فيها الجهاز الأمني “الأسايش”[16] و”الشبيبة الثورية”[17] للاعتداء على القوى السياسية المعارضة لها مثل المجلس الوطني الكردي وأحزابه المختلفة[18]؛ واعتقال النشطاء[19]، وتعذيب المعارضين[20]، إلى جانب إغلاق المكاتب أو التهديد بسلاح الترخيص بشكل مستمر[21]، والتي تستند بدورها إلى نصوص تتيح التحكُّم والسيطرة[22].
أما على صعيد المساواة وعدم التمييز[23]؛ وعلى الرغم من الشعارات التي ترفعها “قسد” كالأخوّة بين الشعوب، وعدم وجود نصوص صريحة في التمييز بين المكوّنات المقيمة في مناطق سيطرتها، فإن النظرة إلى المكوّن العربي اتسمت دائماً بخلفية مرتبطة بتنظيم “داعش”، وهو ما ساهم في وجود سلوكيات ومؤشرات على عدم المساواة بين المدنيين في مناطق سيطرتها؛ من قبيل اعتماد “قسد” على كوادر حزب العمال الكردستاني PKK، والخطاب التحريضي على وسائل التواصل ضد المكوّن العربي[24]، والتعاطي بمعايير مزدوجة مع النازحين بناء على معيار عرقي[25].
فيما تُظهر التقارير الحقوقية الدولية حجم الانتهاكات التي ترتكبها “قسد”، والتي تطال الحق في الأمن الشخصي وما يتضمّنه من الحق في عدم التعرُّض للتخويف[26]، وذلك عبر سلوكيّات ممنهجة من الإخفاء القسري والتعذيب والقتل في السجون والمعتقلات، فضلاً عن الخوف الدائم لدى الأُسر من اختطاف أطفالهم في إطار عمليات التجنيد القسري[27].
يُشير ما سبق إلى أن جميع المتطلّبات الرئيسية والتي تتمثل بأبرز الحقوق الأساسية في القانون الدولي غير متوافرة في حالة شمال شرق سوريا، وهو ما يعني أن العمليات الانتخابية من حيث المبدأ ليست في بيئة سليمة، وبالتالي من الصعب التسليم بمصداقية نتائجها حتى مع وجود إطار قانوني ناظم لها أو رقابة في اليوم الانتخابي[28].
متطلّبات رئيسية في البيئة الداعمة للانتخابات | مدى توافرها في مناطق “قسد” |
حرية الرأي والتعبير | × |
المساواة وعدم التمييز | × |
حرية تشكيل الجمعيات السلميّة | × |
حق التجمع والتظاهر السلمي | × |
الحق في الأمن الشخصي | × |
ثانياً: من العقد الاجتماعي إلى القوانين الانتخابية: هندسة الإطار القانوني للعملية الانتخابية وفق أيديولوجيا العمال الكردستاني
ترتبط أي عملية انتخابية سواء أكانت محلية أو برلمانية أو رئاسية بإطار قانوني شامل يبدأ من القواعد الدستورية وصولاً للقوانين واللوائح التنفيذية، فضلاً عن الهياكل التي تدير العملية، وفي كل جانب من هذه الجوانب ثمّة معايير وقواعد فضلى وممارسات متعددة.
عمدت “قسد” إلى تهيئة الإطار العام للعملية الانتخابية من خلال إصدار عقد اجتماعي جديد، ومجموعة من القوانين، والتي يمكن الوقوف عند أبرز مضامينها وفقاً للنقاط الآتية:
1- تضمّن العقد الاجتماعي الأخير الصادر عن “قسد” تحت مُسمّى “العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا” مجموعة من المواد ذات الصلة بالانتخابات كالوحدات الإدارية (مادة 47)، والحق في الترشّح والانتخاب (مادة 48)، فضلاً عن مواد تفصيليّة (75-97) تستعرض الوحدات الإدارية من الكومين الذي يُعدّ أصغر وحدة إدارية وهو بمثابة لجنة أحياء ويضم الأسر، وصولاً إلى “مجلس الشعوب الديمقراطية”، وهو بمثابة “برلمان اتحادي” شمال شرق سوريا[29].
من جانب آخر، فقد حمل العقد الاجتماعي ظهوراً واضحاً لأيديولوجيا العمال الكردستاني[30]، والتي لم تقتصر في نطاق سريانها على مناطق سيطرتها الفعلية، بل تجاوزت ذلك إلى طرح قضايا مرتبطة بمستقبل سوريا ككل، مثل اسم الدولة وشكلها؛ ولعل ذلك يشير إلى رغبة “قسد” في تعميم أفكارها ورؤاها الحزبية على مختلف مكوّنات الشعب السوري، وهو ما يُعبّر عن سعيها لإكساء الواقع الانفصالي الحالي الشرعيّة الشكليّة من خلال “الصندوق الانتخابي”[31].
2- استناداً للعقد الاجتماعي بدأ “مجلس الشعوب الديمقراطية” بإصدار سلسلة من القوانين لتنظيم الانتخابات[32]، وهي: قانون المفوّضية العليا للانتخابات رقم 2[33]، وقانون البلدية واتحاد البلديات رقم 4[34]، وقانون الانتخابات البلدية رقم 5[35]، وقانون التقسيمات الإدارية رقم 6 لعام 2024[36].
تضمّنت هذه القوانين آليات وقواعد تُظهر شكليّاً وجود قواعد ومؤسسات تُمثّل “الإرادة الشعبية” للمقيمين في مناطق سيطرة “قسد”، وعملياً تكرّس سيطرة الأخيرة عليها، بحيث تكون مجرد واجهة “ديمقراطية” لها. في هذا الصدد يمكن الوقوف على النقاط التالية:
- تتولى المفوّضية العليا للانتخابات الدور البارز في إدارة العملية. بالنظر في أحكام القانون رقم 2 تتشكّل المفوّضية بقرار من قبل “مجلس الشعوب الديمقراطي”، حيث يتم ترشيح 13 اسماً من المجلس نفسه، و7 من مجلس العدالة الاجتماعية (مادة 3) والذي يتشكّل أصلاً من “مجلس الشعوب الديمقراطي”[37]، حيث تتقيّد العضوية زمنياً بمدة 4 سنوات قابلة للتجديد، وهو ما يظهر ارتباط العملية بـ”مجلس الشعوب الديمقراطي” المسيطر عليه من قبل “قسد”[38].
- تضمّن قانون الانتخابات البلدية رقم 4 في أهم بنوده صفات الناخب والمرشّح، والتي من أبرزها في السياق السوري أن يتبع في قيد نفوسه لمناطق “الإدارة الذاتية”، أو الإقامة المشروعة لمدة 5 سنوات (مادة8)، وهو ما يعني حرمان النازحين داخلياً من العرب تحديداً من حقهم وفق المعايير الدولية من المشاركة السياسية[39]، وخاصة مع الإجراءات الصعبة في نظام الكفالة التي يُستثنى منها السوري من المكوّن الكردي[40]، ومن جانب آخر فإن نظام الوحدات الإدارية أفرد مقاطعة لعفرين والشهباء رغم عدم سيطرة “قسد” على منطقة عفرين بما يجعل الأكراد النازحين عملياً من هذه المنطقة ينتمون إلى القيود الإدارية لإحدى المقاطعات في شمال شرق سوريا.
- جاء قانون التقسيمات الإدارية رقم 6 لعام 2024 ليقسم مناطق شمال شرق سوريا إلى سبع مقاطعات وهي: الجزيرة، دير الزور، الرقة، الفرات، منبج، عفرين والشهباء، الطبقة (مادة 1)، حيث ثقّلت المناطق التي تحوز فيها على جمهور أكبر من المناطق التي تشعر بأنها مناطق معارضة لها، وبناء على ذلك، نجد أن القانون جعل من مناطق المكوّن العربي في الرقة ودير الزور ومنبج حاصلة على توزين أقل (دير الزور 5 مدن، والرقة 3 مدن، الطبقة 3 مدن، منبج مدينتان) في حين أن الجزيرة (الحسكة) حصلت على 15 مدينة وهي أكثر من المحافظات الثلاث الأخرى. كذلك حازت عفرين على توزين بـ 7 مدن رغم أنها خارج سيطرة “قسد” عمليّاً، وهي أكثر من محافظة الرقة كاملة.
