اللوبي الموالي لـ”إسرائيل” في أمريكا وتأثيره في السياسة الخارجية في “الشرق الأوسط”
تقرير من إصدار وحدة تحليل السياسيات في مركز الحوار السوري
مقدمة:
مع اندلاع الثورة السورية وتعقُّد القضية السورية لتغدو أزمة إقليمية ودولية دخلت المسألة السورية في عمق التوازنات الجيوسياسية الإقليمية والدولية. وقد عوّلت بعض قوى الثورة والمعارضة يوماً ما على حدوث تدخُّل دولي مشابه لما حدث في ليبيا؛ ولكنْ في المقابل يشيع بين السوريين أن الوضع الجيوسياسي المعقد لسوريا، ووجودها بالقرب من “إسرائيل” قد أسهم في منع أي تفكير جدّيّ في هذا السياق، وفضّلت واشنطن فيما يبدو إطالة أمد الصراع وإدارته مبدئياً لاستنزاف مختلف الأطراف، مع التحكم في مسار الحرب لكي لا تتفجر خارج الحدود السورية، وللحفاظ كذلك على الأسلحة الكيميائية من التسرُّب إلى الجماعات المختلفة[1].
وتشيع أيضاً فكرة تأثير أمن “إسرائيل” على السياسة الخارجية الأمريكية لدرجة المبالغة الكبيرة فيها؛ ولعل في رسالة أحد أركان نظام الأسد “رامي مخلوف” المبكرة ما يشير إلى هذا عندما صرّح بقوله: “لن يكون هناك استقرار في “إسرائيل” إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا”[2].
ومؤخراً، وفيما يتعلق بالتوجهات الإقليمية للتطبيع مع نظام الأسد كان للتوافقات الأمريكية الروسية “الإسرائيلية” دور فيما يبدو بما حدث تدريجياً لاحقاً؛ إذ تحدثت معلومات عن إعداد الاستخبارات “الإسرائيلية” رؤية تتضمن بقاء نظام الأسد بالتنسيق مع موسكو، وبعد ذلك كان لاجتماعات مؤسسات الأمن القومي الأمريكية “الإسرائيلية” الروسية ومناقشاتهم الوضع السوري أثرٌ في رسم مسار التطبيع لاحقاً[3].
كما نشر موقع (Middle East Eye) في 9 كانون الثاني من العام 2019 تقريراً عن خطة “إسرائيلية” خليجية مصرية لإعادة تأهيل نظام الأسد وإرجاعه إلى الجامعة العربية بهدف محاصرة النفوذ التركي بشكل أساسي في سوريا، ثم النفوذ الإيراني (تمت الإشارة الى أن النفوذ الإيراني هشّ مقابل القدرات التركية)، وتم الاتفاق -بحسب ما نشره الموقع- بين قادة أجهزة الاستخبارات في اجتماع بإحدى العواصم الخليجية، وبحضور رئيس الموساد “الإسرائيلي”[4].
وباعتبار أن الموقف الأمريكي موقف مفصلي في “الشرق الأوسط” عموماً، وفي المسألة السورية خصوصاً يبدو من المهم الإضاءة على تأثير النفوذ “الاسرائيلي” في السياسة الخارجية الأمريكية عموماً، وفي الشرق الأوسط بشكل خاص؛ في محاولةٍ لفهم محركات ومدى تأثير اعتبارات أمن “إسرائيل” لدى صانع القرار الأمريكي.
إن اللوبي الموالي لـ”إسرائيل” داخل الولايات المتحدة من الأدوات المهمة المؤثرة في صانع القرار الأمريكي فيما يتعلق بـ”إسرائيل”؛ فنحاول في هذه المقالة الإضاءة على دور ذاك اللوبي وآلية عمله في الولايات المتحدة لمناصرة “إسرائيل” بشكل عام، وفي سياستها في الشرق الأوسط خاصة. ومع إيراد شواهد تاريخية لذلك سابقة غير متصلة بالقضية السورية؛ فإن هذه الإضاءة التحليلية تعتمد بالدرجة الأولى على ما أدلى به كل من جون ميرشايمر، وهو أستاذ للعلوم السياسية في جامعة شيكاغو، وستيفن والت، وهو أستاذ علاقات دولية في جامعة هارفارد في ندوة عُقدت في العام 2015[5] ضمن سلسلة ندوات عقدها الخبيران حول هذا الموضوع، الجدير بالذكر أن الخبيرين اشتركا بكتابة كتاب حول الموضوع في العام 2006.
