
خارطة طريق لمعالجة ملف النازحين داخلياً في سوريا (تقرير سياسات)
تقرير سياسات صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
أسفرت الحرب التي شنَّها نظام الأسد البائد على شعبه بعد عام 2011 عن نزوح ما يزيد عن 7 ملايين نازح داخلي على كامل الجغرافيا السورية، وهو ما يشكّل ثاني أكبر حجم نزوح داخلي في العالم بعد السودان، وقد خلّفت مشكلة النزوح أزمة إنسانية حادّة تحتاج إلى حل سريع وشامل يضمن للنازحين حقوقهم.
يأتي تقرير السياسات[1] هذا في إطار وضع خطة شاملة للتعامل مع ملف النزوح الداخلي، استناداً إلى التجارب الدولية واستراتيجيات التنمية المستدامة بهدف إعادة بناء النسيج الاجتماعي والاقتصادي، مع ضمان حماية الحقوق الإنسانية.
الإطار المفاهيمي للنزوح الداخلي:
يُعرّف النازحون داخلياً بأنهم: “الأشخاص أو مجموعات الأشخاص الذين أُجبروا على الفرار أو مغادرة منازلهم أو أماكن إقامتهم المعتادة، كنتيجة أو من أجل تجنّب آثار النزاع المسلح، أو حالات العنف المعمّم، أو انتهاكات حقوق الإنسان، أو الكوارث الطبيعية، أو الكوارث من صنع الإنسان، والذين لم يعبروا حدود دولة معترف بها دولياً”. ويُقسم النازحون داخلياً إلى: سكان المخيمات، والنازحين الحضريين الذين يختارون الاستقرار في إلى المدن والمناطق الحضرية لتفادي وصمة النزوح والبحث عن فرص عمل أفضل.
يتمتع النازحون داخلياً بجملة من الحقوق نصّت عليها “المبادئ التوجيهية للنزوح الداخلي”، وهي تندرج تحت بند حقوق الإنسان، مثل: الحق في الحياة، والتعليم، والضمان الاجتماعي. وحقوق تتعلق باعتبارهم مواطنين في بلدهم، منها: الحق في تولي بعض المناصب العامة، والانتخاب، والترشيح. وحقوق اكتسبوها بحكم وضعهم الجديد، منها: الحصول على وثائق هوية وثائق تؤكد جنسيتهم، والحق في الحصول على الوسائل التقنية ووسائل إعادة التأهيل.
تنتهي حالة النزوح بشكل كامل وفقاً لأحد الحلول الدائمة المنصوص عليها في المبادئ التوجيهية، التي تفترض إنهاء حالة الضعف لدى النازحين داخلياً، أو حتى احتياجات الحماية المرتبطة بالنزوح، ليصبحوا قادرين على التمتع بحقوقهم الإنسانية كأقرانهم الذين لم يتعرضوا للنزوح. وهذه الحلول هي:
- عودة النازحين داخلياً إلى مجتمعاتهم الأصلية.
- دمج النازحين داخلياً في المجتمعات المحلية التي نزحوا إليها.
- إعادة توطين مخطط لهم من قبل الدولة ونقلهم إلى الاستقرار في مكان آخر.
النزوح السوري؛ الوقائع والأرقام:
بدأ النزوح الداخلي في سوريا عام 2011 مع اندلاع الثورة السورية وانتهاج نظام الأسد الحل العسكري لمواجهتها، وتشير البيانات إلى تصاعد أعداد النازحين داخلياً بعد تطوّر الصراع، ليبلغ ذروة وصلت إلى أكثر من 7.6 مليون شخص عام 2014، ثم تراجع بشكل جزئي لاحقاً حتى بلغت أعدادهم الحالية قرابة 7.2 مليون، مع زيادة عودة بعضهم بشكل عشوائي دون خطط رسمية مدروسة. ويشكّل النازحون المقيمون في المخيمات ما يقارب 28% من إجمالي عدد النازحين، بينما يتركز النازحون الحضريون في المدن والبلدات الكبرى. وإلى جانب ذلك يُصنف النزوح الداخلي السوري ضمن حالة ” النزوح الداخلي المطول” لتجاوزه مدة خمس سنوات.
لم تقدّم الحكومة الانتقالية رؤيتها تجاه عودة النازحين بعد، في حين بدأ عدد من النازحين بالعودة بدافع ذاتي وبشكل عشوائي إلى مناطقهم الأساسية؛ إلا أنهم يواجهون عدة تحديات، منها: إثبات الملكية نتيجة مشكلات سابقة، لاسيما في المناطق الريفية، إلى جانب فقدان الوثائق الرسمية، بالإضافة إلى مخاطر الألغام وبقايا الذخائر المتفجرة التي تشكل عائقاً كبيراً لاستئناف النشاطات الاقتصادية والاستقرار. فضلاً عن وجود اختلاف في توجهات العودة؛ فقد لا تكون العودة رغبة الجميع، وإنما يفضّلون حلولاً أخرى لأسباب مختلفة.
ماذا نتعلم من التجارب الدولية في سياق الحلول الدائمة للنازحين داخلياً؟
شهدت العديد من الدول (منها: العراق، والسودان، وأذربيجان، وهاييتي، وكولومبيا، والبوسنة، ونيجريا) تجارب مختلفة السياقات، كان الهدف منها إيجاد حل للنازحين داخلياً وفق أحد الحلول الدائمة، وإنّ دراسة هذه التجارب بالتفصيل تشير إلى مدى تعقيد العملية وتعدّد الفاعلين بها والتحديات التي تواجهها، بالإضافة إلى وجود العديد من العوامل الإيجابية منها أو السلبية التي قد تكون حاسمة في إنجاح هذه المشاريع أو إفشالها.
ويمكن تلخيص عوامل نجاح مشاريع الحلول الدائمة في حالات النزوح المطول خاصة بما يلي:
- ضرورة دمج الخبرات الخاصة بالمنظمات الإنسانية والتنموية مع المعرفة المحلية خلال فترة تصميم المشاريع، وإشراك المجتمعات النازحة والمجتمعات الأصلية بشكل حقيقي وفعال في هذه العملية بعد فهم احتياجات كل منهم ومخاوفهم.
- تصميم المشاريع بشكل مرن بما يكفي للتكيف مع المتغيرات الناتجة عن مرور الوقت، والاستجابة للاحتياجات المتطورة للنازحين.
- أن يتم تنسيق المشروع مع السلطات الوطنية والمحلية لتمكين الحكومة من ملكية مشروع العودة ونقل المعرفة، وضمان عدم عرقلتها له.
- أن تأخذ المشاريع بعين الاعتبار احتياجات الأعمال والسوق المحلية والمهارات المطلوبة والمنتجات المربحة.
- أن يتناسب تصميم المشاريع مع البيئة المحلية بشكل يعود بالنفع على النازحين داخلياً، وعلى المجتمعات الأصلية والمضيفة، ويشملهم في تخطيط المشاريع وتنفيذها.
- أن تشكل المشاريع جزءاً من استراتيجيات أوسع تتضمن تنمية البلاد وتكون مشمولة بتمويل متعدد السنوات.
- أن تتضمن المشاريع في المدن تخطيطاً حضرياً قوياً، يحافظ على هوية المنطقة العمرانية، ويعمل على توفير حلول سكنية مبتكرة مستدامة.
