
تأملات في تجربة جنوب إفريقيا في تفادي الحرب الأهلية
تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
تُعد الحروب الأهلية من أكثر الأزمات تعقيداً وخطورةً على استقرار الدول؛ إذ تؤدي إلى تفكُّك البُنى الاجتماعية والسياسية، وإلى انهيار الاقتصادات الوطنية، واستنزاف الموارد البشرية والمادية؛ مما يجعل احتواءها أمراً بالغ الصعوبة، لاسيما مع تفاقم العنف الناتج عنها وتتزايد تداعياته، بما في ذلك انتشار الفوضى، وارتفاع أعداد النازحين واللاجئين، وتزعزع الاستقرار، بالإضافة إلى بعض العوامل الطائفية والعرقية التي أسهمت في إذكاء الصراع ابتداءً.
شهدت الساحة السورية بالفعل مؤشرات مبكرة تنذر بهذا الاحتمال، وتمثّلت في الهجمات المكثفة التي شنّتها فلول الأسد في أوائل شهر مارس ضد قوى الأمن العام، وترافقت مع عمليات تنكيل بالجثامين، واستهداف مرافق حيوية كالمستشفيات والمساجد والأسواق، إلى جانب بثّ محتوى مرئي يتضمن خطابات تحريضية ذات طابع طائفي واضح، كما رافقت هذه الهجمات حملة إعلامية موسعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تدعو إلى إنشاء “الإقليم العلوي” في محاولة لتأجيج الانقسامات الطائفية؛ ممّا تسبّب في استفزاز عائلات الضحايا، الذين عبّروا عن استيائهم المتزايد من غياب أية آليات فعلية للمحاسبة القانونية بحق المتورطين في الجرائم السابقة.
وكردّ فعل على هذه الهجمات شهدت المناطق المتضررة في الساحل انتهاكات قامت بها مجموعات مسلحة غير منضبطة، رافقها تحريضٌ واسعٌ على وسائل التواصل الاجتماعي، أدى إلى مقتل مدنيين ،منهم معارضون سابقون لنظام الأسد في الساحل السوري، مما أدى إلى تصاعد التوترات الداخلية.
وفي محاولة لاحتواء الأزمة اتخذت السلطة الجديدة إجراءات رسمية، وعملت على إخراج الفصائل غير المنضبطة التي اشتُبه بارتكابها تلك الانتهاكات، وأطلقت تصريحات تهدف إلى طمأنة المدنيين، والتعهد بالمحاسبة، وتحمُّل المسؤولية عن تلك الأحداث.
تكرر السيناريو السابق نفسه مع أحداث السويداء وجرمانا وصحنايا؛ حيث تسببت بعض السلوكيات التحريضية التي ترافقت مع موجة تجييش عامة على سوشيال ميديا وتصاعد الخطاب الطائفي[1] إلى زيادة التوترات المجتمعية والانقسامات، مما ينذر مجدداً بإمكانية توسُّع أو تكرار تلك الهجمات.
لقد كشفت هذه الحوادث عن وجود انقسامات حادّة في المجتمع يمكن استغلالها في بثّ الذعر وزيادة الاحتقان والدفع باتجاه حرب أهلية؛ فبينما استنكرت بعض الفئات أعمال العنف تبنّت أطراف أخرى خطاب الإنكار أو الشماتة، مما عمّق الاستقطاب المجتمعي، ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً رئيساً في تأجيج المشهد؛ إذ أصبحت المنصات أدوات للتحريض والتعبئة الطائفية، مما زاد من المخاوف بشأن احتمال الانزلاق نحو حرب طائفية[2] [3].
لم يكن هذا الاستقطاب المجتمعي وليد عوامل داخلية فقط، وإنما تقاطع مع تدخلات خارجية أوسع؛ إذ تلعب كل من إيران وذراعها “حزب الله” دوراً مباشراً في دعم شبكات التضليل والتحريض الطائفي، في محاولة لعرقلة عملية الاستقرار السياسي أو إعادة إعمار لا تخدم مصالحهم[4]،في المقابل برزت تصريحات وتدخلات “إسرائيلية” متكررة، حول رغبة “تل أبيب” بـ”حماية الأقليات” في سوريا، وهي تصريحات تُثير مخاوف إضافية من توظيف قضايا الحماية الطائفية غطاءً لتدخلات سياسية وأمنية، تزيد من تعقيد المشهد السوري وتغذّي خطاب الانقسام[5].
في ظل هذه الظروف يصبح من الضروري تفادي السيناريو الأسوأ، وهو الانزلاق إلى حرب أهلية، من خلال الاستفادة من تجربة جنوب إفريقيا بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، مع التركيز على تضافر جهود المجتمع المدني والحكومة في تحقيق المصالحة الوطنية، كما تستكشف إمكانية الاستفادة من هذه التجربة في السياق السوري، من خلال تحليل آليات المصالحة المجتمعية ودور المجتمع المدني والجهود المحلية في الحدّ من الاستقطاب وتعزيز التعايش السلمي بالتكامل مع المبادرات السياسية.
السياق السياسي والتاريخي للنزاع في دولة جنوب أفريقيا:
نتيجة للحقب الاستعمارية المتعاقبة أصبح المجتمع في جنوب أفريقيا مكوناً من السكان الأصليين السود، إلى جانب أقلية أوروبية بيضاء، إضافة إلى عرقيات أخرى مثل الآسيويين والهنود[6]، وقد خضعت جنوب أفريقيا على مدار عقود لنظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) على يد الأقلية البيضاء ، وقد بدأ تطبيقه رسمياً عام 1948، وفرضت السلطات قيوداً صارمة عزّزت الهيمنة السياسية والاقتصادية للأقلية البيضاء، وأقصت الأغلبية السوداء من الحقوق الأساسية؛ مما أدى إلى ظهور حركات مقاومة واجهت قمعاً من قبل النظام، من خلال الاعتقالات التعسفية، والعنف المفرط ضد المتظاهرين، وحظر الأحزاب السياسية المعارضة. ومع تصاعد حدّة المقاومة، وزيادة الضغوط الداخلية والدولية بادرت الحكومة بقيادة فريدريك ويليم دي كليرك عام 1990 إلى تبنّي سياسة تفكيك نظام الأبارتهايد، في محاولة للاستجابة للتحولات المتسارعة والتخفيف من الضغوط الدولية المفروضة عليها[7].
تصاعد العنف السياسي، وتهديد عملية الانتقال الديمقراطي في جنوب إفريقيا:
شهدت جنوب أفريقيا بين عامي 1990 و1994 موجات عنف مسلح هدّدت عملية الانتقال الديمقراطي، خاصة بين حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي قاد النضال ضد الفصل العنصري، وحزب إنكاتا للحرية المدعوم من قومية الزولو، واتُّهمت أجهزة الأمن التابعة للنظام السابق بتغذية الصراع عبر دعم ميليشيات إنكاتا، مما أدى إلى تصاعد مواجهات عنف دامية، لاسيما في إقليم كوازولو-ناتال وضواحي جوهانسبرغ، حيث سقط العديد من القتلى، ومن أبرز تلك الهجمات التي أثارت القلق مجزرة بويباتونغ التي أسفرت عن مقتل أكثر من 40 شخصاً، إضافة إلى عملية تفجير مطار جوهانسبرغ على يد متطرفين بيض[8].
تفاقمت المخاوف من اندلاع حرب أهلية مع اقتراب موعد الانتخابات؛ لاسيما مع تهديد حزب إنكاتا[9] بالمقاطعة، وتصاعد التوترات السياسية[10]، كما أثار صعود شخصيات مثل “كلارنس ماكويتو” زعيم حزب مؤتمر عموم الأفارقة وخطاباته الراديكالية المناهضة للمصالحة والرافضة للانتخابات قلقاً واسعاً حول مستقبل البلاد[11]، وفي ظل استمرار النزاعات الدموية عالمياً في ذلك الوقت، مثل حرب يوغوسلافيا والإبادة الجماعية في رواندا؛ فتوقّعت وسائل الإعلام الدولية أن تواجه جنوب أفريقيا مصيراً مشابهاً، مما زاد من حالة الترقب والتوتر الداخلي[12].
استراتيجيات المصالحة والمبادرات المجتمعية:
أمام تصاعد التوترات وتزايد المخاوف من انزلاق البلاد إلى حرب أهلية أدركت الأطراف الفاعلة في جنوب إفريقيا أن الانتقال الديمقراطي لا يمكن أن يكتمل بالوسائل السياسية وحدها، وإنما يتطلب معالجة جذرية للإرث الثقيل الذي خلّفه نظام الفصل العنصري؛ مما دفع الحكومة إلى التعاون مع المجتمع المدني ورجال الدين والمنظمات الأهلية لتعزيز المصالحة الوطنية، وضمان انتقال سلمي نحو الديمقراطية وتجنُّب العنف الطائفي. وتبنّت البلاد مجموعة من الاستراتيجيات السياسية شملت إطلاق عملية المصالحة الوطنية، وإعداد دستور يعكس التعددية الثقافية، وتشكيل تحالفات سياسية واسعة. إلى جانب ذلك بُذلت جهود اقتصادية وثقافية واجتماعية لسدّ الفجوات وتعزيز تماسك المجتمع[13].
دور القيادات المجتمعية والثورية في تعزيز المصالحة:
مثّل نيلسون مانديلا رمزاً بارزًا للنضال ضد نظام الفصل العنصري الأبارتهايد ، ونتيجة مقاومته للنظام بوسائل سلمية ومسلحة، قضى مانديلا 27 عاماً في السجن بموجب حكم مؤبد، حتى أُطلِق سراحه عام 1990، وبعد ذلك بعام انتُخب رئيساً لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي[14]، الذي كان القوة السياسية الرئيسة في مقاومة الأبارتهايد، فأسهم هذا المنصب في ترسيخ مكانته قائداً للمرحلة الانتقالية؛ مما جعله المرشح الأبرز لقيادة جنوب إفريقيا نحو التحول الديمقراطي. ومع اقتراب موعد أول انتخابات ديمقراطية متعددة الأعراق في تاريخ جنوب إفريقيا عام 1994 تمكّن مانديلا من إقناع حزب إنكاتا المنافس له بالتراجع عن مقاطعة الانتخابات، كما تبنّى خطاباً يدعو جميع الأعراق إلى المشاركة في تقرير مصير البلاد[15].
خاض مانديلا الانتخابات الرئاسية ممثلًا عن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وتمكن من تحقيق فوز بنسبة تجاوزت 60% من الأصوات، بينما حصل حزب إنكاتا على نسبة 10.5% من الأصوات، ليصبح مانديلا أول رئيس منتخب ديمقراطياً في تاريخ البلاد[16]، ويبدأ بتنفيذ سياسات المصالحة الوطنية وإعادة بناء الدولة على أسس المساواة والعدالة[17].
تبنّى مانديلا خطاب “أمة قوس قزح” لوصف جنوب إفريقيا الجديدة متعددة الأعراق والثقافات، كما قام بعدد من اللفتات الرمزية التي عزّزت مناخ التسامح، مثل: لقاء مسؤولين من النظام السابق، ودعوة شخصيات كانت جزءًا من منظومة الأبارتهايد إلى مائدته. وقد ساعدت هذه المبادرات في كسب ثقة الفئات المختلفة في العملية الانتقالية، وأسهمت في تهدئة المخاوف المتعلقة بانتقال السلطة[18].
لجنة الحقيقة والمصالحة:
كان للجنة الحقيقة والمصالحة دورٌ محوريٌّ في دفع مسار المصالحة الوطنية في جنوب إفريقيا، وقد تأسست اللجنة رسمياً بموجب “قانون تعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة” الصادر في تموز 1995[19]، وكانت جزءاً من حزمة الإجراءات التي تبنّتها الحكومة لمعالجة إرث الانتهاكات التي وقعت في الحقبة السابقة. ورغم كونها آلية رسمية فقد تجاوز تأثيرها البعد الحكومي ليشمل جانباً اجتماعياً عميقاً؛ إذ أتاحت اللجنة للضحايا الفرصة لسرد معاناتهم، كما استمعت إلى شهادات واعترافات الجناة ضمن بيئة تركز على الاعتراف بالحقيقة وتقديم الاعتذار بدلاً من الانتقام، مما أسهم في تخفيف الاستقطاب المجتمعي واحتواء مشاعر الغضب والألم التي خلّفها نظام الفصل العنصري.
كما مهّدت اللجنة الطريق نحو تحقيق العدالة التصالحية، وأنشأت منصة للمجتمع المدني للمشاركة في النقاشات حول الذاكرة التاريخية والتسامح، وساعدت في إعادة بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع من خلال توفير آلية لمعالجة آثار الماضي، مما ساعد في وضع أسس جديدة لمرحلة ما بعد الأبارتهايد، تهدف إلى تحقيق سلام وعدالة مجتمعية أكثر شمولاً[20].
دور رجال الدِّين في تخفيف التوتر العرقي:
مارست المؤسسات والشخصيات الدينية دوراً جوهرياً في دعم المصالحة الوطنية في جنوب إفريقيا، مستفيدةً من تأثيرها الأخلاقي والاجتماعي العميق في المجتمع؛ فقد أسهم مجلس كنائس جنوب إفريقيا (SACC) في تعزيز ثقافة المصالحة من خلال تنظيم قدّاسات مشتركة وحوارات بين الأعراق لإعادة قيم التسامح والتعايش، كما بادرت بعض الكنائس التي كانت تدعم نظام الأبارتهايد سابقاً إلى الاعتراف بمسؤوليتها عن مواقفها السابقة المؤيد لنظام الفصل العنصري والاعتذار عنه وإعادة بناء علاقاتها مع المجتمع المحلي. فعلى سبيل المثال: قدّم ممثل الكنيسة الإصلاحية الهولندية اعتذاراً صريحاً عن دعم كنيسته السابق لسياسات تفوّق العرق الأبيض وتبريرها دينياً، في المقابل أكدت كنائس وطوائف أخرى التزامها التاريخي بمقاومة الفصل العنصري وروت مساهماتها في دعم حقوق الإنسان إبان تلك الحقبة، وقد أسهم هذا النهج المزدوج من الاعتراف بالتقصير لدى البعض وإبراز جهود المقاومة لدى الآخرين في بناء سردية صادقة ومتوازنة لتاريخ الصراع[21].
برز “ديزموند توتو” واحداً من أبرز رجال الدِّين الذين كان لهم دورٌ محوريّ في تعزيز المصالحة الوطنية في جنوب إفريقيا؛ فإلى جانب وقوفه ضد نظام الفصل العنصري والظلم لسنوات استغل توتو مكانته الدينية والأخلاقية لنشر ثقافة التسامح[22]، وقاد توتو لجنة الحقيقة والمصالحة ودعا فيها إلى تبنّي مفهوم “أوبونتو“(Ubuntu)، وهو مبدأ أفريقي يعكس القيم الجماعية والتضامن الإنساني، كما اعتمد مقاربة فريدة تجمع بين تحميل الجناة المسؤولية ومنحهم فرصة التكفير والمصالحة، وشدّد أنه لن يمنح العفو إلا لمن يعترف بالحقائق كاملة حول ما ارتُكب من انتهاكات ويتحمل مسؤوليتها الأخلاقية[23]. وقد وظّف خطابه الديني لإقناع الضحايا والجناة بالمشاركة في الجلسات، مشدداً على أن تجاوز الماضي يتطلب شجاعة أخلاقية من الطرفين[24].
مبادرات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية:
أسهمت منظمات أهلية عديدة في السعي لاستكمال جهود المصالحة على أرض الواقع، من خلال برامج تُعزّز العدالة الاجتماعية والتفاهم بين الأعراق. منها:
- مشروع شفاء الذكريات (Healing of Memories) : انطلقت هذه المبادرة عام 1996 على يد القس مايكل لابسلي، لتوفير مساحة للضحايا من جميع الفئات للتعبير عن آلامهم ومشاركة تجاربهم بالتوازي مع جهود لجنة الحقيقة والمصالحة، توسّعت ورش العمل في أنحاء البلاد فتمّ تأسيس معهد شفاء الذكريات عام 1998، الذي ركّز على معالجة الآثار النفسية الجماعية للماضي العنصري. ساعد هذا النهج في تعافي الضحايا وبناء جسور إنسانية بين جماعات كانت على خلاف في الماضي، مما أسهم في دعم المصالحة المجتمعية[25].
- “مجموعة خولوماني“: تُعد إحدى أبرز منظمات المجتمع المدني في جنوب إفريقيا، تأسست بعد انتهاء نظام الفصل العنصري بهدف دعم ضحايا ذلك النظام. تركّز المجموعة على تمكين الضحايا من سرد قصصهم والمطالبة بحقوقهم، مما يُبقي ذاكرة الماضي حيّة بطريقة بنّاءة ويضمن عدم تكرارها[26].
- معهد العدالة والمصالحة (IJR): تم تأسيس هذا المعهد عام 2000 في أعقاب جلسات لجنة الحقيقة، بهدف توظيف دروس الماضي لبناء مستقبل أكثر عدلاً وشمولاً. يعمل المعهد عبر برامج بحثية وحوارات مجتمعية وتدريبية لدعم التحول الديمقراطي والسلام، ويُصدر المعهد سنوياً مؤشر البارومتر للمصالحة الذي يرصد اتجاهات الرأي العام بشأن العلاقات بين الأعراق. وقد أظهرت أحدث تقاريره تزايد التفاعل بين الأعراق تدريجياً خلال العقدين الماضيين؛ فعلى سبيل المثال: ارتفعت نسبة المواطنين السود الذين لديهم تواصل متكرر مع أعراق أخرى من 15٪ في أوائل الألفية إلى 37٪ بحلول عام 2023، ورغم بقاء تحديات التفاوت الاجتماعي تعكس هذه النتائج تقدماً إيجابياً في كسر الحواجز الاجتماعية بفضل جهود المصالحة[27].
- مؤسسة أحمد كاثرادا وشبكة مكافحة العنصرية: تأسست المؤسسة لمواصلة إرث نبذ العنصرية وتعزيز مبدأ “الأمّة غير العنصرية”، بالتعاون مع مؤسسة نيلسون مانديلا التي تقود شبكة مكافحة العنصرية، كما تنظّم المؤسسة أسبوعاً وطنياً لمكافحة العنصرية في مارس، يشمل فعاليات توعوية وحوارات مجتمعية، وتقيم ندوات في المدارس وفعاليات في مواقع تاريخية مثل بلدة شارپفيل لإحياء ذكرى ضحايا العنصرية وتعزيز الوعي[28].
- منظمة جنوب إفريقيا خالية من الأسلحة النارية (GFSA): التي سعت لخلق بيئة أكثر أمناً تشجّع على التفاعل الإيجابي بين سكان الأحياء على اختلاف أعراقهم، كان هدف هذه المبادرات تقليل العنف المرتبط بالأسلحة النارية، بما يعزّز السلامة والأمان، ويشجّع على التعايش السلمي بين مختلف فئات المجتمع[29].
سياسات التمكين الاقتصادي للسُّود :(BEE)
طبّقت الحكومة سياسات تطوير التمكين الاقتصادي لضمان تحسين الوضع الاقتصادي لشريحة أوسع، وتعزيز مشاركة السود في الاقتصاد عبر منحهم فرصاً في التوظيف والتملك والإدارة، وشملت هذه السياسات قانون 1998 الذي ألزم أرباب العمل بإزالة التمييز في التوظيف، وزيادة تمثيل الفئات المهمشة كالنساء وذوي الإعاقة، إلى جانب تقديم حوافز للشركات التي توظف سوداً أو تمنحهم حصصاً في الملكية؛ ممّا أدى إلى بروز طبقة متوسطة جديدة[30].
المبادرات الثقافية:
نفّذت الحكومة عدة مبادرات لدعم سياساتها الحكومية بإعادة تشكيل الرموز الوطنية؛ فتم تغيير العلم، ودمج أناشيد وطنية مختلفة لتعكس الوحدة والتنوع. كما تم اعتماد يوم المصالحة الوطنية في 16 ديسمبر؛ حيث تُقام فعاليات ثقافية تجمع مختلف الفئات الاجتماعية لتعزيز التصالح، إضافة إلى ذلك اعترف دستور 1996 بالتعددية اللغوية والثقافية، وأقرّ 11 لغة رسمية، كما دعمت الهيئات الثقافية المهرجانات لتعزيز التفاعل بين المجتمعات. وبرز دور الرياضة أداة للمصالحة؛ وتجسد ذلك في دعم نيلسون مانديلا منتخب الرغبي الوطني خلال كأس العالم 1955[31]، إلى جانب ذلك تمت إعادة صياغة الفضاء العام من خلال إنشاء متاحف وطنية للجميع، وإحياء يوم التراث الوطني لتعزيز الوعي بالتاريخ المشترك والاحتفاء بالتنوع الثقافي، مما أسهم في تأسيس مجتمع أكثر شمولاً[32].
لم تقتصر العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا على لجنة الحقيقة والمصالحة فحسب، وإنما كانت جزءاً من رؤية شاملة لمعالجة إرث الانتهاكات الماضية، وضمان عدم تكرارها؛ فقد اعتمدت جنوب إفريقيا نموذجاً مرناً من العدالة الانتقالية، مزج بين الاعتراف بالحقيقة والمحاسبة الأخلاقية، دون التركيز الحصري على العدالة الجنائية الصارمة. وقد تمّ ذلك من خلال أربعة مسارات رئيسة؛ أولاً: لجنة الحقيقة التي وفّرت منصة للاعتراف العلني والاعتذار، ثانياً: إصلاح أجهزة الدولة كالقضاء والشرطة لضمان عدم انخراطها مجدداً في القمع[33]، ثالثاً: برامج رمزية ومادية لتعويض الضحايا ولو بشكل محدود[34]، رابعاً: توثيق الذاكرة الجماعية من خلال التعليم والمتاحف والأيام الوطنية[35]. وهذا النموذج _رغم ما شابه من قصور_ أسهم في ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، وتثبيت التحول الديمقراطي، وبناء ثقة نسبية بين مكونات المجتمع، دون الانزلاق في دوامة الانتقام[36].
تحديات تجربة جنوب إفريقيا:
واجهت تجربة جنوب إفريقيا انتقادات واسعة؛ إذ يرى البعض أن نهج العفو المشروط أدى إلى التضحية بالعدالة الجنائية لصالح كشف الحقيقة، مما عزّز مناخ الإفلات من العقاب، لاسيما داخل الأجهزة الأمنية التي لم تُحاسب على انتهاكاتها، كما أُخذ عليها قصورها في إنصاف الضحايا؛ فقد تأخرت التعويضات، وكانت قيمتها أقل من المتوقع وتكفلت بدفعها الحكومة، بينما مُنح مرتكبو الجرائم عفواً مباشراً دون تقديم أي تعويض. ورغم تركيزها على المصالحة إلا أن تأثيرها على التماسك المجتمعي كان محدوداً؛ إذ استمرت الانقسامات العرقية والاقتصادية العميقة، وظل مستوى الجريمة والعنف المجتمعي مرتفعاً، مما أثار تساؤلات حول مدى نجاحها الحقيقي في المجتمع[37].
رغم هذه الانتقادات فلا يمكن إنكار أنّه كان للتجربة دورٌ أساسيٌّ في تجنيب جنوب إفريقيا سيناريوهات انتقام كارثية؛ فقد كان الانقسام العرقي عميقاً، وكانت التوقعات بعد سقوط نظام الأبارتهايد متشائمة للغاية، وحذّرت تقديرات عديدة _بما في ذلك دراسات صادرة عن مراكز بحثية ومنظمات دولية_ من احتمالية اندلاع حرب أهلية شاملة أو موجات قتل انتقامية بحق الأقلية البيضاء، لاسيما مع وجود مليشيات مسلحة لدى الطرفين واستمرار إرث العنف السياسي؛ لذا يمكن اعتبار التجربة حلّاً وسطاً بين تحقيق العدالة وضمان الاستقرار، فقد نجحت في إحلال سلام هشّ، وإن كان ذلك على حساب العدالة الكاملة[38].
هل يمكن تطبيق نموذج مشابه في سوريا؟
يتسم السياق السوري بدرجة عالية من التعقيد مقارنة بتجربة جنوب إفريقيا؛ إذ خضعت البلاد لعقود من الحكم السلطوي تحت نظام الأسد، الذي ارتُكبت في ظله انتهاكات واسعة النطاق ومجازر موثقة، لاسيما في ظل استمرار الصراع لأكثر من عقد من الزمن.
فضلاً عن ذلك فإن حجم الانتهاكات والضحايا في سوريا يفوق بكثير ما شهدته جنوب إفريقيا؛ فالذاكرة الجماعية السورية توثّق إلى جانب العديد من التقارير الصادرة عن منظمات دولية ومحلية_ ارتكاب النظام البائد جرائم جسيمة، من بينها: الإبادة الجماعية، والتهجير القسري، واستخدام أسلحة محظورة دولياً. وقد أسهم هذا الواقع في رفع سقف التطلعات الشعبية تجاه العدالة؛ إذ تُطالب قطاعات واسعة من السوريين بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم أمام القضاء، خلافاً للنموذج الجنوب إفريقي الذي اعتمد مقاربة العفو المشروط مقابل الاعتراف بالحقيقة.
من جهة أخرى يظهر دور مؤسسات الدولة والوضع الاقتصادي بوصفها عوامل مؤثّرة؛ فقد ورثت البلاد في جنوب إفريقيا مؤسسات دولة قادرة نسبياً على تنفيذ توصيات لجنة المصالحة، مثل القضاء والشرطة والإدارة. أما في سوريا فالبنية التحتية منهكة، والمؤسسات منهارة أو متجذرة بالفساد، مما يجعل تنفيذ أية توصيات صعباً؛ فتطهير الأجهزة الأمنية وملاحقة المتورطين في الجرائم سيكون تحدّياً هائلاً، خاصة مع قلة خبرة الحكومة الانتقالية، مما قد يقوّض ثقة الناس بجدوى العملية برمتها.
جنوب إفريقيا | سوريا | |
طبيعة الصراع | صراع عنصري بين الأقلية البيضاء الحاكمة والأغلبية السوداء. | صراع سياسي له صبغة طائفية بين نظام الأسد والمعارضة وجماعات أخرى. |
كيفية إنهاء الحكم السابق | تفاوض سلمي بين النظام الحاكم والمعارضة بقيادة مانديلا. | سقوط النظام عبر التقدم العسكري للمعارضة وسيطرتها على الأرض وهروب بشار الأسد. |
العدالة الانتقالية | لجنة الحقيقة والمصالحة مع عفو مشروط عن الجناة. | لم يتم تشكيل هيكلية رسمية حتى الآن، ولكن تُطرح عدة نماذج ومقترحات لتبنّيها. |
المصالحة المجتمعية | تحقيق تهدئة مجتمعية لكنه لم ينجح تماماً في إزالة الانقسامات. | المجتمع ما زال منقسماً بشدة، والخوف مرتفع من انتقام متبادل. |
الـمُساءلة الجنائية | تقديم العفو مقابل الاعتراف بالجرائم، ولم تجرِ محاكمات واسعة. | مطالب واسعة بمحاسبة مرتكبي الجرائم، خاصة لجرائم الإبادة والاعتقال. |
دور الزعامات الرمزية | وجود شخصيات جامعة، مثل مانديلا وديزموند توتو. | غياب شخصية جامعة أو قيادات تحظى بإجماع مختلف الأطراف. |
حجم الانتهاكات | انتهاكات جسيمة لكنها أقل تعقيداً من النزاع في سوريا. | جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مع تهجير واسع وتدمير شامل. |
دور المجتمع الدولي | دور محدود، كانت اللجنة وطنية ولم يكن هناك تدخل دولي كبير. | الآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM) التي أنشأتها الأمم المتحدة عام2016 لجمع الأدلة على الجرائم في سوريا، والمحاكمات التي جرت في دول أجنبية. |
الوضع الاقتصادي بعد التغيير | اقتصاد مستقر نسبياً رغم استمرار التفاوت الاجتماعي. | اقتصاد منهار بالكامل بحاجة لإعادة إعمار شاملة. |
تركيبة الدولة ومؤسساتها | كانت المؤسسات قائمة قوية، مما ساعد في تنفيذ توصيات اللجنة. | المؤسسات مفككة أو فاسدة، مما يجعل تنفيذ أية قرارات تحديّاً كبيراً. |
خاتمة:
أظهرت تجربة جنوب إفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصري أن معالجة النزاعات العميقة لا يمكن أن تقتصر على التسويات السياسية؛ بل تتطلب مقاربة شاملة تتكامل فيها العدالة مع المصالحة، يُعطى فيها الضحايا الحق في رواية معاناتهم، ويُطالَب الجناة بالاعتراف بمسؤولياتهم الأخلاقية، ورغم ما شاب هذه التجربة من قصور، مثل محدودية التعويضات واستمرار التفاوتات الاجتماعية؛ فإنها نجحت في تجنيب البلاد حرباً أهلية كانت تلوح في الأفق.
وتشير دراسات عدة إلى أن الشعوب التي لا ترى قصاصاً عادلاً لضحاياها تستمر في حمل الضغائن والرغبة بالثأر، وهذا ما ينطبق على الحالة السورية؛ فتجاهل الفظائع التي ارتُكبت منذ 2011 (على الأقل) ليس خياراً، والأهل الذين فقدوا أبناءهم تحت التعذيب في سجون النظام البائد، أو القرى التي أُبيدت بالبراميل المتفجرة لن يقبلوا بالمضي قدماً دون إحقاق للحق؛ لذا فإن الاكتفاء بمقاربات تصالحية صرفة، وبقاء المجرمين والمتورطين طلقاء لن يؤدي إلا إلى تأجيج النزاعات واستدامتها ونسف أية مصالحة.
إن تصاعد التوترات الأخيرة _خاصة في مناطق الساحل وجرمانا وصحنايا والسويداء_ يُنذر بمخاطر جدية تهدّد بنسف ما تبقى من تماسك مجتمعي في سوريا، ومع أن أحداث العنف هناك لم تكن انتقاماً من مكوّن بعينه، بقدر ما جاءت ردّ فعل على ممارسات استفزازية ممنهجة؛ إلا أن تراكم الأحقاد وغياب المعالجة الرصينة، والتحريض من قبل جهات خارجية قد يفتح الباب واسعاً أمام انزلاق البلاد إلى دوّامة حرب أهلية طاحنة؛ وهذا ما يجب تجنّبه بأي ثمن.
إن خطر الحرب الأهلية لا يهدد طرفاً واحداً، بل يُعدّ تهديداً وجودياً لكل مكونات المجتمع السوري؛ لذا فإن معالجة آثار النزاع يجب ألا تنحصر في إحقاق العدالة أو الاقتصاص فحسب؛ وإنما يجب أن توازن بين تطلعات الضحايا إلى الإنصاف، وضرورة الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار. من هنا تكمن أهمية التفكير بنهج عدالة مختلطة، تضمن محاسبة لشريحة من للمتورطين بالجرائم الأشد فظاعة، مقابل اعتماد مقاربات تصالحية أكثر مرونة في المستويات الأدنى، وذلك تجنباً لفتح جبهات صراع مجتمعي إضافي.
والأخطر من كل ذلك هو ما تشكّله التدخلات الخارجية من وقود محتمل لتغذية الانقسامات وتأجيج النزاعات، سواءٌ من قبل أطراف إقليمية تسعى إلى تصفية حساباتها على الأرض السورية، أو من خلال حملات تضليل إعلامي تضرب على أوتار الهويات والطوائف؛ لذا فإن تحصين الداخل السوري يتطلب وعياً جماعياً بخطورة المرحلة، وبالمسؤولية المشتركة من جميع القوى الوطنية للعمل على تجاوز حالة الكسر والانقسام، وإفشال سيناريوهات الحرب الأهلية التي لن يكون فيها أي منتصر، بل مجتمع محطم وأجيال ضائعة.
كذلك لابد من توفير ضمانات واضحة تضمن عدم تحول العدالة الانتقالية إلى غطاء للانتقام الجماعي؛ فالتوازن بين المحاسبة والاستيعاب ضروري لنجاح أية عملية انتقالية، إذ إن إقصاء فئات واسعة ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء قد يدفعهم إلى تبنّي العنف مجددًا، مما يهدّد الاستقرار على المدى الطويل.
بكالوريوس في الترجمة ودبلوم إدارة أعمال، حاصلة على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة kulture في تركيا، مهتمّة بالقضايا المجتمعية للسوريين في الداخل وفي تركيا.