جماعات الضغط (اللوبيات) حالة طبيعية موجودة في الولايات المتحدة:
يبدأ ستفن والت حديثه بالقول أنه من الطبيعي الحديث عن اللوبيات (جماعات الضغط[6])، فيمكن الحديث عن جماعات الضغط من الأمريكيين من أصول هندية، وهي الجماعات المؤثرة في العلاقات الهندية الأمريكية، أو الحديث عن جماعات الضغط المرتبطة بالنفط، أو السلاح، إلا أنه وعند الحديث عن اللوبي الصهيوني وجماعاته المؤثرة بشكل رئيسي في سياسات الولايات المتحدة، يكون هذا الحديث أقرب للتعرض للاتهام بموضوع معاداة السامية خاصة مع ميل بعض مجموعات الضغط الموالية ل”اسرائيل” للهجوم مباشرة على أي ممن يتساءل عما تفعله، أو يتم ربطه بسرعة بنظريات المؤامرة الشاذة، والتي تتحدث عن تحكم اليهود بالعالم، نافياً في حديثه أي دوافع متعلقة بمعاداة السامية، أو ايمان بنظرية المؤامرة، موضحاً بأنه وجون ميرشايمر ينفيان ايمانهما بنظريات المؤامرة المرتبطة ب”معاداة السامية”، مشدداً على أنه يعتبر اللوبي “الاسرائيلي” هو جماعة ضغط مصلحية مثله مثل أي جماعة ضغط مصلحية أخرى، وأنهم يؤمنون بحق “اسرائيل” بالوجود وضرورة مساعدة الولايات المتحدة لها، خاصة عندما تتعرض للخطر.
خصوصية لحالة اللوبي الموالي ل”‘إسرائيل”:
في المقابل، يؤكد والت أن نشاطات اللوبي الموالي ل”إسرائيل” يجب أن يتم مناقشتها مثل أي نشاطات أخرى، وفي هذا السياق، يستحضر مقولة لإسحاق رابين رئيس الوزراء “الاسرائيلي” الأسبق عن الدعم الأمريكي ل”إسرائيل”، حيث قال رابين بأن الدعم الأمريكي ل”إسرائيل” لا يمكن مقارنته بأي دعم آخر في التاريخ الحديث، حيث تتلقى “إسرائيل” أكبر دعم عسكري واقتصادي من قبل الولايات المتحدة، بما يقارب 500 دولار لكل مواطن “اسرائيلي” سنوياً، وذلك على الرغم من أن “اسرائيل” هي في المرتبة 29 في العالم من حيث دخل الفرد، فهي ليست دولة فقيرة مثل بنغلاديش، وهي تحصل على هذا الدعم حتى عندما تقوم بأمور تعارض فيها سياسة الولايات المتحدة، مثل بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة[7].
ويشير والت إلى أن “إسرائيل” تحصل على دعم دبلوماسي متسق من الولايات المتحدة ، “فنحن دائماً ما نأخذ جانبها في النزاعات الإقليمية”، كما أن المرشحين لمنصب الرئاسة، والذين عادة ما يختلفون حول العديد من القضايا، يجمعون على بذل جهود كبيرة لإظهار مدى تفانيهم الشخصي فيما يتعلق بدعم “إسرائيل”، ونادراً ما يتم انتقاد “إسرائيل” من قبل المسؤولين الأمريكيين.
ويسأل والت السؤال الطبيعي الذي يُسأل في هذه الحالة بحسب وصفه، لماذا هذه المعاملة الخاصة ل”إسرائيل”، ليجيب بالقول بأن الجواب الشائع الذي يسمعه عادة بأن “إسرائيل” هي أحد الأصول الاستراتيجية الحيوية للولايات المتحدة، وهي الدولة التي نتشارك القيم معها، ولكن هذا برأيه لا يمكن أن يفسر كل هذا الدعم غير المشروط المقدم من قبل الولايات المتحدة.
يرى والت بأن الرؤية التي ترتكز على أن “اسرائيل” هي أصل استراتيجي أصبحت قديمة مع انتهاء الحرب الباردة مع السوفييت، وأن هذا الدعم المقدم لها يشكل أحد الأسباب الكامنة للإرهاب، وأصبح هذا الدعم غير المشروط عبئاً استراتيجياً على أمن واستقرار الولايات المتحدة، وفيما يتعلق بالقيم، فإن تعامل “اسرائيل” مع مواطنيها العرب والفلسطينيين الذين تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية متناقض مع القيم الأمريكية.
يتساءل والت بالتالي عن الأسباب الحقيقية لهذا الدعم الأمريكي غير المشروط، ليجيب بأن السبب هو اللوبي الموالي ل”إسرائيل”، ويقوم بتعريف هذا اللوبي بأنه تحالف فضفاض من أفراد وجماعات يعمل علناً للتأثير على السياسة الأمريكية في اتجاه مؤيد ل”إسرائيل”، وهو يضم منظمات عديدة مثل أيباك[8]، ومؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى[9]، ورابطة مكافحة التشهير[10]، والمجموعات المسيحية الصهيونية[11] مثل: مجموعة “المسيحيون المتحدون من أجل “إسرائيل” “[12]، ومراكز الفكر مثل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى[13]، المعهد المؤسسي الأمريكي[14]، ومجلات مثل: الجمهورية الجديدة[15].
ويشير والت إلى أن هذه المجموعات وإن كانت تتشارك نفس الهدف، إلا أنها لا يشترط أن تتفق في كل التفاصيل، وأنها تشمل أيضاً الكثير من الأكاديميين والصحفيين أو الفاعلين في مختلف القطاعات.
ويرى والت أن اللوبي الموالي ل”إسرائيل” لا يعني أنه يمثل اليهود الأمريكيين تماماً، وأن هنالك احصائيات تدل على ذلك، وأن اللوبي يعرف بأجنداته السياسية لا بانتمائه الديني، خاصة أن هنالك من يعملون لصالحه وهم ليسوا من اليهود.
آلية عمل اللوبي الموالي ل”إسرائيل”:
يشرح ستيفن والت آلية عمل اللوبي، ويقول بأنه يعمل وفق آليتين أساسييتين: من خلال التدخل في الانتخابات الأمريكية المختلفة ودعم مرشحين معينين وتسهيل وصولهم إلى المناصب الحكومية، ثم في تقديم حوافز لهم لتنفيذ السياسات المطلوبة أو المدعومة من منظمات مثل أيباك أثناء قيامهم بمهامهم الوظيفية.
ويضرب والت مثالاً على قدرة تلك المنظمات المالية مثل أيباك، حيث لديها ميزانية سنوية تبلغ 50 مليون دولار، إلى جانب نشاطها الكبير في العمل السياسي وراء الكواليس من خلال كتابة مسودات للتشريعات، وتقديم توصيات سياسية، وكتابة تقارير ورسائل لأعضاء الكونغرس ليتم توقيعها.
ويقول والت، إنه على الرغم من أن أيباك مثلاً لا تعطي أموالاً بشكل مباشر للمرشحين، لكنها تقوم بفحص المرشحين والتحقق منهم قبل التوظيف بطرق متنوعة، كما يساعدون بتوجيه ودعم حملات المرشحين الانتخابية.
ويتحدث والت عن أرقام ومبالغ قدمها اللوبي منذ العام 1992 (حتى تاريخ حديثه في العام 2015)، فيقول أنهم قدموا ما مجموعه 55 مليون دولار لدعم مرشحين للوظائف، ويقارن ذلك مع جهود جماعات ضغط أخرى، مع العرب مثلاً، فيقول بأن العرب الأمريكيين مثلاً قدموا في نفس الفترة ما يقارب 800 ألف دولار فقط، الأمر الذي يظهر مدى الفارق الكبير بين الطرفين، ويذكر والت العديد من الأسماء الذي جاء بها اللوبي لمناصب وظيفية.
ويذكر والت بأن الجميع في الكونغرس باتوا يعلمون بأن التشكيك بضرورة دعم الولايات المتحدة ل”إسرائيل” هو لعب بالنار، ويشمل هذا المرشحين إلى الانتخابات الرئاسية، كما يتحدث مطولاً عن نفوذ اللوبي الكبير على مختلف وسائل الإعلام بالشكل الذي يؤدي الى تشكيل الخطاب والوعي الأمريكي وفق رؤيتهم الخاصة، ويشير في هذا السياق الى الضغوط التي مورست على الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر لكي يعتذر بشكل ما عن بعض محتويات كتابه عن الواقع في فلسطين والذي حمل عنوان:”فلسطين: السلام لا الفصل العنصري”، وكان كارتر قد أشار أيضاً إلى أن قيام أي سياسي أمريكي بانتقاد “إسرائيل” كمن ينتحر سياسياً[16]، كما يستشهد والت بصعوبة قيامهم بالندوة التي يتحدث بها في أكثر من مكان بسبب الضغوط والاعتراضات والمظاهرات المدفوعة باللوبي، والتي أدت الى إعادة إلغاء أو إعادة جدولة عدة محاولات لعمل الندوة، كما أشار إلى إلغاء مقابلات وتصريحات إعلامية في العديد من وسائل الإعلام بعد قيامهم بها، كما أن كل محاولة لعقد ندوة كانت تواجه باحتجاجات أو محاولات لإلغائها في كل مكان ذهبوا إليه.
آثار اللوبي على السياسة الخارجية للولايات المتحدة في “الشرق الأوسط”:
بدوره، ركز ميرشايمر على آثار اللوبي على السياسة الخارجية الأمريكية، وقيّمه بالعموم بأن له تاثيراً سلبياً على مصالح الولايات المتحدة، وضرب مثالين أساسيين برأيه على ذلك، الأول: هو الآثار السلبية الانعكاسية من خلال نمو الإرهاب نتيجة الموقف الأمريكي المنحاز ضد الفلسطينيين لصالح “إسرائيل”، والثاني: هو غزو الولايات المتحدة للعراق متأثرة بدفع اللوبي الموالي ل”إسرائيل” بشكل رئيسي.
فيما يتعلق بالموضوع الأول، يؤكد ميرشايمر على أن هنالك بيانات ومصادر متقاطعة وموثوقة تؤكد أن مناصرة الولايات المتحدة للممارسات الوحشية ل”إسرائيل” ضد في الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية يؤدي إلى إحداث غضب كبير في العالمين العربي والإسلامي، وهو ما يغذي التطرف والإرهاب والتجنيد له، موضحاً تبني الولايات المتحدة لدعم السياسات “الإسرائيلية” في الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، وحماية “إسرائيل” من الانتقادات والإدانات الدولية باستخدام حق النقض “الفيتو” وغيره، وتقديم أكبر دعم مادي ومالي ل”إسرائيل” وبدون أي شروط، مقارنة بالبلدان الأخرى التي تدعمها الولايات المتحدة، ويجادل ميرشايمر بأن الانحياز الكبير للولايات المتحدة كان أحد أبرز دوافع منفذي هجمات الحادي عشر من أيلول.
وفيما يتعلق بالموضوع الثاني، وهو غزو الولايات المتحدة للعراق، يؤكد ميرشايمر على أن ذلك الغزو كان من أكبر الأخطاء الفادحة في التاريخ الأمريكي بشكل جلي، ويحاجج ميرشايمر بأن “إسرائيل” واللوبي الموالي لها كانا المحرضين والفاعلين الرئيسيين في سوق الولايات المتحدة لهذا الخطأ الفادح، واشترك في ذلك كل من الحكومة مع الغالبية الشعبية في “إسرائيل”، وعلى رأسهم رئيس الوزراء آنذاك شارون، ورؤساء وزراء سابقين كايهود باراك ونتنياهو، الذين كانوا يدفعون بقوة وشدة للحرب ضد العراق إلى درجة أن اللوبي الموالي ل”إسرائيل” قام بنصحهم بالتقليل من شدة اندفاعهم لكيلا يظهر الأمر على أنه حرب “إسرائيلية” ضد العراق، كما أشار ميرشايمر إلى تصريح للرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في العام 2006، والذي قال فيه “إن كل السياسيين “الإسرائيليين” الذين يعرفهم كانوا يفضلون الحرب على العراق بغض النظر عن امتلاك صدام لأسلحة الدمار الشامل”، مشيراً إلى أن استطلاعات الرأي الشعبية داخل “إسرائيل” أشارت إلى نسبة 77.5% مؤيدة للحرب ضد العراق، وقد أجريت الاستطلاعات قبل شهر من الحرب.
أشار ميرشايمر أيضاً إلى أن بعض الآراء تقترح، وبناء على بعض المعلومات، بأن “إسرائيل” كانت تفضل ضرب إيران قبل العراق (عسكرياً قبل العام 2003)، وهو ما يؤكده ميرشايمر، ولكنه يؤكد أيضاً أن “إسرائيل” منذ أن علمت أن هنالك توجهاً أمريكياً لتأجيل معالجة موضوع إيران ليتم بعد العراق، دعمت بقوة غزو العراق بقوة من خلال الضغط على إدارة بوش لتفضيل خيار الحرب على الخيار الدبلوماسي، وفي ذات الوقت، كانت “إسرائيل تؤكد على الإدارة الأمريكية للمتابعة لاحقاً لمعالجة موضوع إيران عسكرياً أيضاً[17].
كما يؤكد ميرشايمر على أنه لا يوجد شك بأن المحافظين الجدد المتنفذين في اللوبي كانوا وراء الضغط لغزو العراق، وكانوا مدعومين من منظمات أخرى مثل أيباك، وفيما يتعلق بما يشاع عن ضغط لوبيات صناعة الأسلحة وصناعة النفط للقيام بالحرب على العراق، يؤكد ميرشايمر بأنهم قد قاموا ببحث مكثف حول هذه النقطة، وبالكاد وجدوا أي دليل يدل على مشاركة اللوبيات المذكورة في دعم غزو العراق، على العكس من ذلك، كانت لوبيات صناعة النفط ضد الحرب، وكانت تريد المشاركة في الإنتاج بوجود صدام حسين، بالتوازي مع عدم رغبة معظم الدول المنتجة للنفط بالحرب باستثناء الكويت، كما أشار ميرشايمر إلى تصريحات بعض المتنفذين في أيباك بأنه لا توجد في العادة أمامهم أي صعوبات أوتحديات من بقية اللوبيات فيما يتعلق برسم السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
يؤكد ميرشايمر على ضرورة أن تعامل الولايات المتحدة “إسرائيل” بشكل طبيعي دون معاملة خاصة تحظى بها كما هو الواقع الآن لكي يتم اعتبار المصالح الوطنية الأمريكية، بحيث تبتعد الولايات المتحدة عن دعم “إسرائيل” عندما يكون لديها رغبات ومصالح متناقضة مع مصالح الولايات المتحدة.
تراجع تسبي تدريجي لدور اللوبي الموالي ل”إسرائيل” في الولايات المتحدة:
وفي ندوة أخرى في العام 2017[18]، يشير ميرشايمر الى حدوث نوع من التغير في النظرة إلى العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، حيث غدا انتقاد “إسرائيل” لممارساتها ضد الفلسطينيين أكثر شيوعاً مؤخراً، كما حدث نوع من افتراق سياسات الولايات المتحدة مع “إسرائيل” عندما وقع اوباما الاتفاق النووي مع إيران، وقد حاولت “إسرائيل” بمساعدة اللوبي المناصر لها الوقوف في وجه الصفقة مع إيران[19]، وقد ذهب رئيس الوزراء “الإسرائيلي” نتنياهو إلى أبعد الحدود لتخريب الاتفاق النووي من خلال إلقاء خطاب في جلسة مشتركة للكونجرس في الثالث من آذار من العام 2015 بدعم من منظمة أيباك، والتي لم تهدف فقط إلى تقويض الصفقة، ولكنها كانت أيضًا هجوماً غير مباشر على الرئيس أوباما.
ويؤكد ميرشايمر على أن الصورة الذهنية ل”إسرائيل” في الولايات المتحدة قد عانت من أضرار جسيمة على مدى العقد الماضي ، ويرجع ذلك جزئياً إلى حقيقة أن المعلومات حول “إسرائيل” أصبحت متاحة الآن بسهولة أكبر مما كانت عليه في الماضي بفضل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ،وبسبب جنوح السياسيين في “إسرائيل” نحو مزيد من التطرف الديني اليميني، والذي يُحوّل “إسرائيل” إلى دولة فصل عنصري بشكل تدريجي بعيداً عن القيم الليبرالية وقيم المواطنة المتساوية التي يفترض أن تشترك بها مع الولايات المتحدة.
يضاف إلى ذلك بحسب ميرشايمر، تراجع التأييد غير المشروط من قبل مجموعات اللوبي للسياسات الاسرائيلية الحكومية المتطرفة تحديداً، وحدوث نوع من الانقسام الداخلي حولها، وتراجع شيوع الالتزام تجاه “إسرائيل” من المجتمع اليهودي الأمريكي، حيث يبدو من الواضح أن الشباب اليهود ليسوا أوفياء ل”إسرائيل” مثل آبائهم وأجدادهم، على سبيل المثال ، وجد استطلاع للرأي في العام 2013 أنه بين اليهود الذين بلغوا 65 عاماً أو أكبر، كانت نسبة 53٪ منهم يقولون أن الاهتمام ب”إسرائيل” ضروري لكونه مرتبطاً بما تعنيه اليهودية لهم، وعلى النقيض من ذلك ، كان لدى 32٪ فقط من اليهود الأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً وجهة نظر مماثلة، حيث تبلغ الفجوة 21 نقطة مئوية، ويبدو من المرجح أن الدعم ل”إسرائيل” من الجالية اليهودية الأمريكية متجه للانحدار خلال السنوات القادمة.
كما أشار ميرشايمر إلى تراجع تأييد “إسرائيل” داخل الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة، ومن المعروف أن إحدى الطرق الأساسية التي يؤثر بها اللوبي هي بناء علاقات نفوذ متغلغلة داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وقد نجح اللوبي في هذا الصدد لفترة طويلة داخل الحزبين، ولكن هذا الدعم من الحزبين بدأ يتآكل خلال العقد الماضي، خاصة داخل الحزب الديمقراطي، ففي أحد الاستطلاعات في العام 2015، قال 33٪ فقط من الديمقراطيين إنهم يتعاطفون مع “الإسرائيليين” أكثر من الفلسطينيين، بينما قال 74٪ من الجمهوريين إنهم يتعاطفون مع “إسرائيل” أكثر من الفلسطينيين[20].
كما لاحظ ميرشايمر بأنه وبعد درس العراق، فإن اللوبي يخسر في كل قضية يمكن أن تدفع الولايات المتحدة نحو الحرب، كما في حالة الصراع على الاتفاق النووي، ولكنه لا زال يربح دائماً فيما يتعلق بالفلسطينيين والالتزام بالدعم المالي الأمريكي لدعم “إسرائيل”.
ملاحظات ختامية:
- لا بد من التذكير بأن العلاقة بين “إسرائيل” والولايات المتحدة، والعلاقة بين “إسرائيل” والعالم الغربي عموماً موضوع معقد وعميق ولا تدعي الإضاءة السابقة الإحاطة به، وقد كتب فيه العديد من المفكرين من أمثال الدكتور عبد الوهاب المسيري مؤلف موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.
- تتنوع الدوافع العميقة للعلاقة مع “إسرائيل” بين الدوافع المصلحية والمادية والتاريخية عميقة الجذور، المتعلقة بموروث الحقبة الاستعمارية وحتى الحروب الحروب الصليبية، ودوافع أخرى ثقافية ودينية، وهو ما تمت الإشارة إليه في هذه المقالة بشكل سريع في الهوامش، حيث ركزت المقالة على توصيف واقع اللوبي وتأثيره بناء على آراء الخبراء، دون بحث الدوافع والأسباب الكامنة للعلاقة الخاصة بين “إسرائيل” والولايات المتحدة.
- يمكن من خلال ما تم عرضه فهم طبيعة وقوة اللوبي الموالي ل”إسرائيل” وتأثيره في رسم سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفق حجمه الطبيعي دون إنكار لحقيقته، ودون مبالغات أسطورية تجعله المسيطر المطلق على سياسة الولايات المتحدة كما يشيع في بعض الأوساط فيما يعرف بنظرية المؤامرة.
- يسلط كل ما سبق الضوء على دور الظل الذي تلعبه “إسرائيل” وراء الكواليس في المواقف الدولية عموماً، وفي موقف الولايات المتحدة خصوصاً من القضية السورية.
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،