التحليل الاستشرافي وسيناريوهات مستقبلية لإنهاء النزوح السوري:
ثمّة مجموعة من العوامل الرئيسة تُعد من الأساسيات اللازمة لعملية التخطيط لإنهاء النزوح في سوريا، وتتلخص في: معرفة المؤشرات والمعلومات الرئيسة الخاصة بالنزوح كتوزع النازحين وأعدادهم ومناطقهم ونقاط ضعفهم وتفضيلاتهم، ومعالجة العوامل المؤثرة في استمرار النزوح وتجدده، كعدم الاستقرار الأمني وتجدد الاشتباكات ووجود الألغام وعدم توافر الخدمات الرئيسة، بالإضافة إلى ضرورة التحقق من سلامة الأبنية وإعادة بناء الأسواق ودعم سبل العيش الحكومية والخاصة. كما يتوقع في هذا السياق إشراك أصحاب المصلحة المعنيين في التخطيط لإنهاء النزوح، من النازحين والمجتمعات المضيفة، إلى جانب الكوادر الحكومية المتنوعة والمنظمات الإنسانية والتنموية المحلية والدولية وجمهور الشتات (الشكل 1)
ومع ذلك يمكن توقع مجموعة من السيناريوهات في مواجهة مشكلة النزوح الداخلي، وهي تتعلق بتوفر أربعة عوامل رئيسة مرتبة بحسب الأهمية، وهي: تحقيق درجة مقبولة من الأمن والاستقرار، ووجود خطة حكومية لمعالجة هذا الملف، والعمل على تحقيق شراكة فعالة مع أصحاب المصلحة، والنجاح في جمع التمويل اللازم (الشكل 2). ومن هذه السيناريوهات:
- سيناريو الفوضى وتجدُّد النزوح والعنف: ويحدث في حالة غياب الأمن وعدم توفر خطة حكومية واضحة لإنهاء النزوح تسهم في تعزيز الاستقرار، مما يؤدي إلى تجدد عمليات النزوح وتفاقم الأزمة الإنسانية.
- سيناريو استمرار الوضع الحالي (استقرار أمني قلق وغياب لخطة حكومية): حيث تتوافر درجة استقرار وأمان مقبولة، مع غياب خطة حكومية لإنهاء النزوح، وهو ما يدفع إلى عودة عشوائية للنازحين، مع مخاطر مرتبطة بسلامة المساكن ووجود الألغام وبقايا الذخائر المتفجرة وغياب الخدمات الأساسية؛ وهو ما يعطّل خطط التنمية المستقبلية، ويفوّت الفرصة للحصول على دعم وتمويل دولي في مجال حلّ مشكلة النازحين داخلياً.
- سيناريو الاستقرار مع خطة حكومية تشاركية: ويمثّل الخيار الأمثل؛ إذ إن وجود عوامل استقرار ورغبة حكومية في التعاطي مع هذه المشكلة يقتضي وضع خطة شاملة تشارك فيها الجهات الحكومية بكل مؤسساتها الاقتصادية والتعليمية والصحية والقضائية وغيرها، إلى جانب النازحين والمجتمعات المضيفة، والمجتمع المدني، والجهات الدولية. ويتوقف نجاح هذا السيناريو على مدى القدرة على تحقيق خطة تشاركية تعكس احتياجات أصحاب المصلحة، وعلى النجاح في الحصول على تمويل دولي كافٍ؛ لأنّ هذه الخطة تندرج في إطار دعم الاستقرار والتنمية المستدامة والحدّ من الفقر، ويزيد من شرعية الحكومة الحالية على المستوى المحلي والدولي.
الشكل 1: نموذج التحليل الاستشرافي للنزوح الداخلي في سوريا
الشكل 2: سيناريوهات إنهاء النزوح الداخلي في سوريا
التوصيات والسياسات المقترحة لإنهاء النزوح الداخلي السوري:
يُعدّ العمل على التخطيط لعودة النازحين من أساسيات تمكين عملية السلام وهو مؤشر على انخفاض الصراع، وقد يكون من الطرق المؤدية إلى رفع العقوبات الدولية والحصول على الشرعية، من خلال التعاون مع المؤسسات الدولية في هذه العملية. كما أن امتلاك النازحين داخلياً مشاريع إنهاء النزوح بحيث يقرّرون مصيرهم بأنفسهم وتُتاح لهم من الخيارات ما يتوافق مع رغباتهم من شأنه إنجاح هذه المشاريع، لاسيما إنْ دعمت الحكومة رغباتهم وساعدتهم في اختيار متى وأين وكيف وإلى أين سينتقلون، دون أن تفرض عليهم ما لا يرغبون.
