الأبحاث والدراساتالإصدارات

حركة طالبان في أفغانستان … ومقاربات مع الوضع السوري: ما قبل كابل

تقرير تحليلي – إعداد: د. ياسين جمول

مقدمة:

لم يكن اتفاق الدوحة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان الأفغانية قفزة في التاريخ والواقع، وإن كانت توارت الحركة قليلاً في الأخبار، وانتشت حكومة كابل التي قامت بالدعم الغربي؛ فالحركة لم تترك مقاومتها منذ إسقاط حكومتها وملاحقة قادتها وعناصرها في جبال أفغانستان منذ نحو عشرين عاماً، فاستمرت في مهاجمة القوات الأجنبية والحكومية؛ حتى انتهت مرحَّباً بها في الدوحة لتوقيع اتفاق لا يقلّ وزناً وأهميةً عن سيطرتها على حكم كابل قبل ذلك، ودُعيتْ بعدها للقاءات علنية في عواصم أخرى دون اعتبار من تلك العواصم لحكومة كابل، وباتت الحركة تسيطر على مساحات واسعة في أفغانستان، وخلطت حسابات كثير من الفاعلين الإقليميين والدوليين.

وهذه قراءة للواقع الأفغاني بعيونٍ سوريةٍ؛ نوجز في هذه المقالة الأولى منها تقدُّم حركة طالبان في سيطرتها على البلاد بعد اتفاق الدوحة، ونقف عند تخوم العاصمة كابل قبل دخول طالبان إليها؛ لتكون مادة لمقالة تالية، مع مقاربات لجملة مواقف وتجارب من الحالة الأفغانية مع الحالة السورية، في محاولةٍ لتلمُّس عناوين أهم الدروس المستفادة من تلك المواقف والتجارب في خدمة القضية السورية؛ علماً أننا ندرس هنا الحالة الأفغانية وتقدُّم حركة طالبان بوصفها الذي تقدّمه لنفسها منذ مدة “حركة تحرر وطني” أمام قوات أجنبية محتلة ونظام حكم محليّ زرعَه الاحتلال وزالَ بمغادرته؛ دون تقييم مسار الحركة وفكرها، أو تصحيح طريقتها ونهجها[1].

وأبرز تلك الدروس المستفادة:

  • حرب “المطاريد” هي حرب الشعب؛ فكل حركة تحرر تفقد حاضنتها تخسر حربها.
  • عبء المكان: بين مناطق الإنتاج ومناطق الاستهلاك؛ فالمعابر رئة البلد وثرواته غذاؤها، والتفريط بها تفريط بأسباب الحياة.
  • الفساد مَهلَكة؛ فالثورة قامت لمحاربة الفساد والتساوي مع الفاسدين يقود إلى مصيرهم.
  • اللعب مع الكبار؛ فالبقاء للأقوى، والقوة التي تنقل إلى طاولة المفاوضات تختلف عن التي تأتي منها.
  • الحرب الأهلية مَهرب العاجزين؛ وإنما شرارتها في الشحن الطائفي والقَبَلي والمناطقي.
  • الخارج: الثوب الذي قد يستر لكنه لا يدوم؛ فنحن نريد أصدقاء لا سادة.

عين على الواقع الأفغاني:

طالبان وحكومة كابل.. تقدُّم الهارب وهروب العزيز:

لعل أول ما يُستوقف عنده في الحالة الأفغانية مؤخراً أن الحركة التي بقيت لنحو عقدَين مشردةً مطاردةً قد أنجزت اتفاقاً تاريخياً مع الدولة العظمى “الولايات المتحدة” للانسحاب من أفغانستان في مشهد هرب وهزيمة؛ فالحركة عملياً لم تتراجع خلال تلك السنوات، بل يبدو أنها حافظت على عناصر استمرار مقاومتها؛ فقد ضاعفت طالبان عملياتها بعد توقيعها اتفاق الدوحة وتمددت في الأرياف الأفغانية، كما يظهر من سرعة سيطرة حركة طالبان على أكثر من 13 مقاطعة في يوم واحد، وفي تموز 2021 ذكرت جهات غربية أن طالبان باتت تسيطر على نحو 75% من مساحة أفغانستان، كما أن الجنود الحكوميين يهربون أمام تقدّم قوات طالبان[2].

وعند النظر في الجهة التي تسلّمت حكم البلاد هناك نجد أنها لم تنجح في بناء الدولة على مدار العقدَين رغم وفرة الدعم الدولي، وإن كانت قد حرصت على إظهار انتصارها وتغييرها حالة “الإرهاب والتشدد” التي وُصفت بها أفغانستان إبان حكم طالبان السابق؛ إنما طبعَ البلادَ فسادٌ استشرى في “حكومة خارجة عن القانون وضعيفة وتعاني من خلل مؤسساتي إلى حدّ كبير”؛ حتى عُدت أفغانستان من أكثر الدول فساداً في العالم بحسب منظمة الشفافية الدولية، وهو ما حرم أفغانستان من ملايين الدولارات والاستثمارات وأعاق الجهود الأممية لإنجاح عملية السلام فيها، وبدّد على البلد المنهك ملايين الدولارات كذلك بسبب تورط جهات حكومية في عمليات فساد كبرى؛ وهو ما أفادت منه طالبان وساعدها في تهاوي وحدات الجيش وبعض المؤسسات واستسلامها لها دون قتال أحياناً.

وضمن رسائلها الحديثة المصممة بعناية لتحقيق آثار إيجابية نجد طالبان تتجاوز تحذيرات خصومها وتطمئن الخائفين من عودتها للسيطرة وحكم البلاد[3]؛ فتعلن ضمانها سلامة البعثات الدبلوماسية والمنظمات المدنية، وإتاحة حرية الإعلام والتعبير واستمرار عمل المدارس والمؤسسات التعليمية، مع طمأنة المستثمرين ورجال الأعمال، ونفي الحركة فرض أية قيود على الناس والإعلام والنساء في المناطق التي تسيطر عليها، وفق بيانٍ للحركة مع بي بي سي البريطانية.

خريطة التحرّك في الأرياف وعلى المعابر:

ومما يستوقف المتابع في امتداد سيطرة طالبان على الأرض حتى ما يتجاوز نصف مساحة أفغانستان خلال الأشهر الأخيرة أن سيطرة الحركة امتدت في الأرياف، ولم تدخل المدن الكبرى ابتداءً، وإنما تستولي على الأرياف وتمتد حول المدن، وهذه طريقة “حرب المطاريد” ألفتْها طالبان من قبل ونجحت فيها؛ فهي تحاصر المدن وتستنزفها بهجمات متواصلة وأعمال من داخلها، فتزداد حالات الفرار من الجيش وأجهزة الأمن، ويغادر السكان المدن قبل نشوب المعارك؛ وما “إن يتمكن المطاريد من انتزاع المدينة الأولى حتى يبدأ تصدّع سريع للنظام، وتتسارع وتيرة تنازلاته، حتى تنكمش في النهاية إلى مجرد إعطاء رموزه الكبيرة ممراً آمناً للهروب خارج البلاد”[4]. ولعل هذا يساعد في فهم أفضل للدعوات التي كانت توجهها طالبان لسكان المدن إلى الاستسلام لتجنب المعارك من جهة، ومن جهة أخرى دعوات الحركة جميع المواطنين والعلماء للدخول في اتصال مع طالبان “بهدف التواصل إلى اتفاق منطقي لتجنيب تعرُّض مدنهم لأضرار“؛ فهذا مما كان يزعزع حكومة كابل، ويسهّل سقوط المدن بيد الحركة بأقل تكلفة. وكذلك يُفهم أكثر ما كانت أعلنته الحركة من أنها تعتزم تقديم مقترح سلام مكتوب إلى الحكومة الأفغانية الشهر المقبل على أقصى تقدير[5].

وبالتوازي مع تمدُّد طالبان خارج المدن الأفغانية وجدناها تُحكم سيطرتها على المعابر الخارجية؛ فقد سيطرت حركة طالبان على المعبر الحدودي الرئيسي مع طاجيكستان؛ ولضمان تأمين مورد مالي ضخم يدعمها في خطتها اتفقت الحركة مع طاجيكستان فور سيطرتها على المعبر على متابعة العمل المدني والتجاري دون أية تغييرات، فاستمرّ العمل في المعبر دون تغيير حتى في موظفي الجمارك؛ ولكنْ سُجل فرار نحو ألف من الجنود الذين كانوا مع الحكومة الأفغانية إلى طاجيكستان[6]، وبعد ذلك كانت سيطرة طالبان على أهم معبر حدود أفغاني مع إيران “إسلام قلعة” في ولاية هيرات غرب البلاد؛ ليعلن المتحدث باسم طالبان عن ترتيب الحركة الفوري لإعادة تشغيل المعبر. وبعده بيوم سيطرت طالبان على بوابة حدودية تجارية مع تركمانستان “تورغوندي”. ثم سيطرت طالبان على معبر حدودي رئيسي مع باكستان في ولاية قندهار، ويُعد هذا المعبر الحدودي أحد أكثر المعابر أهمية من الناحية الاستراتيجية لطالبان؛ إذ يمكن الوصول عبره مباشرة إلى إقليم بلوشستان الباكستاني حيث يُذكَر تمركز قيادة طالبان منذ عقود، وانتشار عدد غير معروف من المقاتلين الاحتياطيين الذين يُرسلون إلى أفغانستان للقتال. وبعد إعلان باكستان إغلاق المعبر من جهتها وتوقيف العمل المدني والتجاري فيه غرّد الناطق باسم طالبان عن التوصل لاتفاق مع الجانب الباكستاني لعودة حركة النقل في الطريق السريع إلى طبيعتها، مطمِئناً التجار والمسافرين عبر الحدود.

فرض تغيرات في المنطقة:

لم تُترك أفغانستان -لأسباب كثيرة- دون مختلف أنواع التدخل والتأثير، فمن الطبيعي أن يخلط التمدد الأخير لحركة طالبان أوراق دول الجوار والتأثير حتى قبل وصولها إلى كابل؛ فيتواصل الرئيس الإيراني الجديد مع رئيس وزراء باكستان، ويتواصل المستعمِر القديم لأفغانستان الروسي مع طاجيكستان لتدارُس ما يحصل. ولعل أبرز ما سُجل في محيط أفغانستان خلال تلك التحركات لطالبان زيارة وفد الحركة لطهران بناءً على دعوة من وزير الخارجية الإيراني “جواد ظريف” الذي تناسَى كما يبدو أنه وصفَ حركة طالبان قبل ذلك بأنها “إرهابية”، لكنّه دعاها للاجتماع ولقاء كبار المسؤولين بعد اتفاقها مع الولايات المتحدة الأمريكية وتعاظُم مخاوف إيران من تأثير الاتفاق عليها، وفي المقابل تناست طالبان مؤقتاً -كما يبدو أيضاً- دعم إيران لجهود إسقاط حكمها عند الغزو الأمريكي لأفغانستان؛ فيما يظهر أنه تقاطع مصالح بين الطرفين “طهران وطالبان” وقراءة جديدة لموازين القوى[7]. وعلى نحو ما تجاهلت إيران غضب الحكومة الأفغانية من دعوة طهران لحركة طالبان استقبلت موسكو كذلك وفداً من الحركة “لبحث المصالحة الأفغانية” كما أُعلن؛ إذ كان يتخوف المسؤولون الأفغان والأمريكيون من أن تثمر اللقاءات المكثفة للروس مع طالبان في موسكو وطاجيكستان عن دعم عسكري ومالي يساعدها على الإطاحة بحكومة كابل وإعادة رسم خريطة جديدة للنفوذ في أفغانستان؛ كما نقلت رويترز. ولم تقف طالبان عند فتح ما يمكن تسميته خطوط تبريد جبهات وما يظهر للجمهور العام وكأنه تصفير عداوات مع روسيا وإيران، فقد انتقلت للحديث عن الاستثمارات وحمايتها؛ إذ أعلن المتحدث السياسي باسم طالبان سهيل شاهين أن: “الصين دولة صديقة نرحّب بها لإعادة إعمار أفغانستان”، وأنهم ذهبوا إلى الصين عدة مرات ولهم علاقات جيدة معها، وأكّد ضمان حركة طالبان سلامة استثمارات الصين وتنميتها. ولعل هذه النبرة مع التقدم ميدانياً دفع الهند للتفاوض معها سرّاً لضمان استثماراتها في أفغانستان؛ رغم حساسية العلاقة بين الطرفين بسبب تقارب الحركة الشديد مع باكستان، ووصف الهند سابقاً حركة طالبان بأنها “حركة إرهابية عميلة لباكستان”. بما يثبت امتداد أثر التغيرات جرّاء تقدّم طالبان في السيطرة داخل أفغانستان إلى دول المنطقة من جهة، وتوظيف طالبان لتلك التغيرات رغم ما بين الأطراف الإقليمية من تباينات وتناقضات من جهة أخرى؛ ربما ليقين الحركة بالتأثير الكبير للأطراف الإقليمية داخل أفغانستان.

ويشير خبراء إلى أن الانسحاب الأمريكي وسيطرة طالبان على أغلب أراضي أفغانستان قد يؤدي إلى عودة الساحة الأفغانية إلى ما بعد الانسحاب السوفييتي، من التأثير الإقليمي في إذكاء الحرب الأهلية والفصائلية؛ فإيران مع ما تدفع به من تعزيزات نحو حدودها الطويلة مع أفغانستان بدأت تحشد الآلاف من عناصر لواء “فاطميون“، بعد أن كانت تضغط لدمج “فاطميون” في الجيش الأفغاني؛ في محاولة منها للتحضير لمواجهة نفوذ طالبان مستخدمةً التحريض الطائفي الذي تبرع فيه.

الخروج عن الطَّوق:

مع تعدد الرسائل التي حملها حراك طالبان الخارجي في توقيعها اتفاق الدوحة ثم زيارات وفودها إلى موسكو وطهران وطاجيكستان أنّ الحركة خرجت من العباءة الباكستانية؛ مع أن باكستان لم تكن يوماً خصماً لحركة طالبان، ولها تاريخ طويل من التعاون معها، بل أكثر، منذ تأسيسها، وتجتمع مع قيادات الحركة علناً تحت العنوان ذاته “عملية السلام الأفغانية“؛ ولا عجب فأفغانستان دولة مجاورة وتشتبك مع باكستان في علاقات قبلية اجتماعية وتتأثر بقوة بحركة اللاجئين منه، فأفغانستان عمق استراتيجي بالغ الأهمية لأمن باكستان القومي، وتهتم بمَن يحكم كابل ويسيطر في منطقة من أشد مناطق الصراع في العالم. ومنذ تأسيس طالبان احتضنتها باكستان وقلّ أن تخالف سياستها؛ لكنّ ما يمكن ملاحظته أن طالبان ربما “شبّت عن الطَّوق” الباكستاني، وصار لها من الحضور والقوة ما يمكّنها من مخاطبة باكستان وغيرها من الدول بشيءٍ من الندّيّة، وإن لم تكن بعدُ في موقع السلطة والحكم؛ حتى دخلت في خط اتصال وتفاوض مع الهند العدو التاريخي لباكستان. وكذلك فعند النظر في تبدّل مواقف إيران وروسيا من الحركة واستقبالها على مستويات عليا نجد أن سيطرة طالبان على الأرض أجبرَ حتى خصومها على مراجعة مواقفها منها، وعلى فتح خطوط حوار وتعاون معها؛ مع تقدير أن الحركة لو بقيت في العباءة الباكستانية فحسب ما بلغت ذلك المبلغ في علاقاتها.

 دروس للسوريين:

1- الموقف الشعبي.. حرب المطاريد هي حرب الشعب: لعلّ أبلغَ درسٍ من الحالة الأفغانية في تغلُّب حركة طالبان بعد عقود ما سبق تأكيده في ورقة “عوامل تعزيز ثقـة الحاضنة الشعبية بالكيانات المسلحة: دراسة حالة حركتي حماس وطالبان” من أهمية الحاضنة لحركات التحرر، إذ يوقن المتابع أنه لم يكن للحركة أن تستعيد عافيتها وتتقدم دون ثقل لها لدى الحاضنة الشعبية؛ سواء لأسباب قَبَلية كون أكثر قادتها من البشتون وهم القبيلة الأكبر في أفغانستان، أو كان ذلك لأسباب فكرية ودينية كونها حركة منسجمة مع هوية المجتمع، أو كان لأسباب داخلية بسبب الظروف المحلية. وتتميماً لما سبق عن “حرب المطاريد” يقول حامد[8] عن تجربة أفغانستان وطالبان تحت عنوان “حرب المطاريد حرب الشعب”: “الشعب هو الموضوع الأساس لحرب المطاريد؛ فلأجل الشعب تنشب الحرب، وهو الذي يدفع ثمنها كاملاً…، وتجارب الشعوب تقول: إنه من المستحيل هزيمة حرب مطاريد يحتضنها الشعب، والعكس أيضاً صحيح، أي: استحالة نجاح حرب مطاريد لا يوافق عليها الشعب، أي أن أسلوب التوريط غير جائز وغير ناجح؛ فليس هناك من جهة يمكنها فرض حرب شعبية لا يوافق عليها الشعب وغير مستعد لها. وقد رأينا كيف انفضّ الشعب الأفغاني عن حركة طالبان عندما ورّط بن لادن البلد في حرب مع الولايات المتحدة؛ فانهزمت الحركة رغم أن الشعب هو الذي حملها بسلاحه إلى سدّة الحكم”[9]. وهو ما يطرح تساؤلاً جادّاً حول ثقة الحاضنة السورية اليوم بعد عشر سنوات – وليس عشرين سنة كما في الحالة الأفغانية – بقوى الثورة والمعارضة السورية؛ وليس هذا التساؤل لتقدير نتائج عملية انتخابية قد تُفرض دولياً، وإنما هو نابع من غلبة التغيير القادم في المنطقة وتبدّل أولويات الفاعلين الدوليين والإقليميين؛ ما قد يؤدي لاحتدام المعارك من جديد على عدة جبهات ضد نظام الأسد وحلفائه[10].

2- عبء المكان: بين مناطق الإنتاج ومناطق الاستهلاك: نرى طالبان في تمددها قد ابتعدت عن مراكز المدن لمدة، وسيطرت على الأرياف من حولها، وكذلك سيطرت على معابر رئيسة مع كل الدول المحيطة بأفغانستان؛ فالحركة تركت الحواضر التي تستهلك مواردها المالية والبشرية، وتُضعف حاضنتها الشعبية بعجزها عن القيام بشؤون المدنيين قبل استكمال السيطرة على زمام الحكم، وانصرفت لضرب القواعد العسكرية خارج المدن لزيادة عتادها وذخائرها والامتداد في الأرياف لإحكام الخناق على المدن وتأليب الناس فيها على الحكومة نتيجة محاصرتها ووقوعها تحت التهديد بالاقتحام. مما وجدنا خلافه في الحالة السورية من السعي للاستحواذ على الحواضر[11]، وانتهى بسهولة محاصرة نظام الأسد حواضر المدن التي تسيطر عليها قوى الثورة والمعارضة والتضييق عليها رويداً رويداً حتى إطباق الحصار التام عليها، وتركيع أهلها بسلاح الجوع والخوف وتحريضهم ضد الفصائل فيها. دون إنكار أثر التدخل الخارجي الجلي في الحالة السورية على الحيلولة دون سيطرة أو استمرار سيطرة قوى الثورة والمعارضة السورية على المعابر ومناطق الثروات التي يمكن استثمارها في دعم الثورة وبناء حكم مدني رشيد، بخلاف ما حصل في أفغانستان من قَبول القوى الخارجية ودول الجوار بالأمر الواقع؛ وهنا تكمن المفارقة في قدرة طالبان على تحييد دول الجوار وإقناعها باستمرار العمل في المعابر وعدم التدخل ضد الحركة لفوائد الطرفين، وانسداد الأفق بين قوى الثورة السورية ودول الجوار لأسباب عديدة.

وتتمة الدرس المفيد للسوريين هنا جاء في سيطرة طالبان بزمن قياسي على أهم المعابر مع كل الدول المجاورة لأفغانستان[12]؛ وهي بذلك تحقق جملة من الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية، منها: التمويل من خلال الجمارك وحرمان الحكومة منه، ومحاصرة الحكومة وقطع الدعم عنها من دول الجوار، وإجبار تلك الدول على تغيير طريقة تعاملها مع الحركة[13]. إضافة إلى أهمية السيطرة على المعابر في تعزيز مكانة الحركة عند الحاضنة الشعبية؛ فالمعابر قضية سيادية والسيطرة عليها مؤشر قويّ لتقدّم الحركة، لاسيما مع ما يترافق من استئناف العمل في تلك المعابر؛ فهو يؤكد للمواطنين قَبول دول الجوار لطالبان وقدرتها على فرض نفسها عليهم بالقوة. ويدرك السوريون خطورة انحسار السيطرة على معبر باب الهوى ومع تركيا فحسب؛ حتى وقعت عدة معارك بين الفصائل للسيطرة عليه[14]. وكذلك يدركون خطورة بقاء المعابر مع الدول التي ساندت نظام الأسد لدخول التعزيزات والإمداد إليه عبر العراق ولبنان. بالإضافة إلى خروج أهم مناطق الثروة في شمال شرق سوريا عن سيطرة قوى الثورة والمعارضة إلى داعش ثم إلى الميليشيات الانفصالية “قسد”، وما خسرته الثورة السورية وحاضنتها هناك بذلك وزاد من رصيد الانفصاليين وقوة مشاريعهم.

3- الفساد مَهلَكة: شكّل الفساد المستشري في أفغانستان منذ سقوط طالبان مادة للحركة لمهاجمة الحكومة الأفغانية في كابل لفسادها، وإعلان عدم مشاركتها الحكم بسبب ذلك؛ إذ صرّح الناطق باسم طالبان: “لا نريد تقاسم السلطة مع أحد؛ لأن حكومة كابل متورطة بالفساد بشكل كامل. لقد تم إهدار مليارات الدولارات التي قدمتها الولايات المتحدة والدول الغربية، من دون إنفاقها لصالح البلاد والشعب”[15]. مع ضرورة التروّي في قَبول ذلك التصريح لأنه من “خصم”؛ إلا أن الواقع الأفغاني يشهد لطالبان بخطوات جادّة في الإصلاح ومحاولة إعادة بناء أفغانستان بعد استيلائها على الحكم أول مرة-بالمقارنة مع حالة الفوضى العارمة التي امتدت قبل حكمها- وذلك عبر تنفيذ برامج عديدة وضعتها الحركة آنذاك لإعادة الأمن والنظام الداخلي، والقضاء على الفوضى، وتحسين الحالة المعيشية والعمل على رفاهية الشعب الأفغاني؛ دون إنكار جملة الأخطاء التي أسهمت بإسقاطها على يد التحالف الدولي بعد أحداث 11سبتمبر[16].

وقد يُرى أنه من التجنّي على الحالة السورية مقاربة الفساد في حكومة أفغانستان لعشرين سنةً مع واقع الحالة السورية والجهات التنفيذية في المناطق المحررة؛ إلا أن ما يجب المصارحة به وتأكيده أن التقصير في بناء نموذج للحكم الرشيد في مناطق قوى الثورة والمعارضة سيوصل لاحقاً إلى نحو ذلك الفساد، مع أن علامات فساد عديدة تظهر في المناطق خارج سيطرة نظام الأسد، سواء في مناطق سيطرة “هتش” أو مناطق فصائل الجيش الوطني والحكومة المؤقتة؛ وإن لم تأخذ حملات مكافحة الفساد التي يطلقها الجيش الوطني والجهات المحلية الأثر اللازم بعد؛ لرسوخ الحالة الفصائلية والعصبيات، التي لابد لمعالجتها من إرادة قيادية ووعي شعبي يضغط باتجاهها، قبل أن تتحول إلى فساد واقع قد يُعمل على ترسيخه وفرضه في نماذج الحل المستقبلية. وهنا علينا أن نستحضر أن من الأسباب – الداخلية – لنشأة حركة طالبان بداية التسعينيات كانت إنهاء الفوضى الفصائلية والاحتراب الداخلي ومحاربة الفساد الأخلاقي والاضطرابات الأمنية عقب طرد السوفييت[17].

4- اللعب مع الكبار: استمرت الوساطة الباكستانية سنوات طويلة بحثاً عن السلام في أفغانستان دون تحقيقه، رغم صلتها الجيدة مع طالبان والحكومة الأفغانية وكذلك مع الولايات المتحدة وغيرها، وتعددت اللقاءات غير المباشرة في عدة عواصم بين طالبان والولايات المتحدة؛ لكنّ انتقال الجلسات إلى المباشرة بين الطرفين حقق التوصل للاتفاق؛ وهذا مما يُحسب لطالبان أنها استطاعت دفع الدولة العظمى التي غزت قبل عقدَين أفغانستان بهدف إسقاطها إلى الجلوس معها على طاولة التفاوض، وإن لم تكن تعترف بها كدولة، فتجاوزت بذلك طالبان كثيرين من الفاعلين الإقليميين المحسوبين من أصدقائها ومن خصومها[18].

ولا شك أن المعارضة السورية بدّدت كثيراً من السنوات والأوراق التي كانت بيدها في اصطفافها مع دول “وسيطة”[19] حينما تحققت لها الغلبة في ذروة انتصارها ميدانياً، وأن عليها -فيما بقي- دراسة التعامل مع أصحاب الأيدي العليا من الفاعلين؛ لاسيما وهم يرون الفاعلين الإقليميين يصفّون حساباتهم مع “الكبار”، وإن كان على حساب الأطراف “التابعة” من الدرجة الثانية. فإن قيل: لم يعد لها من القوة والسيطرة ما يدفع “الكبار” إلى اعتبارها والجلوس معها؟ فإنّ هذا إنذار لها بضرورة تحصيل المكاسب وأوراق القوة التي تأتي بهم إليها؛ ولا يكون ذلك دون مراجعة جادّة للأخطاء والاستفادة الواعية من الدروس السابقة.

5- الحرب الأهلية مَهرب العاجزين.. وشرارتها الشحن الطائفي والقَبَلي: مع تقهقر الجيش الأفغاني وهروب وحداته أمام طالبان، وشعور حكومة كابل بتخاذل حلفائها الدوليين الذين اتفقوا مع طالبان دون اعتبار لها؛ وجدنا خطاباً منها للحاضنة يغازل عاطفتها الدينية ويحرّضها ضد طالبان، فأعلن نائب الرئيس الأفغاني أن الحرب التي تشنّها حركة طالبان محرَّمة في الإسلام لأنها تقاتل حكومة إسلامية قائمة. ومع الفساد المستشري والهزال في المؤسسات والقوات الحكومية بدأت حكومة كابل بتسليح القبائل للتصدّي لطالبان، وكان وزير الدفاع الأفغاني قد دعا القبائل إلى التحرك ضد طالبان[20]؛ ما يذكّر بدعم الميليشيات الطائفية والانفصالية بحجة محاربة داعش في سوريا والعراق، وبما يهدد أكثر بدفع الصراع في مواجهة طالبان نحو أتون حرب أهلية؛ لذا نصح سابقاً متابعون للشأن الأفغاني قادة حركة طالبان بالاتعاظ بما سبق في تجربتها الأولى، وقَبول الشراكة مع “قدامى المجاهدين” وحذّروها عواقب الشحن القبَلي والمناطقي وتصفية الحسابات؛ منعاً لوقوع سيناريو دموي تكون فيه أفغانستان وشعبها الخاسر الأكبر[21]. لتتأكد مخاطر انتشار السلاح والتأجيج العاطفي والمناطقي في سوريا وغيرها؛ فهذه هي الطريق الأقصر لأعداء الاستقرار، وقد عاشت الساحة السورية محطات مؤلمة من الاحتراب الداخلي بين فصائل الثورة أسهم في تضييع مكاسب كثيرة، وإن كان نظام الأسد وحلفاؤها الذين عملوا على الدفع بالثورة نحو التأجيج الطائفي[22].

6- الخارج.. والثوب الذي قد يستر لكنه لا يدوم: يدلّ الواقع في الحالة السورية أن الدول التي “وقفت مع الثورة” ارتمت معها قوى الثورة والمعارضة، وإن لم يكن كما ارتمى نظام الأسد في حضن داعميه؛ إلا أن المعارضة السورية والتْ وعادتْ على تلك الدول، وذابت شخصيتها ومصالح الثورة معها في مواقف كثيرة. وما تشهد به تجارب حركات التحرر عالمياً أنه لا يمكن لثورة أن تنجح في وسط معقد – كالحالة السورية – دون دعم دولة تدعم الثورة في العلن أو السرّ، لكنّ الواقع يشهد كذلك أن تمام التحرر وانتصار القضية لا يتحقق إلا باستقلاليةٍ بحد أدنى تضمن استمرار السعي لتحقيق أهداف الثورة التي انطلقت بها؛ وبذلك تفرض قوى الثورة احترامها في الداخل والخارج، وتستأهل قيادة الدولة بشكل لائق، وتعامل الدول الأخرى بندّية تحقق مصالح بلدها أولاً، دون أن تكون تابعةً ترعى مصالح الدول الأخرى على أراضيها، كما يحصل مع أدوات إيران مثلاً في اليمن والعراق ولبنان بعد نجاحها في تقوية “فواعل ما دون الدولة” وعرقلتها بناء مؤسسات تضمن هيبة الدولة؛ فهذا منزلق خطير قد لا يقف عند حدود الارتزاق سياسياً وعسكرياً وفكرياً. كما أن في الانسحاب الأمريكي بعد التوافق مع طالبان وتجاهل نداءات حكومة كابل دروساً في أن الدعم الخارجي مهما ستر فإنه لن يدوم؛ فلكل دولة أجندة ومصالح ترعاها، ويهمّها مَن يحقق لها تلك المصالح ويضمن لها المكاسب؛ وفي الحالة السورية حتى الآن شواهد كثيرة على هذا، وعلى “سلطات الأمر الواقع[23] في مختلف المناطق خارج سيطرة نظام الأسد الاعتبار بذلك؛ فالدعم الخارجي قد يحقق الغلبة لجهة ما والسيطرة على الحكم، ولكن لن تستمر سلطة دون حاضنة شعبية تحملها وتضفي عليها الشرعية الحقيقية، ولا يكون ذلك إلا ببناء نموذج حكم رشيد يحقق للحاضنة متطلباتها ويسكّن مخاوفها من جهة. ويسكّن مخاوف دول الجوار ويبني معها علاقات صحيحة من جهة أخرى؛ فدول الجوار ستضغط لاحتواء حركات التحرر وقوى الثورة، لكنّ على الأحرار تقديم مصالح بلدهم ورفض التبعية؛ فبناءُ علاقات صحيحة مع الجوار والأصدقاء لا يكون بالتبعية، بل إن الخروج عن الطوق والتعامل بإيجابية خيرٌ للمتجاورين من الخضوع والإمّعيّة.

7- إيران وروسيا.. بين أفغانستان وسوريا: مما يجمع بين الحالتَين الأفغانية والسورية حضور إيران وروسيا في كلتا الساحتَين؛ فالاتحاد السوفياتي احتلّ أفغانستان ثم طُرد منها، واستمرت روسيا بتدخلها وتطلعها للتأثير في مستعمرتها السابقة؛ لنجدها تجلس مع “طالبان” بعد تقدّمها على الأرض، وهم الذين قاتلوها وشاركوا في إخراجها من أفغانستان وإن لم تكن قد أُعلنت ولادة الحركة حينها. وكذلك إيران فهي ترتبط بأفغانستان بحدود طويلة، وكانت لها علاقة متوترة مع طالبان وتعاونت مع التحالف الدولي في إسقاطها؛ ثم دعتها لزيارتها رسمياً وجلست معها بعد تقدّمها الأخير سياسياً وعسكرياً. ولكلتا الدولتَين “روسيا وإيران” ظلال سيئة على الساحة الأفغانية وتعملان على التحريش والتخريب فيها عند تعطّل مصالحهما؛ ولكنّ الذي يخفّف عداواتهما ويجبرهما على التواصل ومحاولة التعاون مع طالبان تغيّر موازين القوى على الأرض لصالحها، ونجاحها في التوصل لاتفاق مع الولايات المتحدة لا يخفى النصر الذي فيه لطالبان. وعلى السوريين أن يستحضروا هذا في مواجهتهم إيران وروسيا؛ فالقوة التي تنقل إلى طاولة المفاوضات تختلف عن القوة التي تأتي منها؛ وفي الذاكرة شواهد عديدة من مناطق الصراع على ذلك. ولا يجادل عاقل بالتفاوت الذي عاشه المفاوضون السوريون بين الاجتماعات في زخم الانتصارات الميدانية حتى 2015، في مقابل الاجتماعات التفاوضية بعد انتكاسات قوى الثورة والمعارضة ميدانياً حتى اليوم؛ وإن كانت تشهد الساحة الأفغانية أنْ لا بقاء لمحتلّ مهما عظمت قوته إن بقيت جذوة المقاومة في الشعب، وأن الغالب يفرض قواعده على الأعداء والأصدقاء. وكذلك فإن التواصل الإيراني – والروسي بدرجة أقل منه – مع حركة طالبان يُخاف معه الانتقال من “تبادل المصالح” إلى التوظيف من إيران لطالبان؛ وفي هذا درس آخر للسوريين في الحذر من التوظيف باسم تبادل المصالح.

8- أصدقاء لا سادة: تركيا.. الشاهد وليس الوليّ: لم يُعرف لتركيا حضور رسمي في ساحة الصراع الأفغانية وإن كانت تحتفظ بنحو 500 عنصر ضمن قوة لحلف الناتو لتدريب قوات الأمن الأفغانية، وتستقبل بين الحين والآخر وجهاً من وجوه الأفغان؛ إلا أنه بعد اتفاق الانسحاب الأمريكي من أفغانستان مع طالبان ظهرت فكرة استلام قوات تركية مهمة تأمين مطار كابل. ولا يبعد في هذه الخطوة أن تكون “مكيدة أمريكية”، حتى لَيبدو الوجود التركي في أفغانستان أقرب إلى “اللغز”؛ لأن حركة طالبان وإن كانت احتفظت بلهجة هادئة تجاه تركيا إلا أنها حذّرتها من البقاء في أفغانستان كما نقلت رويترز، وهددت بضرب قواتها كغيرها من القوات الأجنبية. وإن جاء تهديد طالبان لتركيا كون القوة التركية جزءاً من قوات حلف الناتو ومع الموقف الإيجابي من تركيا عموماً؛ إلا أن حركة طالبان أصرّت على موقفها، حتى إنها رفضت حضور مؤتمر السلام الأفغاني الذي كان من المقرر انعقاده في إسطنبول؛ لتزيد صعوبةً مهمة إقناع تركيا طالبان بوجودها مع باكستان وغيرها في أفغانستان. وفي هذا درس للسوريين أنّه لا يلزم لمن يكون مع القضية السورية في شيء أن يُقدَّم على أنه “وليّ الدم” وصاحب القضية ينطق باسمنا بدلاً عنا، فيكفي إن كان مع قضيتنا أن يكون “الشاهد” لنا، لا علينا[24]. وكانت تركيا كررت مضيّها في تأمين مطار كابل بعد لقاء الرئيسَين بايدن وأردوغان، في مقابل إصرار حركة طالبان على رفض وجود تركيا بصفة عضويتها في الناتو واتفاقها من جانب واحد مع الولايات المتحدة؛ لتأتي بعد ذلك الرسالة المؤلمة المنسوبة للناطق باسم طالبان[25]: “كنا نلتقي مع المسؤولين الأتراك في الأشهر الماضية، واتفقنا معهم على إجراء محادثات مشتركة، لكنهم أوقفوها، بالإضافة إلى ذلك لا يزال الجانب التركي يعاملنا كما يتعامل مع فصائل المعارضة السورية. علماً أن معظم الدول التي نلتقيها في الغرب والدول المجاورة تطبق علينا بروتوكول الدولة. مع الأسف؛ نودّ أن نعبّر عن انزعاجنا أيضاً إزاء هذه المعاملة من قبل تركيا”. ومع انزعاج سوريين من هذه الكلمة بوصفها إهانة، ونفي الحركة تلك الكلمة التي نشرتها القدس العربي؛ إلا أن فيه تقريعاً بالواقع الذي لم يعد خافياً حتى على المقيم في أفغانستان، ودرساً للسوريين وللأتراك[26] على حدّ سواء، بل لا يخفى على السوريين أنفسهم الفارق في طريقة تعاملهم مع تركيا وغيرها بين بدايات الثورة واليوم؛ وليس كل ذلك لأسباب خارجية.

9- الغُلاة: التوظيف وتخريب الاستقرار: شهدت الساحة الأفغانية ولادة تنظيم القاعدة مع بن لادن والظواهري، ثم انتقلت قيادتها إلى إيران بالدرجة الأولى بعد سقوط حكومة طالبان، وبعدها أفلَ نجم القاعدة تقريباً عن أفغانستان؛ إلا أن داعش نبتت في تلك البيئة التي تجمع عوامل كثيرة تساعد على نشوئها[27]، ليتّهم القادة الأفغان طهران بدعم تنظيم داعش وتوجيهه لضرب الاستقرار أكثر في أفغانستان على نحو ما فعلت في سوريا والعراق، على نحو ما شهدنا من استثمار إيران في تنظيمات الغلو والتطرف؛ كما تبيّن تفصيلاً وبالوثائق والشهود في ”إيران والتنظيمات المتطرفة …. علاقات وتوافقات في مناطق الصراع“؛ وليس ببعيد أن نشهد دعماً إيرانياً لتنظيم داعش القابل للتوظيف واستثمار اللاعبين فيه ضد طالبان، بالتوازي مع دعمها ميليشيا “فاطميون” الطائفية وتحضيرها للتدخل في أفغانستان لمواجهة طالبان؛ تبعاً للسياسة الإيرانية في التغلغل أو التخريب حيث تعجز عن التغلغل. ومن الغريب هنا أن المبعوث الروسي إلى أفغانستان زامير كابولوف قد حمّل الحكومة الأفغانية مسؤولية بقاء نحو 4000 مسلح تابع للتنظيم هناك، و”رأى كابولوف أن نجاحات طالبان تحرم تنظيم الدولة من إمكانية امتلاك الأرضية لشنّ هجمات في بلدان آسيا الوسطى حسب قوله”، مع تحذيره طالبان في الموضع ذاته من التعرّض لمصالح أو حلفاء موسكو هناك؛ لتعود وتتضارب الآراء في معرفة المؤثّرين الموظِّفين لتنظيم داعش القابل للتوظيف وتوجيه عملياته بما يخدم مصالحه[28].

ولعل تصريح طالبان في أكثر من موضع عن عدم السماح باستخدام أراضيها لضرب الدول الأخرى والمشاريع العابرة للحدود تأكيد لاستفادتها من تجربتها السابقة بإيواء القاعدة وتركها تتصرف على هواها؛ وكذلك وجدنا في الساحة السورية مَن رحّب بالغُلاة لسنواتٍ بحجة أنهم “إخوة” و “مجاهدون”، وسكتوا عن مشاريعهم وربما دعموهم؛ قبل أن يأكلوهم ويضطروا لحربهم دفاعاً عما بقي من تشكيلاتهم وعتادهم.

خاتمة:

تضافرت في أواسط التسعينيات من القرن الماضي عوامل داخلية وخارجية عديدة أسهمت في نشوء حركة طالبان واكتساحها الفصائل المقاتلة حينذاك[29]، مع تأييد شعبي كبير ساعدها في استلام الحكم في العاصمة كابل والتغلب على خصومها في الساحة الأفغانية، ومع أن تغيّراتٍ كثيرةً عن تلك الأوضاع – تستحق البحث والدراسة – قد وقعت داخل أفغانستان وخارجها؛ إلا أن الحركة تمددت مؤخراً بسرعة تفوق أيام انتصارها الأول، وأظهرت مرونةً وحنكةً حتى الآن في التعامل مع ملفات كانت قد أعاقت مسيرتها سابقاً، كما في محاولاتها تحييد روسيا وإيران والهند والصين، والحذر ممن كانوا أصدقاء للحركة وطعنوها في أكثر من موقع؛ مع انفتاح ساحة الفوضى في أفغانستان على احتمالات كثيرة بعد إتمام الانسحاب الأمريكي وتراكض المتنافسين الإقليميين للتأثير والاستحواذ في أفغانستان، وظهور بوادر خلافات وتأجيج من خصوم سابقين للحركة؛ مما قد يعكّر على طالبان تمام السيطرة والحكم بسهولة.

وفي ضوء الدروس المستقاة من الساحة الأفغانية تتوارد تساؤلات أخرى: هل سيكون في سوريا “حركة تحرر وطني” تفرض نفسها ورقة رابحة تتعامل بحكمة أكبر مع مصالح الدول ذات العلاقة، مغلِّبةً المصلحة السورية الوطنية، وتُعطى الضوء الأخضر لمقاومة المحتلّ الروسي والمحتلّ الإيراني ونظام الأسد؟ أم أن التقسيم قد تمّ ويشتغل الفاعلون على تسمينِ “متغلِّبٍ” في كل منطقة[30]؟ وما جدوى التهليل لحركة سجّلت لبلدها هزيمة إمبراطورية ثالثة كانت تحتلّ أرضها دون الاستفادة مما أنجزت ويناسبنا لدحر المحتلّين كذلك عنّا؟ أو مهاجمتها بحجة نظرتها إلى الجوانب التشريعية واعتزاز قادتها بهويتهم حتى في لباسهم وكأنها دخلت بيوتهم لا العاصمة كابل؟!

وإن كانت ارتدادات كثيرة للحرب في أفغانستان قد وصلت الساحة السورية منذ بداية الثورة حتى اليوم، وحذَّر الرئيس الأفغاني -قبل فراره من البلاد – طالبان من الانزلاق بالبلاد إلى الحرب وحثّها على تعلّم الدروس من سوريا والعراق؛ فليس أقل من الاستفادة من دروس الحالة الأفغانية في خدمة قضيتنا السورية. لاسيما مع ما وجدناه من تكليل تقدُّم طالبان بدخول العاصمة كابل، ومن تقاطُر التهاني عليها مع التحذيرات؛ مما نجده يستحق مقالة مستقلة للنظر في وصول طالبان للعاصمة وما يعقب ذلك من تداعيات على الصعيد الأفغاني الداخلي وعلى الصعيد الدولي الخارجي، مما يمكن أن يكون محل نظر واعتبار للسوريين في طريق ثورتهم الصعب؛ دون أن يعني ما سبق من التحليل والمقاربة تصحيح أيديولوجية حركة طالبان ولا تصويب منهجها وطريقتها على التمام.


يصدر هذا التقرير التحليلي في أجواء انقسام الرأي النخبوي السوري حول التفاعل السوري الأمثل حول ما جرى في أفغانستان مؤخراً، واستقطاب حاد في بعض التجليات بين توجهين رئيسيين يُحَملان في بعض الأحيان ما لا يُحتمل من تبعات للموقف من الحدث على مستقبل الأمور في سوريا. وقد أشار الباحث في مقدمته إلى تحديد مجال الدراسة والاستفادة المرجوة من الحالة، وما لا ينبغي أن يحمله مجرد عنوان الدراسة الأساسي أو عناوينها الفرعية ومضامينها من لوازم لا تلزم أصلاً. وإيماناً من مركز الحوار السوري بضرورة ردم ما أمكن من فجوات بين السوريين وإدارة الاستقطابات الفكرية بأقل الخسائر؛ يرى المركز أن العقول السورية ينبغي أن تتفاعل مع الحدث الذي حرّك العالم بأسره بشكل إيجابي فيما يخصنا بصفتنا سوريين، يقدّم الاستفادة من التجربة -فرصاً ومخاطر- بما يناسبنا في حراك قوى الثورة والمعارضة السورية، وألا نجعل منه موضوعاً جديداً يزيد في الاستقطاب، ويؤخر خطوات بناء الثقة التي بدأتها الثورة السورية بعد عقود من عمل نظام الأسد في زرع بذور الشك والشقاق بين السوريين نخباً ومكونات لتبقى سيطرته مسيطراً على الجميع.
التحرير

[1] أُنجزت هذه المقالة بداية شهر تموز الماضي، ثم عملنا على تطويرها بعد التطورات الأخيرة ووصول طالبان إلى كابل؛ على أن تأتي بعدها مقالة أخرى للأحداث في أفغانستان بعد دخول طالبان العاصمة كابل ومقاربة ذلك مع الوضع السوري.
[2] كان مشهد الهزيمة والاستسلام أمام زحف طالبان أكثر تسارعاً ووضوحاً خلال شهر أغسطس/ آب 2021.
[3] سنستعرض في المقالة الثانية بعض ملامح استفادة طالبان -كما يبدو حتى الآن- من تجربتها السابقة في الحكم وتقديمها تطمينات للمجتمع المحلي والإقليمي والدولي.
[4] مصطفى حامد، من أدب المطاريد -7، حرب المطاريد غير التقليدية: ص119؛ وهذا مما ذكره حامد في بعض حديثه عن التجربة الأفغانية، وفي هذا الجزء من سلسلته تفاصيل كثيرة عن طبيعة الحرب في أفغانستان.
[5] جاء تصريح الناطق باسم حركة طالبان هذا خلال شهر تموز؛ فلا يبعد أن طالبان كانت تراهن على تقدّمها ميدانياً في مقابل خروج القوات الأجنبية وضعضعة الحكومة الأفغانية وتهاوي المدن تدريجياً حتى تقدّم خطة السلام وفق تلك المعطيات، وهذا ما حصل.
[6] كانت الولايات المتحدة قد أقامت هذه البوابة بين طاجيكستان وأفغانستان بتكلفة تقدر بأكثر من 40 مليون دولار.
[7] يُنظر: حسن أحمديان، أفغانستان في استراتيجية الأمن القومي الإيراني ورؤيتها لدور طالبان والوجود الأجنبي، مركز الجزيرة للدراسات، شباط2020، الرابط: https://studies.aljazeera.net/ar/article/4578 .
[8] مصطفى حامد: كاتب مصري زار أفغانستان نهاية السبعينيات وربطته صلات قوية مع عبد الله عزّام ثم مع قيادة القاعدة، وكان موفد القاعدة إلى إيران لسنوات، ثم استقر في إيران كإقامة دائمة بعد 2001 وينشط منها عبر موقعه “مافا” السياسي. ورغم مواقفه المضطربة وصلاته بإيران وانسياقه مع مشروعها في عدة نقاط مؤخراً؛ فإن ما كتبه في سلسلة “من أدب المطاريد” بالتأريخ لمجريات الأحداث في أفغانستان قيّم كونه شاهداً وكاتباً عايش أخطر الأحداث منذ الحرب ضد السوفييت فيها، فهو يُعد مؤرِّخ القاعدة والأفغان العرب.
وللاطلاع على بعض أفكاره وانتقاده يُنظر مثلاً: مؤرخ القاعدة يستأنف موقعه الإلكتروني من طهران، الرابط: https://cutt.us/ZPTeq، ومؤرخ القاعدة الحائر بين ضروب الشيعة وبقايا طالبان والقاعدة، الرابط: https://cutt.us/SdleL، وصحفي إسلامي ينسق العلاقات بين إيران والقاعدة، الرابط: https://24.ae/article/427745/
[9] مصطفى حامد، حرب المطاريد غير التقليدية: ص40.
[10] على نحو ما في درعا مؤخراً.
[11] نقصد بالحواضر مراكز المدن، وإن كانت من المدن الريفية كمدن ريف دمشق وريف حمص وإدلب ودير الزور؛ وإلا فإنه لا يخفى بقاء سيطرة النظام على مراكز المحافظات عدا إدلب والرقة، بعيداً عن الجدل حول الثورة في الريف والمدينة مما غلبت عليه العصبيات بعيداً عن البحث الرصين. يُنظر:
الريف السوري يغزو المدينة؟! عنب بلدي، الرابط: https://www.enabbaladi.net/archives/4504 ، والثورة السورية: هل المشكلة في الريف والمدينة أم في الفاعلين، حفريات، الرابط: https://cutt.us/5LKko
[12] يُنظر: وكالة الأناضول، المعابر الحدودية لأفغانستان هدف مفضل لطالبان؛ مع الإشارة هنا إلى ضيق الحدود الأفغانية مع الصين وخلوّها من معبر للمدنيين، وإن كانت طالبان كما سبق أقامت خط اتصال مع الصين ووصفتها بالدولة “الصديقة”، مع حرص كبير من الصين على الدخول والتأثير أكثر في الساحة الأفغانية رغم ما في ذلك من مخاطر؛ يُنظر: لماذا تبدو الصين مرشحة لتكون رابع دولة عظمى تتورط بالمستنقع الأفغاني؟ الإجابة لدى طالبان وروسيا.
[15] لا يخفى تغيّر نبرة طالبان في موضوع الحل السياسي بعد دخولها العاصمة وحملتها مع الموافقين والمخالفين للتشاور في إدارة البلاد؛ مما سيكون الحديث عنه في المقالة التالية من هذه القراءة.
[16] يُنظر: مي فاضل مجيد، الحياة الاجتماعية في أفغانستان في ظل حكومة طالبان 1996-2001، مجلة المستنصرية للدراسات العربية والدولية، العراق المجلد32، 2010.
[17] يُنظر: حركة طالبان.. النشأة والفكر والتنظيم، موسوعة الجزيرة، أغسطس2021، الرابط: https://cutt.us/SzUl0
[18] غني عن القول أن استراتيجية الولايات المتحدة بالخروج العسكري من المنطقة بالنظر الى الخسائر الهائلة -غير القابلة للاستمرار أو الانتظار -المترتبة على البقاء كان له الأثر الأكبر في هذا التعامل المباشر والوصول الى اتفاق. ومن المؤكد كذلك أن حركة طالبان قد قرأت هذا التحول الاستراتيجي وأفادت منه بجمع نقاط قوة لصالحها في سياق ذلك لتذليل وتعجيل الوصول الى الاتفاق.
[19] لهذه الدول أهميتها على الساحة الإقليمية والدولية؛ فلا يُقصد هنا استعداؤها، وإنما حُسن التعامل معها في حفظ مصلحة سوريا وتقديمها مصلحة عليا، مع تقدير أهمية تقاطع المصالح.
[20] نشير هنا إلى ما قاله وزير الدفاع الأفغاني الجنرال بسم الله محمدي في تصريح له: “إن الحكومة الأفغانية مصممة على مساعدة ودعم القبائل من ناحية العتاد والسلاح لتقف إلى جانب الجيش الأفغاني ضد مسلحي طالبان، فيما أكدت وزارة الدفاع الأفغانية في بيانٍ لها قبل فترة أنها وزّعت السلاح على المسلحين القبليين لمقاومة طالبان”. العربي الجديد، حرب أفغانستان: لا ضوء في النفق.
[21] سيكون في المقالة التالية من هذه القراءة وقفات أطول مع هذا الموضوع ومحاولات طالبان الالتفاف على التأجيج القبلي والطائفي والسيناريوهات المتوقعة في ذلك.
[22] نؤكد هنا استحضار الفوارق بين تفاصيل الحالتين السورية والأفغانية في سياق ما نتحدث عنه، وبعض التفاصيل مؤثرة حتماً في التفريق.
[23] علماً أننا نميز بين المؤسسات المنبثقة عن قوى الثورة والمعارضة في الحكومة المؤقتة والجيش الوطني، ومؤسسات السلطات الأخرى المفروضة؛ وإنما الحديث هنا عن عموم أداء القوى ذات السلطة التنفيذية.
[24] للزعيم الباكستاني محمد أيوب خان كلمة جعلها في عنوان مذكراته: “إن الناس في الدول النامية يسعون إلى الحصول على المساعدات؛ ولكن على أساس من الاحترام المتبادل: إنهم يريدون أن يكون لهم أصدقاء لا سادة“. يُنظر: محمد أيوب خان رئيس باكستان، أصدقاء لا سادة سيرته السياسية بقلمه، نقله إلى العربية: د. عمر فروخ، مكتبة لبنان، بيروت، 1968.
[25] بعد موجة حادّة من الردود نفَى الناطق باسم طالبان ذبيح الله مجاهد تلك التصريحات التي نقلها صحفي تركي ونشرتها صحيفة القدس العربي؛ فيما رأى بعض السوريين أن النفي جاء للتهرّب من التصريحات غير المسؤولة وطالبوه بالاعتذار. يُنظر: نداء بوست، “طالبان” ترد على تصريحات نُسبت لها حول علاقة تركيا بالمعارضة السورية.
[26] يُنظر بعناية كلام الكاتب الصحفي التركي توران قشلاقجي في: القدس العربي، كيف تنظر طالبان إلى تركيا؟
وفي المقالة التالية يأتي النظر بمتابعة ما حصل من الموقف التركي بعد دخول طالبان كابل.
[27] يخلط كثيرون -تبعاً للتصنيفات الأمريكية عقب أحداث سبتمبر 2001- بين طالبان والقاعدة “وأخواتها”؛ مع أن بين الحركة وتنظيمات الغلو تلك فوارق عديدة في النشأة والأيديولوجيا والمرجعيات. لإيجاز ذلك يُنظر: محمد خير موسى، طالبان.. الخلفية الشرعية والفرق مع القاعدة وداعش وإمكان التطور، الجزيرة، الرابط: https://cutt.us/wA3jJ  
[28] يُنظر: عماد الشدياق، بعد 20 عاماً عادت طالبان.. هل تعود داعش أيضاً؟ مدونات الجزيرة، الرابط: https://cutt.us/nC3Wv
[29] يُنظر: محمد سرافراز، حركة طالبان من النشوء إلى السقوط، دار الميزان، بيروت، 2008: الفصل الأول ص44، والفصل الثاني ص64. ويُنظر: محمد عادل، أفغانستان وصعود طالبان، مجلة البيان، الرابط: https://www.albayan.co.uk/fileslib/articleimages/takrir/4-2-1.pdf .
[30]    يُشار هنا إلى محاولة هيئة تحرير الشام “هتش” الترويج لنفسها نموذجاً ناجحاً بنظرها كنموذج طالبان؛ يُنظر: صحيفة الشرق الأوسط، أجانب النصرة يبحثون تشكيل طالبان الشام. وتلفزيون سوريا، تحرير الشام تهنّئ طالبان … ما الرسائل التي أرادت إيصالها؟ وسيكون مزيد بحث وتحليل لهذا الموضوع في المقالة التالية من هذه القراءة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى