تونس ودرعا … بين مهد الربيع العربي ومهد الثورة السورية
إذا كانت تونس هي مهد ثورات الربيع العربي فإن درعا هي مهد الثورة السورية؛ ومع أن السوريين كثيراً ما يختلفون، حتى في التأريخ لانطلاق ثورتهم؛ إلا أنه لا خلاف “معتبر” بينهم في أن درعا هي مهد الثورة ومنها انطلقت شرارة الكرامة الأولى.
ومن موافقات القدَر أن تسخن الأحداث في كلا المهدَين “تونس” و “درعا”، فتعودان معاً لتصدُّر المشهد الإعلامي المحلي والدولي. ومع ما بين المشهدَين من مفارقات واختلافات فليس من التحامل على الواقع النظر في بعض المقاربات بين الحالتَين؛ مع التركيز أكثر في المشهد السوري الساخن حالياً في درعا.
بين الانتصار والهزيمة:
ليس ما يميز درعا من غيرها كونها مهد الثورة في سورية فحسب؛ فمع تبدُّل الأحوال وانقلاب الأوضاع الميدانية خلال عشر سنوات رأساً على عقب من حشر نظام الأسد في نحو 25% من الأراضي السورية، إلى انعكاس الأمر بعد استنفار دول شتى لمساندته حتى حُشر السوريون الأحرار في جيب شمال غرب سورية، بعد سلسلةٍ من التسويات وعمليات التهجير القسري. ومع أن جذوة الثورة خبت في مهدها “درعا” بعد التسوية في تموز عام 2018؛ إلا أن المشهد العام في درعا بقي مختلفاً عن الوضع السائد في مناطق “المصالحات” الأخرى التي سيطر عليها نظام الأسد عبر اتفاقات “التسوية”؛ حتى عُدت درعا كونها “نموذج السيطرة الهشّة للنظام في الجنوب السوري”. فقد نصّ الاتفاق على عدم دخول قوات النظام إلى مراكز المدن والبلدات، فبقيت عدة مناطق محظورة على النظام لا يدخلها إلا من خلال “عناصر التسوية”؛ الذين كانوا بأمس من “الثوّار” واصطفوا مع الروس واستقووا بهم حتى على نظام الأسد.
وهكذا استمرّ الوضع في درعا من بعد “تسوية” تموز2018؛ ففي الوقت الذي كان لخروج الثوار من مناطقهم أبلغ الأثر في الدلالة على الرفض القاطع للاعتراف بنظام الأسد والعيش في كنفه، تم اعتبار نموذج درعا أقل التزاماً بمبادئ الثورة، لكن المآلات تكشف لنا اليوم غير ذلك؛ حيث بقيت الكتلة البشرية الثورية في مناطقها كامنة لاغتنام فرصة مناسبة للانتفاضة من جديد، مع تفويت الفرصة على خطط التغيير الديمغرافي.
وليس بأحسن من الوضع في درعا انتصار الديمقراطية الذي صُور في تونس بعد رحيل “بن علي”؛ فما تحقق هناك من تحوُّل سياسي وديمقراطي لم تقابله تنمية اقتصادية واجتماعية أعمق، “فاستمر منذ عشر سنوات شعورٌ بالمكسب في يوم، يقابله شعورٌ بالخسارة في اليوم التالي، وبارقةٌ من الأمل في سنة ما، يغمرها اليأسُ لاحقاً بدرجات متفاوتة؛ وهكذا حُوصرت تونس في حلقة ناعمة من الاضطراب” يضرب الشارع بالاحتجاجات والمظاهرات، ويضرب الوسط السياسي كذلك بالتحالفات والتخالفات؛ دون خفاء دافعين وساحبين من الخارج.
الشركاء المتشاكسون …….. وانفجار الهشاشة:
وما سبق وحدَه مقدمة لوضع هشّ يُبقي برميل البارود مع الفتيل القابل للاشتعال، ومما زاد احتمال الانفجار خضوع الأسد لأوليائه وداعميه الروس والإيرانيين، فاستنفر كل فريق ينافس لتعزيز موقفه وإثبات تفوّقه في الجنوب السوري المهم جيوسياسياً للأطراف كافة؛ فضاعفت إيران من جهودها في التغلغل الثقافي -في سورية عامة وفي مناطق الجنوب خاصة- ليقينها بخروجها من سورية، فتسعى لتغيير ديموغرافي واجتماعي يحقق أهدافها في غيابها؛ وإن كان على حساب الأمن المجتمعي والاستقرار في سورية. وبالتوازي يسعى الشُّرطي الجديد وليّ الأمر الآخر لنظام الأسد “روسيا” لإثبات صلاحيته للضبط الشُّرَطي أمام الجيران “الإسرائيليين” والكبار من ورائهم، فيحاول الروس ضبط إيقاع العمل في الجنوب السوري وتخريب بعض مساعي إيران للتمدد بإفساح المجال لـ”إسرائيل” لتوجيه ضربات لإيران وميليشياتها من جهة، وباستقطاب عناصر التسوية ودعمهم في فيلق تدعمه “الفيلق الخامس”، لتردّ إيران بزيادة المغريات للشباب التائه في أجواء “التسوية” للانضمام إلى الفرقة الرابعة المحسوبة على إيران، وبتحريض الأسد ضد المنطقة لفرض شروط وقواعد جديدة.
ورغم حالة الضعف التي بلغها نظام الأسد تجاه حلفائه أو أوليائه؛ فإنه ما زال يراوغ ويلعب على المتناقضات والمصالح المتضاربة بينهم، وقد أفاد النظام في الجنوب من اختلاف مصالح الروس والإيرانيين هناك؛ فلم تهدأ محاولاته لتخريب اتفاق التسوية الذي أُرغم عليه وعلى خصوصيته، فمع تعمُّد حرمان المنطقة من خدمات التعليم والصحة وغيرها تتابعت عمليات الاعتقال والاغتيال للرموز السابقين في المعارضة الذين يغصّ بوجودهم في منطقة حُسبت أنها عادت إلى بيت طاعته؛ لكنها لا تخضع له وأكملت تمرّدها بعدم مشاركتها في المسرحية الهزلية من إعادة انتخابه، فكان كما ظهر قرار نظام الأسد مدعوماً من إيران بمحاولة “انقلاب” على اتفاق “التسوية” السابق الذي يحرص الروس على بقائه واستمراره.
وعلى سيرة “الانقلاب” نستحضر مهد الربيع العربي “تونس”؛ فمع ما في الربيع من الجمال إلا أنه لأسباب كثيرة خلّف في البلدان التي مرّ بها هشاشة كبيرة، نفذ من خلالها فاعلون ومؤثرون ضاقت بهم دولهم، فانتفشوا يمدّون أذرعهم بعيداً في جغرافية تائهة اختلطت فيها الحدود وتعقدت؛ فلا يُنكر أن الانقلاب على مرسي لم يكن مصرياً خالصاً، ولا أن تعقّد الأوضاع في ليبيا وفي اليمن حتى اليوم لم يكن سببه داخلياً فحسب، فضلاً عن تصارع القوى العالمية في سورية منذ سنوات؛ سواءٌ أظهرت وجوه المتصارعين العابرين للحدود أم توارت وراء دُمى تحرّكها. والمتابع للوضع في تونس منذ رحيل “بن علي” لا ينكر وجود صراع محموم شهد البرلمان التونسي مؤخراً بعض حلقاته، حتى سمعنا من برلمانية “تونسية” أسطوانة مشروخة دأبت دول أخرى على عزفها، ولم يكن ذلك إلا بتحريض ودعم خارجي لضمان عدم نجاح أي تجربة من تجارب الربيع العربي؛ وإلا فماذا يفعل ضباط عرب من جنسيات اشتهرت بمعاداة الربيع العربي في تونس ليلة “انقلاب” الرئيس التونسي، حتى تطلب الولايات المتحدة من “سعيّد” مغادرة أولئك الضباط؟! ولعل أولئك الضباط هم أنفسهم الذين تعرّضوا لرئيس الحكومة “المشيشي” بالضرب لإجباره على الاستقالة في قصر قرطاج! فقد “كشف موقع ميدل ايست آي (Middle East Eye) البريطاني أن رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي، الذي أعلن الرئيس قيس سعيد إقالته، تعرض لاعتداء جسدي في القصر الرئاسي. ونقل الموقع في تقرير أورده بصفة “حصري” ووقّعه رئيس التحرير، عن مصادر مقربة من المشيشي، وقوع الاعتداء الجسدي على الأخير، ونقل الموقع البريطاني عن المصادر أن المشيشي رفض طلبات التنحي عن رئاسة الحكومة، وعقب ذلك تعرض للضرب، وأشارت إلى أن أشخاصاً “غير تونسيين” كانوا في القصر ذلك الوقت. وقال الموقع أيضاً: إنه فهم أن “الأفراد غير التونسيين الذين وُجدوا بالقصر ليلة الانقلاب كانوا يقدّمون المشورة لسعيد قبل الانقلاب، ويوجّهون العمليات هناك، ومن غير الواضح ما هو الدور الذي لعبوه في استجواب المشيشي”.
فالمشهد في كلا المهدَين “درعا وتونس” يمكن اختصاره بالهشاشة التي لا تُرضي أي الطرفين بالواقع الذي أثمرته الانتفاضة؛ مع وجود أطراف خارجية تدفع طرفَي الصراع للانقلاب على الواقع لتعزيز مكتسباتها؛ أعني مكتسبات تلك الأطراف الخارجية، وإلا فليس الروس المجرمون بحريصين على الثورة السورية في درعا وهم أشد أعدائها في سورية كلها، ولا أولئك العابثون بتونس بأقل من الروس إجراماً وحرصاً على التخريب وإفساد الربيع العربي.
سيناريوهات الخروج:
يرى أهل الطب أن الجرح لا يلتئم قبل التنظيف، وإن التأم على غير نظافة فإنه يتطور إلى التهاب وألم قد يكون أكبر من الجرح الأول ذاته، وليس ذلك ببعيد عن مسار السياسة؛ فلا يمكن تحقيق استقرار في بيئة لا تتوفر فيها أسبابه.
لا شك أن الضامن الرئيس لتحقيق الانتصار الحقيقي والخروج: تعافي المجتمع واستمرار بثّ الروح فيها أكثر؛ ومفتاح ذلك حيوية الشارع الثائر، وهنا تبدو مفارقة بين الحالتَين السورية “الدرعاوية” والتونسية؛ فالصراع الذي اشتد وحفّز للانقلاب على الواقع خارجيّ أكثر منه داخليّ، لكنه ابتداءً وانتهاءً يمسّ المجتمع والشعب، لذا يكون الرهان أكثر ما يكون على الحاضنة.
ففي تونس نفّذ الرئيس سعيّد “الانقلاب“، واضطر رئيس الحكومة للاستقالة تحت الضرب، وأخذ الرئيس يتابع إجراءاته التي يصرّ على أنها “تصحيحية” وليست “انقلابية”، وخرج البرلمان مع حركة النهضة من المعادلة حتى الآن، ولم يصدر منهم أكثر من توصيف ما حدث كونه “انقلاباً”؛ ولا يبعد أن يكون سحبهم الجماهير من الشارع استشعاراً لما حصل في قصر قرطاج مع رئيس الحكومة، وخوفاً من الانزلاق نحو فوضى أكبر وحرب أهلية؛ ولكن يبقى السؤال الأصعب: هل يقف الرئيس التونسي؟ ما يظهر من إجراءاته حتى الآن أنه لن يقف، بل يتابع في خطوات “الانقلاب”.
وفي درعا ورغم سنوات الضياع السوري عموماً، وما تعيشه درعا خصوصاً وقد تفتت أهلها بين الشمال والجنوب وصُودرت فيها أحلام الحرية والكرامة؛ فقد أكّدت أننا لم نخطئ بالثورة، وانتفضت وأبت انقلاب النظام على الوضع الذي قبلتْه مُكرَهةً؛ ومَن شرب البحر لا يغصّ بالساقية. وكما أن من السذاجة عدم اعتبار إحجام الروس عن التدخل الهمجي المعتاد منهم مع الأسد؛ فإن من الظلم أكثر نسف قدسية صمود حوران وتعليقه فقط بتشاكُس الشركاء، فالردّ الثوري على تجاوز النظام ومحاولته تغيير قواعد اللعبة جاء أكبر مما ظنّ هو والإيرانيون، ولم يتدخل الروس للتهدئة حتى أكل الأسد والفرقة “الإيرانية” صفعة حورانية عدّلت المشهد السوري وبثّت روح الكرامة فيها بعد قريب من اليأس. ولو أن الكفة مالت لصالح الأسد وإيران فلن يحزن الروس؛ بل كانوا سيتدخلون لابتزاز الطرفين بما يؤكد وظيفتهم الشُّرَطية.
ففي كلا المهدَين “درعا وتونس”: إما أن تخمد روح الثورة في الجماهير فيتمادى “الرئيس” للعودة بها إلى حظيرة الطاعة، وإما أن تثور الجماهير وتؤكد حضورها ورفضها العودة إلى ما كانت عليه قبل الربيع من الاستبداد والخضوع له؛ فيكون الحدّ الأدنى من الكرامة العودة إلى الوضع السابق على “الانقلاب”؛ وإلا فتكمل طريقها لينفجر الوضع العام وتعود إلى بداية الربيع مهما كلّفها ذلك؛ وقد رأينا في بلد آخر من بلدان الربيع العربي نتيجة خمود الحركة الجماهيرية والسكوت عن الانقلاب على الثورة، كما رأينا في سورية شواهد مأساوية عديدة على نتائج السماح للأسد وشركائه بالانفراد بمنطقة وحدها؛ فهي دعوة لتجديد صرخات الكرامة الأولى “يا درعا احنا معاك للموت” قولاً وفعلاً على امتداد الساحة السورية، ليعلم أسد وحلفاؤه أننا لم نخطئ بثورة الكرامة.
لمشاركة المقال:
مقالات الرأي تعبر عن كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن مركز الحوار السوري
يحمل دكتوراه في اللغة العربية وآدابها، أكاديمي محقق في التراث، وكاتب باحث في القضايا الثقافية والفكرية. أنجز عدة دراسات ومقالات تُعنى بالوجود الإيراني في سورية، وبالتعليم والهوية الثقافية، وصدرت له عدة كتب تخصصية وإبداعية، مع أبحاث له منشورة في مجلات ثقافية ومجلات علمية محكَّمة.