ومع ذلك تواجه مشاريع الحلول الدائمة المتعلقة بإنهاء النزوح تحديات جادة، تتعلق في تأمين الدعم المطلوب المرن طويل المدى، وتحقيق تحسّن حقيقي في مستوى الحياة والخدمات للعائدين، وضمان الأمان والاستقرار السياسي وعدم تجدد دورة العنف، والأهم من ذلك وجود حكومة قوية وخبيرة تملك إرادة قوية لإنهاء هذا الملف بالتعاون مع المجتمع المدني المحلي والدولي، وكذلك المجتمع الأهلي وجمهور المغتربين.
وبناءً عليه ولحل مشكلة النزوح السوري بشكل فعال نقدّم مجموعة من التوصيات والخطوات التنفيذية، أهمها:
- إنشاء إطار قانوني متكامل: بما يتضمنه من هيئات وتشريعات ولوائح تنظم الصفة القانونية للنازحين داخلياً، وتوضح حقوقهم ومسؤولية الدولة عنهم، ودرجة ضعفهم، كما تحدد أشكال المساعدات والدعم التي يحتاجونها، سواءٌ المادية أو المعنوية.
- تحديد الاحتياجات والتوجهات: من خلال القيام بعملية إحصائية يتم من خلالها توثيق أعداد النازحين داخلياً وأماكن وجودهم، ومعلومات التواصل معهم، بالإضافة إلى استطلاع توجهاتهم حول العودة أو الاندماج، واحتياجاتهم الآنية والمرحلية. وإنشاء منصة رقمية تتضمن المعلومات المتعلقة بأوضاعهم المتغيرة والتحديثات المتعلقة بهم، والمشاريع التي سيتم إنشاؤها ومعلومات عنها ودرجة الإنجاز التي تم تحقيقها فيها.
- إطلاق مشروع وطني شامل لإنهاء النزوح: بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المحلية والجهات الدولية لإنهاء النزوح الداخلي، وفق إطار زمني واضح، والعمل على إشراك النازحين والمجتمعات المضيفة في تصميم المشاريع وفقاً لاحتياجات وأولويات أصحاب المصلحة، مع إمكانية البدء بعدد من المشاريع التجريبية وتطوير الخطة وفقاً لمعطيات الواقع.
- تفعيل آليات الأمان وإزالة مخلفات الحرب: من خلال مشاريع وطنية مدعومة دولياً لإزالة الألغام وبقايا الذخائر.
- إنشاء هيئة لمعالجة قضايا الملكيات: وإشراك المجتمعات المحلية في حل القضايا العالقة، خاصة الملكيات غير الموثقة أو المسجلة في السجلات الرسمية، أو تلك التي تمت في فترات الحصار والتهجير.
- دعم المجتمعات المحلية التي تستضيف النازحين، والعمل على تطوير البنى التحتية والخدمات فيها بشكل يغطي الاحتياجات.
- التركيز على التنمية الريفية: لدعم نهج “العودة العكسية” وتحقيق توازن في التنمية بين المدن الكبرى وتلك المناطق، مما يخفف الضغط عن البنى التحتية الحضرية.
- إشراك المغتربين السوريين في عملية إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين، من خلال تشجيعهم على تقديم خبرتهم أو دعمهم للاستثمارات الصغيرة والمتوسطة في المناطق الأصلية التي كانوا يعيشون فيها.
- العمل على تدريبات تهدف إلى تعزيز مفهوم المشاركة المجتمعية وامتلاك أدواتها لدى مجتمعات النازحين والمجتمعات المضيفة على حد سواء.
- النظر في إمكانية أن تستوعب مشاريع الحلول الدائمة المقترحة النازحين واللاجئين من العائلة نفسها بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من المستفيدين، وحل مشكلة الإسكان والاستقرار وسوق العمل.
- السعي لحشد تمويل مرن وطويل الأمد: يمكن من خلاله إنجاز المشاريع المقترحة وتأمين إنجازها بشكل كامل.
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة