حملة الاعتقالات الداخلية في صفوف “هتش” وأثرها في مستقبل التنظيم
مقال تحليلي صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
تحدثت عدة تقارير مؤخّراً عن شنّ “هيئة تحرير الشام-هتش” حملات اعتقال ضدّ خلايا داخلها بتهمة العمالة لجهات خارجية متعددة، بينها مليشيا “حزب الله” اللبناني[1] وروسيا والتحالف الدولي ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA، وسط معلومات بدت متضاربة وغير مؤكدة[2].
يحاول هذا التقرير تسليط الضوء على حملة الاعتقالات هذه التي شنّتها “هتش”؛ محاولاً استكشاف حيثياتها ودوافعها من تلك الخطوة، وآثارها على تماسك بنيتها الداخلية والعسكرية، والرسائل التي تريد إيصالها للحاضنة المحلية؛ وذلك من خلال تحليل التقارير والأخبار الشحيحة عن الأمر.
“خلطة عملاء” تُشكّك بروايات “هتش”.. واعتقال كوادر رفيعة:
كان لافتاً في حملة الاعتقالات الأخيرة التي شنّتها “هتش” تنوّع الجهات التي أوردتْها سبباً للاعتقال؛ فكان الحديث عن خلايا تتبع لـ “حزب الله”، وأخرى لنظام الأسد وروسيا أو التحالف الدولي[3]، مما ترك علامات استفهام حول مصداقيّة تلك الاتهامات، أو كونها مجرد ذريعة وغطاء لتصفيات داخلية وإحكام القبضة الأمنية، لاسيما وأن هذا الأمر وارد جداً في حالات التنظيمات المتطرفة السرّية التي تولّدت منها “هتش”[4].
وبحسب المصادر فإنّ حملة الاعتقالات لم تستهدف خلايا عادية داخل التنظيم، إنما وصلت لمستوى رفيع من قياديين يتبعون لـ”هتش[5]، وبدأت العملية قبل شهرين على الأقل، إثر حصول “هتش” على معلوماتٍ من جهات استخباراتية دولية[6]، وإثر معلومات حصلت عليها خلال تحقيقات من أشخاص اعتقلتهم سابقاً[7].
وكان من المثير للاهتمام أنّ الاعتقالات طالت قرابة 300 شخص بينهم ذوو مناصب رفيعة في “هتش”، منهم: مسؤول الموارد البشرية في الجناح العسكري لـ “هتش” بتهمة أنه “قدّم نسخاً كاملة من سجلّات العسكريين في “هتش” مع صور بطاقاتهم العسكرية لوكالة المخابرات المركزية الأميركية”، إضافة إلى الإداري العام في “لواء علي بن أبي طالب” من الجناح العسكري لها، والمسؤول الأمني عن الكتلة الشرقية في المنطقة الوسطى، و”أمير الهيئة” في تفتناز سابقاً، وآخرون[8].
مع عدم وضوح الأخبار، وصعوبة التحقق من صحتها فإن ما يبدو مؤكداً من كل هذا هو الاعتقالات، بينما لا تتوفر معلومات دقيقة عن أسبابها ودوافعها، في ظل معرفتنا عدم وجود عدالة وشفافية في المحاكمة والاتهام لدى “هتش”. رغم ذلك يمكننا محاولة تقدير دوافع وحيثيات الاعتقالات وفق ثلاثة تصورات أساسية:
أولاً: حصر ملفّ التخابر بيد الجولاني والدائرة الضيّقة المقرّبة منه:
طوال السنوات الخمس الماضية على الأقل ظلتْ “هتش” بعيدةً عن ضربات طيران التحالف الدولي المسيّر الذي استهدف كثيراً من الشخصيات التابعة لتنظيم “القاعدة” و”حرّاس الدين” وتنظيم “داعش”، وكان من أبرز تلك العمليات ما أعلنته الولايات المتحدة من قتل قائد “داعش” أبي بكر البغدادي في منطقة تخضع بشكل كامل لسيطرة “هتش”[9]، الأمر الذي عدّه بعض المحللين واحداً من مؤشرات التنسيق غير المعلن بين “هتش” والتحالف الدولي في تتبّع خلايا “داعش” وغيره من التنظيمات المتشددة.
في هذه الأجواء اتهمت بعض التيارات “الجهادية” الجولاني بمحاولة التقرّب من التحالف الدولي لرفع التصنيف الإرهابي عنه، وهذا ما جرى الحديث عنه في بعض الأوساط الأمريكية، ولكن دون رفع التنصيف بشكل فعلي[10]؛ فكان تصريحٌ لافتٌ للمبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا جيمس جيفري أن “هيئة تحرير الشام الفصيل المعارض الأقوى في شمال غرب سوريا يركّز على محاربة الأسد، ويحاول إثبات أنه فصيل وطني محلي لا متطرف وعابر للحدود”[11].
لذا يرى البعض أن إعلان “هتش” اعتقال عملاء للتحالف على وجه الخصوص هو أمر مثير للسخرية؛ لأنها نسّقت مع التحالف في مناسبات كثيرة، خصوصاً خلال عمليات الإنزال للتحالف الدولي[12].
ثانياً: حملة تصفيات داخلية لإسكات الأصوات المنتقِدة للجولاني:
على الرغم من مضيّ عدة سنوات على تحوّل الخطاب الجهادي لدى “هتش”، ومحاولتها تصدير نفسها بوصفها فصيلاً محلياً[13]؛ إلا أنّ ثمة مَن يرى[14]أنه لا يزال كثير من قيادات “هتش” رافضين تحوّلات الجولاني، ولا سبيل مجدية لديهم للخروج من إدلب أو تشكيل فصيل آخر؛ ولذا فإن الجولاني يسعى إلى التخلّص من كل هؤلاء لقطع أشواط إضافية جديدة في المضي بمشروعه ومحاولته تصدير نظرة إيجابية عن تنظيمه عبر تنظيفه من التيارات المتشددة.
ثالثاً: تشديد القبضة الأمنية ضد الحاضنة الشعبية:
أياً تكن الأسباب التي دفعت “هتش” إلى شنّ عمليات الاعتقال فإن مما يمكن قراءته في الإعلان عن تلك الاعتقالات وأسبابها التي تظهر خطيرة منبوذة لدى الجميع؛ لأنها تحت تندرج تحت “خيانة للثورة” و”عمالة لجهات معادية لدى الحاضنة أنها تعطي “هتش” مبرراً أمام الحاضنة الشعبية في تشديد القبضة الأمنية ضد السكان، بحجة وجود خطر أمني يهدد المنطقة، خصوصاً مع كثرة التظاهرات التي خرجت مؤخراً ضد “هتش” بعد اعتقالها وجهاء من حماة إضافة إلى كوادر من “حزب التحرير”[15].
أثر الاعتقالات على تماسك “هتش”؛ تزعزع الثقة بقيادة التنظيم، وفرصة للتيارات المناهِضة:
من أبرز انعكاسات موضوع الاختراق على التماسك التنظيمي لدى “هتش” أن يكون ذا تأثير سلبي على الثقة بين العناصر من جهة، وبين القيادة والعناصر من جهة أخرى؛ إذْ من المرجّح أن تضعف الثقة فيما بينهم بعد نشر تلك المعلومات، لاسيما وأن ثمّة حديثاً عن وجود أثر لتلك التسريبات على عوائل بعض عناصر “هتش” الذين يقطنون في مناطق سيطرة نظام الأسد بعدما حصل على ذاتيياتهم[16]، حيث عمدت قوات نظام الأسد إلى مداهمة منازل عوائل في حماة بناءً على قوائم وذاتيّات تشمل اسم المقاتل وزوجته وعدد الأولاد وصورة عن البطاقة العسكرية وتاريخ الانتساب ومكان السكن.
وتُعزّز تلك الأخبار عن الاختراقات الأمنية صحة دعاية منتشرة أصلاً عن “هتش” فيما يخصّ موضوع الاختراق وتنفيذ أجندة خارجية، من أبرزها الحديث الذي تردّد كثيراً عن انسحابها من منطقة شرق السكّة ومدن وبلدات أخرى ضمن منطقة “خفض التصعيد” بناءً على تفاهمات تركية روسية إيرانية؛ إذ تُتهم “هتش” بتطبيق بنود الاتفاق حرفياً، وبعدم إبداء مقاومة في القتال وصولاً إلى انسحاب بطعم التسليم من مناطق واسعة شمال غربي سوريا، ثم فتح الطريق أمام الدوريات الروسية التركية المشتركة في عام 2020[17].
كل ذلك مع قضية التسريبات الجديدة سيؤدي بشكلٍ أو بآخر إلى زيادة زعزعة ثقة عناصر “هتش”، خاصة المؤدلجين منهم، وهم الذين يُعدّون النواة الصلبة في الاقتحامات العسكرية؛ مما قد يجعل “هتش” تخسر الكثير من المقاتلين المؤدلجين الذين قد يلجؤون للتوجه إلى جماعات أخرى صغيرة، أو يتحيّنون الفرصة لتشكيل جماعة جديدة على غرار تجربة “غرفة عمليات فاثبتوا”[18]، وهذا ما يُضعف القوة العسكرية للتنظيم، لاسيما وأن التسريبات الجديدة خلقت حالة من التشكيك بين بعض قيادات “هتش”[19].
إضافة إلى ذلك فإن هذه التسريبات والحديث عن الاختراقات تُشكّل مادة دسمة للقياديين الذين انفصلوا عن “هتش” وللتيارات الأخرى المناهضة لها في إثبات وجود “عمالة” أو اختراق كبير في صفوف “هتش”، وأنها حادت عن “المبادئ”، في محاولةٍ منهم لاستقطاب مقاتلي “هتش” ودفعهم للانزياح عنها، مما سيكون له أثر مستقبلي على بنية “هتش”؛ إذ من المرجح أن يصبح الكثير من عناصرها على استعداد لتبديل الولاء في أي لحظة.
وفي مقابل ذلك ثمّة مَن يرى أن “هتش” مرّت بتحديات كثيرة طوال السنوات الماضية وتجاوزتها، مثل تفكيكها بشكل سريع “غرفة عمليات فاثبتوا” التي تشكلت في 2020 لاستقطاب الأطراف الرافضة لسياسة الجولاني، ثم لاحقاً تمكنت “هتش” من تفكيك جماعات جهادية أخرى، خصوصاً كتيبة “جنود الشام” بقيادة مسلم الشيشاني التي كانت تتمركز في جبهات ريف اللاذقية الشمالي[20]، فضلاً عن اعتقالها قياديين في تنظيم “حرّاس الدين”، إضافة إلى جماعات أخرى كانت أعلنت مسؤوليتها عن استهدافات طالت الدوريات التركية في شمال غربي سوريا[21].
في السياق ذاته يكتنف الغموض ملابسات ظهور تنظيم جديد تحت اسم “سرايا درع الثورة” بدأ بمهاجمة قيادات “هتش” ونفّذ عملية اغتيال ضد أحد مسؤوليها، يدّعي التنظيم انتسابه لـ”الجيش السوري الحرّ”، ويشكّك بعض المحللين في حقيقته، ويرون أنه مجرد ذراع خفية لـ”هتش” بهدف تحقيق تصفيات داخلية، في أسلوب آخر يُضاف إلى الاعتقالات بتهم العمالة[22].
خاتمة:
رغم أنّ تنظيم “هتش” الجهة الوحيدة الفاعلة _عملياً_ في محافظة إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي، ويفرض سيطرته على جميع المدن والمناطق هناك عسكرياً وإدارياً، وكرّس القبضة الأمنية بشكل كبير في المنطقة طوال السنوات الماضية؛ إلا أن تكرار الهزّات التي يمرّ بها من حالات الانشقاقات عنه ومواصلة التظاهرات الشعبية الرافضة لممارساته[23]، وصولاً إلى ما يمرّ به اليوم من حملة اعتقالات طالت مئات من عناصره وقيادييه بتهم العمالة والتجسس ستكون له تداعيات تجعل من التنظيم أكثر ضعفاً من الناحية الأيديولوجية والعسكرية والتنظيمية.
ما سبق يدحض مزاعم “هتش” والبروباغندا التي حاولت تسويقها مراراً وتكراراً من أنها التنظيم المتماسك الذي سينقذ الشمال السوري من الفوضى؛ فقد كانت تلك الدعاية أبرز الرسائل التي كان الإعلام الرديف لـ “هتش” يركز عليها بالتزامن مع محاولات التغلغل والدخول إلى مناطق عفرين والريف الشمالي لحلب عموماً.