مقالات الرأي

بداية المسار القضائي بحق شخصيات من النظام البائد: ما لها وما عليها

عادة ما تبرز  أفكار متعددة تكاد تكون مختلفة في جوانب عديدة  عند التطرق لمنظومة العدالة الانتقالية، وهذا ما يُعدّ حالة طبيعية من حيث المبدأ تبعاً لإشكاليات المفهوم وحالته “الهلامية” إن صح التعبير، وخاصة مع وجود نظرة أحادية تتجاهل أن طبيعة العدالة الانتقالية نظرياً وتطبيقياً طبيعة مركّبة تتعدد فيها التوجّهات والفلسفات، وهو ما ينعكس بدوره على الإجراءات والتفاصيل ،وإن كانت هذه المنظومة ككل ترتد إلى غايات متفق عليها على نطاق واسع؛ كمحاولات معالجة الماضي والتطلع إلى المستقبل، وإن كان أيضاً توجّهات أنصار العدالة واضحة فيها بالوصول من حيث النتيجة إلى مساءلة المجرمين وإنصاف الضحايا وحفظ الذاكرة الوطنية ..الخ من آليات في وضعها المجرد.

مع هذا الوضع، تكمن أهمية التأسيس المعرفي الذاتي قبل كل شيء لتفسير كيفية التعاطي مع مقاربة العدالة الانتقالية بوصفها – عملية غير بسيطة- وأنها بالفعل مقاربة قيد التشكّل في سوريا تدريجياً منذ “مؤتمر النصر” وصولاً للّحظة الحالية بكل ما تضمّنته من تسويات وملاحقات وتشكيل هياكل وهيئات كـ “هيئة العدالة” و”هيئة المفقودين” وحتى “لجنة السلم الأهلي”، وأنها عملية تدريجية متوازية أكثر من أن تكون عملية ذات لحظة بداية واحدة وبقرار واحد.

بالتركيز على الخطوة الأخيرة، وهي قرار النائب العام للجمهورية في 30 تموز الماضي بتحريك دعوى الحق العام بحق أربع شخصيات من نظام الأسد “البائد” وإحالتهم لقاضي التحقيق لمباشرة التحقيق الابتدائي، ومن ثم إظهار مقطع موجز مصور لمثولهم أمامه؛ اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة على المستوى القانوني بمجموعة واسعة من الرؤى حول هذه الإجراءات تركّزت في كثير منها على انتقاد الخطوة ووصفها بغير القانونية أو المشوّهة للمسار، وتقديم دعوات للتوقف عن الاستمرار بها بوصفها محض استعراض.

لمحاولة توضيح الصورة وخاصة أمام الجمهور أكثر من تشويشها، يمكن الوقوف إجمالاً على مجموعة من أبرز أوجه الاعتراض المقدمة من شخصيات قانونية أو خبيرة، واختبار هذه الانتقادات أيضاً في ميدان العدالة الانتقالية الأوسع في السياق السوري، بمعنى وضع الاعتراض في ظل ظروف الواقع ومعطياته والمراجحة بين الخيارات بدلاً من التوقف عند النقد كحالة مجردة.

بداية، تم طرح إشكالية إطلاق محاكمات لهذه الشخصيات وفقاً لقانون العقوبات السوري والذي لا يعرف توصيفاً لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في مواده، وأمام القضاء الجنائي العادي وليس أمام محكمة خاصة أو دوائر قضائية متخصصة على غرار تجارب أخرى كالمحكمة الجنائية العراقية العليا أو الدوائر الجنائية التخصصية في البوسنة والهرسك، وعلى الرغم من وجاهة هذا النقد بطبيعة الحال؛ إلا أنه أغفل في أحد جوانبه قضية مهمة، وهي التمييز بين مرحلتي التحقيق الابتدائي والمحاكمات، ففي المرحلة الحالية وإن كان من المفروض الانتهاء من التحضير القانوني والهيكلي لإطلاق مسار جدي وواسع للمساءلة القضائية وهذا ما تعذّر مع عدم تشكيل سلطة تشريعية حتى الآن، فإن مرحلة التحقيق بوصفها مرحلة تحضيرية للمحاكمة تُركّز على جمع الأدلة وتحديد إن كان هناك أسس كافية للمضي في المحاكمة، وبالتالي  فإن المرحلة الحالية تختلف تماماً عن طبيعة المحكمة التي ستتولى الفصل في الدعوى وعن طبيعة الإدانة النهائية، فالبدء بعملية التحقيق لا يتعارض مع مع فكرة إعادة تنظيم مرحلة المحاكمة وجعلها أمام محاكم متخصصة، وبالاستناد إلى نصوص تجريم وعقاب جديدة تأخذ بالاعتبار تجريم جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في المنظومة القانونية السورية استناداً إلى نصوص الإعلان الدستوري التي كرست فكرة تجريم جرائم نظام الأسد بأثر رجعي.

أيضاً تم طرح قضية “العلنية” بوصفها إشكالية كبيرة تنتهك معايير وضمانات المحاكمة العادلة عبر القيام بإصدار مقطع مُصوَّر يظهر لحظات مثول الشخصيات الأربعة أمام قاضي تحقيق، فيما اعتبر انتهاكاً لسرية مرحلة التحقيق، وبالتالي محلاً للطعن اللاحق في الإجراءات وسبباً في إعادتها ..الخ، ومع التأكيد على أن هذه الجزئية محقّة من حيث المبدأ، وكان يمكن تحقيق غاياتها المرتبطة بالرسائل الخاصة بالجمهور دون الولوج إلى لحظة المثول أمام التحقيق بطرق عديدة؛ فإن قضية سرية التحقيق نفسها وانتهاكها بهذا المقطع ليست محل تسليم مطلق ولا تبدو حالة على ذات القدر من الجسامة التي أثيرت.

إذ لا يعني إعلان أن الشخصيات ماثلة أمام قاضي التحقيق وتعرف بأنفسها، أن سير التحقيق واجراءاته أصبحت علنية؛ ومن جانب آخر فإن قضية سرية التحقيقات الابتدائية ليست من أسس ضمانات المحاكمة العادلة في القانون الدولي وهي تخضع فقهياً للمراجحة بين أولويات عديدة؛ أهمها حماية سير العدالة وضمان حق الجمهور في المعرفة، ولذلك ثمة أنظمة قضائية لم تأخذ بهذا المبدأ كلياً كما هو الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا، ومع الانطلاق من الطبيعة المختلفة للقواعد ذات الصلة بالعدالة الانتقالية عن القواعد التقليدية في المراحل المستقرة فإن عامل الجمهور والضغط المجتمعي فضلاً عن غياب فكرة تلوث سمعة الشخصيات الأربعة بشبهات الإدانة بوصفها قضية محسومة في سوريا بكونهم موضع اتهام من حيث المبدأ كحال منظومة نظام الأسد “البائد” فإن ما حصل يبدو مفهوماً مع تقدير الحرص على سيادة القانون والقواعد الإجرائية.

أيضاً تم طرح إشكالية تحريك دعوى الحق العام من النيابة العامة وإصدار بيان وزارة العدل بوصفها تعدّياً على الاختصاص الأصيل لهيئة العدالة الانتقالية بموجب الإعلان الدستوري ولاسيما المادة 49 منه، والمرسوم الصادر عن رئيس الجمهورية بتشكيل الهيئة ورئيسها، بمعنى آخر أن البوابة الوحيدة لإحالة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية تكون عبر هيئة العدالة الانتقالية، وعلى الرغم من أهمية الدور الذي تتولاه هيئة العدالة الانتقالية أو من المفترض أن تحوزه بعد إصدار قانون خاص بالعدالة الانتقالية أو حتى إصدار النظام الداخلي لها على أقل تقدير وهو ما لم يحصل حتى الآن؛ إلا أن الهيئة وبأي صورة من صور الاختصاص والصلاحيات وبوصفها هيئة حقيقة “استثنائية” تبقى في إطار هيئات ذات طبيعة شبه قضائية على غرار كل تجارب الدول المختلفة، ولا يمكن أن تلغي دور النيابة العامة كبوابة لتحريك دعوى الحق العامة، ولا أن تعطل حق التقاضي بوصفه حقاً أصيلاً لأي مواطن، وبالتالي فإن القضية الأساسية تكمن بالتنسيق مع السلطة القضائية وإعداد الملفات القضائية التي تتضمن الأدلة التي تم جمعها وتوفر عبء الإثبات عن الأفراد، وتقدم ملفات ضخمة لينطلق المسار القضائي المستقل، والذي لا تتدخل به الهيئة، وإنما تساند الادعاء بوصفه صاحب اختصاص عن المجتمع السوري ككل.

بالإضافة لما سبق، تم طرح قضايا عديدة ككفاءة وتدريب القضاة وتقديم هذه الشخصيات دون غيرها ..الخ، وهذه الانتقادات لا تبدو كذلك تصب في جوهر عملية المساءلة، على اعتبار أن كفاءة القضاة السوريين تبقى قضية نسبية خصوصاً إذا سلمنا أن هنالك كفاءات قضائية موجودة لا أحد يناقش في كفاءتها، كذلك البدء بهذه الشخصيات لا يعني الاكتفاء بها وإنما هي مجرد بداية.

 عموماً، يمكن القول إن سيل الانتقادات وإن كان نابعاً من حيث المبدأ من الحرص على مسار قوي ومتكامل للعدالة الانتقالية في سوريا وخاصة في الجزئية الحساسة المرتبطة بالعدالة الجنائية؛ إلا أنه تجاوز الوقوف عند نقطتين مهمتين وهما: عامل الزمن وأثره. فمرور 8 أشهر من إسقاط نظام الأسد يعني أن الكثير من الأشخاص موقوفون حالياً دون وجود غطاء قانوني للتوقيف، وبالتالي فإن البحث عن آلية توقيف قضائي مع التأخر المستمر في تشكيل مجلس الشعب وما يصدر عنه من تشريعات يغدو عاملاً مهماً، والجانب الثاني هو حالة الغضب وفقدان الثقة المستمرة من الجمهور بجدية السلطة الانتقالية في خيار المساءلة وخصوصاً مع الحديث عن تسويات والتوجه لإطلاق سراح دفعات تلو أخرى من عناصر سابقين لنظام الأسد، أو ظهور شخصيات متورطة في انتهاكات ضمن مسار السلم الأهلي، وهو ما يجعل الانطلاق بمسار قضائي أقرب للجانب الرمزي منه من الموضوعي مع بعض الشخصيات مساعداً في تحقيق مناخ من الاستقرار لدى ذوي الضحايا ورسالة إيجابية بأن طريق المحاسبة لن يتم إغفاله.

بناء عليه، يمكن القول إن الجدليات القانونية في مسارات العدالة الانتقالية كالجدليات الأخرى على مستوى الرؤى والتصميم والتطبيق وصولاً للجزئيات اللاحقة ستبقى حالة مرافقة  لمسار العدالة الانتقالية في سوريا، وغالباً ما تبرز دلائل وحجج وفي مقابلها دلائل وحجج أخرى؛ إلا أن بناء نظرة كلية عامة دون التركيز الشديد على التفاصيل وتضخيمها يعد أمراً مهماً على صعيد الدفع التراكمي لمسار العدالة الانتقالية في سوريا بدلاً من الضغط عليه وعلى من يتصدى لقيادته وخاصة مع التحديات والعقبات العملية الواسعة والمستجدات الميدانية والسياسية التي تجعل السياق السوري هشاً ومرجحاً لسيناريوهات تطيح بكل مسار العدالة، حيث لا جدوى حينها من أي حديث عن الأدوات والآليات.

باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى