
القوة الناعمة لسوريا الجديدة: التحديات والفُرص وسؤال الجدوى
لا يستطيع السوريّ في الخارج أن ينكر عظيم البهجة في نفوس العرب وغيرهم من المهتمين بالشأن السوري؛ فما زلنا رغم اقتراب عام على التحرير نُواجَه بالتهاني والتبريكات على النصر الذي تحقق؛ فالحمد لله. ومن تفصيلات ذلك الاهتمام أنهم يتابعون تطورات السياسة الخارجية السورية وتحرّكات الرئيس الشرع والوزير الشيباني أكثر من شريحة واسعة من السوريين، ثم يأتيك السؤال الذي يضطرب أولئك المتابعون في جوابه حول الأوضاع في الداخل: فما بال مظاهرات المعلّمين في الشمال مثلاً؟! وما حديث الناس عن الغلاء ورفع الفواتير؟! وهل يصحّ ما نسمعه عن استمرار الفساد في بعض مؤسسات الدولة؟! وكيف تجرؤ “إسرائيل” على ضرب سوريا والقصر الرئاسي مع أن رئيسها قد وقف على منبر الأمم المتحدة في نيويورك ودخل البيت الأبيض في واشنطن؟!
وبين ما تحققه الدبلوماسية السورية من إنجازات لا تخفى مع عودة حميدة لسوريا إلى الساحة الدولية، بعد أن أفسد النظام البائد صورتها لعقود وجعلها مزرعة كبتاغون ومصدراً للإرهاب والتخريب؛ وما زال يحزّ في وريد السوريين من الضيق والغلاء، ومن فساد المؤسسات وخراب النفوس، ومن الصعوبات والعقبات في إعادة البناء الصلب والناعم. وفي خضمّ تعقيدات المشهد السوري وما تحتاجه سوريا يُطرح بقوة تساؤلٌ جادٌّ حول أنواع القوى اللازمة لسوريا الجديدة؛ مما لا تخرج بها عن دول العالم الأخرى، وذلك ما يتصل بالقوة الخشنة والقوة الناعمة؛ فالحراك الدبلوماسي وتصدير هوية بصرية جديدة لسوريا والمعارض الدولية وغيرها من نشاط الحكومة السورية يدخل في دائرة “القوة الناعمة”، في حين أن القوة الجوية والغارات خارج الحدود في أعلى أدوات القوة الخشنة؛ وهذا يفتح باب الجدل بشكل أوسع حول الجدوى من تلك الممارسات والأنشطة الناعمة، لاسيما إن لم تترافق مع امتلاك أدوات القوة الصلبة.
تسعى هذه المقالة لاستعراض ما يتصل بالقوة الناعمة؛ من حيث المفهوم ومؤشرات مقياسها الدولي، ومناقشة أدوات القوة الناعمة السورية؛ للخروج بخلاصات أساسية تساعد في تشكيل توجهات المرحلة الحرجة التي تعيشها سوريا الجديدة.
مفهوم القوة الناعمة؟
تُعرف “القوة” بأنها نوعٌ من القدرة تتيح التأثير في سلوك الفاعلين الآخرين وفقاً للأهداف الخاصة بالجهة التي تمتلكها، أو تتيح لصاحبها التأثير في مجريات الأحداث الدولية بما يرضيه. وهذا التأثير إما أن يكون عبر ممارسة التهديد والإكراه “العصا”، وإما بممارسة الإغراءات والعطاءات “الجزرة”، وإما باجتذاب الآخرين إليك لتجعل إرادتهم موافقة لإرادتك، وتجعل مسعاهم موافقاً لهدفك الذي تسعى إليه؛ وهذا هو المراد بهذا المفهوم “القوة الناعمة” الذي بعثه جوزيف ناي الأمريكي وحاول تأصيله، فهو يعني في جملته: القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الإقناع والاستمالة، وليس الإكراه؛ فالقوة الناعمة: معركة الفوز بالعقول والقلوب.
لماذا القوة الناعمة؟
مع وفرة الشواهد على أهمية القوة الصلبة في تعزيز مكانة دولة أو حضارة ما قديماً وحديثاً؛ فللمدافعين عن أهمية القوة الناعمة مبررات ليست قليلة؛ فبالقوة الناعمة تستطيع الدولة الدفاع عن حقوقها على مستوى العلاقات الدولية؛ وإن لم يكن لها قوة صلبة مؤثرة، وقطر واليابان وسويسرا وغيرها شواهد على ذلك. وقد أصبحت القوة الصلبة موضع جدل كبير، وفي حالات كثيرة يتعذّر استخدامها، أو يصعب تحقيق الهدف الذي من أجله تم اللجوء إليها، والقوة الناعمة أقل تكلفة.
وللقوة الناعمة أهمية خاصة اقتصادياً في خلق بيئة آمنة مستقرة تحفّز على تطوير العلاقات وزيادة الاستثمارات، وللقوة الناعمة أهمية خاصة للدول التي تسعى إلى مدّ نفوذها أو توسيع تأثيرها وتحسين موقعها الإقليمي والدولي بطريقة سلمية تفاعلية؛ وإيران شاهدُ سوءٍ على هذا بما أفادته من التغلغل الناعم لبناء ميليشيات وتجنيد طائفي ربطاً بمشروعها “الولي الفقيه”. فبالقوة الناعمة تقفز الدول أو الجهات على الحكومات لتخاطب مباشرة عقول الجماهير والنخب المؤثرة في صنع القرار، لاسيما مع ثورة التكنولوجيا وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي. ولعل الأخطر في أمر القوة الناعمة أن الاحتلال الصلب يستنفر الجماهير للمواجهة، والحرب الناعمة تشلّ الإرادات تدريجياً وتسمّم العقول والأذواق، فيصبح المرء تابعاً لثقافة مستوردة ويُعاد تشكيل هويته وفق المحتلّ؛ وهذا مما كان يُجاب به عن لجوء إيران إلى القوة الناعمة في سوريا رغم وجود قوتها الصلبة “ميليشيات المشروع الإيراني” خلال سنوات الثورة فيها.
فالقوة الناعمة خارجياً تساعد الدولة في إيجاد بيئة مؤيدة ومساندة لسياساتها وتوجهاتها؛ فيسهم ذلك في تحقيق مصالحها. وتزيد من تسويق منتجاتها من خلال الصورة الحسنة التي تُظهر سمعة الدولة؛ فتزيد صادراتها ويتحسن وضعها الاقتصادي. وداخلياً تساعد في تدفق الاستثمارات الخارجية إليها، وتساعد في جذب السيّاح ورجال الأعمال فتسهم في تحسُّن قطاع السياحة والأعمال، وتساعد في جذب الطلبة والباحثين والمهتمين؛ للاستفادة منهم وليكونوا سفراء لها ولثقافتها في بلدانهم الأصلية.
فلا نَعجب بعد هذا إن قرأنا عند جوزيف ناي أنّ اليابان خصّصت للقوة الناعمة 210 مليار دولار سنة 2001، وألمانيا 218 مليار دولار مثلاً.
مؤشر القوة الناعمة وموقع الدول العربية وسوريا فيه:
وعند النظر في المؤشر الدولي للقوة الناعمة للعام 2025 وقد شمل 193 دولة تتصدرها الولايات المتحدة تليها الصين وبريطانيا واليابان، وأول الدول العربية فيه الإمارات (10) والسعودية (20) وقطر (22)؛ لنتساءل عن موضع سوريا فيه، فنجدها في المرتبة (127)!!
ولتوضيح مدى إجرام النظام البائد لعقود بحقّ سوريا على ساحة التأثير الدولية في القوة الناعمة يلزم أن ننظر في مؤشرات المقياس الدولي الذي تقدّمت فيه دول عربية على دول كبرى وتأخرت فيه سوريا ذاك التأخر؛ فمن المؤشرات التفصيلية لمؤشر القوة الناعمة: الأعمال والتجارة، والعلاقات الدولية، والتعليم والعلوم، والثقافة والتراث، والحوكمة، والإعلام والاتصال، والمستقبل المستدام، والناس والقيم؛ فأدواتها: الثقافة، والقيم السياسية، والسياسة الخارجية، والأدوات الاقتصادية، وأدوات عسكرية غير قتالية.
وباستعراض هذه الأدوات والمؤشرات ندرك كيف جنَى النظام البائد على سوريا بحكمه الاستبدادي وجرائمه على مدى عقود، ومع أن سوريا من الدول المؤسِّسة للأمم المتحدة فقد حُظرت في كثير من الساحات الدولية لدخول النظام البائد في شراكات وعلاقات مع جهات ودول “مارقة”، وكان عنصر إرهاب وتخريب عابر للحدود، وكان إعلامه تطبيلاً وتبجيلاً للسيد القائد وعصابته، مع تخلُّفٍ ترك المؤسسة الإعلامية كومة من الركام والخراب، لم يُكشف حجمها الحقيقي إلا بعد التحرير.
ما تمتلكه سوريا من مصادر القوة الناعمة وأدواتها:
مع وفرة ما تملكه سوريا من مصادر كثيرة للقوة الناعمة تستطيع بها أن تتقدّم في المؤشر على كثير من الدول؛ ففي الثقافة والتراث لا يُجهل موقع سوريا وتاريخها العريق المتنوع وتراثها الحضاري الغنيّ، ومع ما حققه السوريون خلال سنوات المحنة من نجاحات وإنجازات داخل سوريا وخارجها على امتداد خريطة العالم تأكيد لخصوصية رأس المال البشري السوري القادر على التميّز والجدير بالثقة ليكون في موقع متقدم عالمياً، لاسيما مع التنوّع الثقافي والتسامح المعروف في سوريا بين طوائفها وأعراقها مما اجتهد النظام البائد في إفساده وتخريبه. وفي الأعمال والتجارة ندرك ما عندنا من ثروات وما تمثّله سوريا بموقعها الاستراتيجي في خطوط التجارة والتواصل العالمي، وفي التعليم ما زال في آذاننا صدى ثناء الناس في الخارج على خرّيجي الجامعات السورية قبل أن يفسدها نظام البعث والأسد وعلى ما أنتجته سوريا من مناهج وتعريب للعلوم ومَن كانت تستقطبهم للتعلُّم والدراسة فيها من شتى الدول. ولعل النجاح السريع في عُمر الدول الذي حققته الدبلوماسية السورية من بعد التحرير والعلاقات الدولية الإيجابية التي تعمل على إقامتها، حتى مَن الدول التي وقفت بقوة مع النظام البائد كروسيا والصين وبعض الدول العربية لتحييدها وضمان عدم عرقلتها نهضة الدولة الجديدة؛ لعله يصحّ شاهداً على إمكانية الاستثمار الناجح في مؤشرات القوة الناعمة لتتقدّم سوريا وتتبوأ المكانة التي تستحقّها عالمياً.
سؤال الجدوى: هل تحلّ القوة الناعمة مشاكل سوريا الجديدة؟
رغم ما سبق من بيان أهمية القوة الناعمة والاستثمار فيها يبقى سؤال الجدوى أكثر إلحاحاً؛ ليس من باب إمكانية أن تُغني القوة الناعمة عن الخشنة أو الصلبة، ولا من باب تجاوُز الأكمل في بلوغ مستوى “القوة الذكية” التي تجمع أدوات القوة الناعمة مع القوة الصلبة؛ وإنما من باب ترتيب الأولويات كما يجادل البعض، وقد يستدلّون بمثل الاستهداف “الإسرائيلي” لدولة قطر المتقدمة في مؤشر القوة الناعمة عالمياً؛ دون أن يكملوا أن “إسرائيل” اعتذرت رسمياً من قطر بعد ذلك بتأثير قوتها الناعمة وليس الصلبة.
“يمكنك الحصول على قدر كبير من الدبلوماسية الثقافية كما تريد؛ ولكن لن يتم أخذك على محمل الجد إلا إذا كان لديك جيش قويّ وراءها”؛ بهذا رسمت مستشارة في الخارجية البريطانية أفق القوة الناعمة والقوة الصلبة، ولكنّ التجربة اليابانية بعد هزيمتها وتدمير جيشها حاضرة أمامنا، ومثلها التجربة الألمانية؛ فقد استثمرت في الاقتصاد وأدوات القوة الناعمة لعقود بعد تدميرها عسكرياً وحظر إعادة بناء جيشها، حتى لا يكاد يُستغنى عن صناعاتها وثقافاتها اليوم وتأثيرها المتقدم في الساحة الدولية، فلا شك أن العمل بالمتاح مهم للدولة الجديدة المكبّلة عسكرياً واقتصادياً بنتائج الحرب والتدمير وبخصوصية الجوار مع “إسرائيل” ووجود جيوب ذات أجندة انفصالية شرقاً وجنوباً، ومثقلة على الساحة الدولية بصورة ذهنية غير حميدة عن “سوريا الأسد/ الكبتاغون والتخريب”، وحتى عن قيادتها الثورية الإسلامية وماضيها الجهادي. ولذا يكون الاستثمار في القوة الناعمة استثماراً صحيحاً يحقق في المرحلة الحالية لسورية ما تعجز عنه القوة الصلبة مجردة؛ ولكن مع استحضار شروط بناء قوة ناعمة صحيحة، وهي تُختصر في أدبيات الموضوع بثلاثة: الاستدامة؛ فهي طويلة الأمد يلزم تطويرها باستمرار، والمؤسساتية؛ فتكون جهة عليا لمراقبتها وربط كل أنشطتها بالاستراتيجية العامة للبلاد، والتنوّع؛ مما يساعد في قبول ثقافة أي دولة لأنه يوحي بالذكاء والتجديد ويحقق انتشاراً أوسع عن طريق توظيف مختلف المؤشرات والأدوات السياسية والثقافية والرياضية وغيرها.
قيل: “ليّ العقول ليس بالضرورة أفضل من ليّ الأذرع”؛ فالقوة الناعمة ليست خيراً أو شرّاً في ذاتها؛ إذ يعتمد الحكم على قيمتها من خلال الغايات والوسائل والعواقب المترتبة عليها. ولذا فإن القوة الناعمة ليست دائماً رؤية سلمية للعلاقات الدولية؛ ففي الحالة الأميركية هي وسيلة حرب إيديولوجية يتم فيها التفكير استراتيجياً في أفق الإخضاع الثقافي والسياسي للخصوم، وعليه جاء تأصيل جوزيف ناي للقوة الناعمة كوسيلة للنجاح في السياسة الدولية، مارستها الولايات المتحدة حتى ضد أوربا، من خلال المسلسلات وأفلام هوليود ومطاعم الوجبات السريعة وأغاني الراب وغيرها، حتى وصفها بعض الأوربيين: احتلال ثقافي وأيديولوجي. ومثلها ما عرفناه من التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا فكان حقّاً احتلالاً إيرانياً لسوريا، كما هو لغيرها من دول المنطقة العربية.
إن القوة الناعمة لا ترتبط بأنشطة الحكومة فقط؛ بل هي محصلة نشاطات المجتمع المدني ومشاركاته في تحقيق المصالح الوطنية للبلد، عبر تصدير صورة إيجابية عن المجتمع والدولة، من خلال منظمات المجتمع المدني، والجامعات والمدارس، وقادة الرأي، والجمهور الداخلي، ووسائل الإعلام ووكالات الأنباء، والقطاع الخاص، والمنظمات شبه الحكومية، وجماعات الضغط؛ فجميع السوريين اليوم من مختلف الشرائح والاتجاهات وميادين العمل مدعوّون للمشاركة الفاعلة في صناعة قوة ناعمة مؤثّرة إيجابية تساعد الدولة الجديدة على النهوض والتعافي.
يحمل دكتوراه في اللغة العربية وآدابها، أكاديمي محقق في التراث، وكاتب باحث في القضايا الثقافية والفكرية. أنجز عدة دراسات ومقالات تُعنى بالوجود الإيراني في سورية، وبالتعليم والهوية الثقافية، وصدرت له عدة كتب تخصصية وإبداعية، مع أبحاث له منشورة في مجلات ثقافية ومجلات علمية محكَّمة.