يُظهر استعراض ما سبق من إطار قانوني وجود هندسة شاملة من قبل الكتلة الصلبة في “قسد” لتطبيق رؤيتها الانفصالية في سوريا، بمعزل عن إرادة السوريين، وهو ما يجعل الخطوة الانتخابية الحالية أكثر من مجرد عملية محليّة لإدارة الخدمات في ظل استعصاء الحل السياسي، وبذلك لا يمكن النظر إليها بمعزل عن الاستراتيجية الشاملة لها بفرض أمر واقع على الشعب السوري حالياً ومستقبلاً استناداً “للصندوق الانتخابي” بوصفه جدلاً معبراً عن الرأي الشعبي.
ثالثاً: علاقة المواقف المحلية والدولية بالمُضيّ في الانتخابات المحلية: عامل خارجي مثبّط
في حالة معقّدة كالحالة السورية، تُعدّ قضية التوافق على إجراء انتخابات والمشاركة بها محلياً أو حصولها على الدعم الخارجي سياسياً وتقنياً جانباً مهماً ومؤثراً لدعم مصداقيتها، فضلاً عن إمكانية استثمارها سياسياً بطريقة أو بأخرى.
في حالة شمال شرق سوريا، جاءت المواقف على المستوى المحلي والوطني رافضة عموماً لإجراء الانتخابات لأسباب متعددة، من أبرزها: طغيان البُعد الانفصالي على الجانب المحلي، وهو ما يختلف عن تجارب محلية سابقة في مناطق مختلفة خارج سيطرة نظام الأسد خلال سنوات الثورة السورية، أما دولياً فلم تحصل هذه العملية على الدعم السياسي أو التقني، وهو ما أدى لتخبُّط لدى “قسد” في إطلاق العملية.
معيارياً، يُعدّ الإشراف على الانتخابات من أهم عمليات الدعم الانتخابي، والتي تقوم بها أممياً إدارة الشؤون السياسية وبناء السلام في الأمم المتحدة بموجب تفويض من الجمعية العامة أو مجلس الأمن، إلا أنه عادة ما تكون الانتخابات في المراحل الانتقالية وليس أثناء النزاعات، وهو ما تشير إليه تجارب الدول السابقة[41].
بالتركيز على حالة شمال شرق سوريا، فقد سعت “قسد” عبر المفوّضية العليا للانتخابات لإكساء الشرعية على العملية الانتخابية من خلال الحرص على دعوة المنظمات الدولية والمحلية للمشاركة في الرقابة عليها[42]، إلا أن هذه الدعوة لم تُقابل بالإيجاب على ما يبدو.
من جانب آخر، قوبلت مساعي حشد التأييد والدعم المحلي بانتكاسة أيضاً، حيث أعلنت أبرز القوى السياسية المعارضة لخطPKK-PYD مثل: المجلس الوطني الكردي في سوريا والذي يضمّ مجموعة من الأحزاب والتنظيمات الكردية السورية العريقة[43]، وكذلك العشائر والتنظيمات المجتمعية العربية داخل شمال شرق وخارجها، رفضها للعملية ككل والاحتجاج عليها[44]. وفي ذات السياق جاءت مواقف قوى سياسية معارضة كالائتلاف الوطني وهيئة التفاوض السورية[45]، وهيئات اعتبارية كالمجلس الإسلامي السوري[46]، فضلاً عن هيئة التنسيق الوطنية[47].
دولياً، جاء الموقف التركي رافضاً العملية مع التلويح بعمليات عسكرية في حال إصرار “قسد” على تنفيذ الانتخابات، وهو ما تزامن مع تنفيذ ضربات نوعيّة في مناطق عديدة[48]. في حين جاءت مواقف الولايات المتحدة الأمريكية سلبية تجاه العملية، معتبرة أن ظروف الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة غير متوفرة في شمال شرق سوريا[49]. ومن الجدير بالذكر أن نظام الأسد وإيران وروسيا التزموا الصمت تجاه هذه العملية ككل، فيما يبدو أنه محاولة من هذه الجهات لتحصيل تنازلات من “قسد”[50].
أدّت كل هذه المواقف إلى حالة من الإرباك لدى “قسد”، وهو ما اتضح من خلال تأجيل موعد الانتخابات لمرتين على التوالي، إذ كان من المقرّر عقدها في المرة الأولى بتاريخ 30 أيار إلى 11 حزيران، ومن ثم تأجيل الموعد الأخير إلى شهر آب القادم، تحت ذريعة فتح الباب للدعاية الانتخابية[51]، وهو ما يظهر أثر المواقف السابقة وخاصة الدولية على القضايا المحلية، إذ يؤدي غياب الإشراف الخارجي والرفض المسبق لجعل العملية الانتخابية من دون جدوى.
الرقم | الجهة | طبيعة الموقف | الأثر المتوقع |
1 | المجلس الوطني الكردي | المقاطعة | انخفاض المشاركة الشعبية ونزع الشرعية |
2 | العشائر والقوى العربية | المقاطعة | انخفاض المشاركة الشعبية ونزع الشرعية |
3 | القوى الرسمية للمعارضة | رفض | تعطيل فرص التواصل |
4 | المجلس الإسلامي السوري | رفض | نزع الشرعية |
5 | هيئة التنسيق الوطنية | رفض | إلغاء وثيقة التفاهم أو مفاعيلها |
6 | تركيا | رفض | تطوير العمليات العسكرية النوعية والمفتوحة |
7 | الولايات المتحدة | رفض | تجاهل النتائج |
8 | فرنسا | رفض | تجاهل النتائج |
9 | المنظمات الدولية | الصمت | فقدان شرعية الرقابة |
10 | نظام الأسد وإيران | الصمت | تحصيل مكتسبات جديدة من “قسد” |
11 | روسيا | الصمت | الوساطة بين الأطراف |
رابعاً: الانتخابات المزمعة في شمال شرق سوريا المعبّأة بأبعاد سياسية انفصالية: هل ثمّة ازدواجية في المعايير؟!
في سياق الحديث عن انتخابات “قسد” المزمع إجراؤها وبمعزل عن البيئة الداعمة والمواقف الدولية، تبرز قضية مهمة على المستوى المبدئي حول إجراء انتخابات محلية في ظل تعطُّل الحل السياسي وتحقّق الانتقال السياسي المأمول في سوريا، وهو ما يرتبط بالتمييز بين قبول هكذا عمليات في مناطق سورية ورفضها في مناطق أخرى، وهو ما يعتبره البعض ازدواجية في المعايير، وعليه يبدو حسم هذه القضية من النقاط الرئيسة المهمة.
بداية يتشوق الشعب السوري إلى الممارسة الانتخابية واختيار ممثّليه في عمليات نزيهة وشفّافة على مختلف الصعد وفي كل مكان من سوريا.
وبالفعل، فقد شهدت مناطق عديدة خلال السنوات السابقة عمليات انتخابية كحالة سقبا في ريف دمشق وسراقب في ريف إدلب[52]، وهي العمليات التي حظيت بشهرة واسعة باعتبارها مثالاً للحكم الرشيد المطلوب خارج مناطق سيطرة نظام الأسد، إلا أن الاختلاف بين تلك الحالات وبين الحالة الراهنة يرتبط بمجموعة من الأبعاد، ولعلّ أبرزها يتمثل بما يلي:
1- البُعد ما فوق المحلي: تميّزت الانتخابات المحلية السابقة في التجارب المختلفة في شمال سوريا وجنوبها بأنها تجارب محلية بشكل كامل، بمعنى أن تركيزها انصبّ على اختيار السكان لأعضاء المجلس المحلي لإدارة الشؤون الخدمية والإدارية المختلفة، دون وجود آثار لهذه العملية تتعدّى البُعد المحلي، أما في حالة الانتخابات شمال شرق سوريا فهي تأتي في إطار مشروع شامل لسلطة أمر واقع تُحدّد بمحض إرادتها ومن دون أي شرعية، النظام السياسي العام، وتنطلق من فكرة الإقليم لترسيم مقاطعات واستخدام البلديات في ترسيخ حكم شامل تصل آثاره حتى إلى نظام الأسرة.
2- سيطرة المنظومة الأمنية: في جميع التجارب السابقة كان هنالك توازٍ بين فصائل عسكرية لديها غالباً مكاتب خدمية وأجهزة أمنية وحتى محاكم، وبين أنموذج إداري مدني يتمثل بالمجالس المحلية، وغالباً ما سعت الأولى للسيطرة على الثانية، إلا أن التوازي استمر كسمة عامة سواء في شكل علاقة تعاونية أو صدامية[53]، أما في حالة شمال شرق سوريا فقد نشأت أصلاً هذه المجالس بعد السيطرة على المناطق المختلفة بدعم التحالف الدولي من خلال عمليات اختيار من قبل “قسد”، أما عملياً ومع مرور السنوات فقد كشفت التجارب عن وجود هيكل موازٍ خلف هذه المجالس، وهو ما يُسمّى بـ “كادروس” والذين يتولّون إصدار كافة القرارات الاستراتيجية[54].
ولذلك تأتي هذه الانتخابات كأداة من أدوات “قسد” من أجل شرعنة المؤسسات التي أنشأتها وفق “قواعد قانونية” لا أساس لها في المنظومة القانونية السورية، على عكس الانتخابات المحلية التي جرت في بعض المناطق الأخرى، والتي لم تأت بمؤسسات جديدة، وإنما كانت محاولة لتنفيذها بطريقة صحيحة -إن صح التعبير- من خلال السعي لأن تكون المجالس المحلية معبّرة عن الإرادة الشعبية.
3- ترسيخ الأطر القانونية الغريبة عن المجتمع السوري: في التجارب السابقة استندت العمليات الانتخابية المحلية وإن كان ذلك بشكل نسبي ومع غياب إطار انتخابي متكامل على القوانين السورية، حيث شكّل القانون رقم 107 لعام 2011، ولائحته التنفيذية الصادرة عن الحكومة السورية المؤقتة مستنداً رئيسياً[55]، في حين تستند انتخابات شمال شرق سوريا أصلاً إلى أطر قانونية بعيدة كل البعد عن القانون السوري وتستند في جوهرها إلى العقد الاجتماعي الذي يعكس فلسفة حزب العمال الكردستاني.
4- استنساخ نظام الأسد وفلسفته: على الرغم من صورية الانتخابات في ظل نظام استبدادي كنظام الأسد إلا أنه حرص دائماً على إجبار السوريين على المشاركة من خلال زرع الخوف من تبعات الامتناع، كما ركّز خلال مختلف الاستحقاقات الانتخابية بعد الثورة السورية على دعوة مراقبين من حلفائه لإضفاء مشروعية شكليّة على العملية ككل[56].
على ذات النحو، تسعى “قسد” لإرغام السكان في مناطق سيطرتها على المشاركة في هذه العملية، من خلال استخدام أسلوب التهديد، سواء بالملاحقة أو بالحرمان من الحقوق الأساسية، من جانب آخر توجّهت “قسد” بدعوات متلاحقة للمنظمات أو الدول من أجل الرقابة في اليوم الانتخابي على العملية سعياً لاكتساب الشرعية[57]
انتخابات “قسد” | تجارب انتخابية محلية خارج سيطرة نظام الأسد |
طغيان العامل السياسي الحالي والمستقبلي | طغيان الجانب الخدمي والمحلي |
خدمة المشروع الأمني | التناقض مع المشروع الأمني |
استحضار منظومة قانونية غريبة | الاستناد للإطار القانوني السوري |
إرهاب الناخبين | تحفيز الناخبين |
استثمار النتائج لخدمة المشروع | استثمار النتائج للتنمية المحلية |
خاتمة:
تُجسّد العملية الانتخابية النزيهة والشفافة أداة رئيسة للتعبير عن طبيعة النظام السياسي من جهة، وعن الإرادة الشعبية الحقيقية من جهة أخرى، ولذلك ترتبط بطيف واسع ومعقّد من العمليات التي ترتبط بدورة حياة العملية الانتخابية والتي لا تقتصر على اليوم الانتخابي فقط، لذلك فقد جاءت المعايير الدولية لتضبط هذا المسار الطويل ولتواجه عمليات التلاعب الكبرى التي تحصل من الأنظمة الاستبدادية التي تحرص على إجراء عمليات انتخابية مشوّهة، واستثمار آثارها وخاصة على الصعيد الدولي.
يبدو أن “قسد” تريد تخيير السوريين المقيمين في مناطق سيطرتها بين خيارين سيّئين: إما تعطيل الحق في الانتخاب والترشّح بشكل شامل وتعيين هكذا مؤسسات تمثيليّة بقرارات مباشرة من سلطة استبدادية، أو تنفيذ عمليات انتخابية شكليّة على شاكلة انتخابات نظام الأسد، تكون النتائج معروفة فيها سلفاً.
بالموازنة بين الخيارين السابقين، يبدو أن النمط الثاني أكثر خطراً، تكتيكيّاً من جهة تزييف الإرادة الشعبية وتكريس وجود مؤسسات ضعيفة لا تُمثّل الشعب، واستراتيجيّاً من جهة إيجاد قناعة لدى السوريين باستحالة تنفيذ انتخابات حرة، وبالتالي الاستسلام لنموذج “أسدي” يعادي الشعب أكثر من تمثيله.
بناء على ذلك، إن استمرار واقع الحال بعدم تنفيذ الانتخابات في ظل السياق الاستثنائي الذي تمر به سوريا، بما في ذلك مناطق شمال شرق سوريا، حيث لا تتوفّر الشروط الرئيسة للبيئة الانتخابية، وفي ظل عدم استقرار أمني داخلياً وخارجياً، يعد أقل سوءاً من تزييف الإرادة الشعبية واستثمارها لغايات سلطوية.
في ظل هذه الأجواء ورغم ارتباط قرارات “قسد” بالبُعد السياسي أكثر منه بالبُعد الداخلي وتأجيلها للعملية لمرتين وتوقّعات بإلغائها في حال استمرار الضغط التركي الأمريكي وغياب التشجيع الغربي، فإن الخطوة تكشف عن مساعي “قسد” المستمرة لترسيخ منظومة حكم استبدادية مشوّهة في شمال شرق سوريا استناداً لأيديولوجية انفصالية متطرّفة، وهو ما يتشابه مع آلية تفكير ونهج نظام الأسد قبل الثورة السورية وبعدها، من حيث إدارة عمليات مشوّهة تزوّر إرادة الشعب السوري وتصادر قراره، مع التركيز على حملات دعائية لهذه العمليات في الفترة الأخيرة بغية إظهار شرعية لنظام الحكم ومؤسساته كمجلس الشعب والمجالس المحلية بوصفها معبّرة عن السوريين.
ختاماً، لا يمنع ما ذُكر سابقاً من ضرورة التمسّك بخيار الانتخابات المحلية في المناطق السورية خارج سيطرة نظام الأسد إذا كانت تخلو من أبعاد تهدف لتكريس التقسيم الحالي لسوريا، وتتحكّم في حاضر السوريين ومستقبلهم، وتفرض عليهم توجّهات بعيدة عن توافقاتهم الوطنية المطلوبة، وذلك أن الممارسات الانتخابية المحلية ذات الأهداف الخدمية -وإن كانت غير مكتملة الأركان في ظروف استثنائية وسياق معقّد- قد تساهم في دفع السوريين إلى تنظيم صفوفهم، وتؤهّلهم للعمل بشكل جماعي، فضلاً عن أنها تسمح بإظهار قيادات محليّة عبر آلية غير عُنفيّة، وتراكم خبرات انتخابية لدى المرشحين والناخبين، فضلاً عن تنظيمات المجتمع المدني والصحافة ..إلخ، تحضيراً للمستقبل السوري.
رقعة الاحتجاجات المنددة بتخفيض سعر القمح تتسع في شمال شرقي سوريا، تلفزيون سوريا، 27/5/2024، شوهد في: 1/6/2024.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة