المحاكم الجنائية الخاصة بملاحقة الجرائم الدولية: في الإجابة حول الخيار الأنسب لسوريا
تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري ضمن سلسلة أوراق يصدرها المركز حول ملف العدالة الانتقالية في سوريا
مقدمة:
شكّلت الجرائم والانتهاكات الجسيمة[1]التي ارتكبها نظام الأسد البائد انتكاسة لمبادئ حقوق الإنسان وازدراءً لقيم المجتمع الدولي، في ظل تعذُّر إحالة تلك الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية بسبب القيود المفروضة عليها، حيث لا تُحال الجرائم إليها إلا من دولة طرف في نظام روما[2]، أو عن طريق مجلس الأمن وفقاً للفصل السابع، أو إذا باشر المُدّعي العام التحقيقات من تلقاء نفسه وفقاً لشروط مُعيّنة، وجميع هذه الطرق غير ممكنة لأن سوريا ليست دولة طرف في نظام روما، كما أن خلاف المصالح السياسية في مجلس الأمن حال دون إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية[3].
ولا تبدو المحكمة الجنائية الدولية خياراً مُفضَّلاً لاقتضاء العدالة في سوريا بعد سقوط النظام الذي أتاح المجال أمام آليات قضائية أفضل، فالمحكمة الجنائية الدولية ذات اختصاص مُكمّل للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنية، ولا تتصدّى للجرائم إلا في ظروف مُحدَّدة عندما يكون القضاء الوطني غير قادر أو غير راغب في الملاحقة[4]، وذلك على عكس المحاكم الجنائية الخاصة الدولية والمختلطة والوطنية، حيث تنصُّ الأنظمة الأساسية لتلك المحاكم على أنها ذات اختصاص أصيل في عملية الملاحقة الجنائية، وتتولّى معاقبة كبار المسؤولين عن ارتكاب تلك الجرائم، وتترك للمحاكم الجنائية الوطنية العادية مسؤولية ملاحقة مجرمي الحرب من الفئات الأدنى[5].
أما الولاية القضائية العالمية ورغم أنها حقّقت بعض النجاحات في ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا إلا أنها بقيت في نطاق محدود[6]؛ لارتباطها بالإرادة السياسية للدول، حيث تُطبّقها بطريقة انتقائية[7].
لذلك يبرز دور المحاكم الجنائية الخاصة لما تُشكّله من خطوة مهمّة في قمع الجرائم الخطيرة ومنع الإفلات من العقاب[8].
تنقسم تلك المحاكم إلى ثلاثة أنواع هي، المحاكم الجنائية الدولية الخاصة وتتمثّل في تجربتي المحكمة الجنائية الدولية الخاصة في يوغسلافيا عام 1993، ورواندا عام 1994، والنوع الثاني هو المحاكم المختلطة أو المُدوّلة ومنها المحكمة الجنائية المختلطة في تيمور الشرقية عام 1999، والغرف المختلطة داخل محاكم كوسوفو عام 2000، والمحكمة الجنائية الخاصة في سيراليون عام 2002، والغرف المختصة بجرائم الحرب في البوسنة والهرسك لعام 2003، والدوائر الاستثنائية المختلطة في كمبوديا لعام 2003، وأما النوع الثالث فهي المحاكم الجنائية الوطنية الخاصة للنظر في الجرائم الدولية مثل المحكمة الجنائية العراقية العليا عام 2003، ومحكمة الجرائم الدولية في بنغلادش 2009.
في ضوء التجارب المتعدّدة السابقة، يثور التساؤل حول الوسيلة الأنسب لنظر الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد البائد بحق السوريين.
بناءً على ذلك، يسعى هذا التقرير إلى استعراض المحاكم الجنائية الخاصة بأنواعها الثلاث، لتحقيق العدالة والإنصاف للشعب السوري ومنع إفلات المجرمين من العقاب، مما يستدعي البحث في الفرص والتحديات لكل نوع منها في سياق التجارب الدولية لاختيار النموذج الأنسب للواقع السوري.
أولاً: خيار إنشاء محكمة دولية خاصة؛ عقبات التسييس
تنشأ المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بقرار من مجلس الأمن استناداً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كما حصل عند إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة في يوغسلافيا[9]، والمحكمة الجنائية الدولية في رواندا[10]. تقوم الأمم المتحدة بتعيين جميع قضاة المحكمة من القضاة الدوليين وفقاً لآلية مُعيّنة[11]، كما تقوم بوضع النظام الأساسي للمحكمة[12]، بينما لا يكون لبلد النزاع أيّ دورٍ في تعيين القضاة أو وضع النظام الأساسي.
من أهم ميزات هذه المحاكم أنه يجب على جميع الدول التعاون معها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مما يعني أن تلك الدول مُلزمة بتسليم المشتبه بهم وتنفيذ كافة المذكّرات والأوامر الصادرة عن المحكمة، كما تتولّى الأمم المتحدة تمويل المحكمة الدولية الخاصة بشكل كامل من ميزانيتها ومساهمات الدول الأعضاء وهو ما يُخفّف الأعباء المالية عن عاتق بلد النزاع[13].
كما أن قيام الأمم المتحدة بعملية تعيين القضاة يضمن للمحكمة الاستقلالية التي تجعلها بمنأى عن الضغوطات والتدخُّلات من قبل حكومة بلد النزاع، كما يتم تعيين القضاة الدّوليين من ذوي الخبرة والكفاءة في القانون الدولي الجنائي، وغالباً لا تتوفر الخبرة لدى القضاة المحليّين، ما يجعلهم بحاجة إلى تدريب يستغرق وقتاً طويلاً[14].
إلا أن أبرز التحديات التي تعترض عمل هذه المحاكم، هو أن قرار تشكيلها يخضع للاعتبارات السياسية بغضّ النظر عن الاعتبارات الحقوقية والقانونية، حيث أن تأييد تشكيلها من عدمه يخضع للمساوات السياسية بين دول مجلس الأمن بعيداً عن التوصيف القانوني ومدى الحاجة لتأسيس هذه المحكمة. على سبيل المثال، حال الفيتو الروسي دون إنشاء هذه المحكمة في الحالة السورية بسبب تأييد روسيا لنظام الأسد على الرغم من فداحة الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد البائد بحق السوريين.
فضلاً عن وجود اعتراضات لدى بعض فقهاء القانون الدولي يمكن استخلاصها من تجربتي محكمتي يوغسلافيا ورواندا، حيث تعرّض مجلس الأمن آنذاك لانتقادات مفادها أن ميثاق الأمم المتحدة لا يمنحه صلاحية إنشاء المحاكم باعتباره جهة سياسية تُعبّر عن المصالح السياسية للدول الكبرى، فضلاً عن أن الأمم المتحدة لا تُفضّل إنشاء هذا النوع من المحاكم لأنه يُرتّب على عاتقها التزامات مالية باهظة باعتبارها المموّل الوحيد للمحكمة[15].
إلى جانب ذلك، فإن إجراءات المحاكمة أمام هذه المحاكم تستغرق وقتاً طويلاً، كما أن هذه المحاكم لا تفرض عقوبة الإعدام باعتبارها عقوبة غير مقبولة دولياً[16]، وقد كانت تلك العقوبة سبباً في حدوث تناقض بين المحكمة الجنائية الدولية الخاصة في رواندا والمحاكم الوطنية الرواندية، ففي حين أن المحكمة الجنائية الدولية التي حاكمت كبار المسؤولين لم تُصدِر عقوبة الإعدام، كانت المحاكم الجنائية التي حاكمت المجرمين من الفئات الأدنى تُطبّق تلك العقوبة بحق المحكوم عليهم، وهو ما شكّل خللاً كبيراً في موازين العدالة، وقد بقي تطبيق هذه العقوبة حتى إلغائها من القانون الرواندي عام 2007[17].
ثانياً: خيار إنشاء محكمة جنائية مختلطة؛ بقاء تبعات التدويل
تُسمّى أيضاً بالمحاكم المدوّلة بسبب طبيعتها الهجينة، حيث تضمّ في عضويتها قضاة وموظفين دوليين من الأمم المتحدة، ووطنيّين من بلد النزاع، ويمكن أن تكون هذه المحاكم بأغلبية وطنية كما في المحكمة المختلطة في كمبوديا[18]، ويمكن أن تكون بأغلبية دولية كما في المحكمة الخاصة في سيراليون[19]، ويمكن أيضاً اتباع نهج التحوُّل التدريجي من الأغلبية الدولية إلى الوطنية بعد فترة مُحدّدة[20].
يجري وضع النظام الأساسي لهذه المحاكم ونظام قواعد الاجراءات استناداً لمبادئ القانون الدولي والقانون المحلي لبلد النزاع، وتنشأ هذه المحاكم بثلاث طرق:
- قرار من البعثة الدولية التي يرسلها مجلس الأمن إلى بلد النزاع، كالإدارة الانتقالية في تيمور الشرقية، وكوسوفو، والبوسنة والهرسك، حيث تُمنح تلك البعثات صلاحيات واسعة بما فيها تنظيم السلطة القضائية وإنشاء المحاكم المختلطة لملاحقة مجرمي الحرب، ولذلك فإن إنشاء المحكمة وفقاً لهذه الطريقة لا يتطلّب مفاوضات وترتيبات مع حكومة بلد النزاع[21].
- توقيع اتفاقية إنشاء المحكمة بين الأمم المتحدة وحكومة بلد النزاع، حيث تتقدّم الحكومة بطلب مساعدة من الأمم المتحدة لإنشاء المحكمة، ثم تبدأ مرحلة مفاوضات بين الجانبين تتركّز على وضع بنود النظام الأساسي للمحكمة وما يتضمّنه من تحديد اختصاصاتها وأجهزتها، ونسبة تمثيل القضاة الوطنيين والدوليين في تشكيلها، وضمانات المحاكمة العادلة وآلية التمويل، وبعد توقيع اتفاقية إنشاء المحكمة، لا بُدّ من تصديق السلطة التشريعية في بلد النزاع عليها.
- يدخل ضمن هذا النوع المحكمة المختلطة التي تنشأ باتفاقية بين عدة دول، حيث تمنح اتفاقيات جنيف الدول صلاحية إنشاء الآليات القضائية المناسبة لملاحقة الجرائم الدولية[22]، وتعود التجربة القضائية الأولى في ذلك إلى محكمة نورمبرغ التي نشأت بموجب اتفاقية لندن الموقّعة في 8 آب 1945 بين دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الثانية لمحاكمة المنهزمين[23]، وكذلك الاتفاقية المُوقّعة بين الاتحاد الافريقي والسنغال لإنشاء الغرف الإفريقية الاستثنائية داخل القضاء السنغالي في 22 تشرين الأول 2012 لمحاكمة الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري وجميع المتورطين بارتكاب جرائم حرب في تشاد[24]. ولذلك ليس هناك ما يحول قانوناً من اتفاق بعض الدول على إنشاء محكمة جنائية مختلطة خاصة لنظر الجرائم المرتكبة في دولةٍ ما، ولكن ذلك مستبعد لأن الدول لا ترغب بتحمُّل الالتزامات المادية والقانونية الناجمة عن ذلك خارج نطاق الأمم المتحدة.
أما عن موقع المحكمة المختلطة ضمن القضاء الوطني لبلد النزاع، فهي إما أن تنشأ ضمن النظام القضائي لبلد النزاع كما حصل في كمبوديا وتيمور الشرقية والبوسنة والهرسك، أو خارج النظام القضائي كما في محاكم سيراليون وكوسوفو، وتتجلّى أهمية ذلك وفقاً للتجارب الدولية في أن نشوء المحكمة المختلطة ضمن النظام القضائي المحلي يساعد على تطويره ويُعزّز خبرة الكوادر القضائية المحلية في التعامل مع الجرائم الدولية وفقاً لتجربة البوسنة والهرسك[25]، ولكنه في الوقت نفسه يحدّ من استقلالية المحكمة ويؤدي إلى زيادة التدخّلات من حكومة بلد النزاع في عمل المحكمة، وخاصة عندما يكون القضاة المحليّون أغلبية ضمن المحكمة كما حصل في الدوائر الاستثنائية الكمبودية[26].
تلعب المحاكم المختلطة -ولاسيما التي تشكّلت ضمن الجهاز القضائي للبلاد- دوراً في تعزيز خبرات القضاء الوطني من خلال تدعيم المحاكم الوطنية بخبرات دوليّة تؤدي إلى تطوير عملها وفقاً لما جرى في محكمة تيمور الشرقية، والبوسنة والهرسك[27]، كما يراعي هذا النوع من المحاكم متطلّبات حكومة بلد النزاع من المحكمة، حيث تُسهم في صياغة النظام الأساسي للمحكمة بما يتفق مع قوانينها؛ كالسماح بمشاركة الأطراف المدنية في المحاكمات والمطالبة بالتعويض كما في محكمة كمبوديا[28]، كما تتميّز هذه المحكمة بأن الأمم المتحدة تُساهم في تمويلها مع حكومة بلد النزاع، مما يُخفّف الأعباء المالية عن كاهل الحكومة.
بالمقابل، عانت بعض المحاكم المختلطة من غياب الانسجام بين القضاة المحليين والدوليين، إما بسبب ضعف الترجمة كما حصل في محكمة تيمور الشرقية[29]، أو لوقوع خلافات بين الطرفين كما حصل في الدوائر الاستثنائية الكمبودية[30]،مما تسبّب في تعطيل سير المحاكمات وتأخير البت في القضايا، إلا أن التحدّي الأكبر الذي يواجه المحاكم المختلطة هو افتقادها إلى الآلية الملزمة للتعاون الدولي، فلا يمكن للمحكمة أن تفرض على الدول تنفيذ طلب أو مُذكّرة اعتقال أو تسليم مُتّهم، حيث يقتصر أثر التعاون على الدول التي وقعت اتفاقيات مع المحكمة، وهو ما يُضعف من دور المحكمة وفعالية الأحكام الصادرة عنها.
ثالثاً: خيار إنشاء محكمة جنائية وطنية؛ تحدّي الشرعية والنزاهة
الأصل أن القضاء الوطني صاحب الولاية الأساسية في نظر الجرائم الدولية الواقعة ضمن إقليم البلاد وفقاً لما يقتضيه مبدأ السيادة الوطنية، طالما توفّرت فيه القدرة والرغبة على محاكمة المجرمين.
تنشأ المحكمة الجنائية الوطنية الخاصة بقانون يصدر عن السلطة التشريعية لبلد النزاع، حيث يكون بمثابة السند الذي تستمد منه المحكمة مشروعيّتها، يتمّ النص في القانون على ولاية المحكمة في نظر جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، كما ينصّ على الأجهزة التي تتكوّن منها المحكمة ودوائرها ودرجاتها، وطريقة تعيين القضاة في المحكمة[31]، كما في قانون إنشاء المحكمة الجنائية العراقية العليا التي حاكمت رموز النظام العراقي[32]، وقانون إنشاء محكمة الجرائم الدولية في بنغلادش لمحاكمة حزب الجماعة الإسلامية المتهمين في التعامل مع الجيش الباكستاني خلال حرب استقلال بنغلاديش عام 1971[33].
تتميز هذه المحاكم بقدرتها على محاكمة عدد كبير من المتهمين خلال فترة زمنية قصيرة مقارنة بالمحاكم الدولية والمختلطة، كما تكون عملية العدالة الجنائية في البلاد ملكية وطنية خالصة، حيث تضع السلطة التشريعية قانون إنشاء المحكمة ونظام الإجراءات الجنائية بما يتفق مع طبيعة النظام القانوني الجنائي الوطني، مما يسمح بتطبيق نظام العقوبات المعتمد في البلاد بما فيها عقوبة الإعدام، والسماح للضحايا أن يكونوا أطرافاً في المحاكمات للمطالبة بالتعويضات، وباعتبار أن هذه المحاكم تنشأ داخل بلد النزاع فإن ذلك يجعل عملية وصول الضحايا والشهود إلى المحكمة أكثر سهولة للحضور والاطلاع على سير المحاكمات.
بالمقابل، تركت تجارب المحاكم الوطنية انطباعاً سلبياً عن قدرتها على تحقيق العدالة، حيث انتُقِدت بأنها تفتقر إلى الاستقلالية والحياد، بسبب التدخُّل الحكومي السافر في المحاكمات الجارية أمامها، والذي جعل منها محاكمات انتقامية للخصوم السياسيين فرضتها عدالة المنتصر كما حصل في محكمتي العراق وبنغلادش[34]، وهو ما أفقدها المصداقية وجعلها لا تحظى بأي دعم أو تعاون من المجتمع الدولي[35].
رابعاً: نموذج المحكمة الجنائية الخاصة الأنسب لسوريا
إن عملية اختيار النموذج الأنسب للمحكمة الجنائية الخاصة بما يتلاءم مع سياق الواقع السوري يلعب دوراً مهماً في نجاح المحاكمات، لذلك وبعد استعراضٍ مُفصّل للمحاكم الجنائية الخاصة بنماذجها الثلاث، وما رافقها من فرص وتحديات يتبيّن أن نموذج المحكمة الجنائية الوطنية هو الخيار الأفضل واقعياً، وذلك فيما لو تم اعتقال كبار المجرمين المتورطين في ارتكاب الجرائم وتقديمهم للعدالة، والتزام المحكمة بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة في المحاكمات، مما يمنحها المصداقية أمام المجتمع الدولي ويزيد من فرص تعاون الدول في تسليم المطلوبين، وتقديم الدعم المالي للمحكمة، والمساهمة في تعزيز قدرات القضاة في المحاكمات الجنائية الخاصة بالجرائم الدولية، أما الإخلال في تلك المُتطلّبات سيجعل المحكمة عرضةً للتسييس وزيادة الضغط الدولي عليها، ويحرمها من التعاون والاعتراف الدولي بما تجريه من محاكمات.
وعند ذلك يمكن أن تكون المحكمة المختلطة خياراً يأتي بالدرجة الثانية، ولا سيما أن المجتمع الدولي يسعى أن يلعب دوراً في ملف العدالة والمحاسبة في سوريا، حيث تم إنشاء لجنة التحقيق الدولية المعنيّة بسوريا في عام 2011 بهدف التحقيق في الجرائم والانتهاكات وتحديد المسؤولين عنها تمهيداً لإجراء ملاحقات قضائية في المستقبل[36]، كما تم إنشاء الآلية الدولية المستقلة والمحايدة عام 2016 والتي تُعتبر المستودع المركزي للأدلة والمعلومات لدعم السلطات القضائية بالأدلة عن مرتكبي الجرائم في سوريا[37]، ولا يُرجَّح تعاون هذه الجهات مع السلطات الوطنية في ملف العدالة إلا إذا تم إنشاء محكمة بمشاركة دولية، وهو ما يُعزّز من شرعيّة المحكمة أو يمنح الثقة لملف العدالة الجنائية بأكمله في البلاد.
يمكن للحكومة السورية في هذه الحالة أثناء المفاوضات مع الأمم المتحدة على شروط إنشاء المحكمة المختلطة أن تفرض الشروط التي تراها مناسبة، كأن تكون محكمة مختلطة بأغلبية وطنية، ومقرها الأراضي السورية، وضمن النظام القضائي الوطني، وتحديد مدة زمنية تتحوّل بعدها إلى محكمة وطنية خالصة، في نموذج مشابه لمحكمة جرائم الحرب في البوسنة والهرسك[38].
إن إنشاء المحكمة المختلطة وفقاً لما سبق يضمن لها التعاون والاعتراف بشرعيتها، كما يؤدي إلى تخفيف الأعباء المالية عن الحكومة، حيث تُساهم الأمم المتحدة في تمويلها وتقديم الخبرات اللازمة، كما أن وجود قضاة دوليين ضمن تشكيل المحكمة يُعطي الثقة للمجتمع الدولي أن المحكمة ملتزمة بالمعايير الدولية، بما في ذلك التدابير اللازمة لحماية الضحايا والشهود، كما يُسهم في تعزيز الجوانب المهنيّة للقضاة الوطنيين في مجال المحاكمات الخاصة بالجرائم الدولية التي ربما يفتقد إليها القضاء السوري، وهو ما سينعكس إيجاباً على تطوُّر القضاء الجنائي في البلاد عموماً، وخاصة أن مهمة ملاحقة مجرمي الحرب من الفئات الأدنى ستكون من مهمة المحاكم الجنائية الوطنية.
يمكن القول إن إنشاء المحكمة المختلطة بهذه الطريقة يضمن تعزيز الملكيّة المحليّة لملف العدالة، والتعاون الدولي مع المحكمة وإضفاء الشرعية على محاكماتها.
خاتمة:
لا شك أن ملفّ العدالة في سوريا من الملفات الكبيرة، ولذلك فهو يحتاج إلى تضافر كافة الجهود الوطنية والدولية لإنجاح عملية الملاحقة والمساءلة. رغم ذلك فإن إنشاء المحكمة الجنائية الخاصة سواءً كانت وطنيّة أو مختلطة أو دولية، يحتاج إلى القليل من التريُّث من أجل الإعداد والتخطيط اللازمين لمتطلّبات العدالة كتوفير الموارد المالية والتنسيق مع الجهات الحقوقية التي قامت بعملية توثيق وحفظ الأدلة.
ولا بُدّ من وجود سندٍ قانوني يضمن للمحكمة مشروعيتها، وأيُّ خلل في ذلك سينعكس على ملف العدالة عموماً وعلى المحكمة بكامل أجهزتها ومحاكماتها ويجعلها عرضة للطعن، وما يترتب على ذلك من مشاكل تمنع التعاون الدولي معها وخاصة عند تقديم طلبات تسليم المتهمين.
إن قانون إنشاء المحكمة أو النظام الأساسي يضمن للمحكمة أيضاً ممارسة ولايتها القضائية، إذ يجب أن ينصّ على اختصاصها بملاحقة كبار المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة بمختلف صور تلك الجرائم، فضلاً عن اختصاص المحكمة الزماني والمكاني والشخصي، وأجهزتها ودرجاتها وتكوينها والمبادئ اللازمة لضمان المحاكمة العادلة.
بالتزامن مع ذلك ينبغي العمل على تعزيز قدرات المحاكم الجنائية السورية كي تكون قادرة على ممارسة دورها في ملاحقة المجرمين من الفئات الأدنى. يُبنى على ذلك أن توفير تلك المتطلّبات يضمن تحقيق أفضل النتائج لملف العدالة الجنائية في سوريا.
محمد حربيلة
محامٍ سوري ومساعد باحث، حاصل على ماجستير في القانون الجنائي الدولي