الإصداراتالتقارير الموضوعيةالتوافق الوطنيوحدة الهوية المشتركة والتوافق

آليات تعزيز الثقة المجتمعية بين السوريين

تقرير

الملخص:

يلخّص هذا التقرير النقاشات التي تمّت بين المشاركين في ندوتين أقامهما مركز الحوار السوريّ بعنوان: “آليّات تعزيز الثقة المجتمعيّة بين السوريين”؛ وقد تضمّن التقرير تسع فقرات أساسيّة:

ركّزت الفقرة الأولى على الأسس اللازمة لبناء الثقة المجتمعيّة بين السوريّين، متمثّلةً في تقديم المصالح العامّة على المصالح الخاصة، وتعزيز علاقة المكونات ببعضها من خلال إنجازاتها على أرض الواقع، بالإضافة إلى العمل المستمر على تطوير وتحسين المشاريع والخطط من خلال النقد البنّاء، وبناء نموذجٍ مؤسّساتيّ في المناطق المحرّرة في سوريا.

تضمّنت الفقرة الثانية وجهات النظر حول دور الأسرة في بناء الثقة المجتمعيّة؛ فتمّ التطرق إلى الدور المنوط بالمرأة في هذا الخصوص، كما أشير إلى تذبذب دور المرأة السورية في الدعم المجتمعي في مراحل الثورة المختلفة.

جاءت الفقرة الثالثة لتشير إلى النقاشات التي دارت حول دور المؤسّسات التعليميّة وسبل تطوير عملها بما يخدم بناء الثقة المجتمعيّة؛ إذ تمّت الإشارة إلى ضعف المؤسّسة التعليميّة في تأليف مناهج تحلّ مكان المناهج السورية الصادرة عن نظام الأسد، كما أُشير إلى مسؤولية المؤسّسات التعليميّة عن بناء ثقة الأفراد بأنفسهم بدايةً ثم بأبناء بلدهم، وتقديم بعض الحلول والنظريات التي تساعد في تحسين وضع المؤسّسات التعليميّة وتأهيلها لتلعب دوراً أكثر إيجابيّة في بناء الثقة المجتمعيّة بين السوريّين.

في الفقرة الرابعة أشير إلى دور المؤسّسات الدينيّة في تعزيز الثقة المجتمعية؛ فكانت الإشارة إلى دور المجلس الإسلامي السوريّ على وجه الخصوص في بناء هذه الثقة على الصعيد الداخلي بين المكونات المنضوية تحت المجلس من جهة أولى، وعلى الصعيد الخارجي مع المؤسّسات والمكونات الأخرى عبر البيانات المشتركة التي رعى إصدار بعضها من جهة ثانية، وعلى صعيد الحاضنة الشعبية عبر مخاطبتها وتوعيتها من جهة أخرى.

وتضمنت الفقرة الخامسة الحديث عن دور وسائل الإعلام السوريّة؛ إذ بات وضع وسائل الإعلام المعارضة شبيهاً إلى حدٍّ ما بوضع وسائل إعلام نظام الأسد نظراً لتبعيّتها للداعمين، مع التشديد على الدور المنوط بوسائل الإعلام؛ الذي يتمثّل بالوصول إلى السوريّ أينما كان من خلال دائرة الأحداث التي تمسّه، سواءٌ في سوريا أو بلاد اللجوء، كما أنّ لتعزيز قيم وأخلاقيّات وسائل الإعلام دوراً مهمّاً في بناء الثقة، إضافةً إلى تعزيز الانتماء.

وسلّطت الفقرة السادسة الضوء على دور منظّمات المجتمع المدنيّ؛ فدعت المشاركات إلى تفعيل دور الفرد في المجتمع إثر استفادته من المنظمات عن طريق إدخاله سوق العمل، وتفعيل الدور المنوط بالفرق التطوعيّة عبر تمهيد الطريق لأداء الخدمة المجتمعيّة بكلّ سلاسة، كما أوصت بتعزيز مبدأي الشفافية والمحاسبة.

جاءت الفقرة السابعة لتأكيد أهميّة دور السياسيّين وأنظمة الحكم في بناء الثقة؛ إذ أُشير إلى أن الضعف الهيكليّ لهذه المؤسسات وغياب شفافيتها أسهم في ضعف الثقة المجتمعيّة بها، خصوصاً في ظلّ وجود نوعٍ من السياسيّين الذين يقومون بتقديم المصلحة الجزئية على المصلحة العامة. وقد نُوقشت بعض الحلول للخروج من هذا الواقع، منها: ضرورة جعل “مصلحة السوريّين الثابت الوحيد” في معادلة التعاطي مع الأحداث، وتحديد هذه المصلحة عبر التشاور والحوار بين السياسيين وأصحاب الاختصاص ومراكز الدراسات والفكر، ثم بناء الشرعية الداخلية عبر توجه السياسيين إلى الحاضنة لإقناعها وترويج الرؤية السياسية الموضوعة، إلى جانب تمتع السياسيين بروح المبادرة وعدم اكتفائهم بموقع المنفعل الذي يتعاطى مع الأحداث أو ما “يُملى عليه”.

ناقشت الفقرة الثامنة دور مؤسسة “الجيش الوطني” في تعزيز الثقة المجتمعية؛ إذ إن ضعف الثقة الحالي في هذه المؤسسة ناجم عن أسباب متعددة، من أهمها: الفهم المغلوط لدور القوى العسكريّة، ورفع التطلعات في ظلّ شحٍّ في الموارد وتعدّدٍ في الرايات، مع تأكيد أنّ الإصلاح المؤسّساتي للقوى العسكريّة وترسيخ حالة السلم الاجتماعي، مع بناء جهاز أمني يحافظ على المناطق المحرّرة من أي اختراقات؛ قد يسهم في استعادة الثقة بين الحاضنة الشعبيّة وهذه المؤسسة.

جاءت الفقرة الأخيرة لاستعراض دور العاملَين الاقتصاديّ والجغرافي في بناء الثقة المجتمعيّة؛ فرأى البعض أهميته في الحالة السوريّة، بينما وجد آخرون أنه لا يلعب دوراً رئيساً متخذين من اليابان مثالاً على أن تراجع الحالة الاقتصادية في وقت ما قد لا ينعكس سلباً على الثقة، حيث يبقى العامل المؤسساتي والقانوني هو العامل الأساس في دعمها.

ختم التقرير بعدة توصيات لمؤسسات قوى الثورة والمعارضة بمختلف تخصصاتها.

مقدّمة:

تمثّل الثقة الاجتماعية أرضية أساسية لأي حل يمكن تصوره في الحالة السورية؛ فهي بمثابة القاعدة الواسعة للحلول التي يمكن بناؤها على مستوى النخب والمؤسسات، فهي “صمغ المجتمع”. غير أنه في الحالة السورية تدفع أغلب الوقائع إلى عدم الثقة أكثر مما تدفع إلى الثقة؛ حيث إن مختلف التوصيات التي يشير إليها الباحثون وفي مختلف الأصعدة، كالتطبيق السليم للقوانين، والابتعاد عن مسببات الظلم الاجتماعي، وزيادة نسب التوظيف والتنمية الاقتصادية وحرية الصحافة، وتحقيق مبادئ الحوكمة والشفافية …إلخ؛ نجد نقيضها في الواقع، حيث تسهم الظروف الاستثنائية والسياق الموضوعي الذي يمرّ به الشعب السوري في صعوبة تنفيذ مثل هذا التوصيات[1] .

مع ذلك تشير العديد من الدراسات إلى إمكانية العمل على بعض محددات الثقة المجتمعية في حالات “الصراع الداخلي” كما هو الحال في سوريا؛ خصوصاً تلك الشخصية، كعامل الثقافة الذي يرتبط بالتربية داخل الأسرة والمدرسة، وكعاملَي الدِّين والعِرق. على عكس المحددات الاجتماعية كعوامل التاريخ “العقد الأخير” والجغرافية والمؤسسات والاقتصاد التي يكاد يكون دورها سلبياً في مثل تلك الظروف[2].

بهدف استكمال النقاش حول النتائج التي خرج بها المقال المشار إليه في الهامش عقد مركز الحوار السوريّ ندوتَين حواريتَين تحت عنوان “آليّات تعزيز الثقة المجتمعيّة بين السوريين” استهدفت شرائح متعددة، كالمنظمات والمؤسسات التعليمية والفرق الشبابية والباحثين والسياسيين والعسكريين والمؤسسات الدعوية، ناقش فيها المشاركون دلالات النتائج التي وصل إليها المقال، وكيفيّة تفعيل أدوار المؤسّسات السوريّة لبناء الثقة المجتمعيّة.

يأتي هذا التقرير ليضع القارئ في أجواء الندوتين والنقاشات التي دارت فيها، مع إيضاح السياق العام الذي أقيمت فيهما، من خلال توضيح الأسباب التي دفعت إليهما وبيان الهدف منهما.

وقد أُعدّ هذا التقرير من خلال اتباع قاعدة “تشاتام هاوس”[3]، ومن دون التقيد بالترتيب الزمنيّ للعرض والمداخلات؛ فقد استخدم التقسيم الموضوعيّ بقصد ترتيب الأفكار بطريقة سلسة وموضوعيّة تساعد القارئ الكريم -قدر المستطاع- على متابعة الموضوع.

ينقسم التقرير تسع فقرات: تناولت الأولى أسس بناء الثقة المجتمعيّة، وعرضت الثانية وجهات النظر حول دور الأسرة في بناء الثقة المجتمعيّة، وتعرضت الثالثة إلى دور المؤسّسات التعليميّة، والرابعة إلى دور المؤسّسات الدينيّة، في حين بيّنت الخامسة الآراء المطروحة حول دور وسائل الإعلام، وتطرقت السادسة إلى دور منظمات المجتمع المدنيّ، والسابعة إلى دور الأنظمة والسياسيين في بناء الثقة المجتمعيّة، بينما ناقشت الثامنة الدور المنوط بالقوى العسكريّة، واختتم التقرير ببحث آثار العاملَين الاقتصاديّ والجغرافيّ في بناء الثقة الاجتماعيّة لدى السوريّين.

أولاً: أسس بناء الثقة المجتمعيّة:

تُعرف الثقة الاجتماعيّة بأنها: “توقّعٌ متفائلٌ واطمئنانٌ نحو كفاءة الآخرين أفراداً ومؤسّسات”، ولهذه الثقة أربعة أنواع: الثقة بالأشخاص، والثقة بالجماعات، والثقة بالمؤسسات، والثقة بالعالم الخارجي. وتعتمد الثقة الاجتماعيّة في أبعادها هذه على عدّة عوامل أساسيّة تساعدُ بتعزيزها في أيّ مجتمعٍ كان، بعض هذه العوامل موضوعي كعوامل التاريخ، والاقتصاد، وأنظمة القانون والمؤسّسات، وبعضها الآخر ذاتي أو شخصي كعوامل الدين والأسرة والتربية والعِرق[4].

أشار أحد السياسيين إلى أن المجتمع السوري عانَى بأكمله من الاضطهاد والاستبداد في بيئةٍ تفتقد إلى المساءلة والمحاسبة، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على الثقة ليس بين السلطة والشعب فحسب، بل بين مكونات الشعب نتيجة المظلومية التي عانت منها كل المكونات؛ مما يوجب على المجتمع عموماً بذل جهدٍ مضاعفٍ للتغلب على الهشاشة الاجتماعيّة التي أصابته، وإعادة ترميم الثقة.

في هذا السياق، وخلال الحديث عن الأساسيّات المطلوب توفّرها لبناء الثقة الاجتماعيّة في المجتمع السوريّ؛ تحدث رئيس إحدى منظمات المجتمع المدني الدعوية عن المسؤوليّة العامّة للمجتمع السوريّ في هذا الخصوص، منوّهاً أن هذه المسؤولية ترتكز على ثلاث نقاط:

  • تقديم المصالح العامّة والكليّة على المصالح الجزئيّة؛ فالمصلحة العامة تجمع الهادفين إلى تحقيقها، وهي تجمع في طياتها كل مصالح الأطراف الجزئيّة، بخلاف المصالح الجزئيّة التي تُشعر كل طرفٍ بأنّ الطرف الآخر ضدّ مصلحته، وبالتالي يراه ضدّ مصلحة البلاد، مما يضعف الثقة بين الطرفين.
  • التعارف الجيد بين الشخصيّات والكيانات، والتعرّف الجيّد على أعمال الآخر وإنجازاته؛ إذ يصعب بناء الثقة بمَن يُجهل إنجازه، وهذا يعني حاجة السوريّين إلى كثيرٍ من الأدوات والفعاليات والأنشطة التي تحقق التعارف الذي يُشعر كل طرفٍ بقيمة الطرف الآخر من خلال منجزاته، ويُشعره هو ذاته بحاجته للآخرين.
  • إحياءُ المراجعات الداخليّة عبر التقويم الذاتيّ والنقد الداخليّ الشجاع؛ فهذه المراجعات دلالةٌ على المصداقيّة في تحمّل بناء الثّقة المجتمعيّة، في حين أن غيابها يفتح المجال لتراشق الاتهامات؛ الأمر الذي ينعكس بدوره سلباً الثقة العامة بين مختلف المكونات.

واختتم رئيس المنظمة حديثه بتأكيد الدور الكبير للمؤسّسات الثقافيّة والدينيّة في تقديم القدوة والنموذج، والتحفيز على التعارف، والمراجعة الذاتيّة لتقديم المصلحة الكليّة على الجزئيّة.

في السياق ذاته، وفي حديثه عن أولوية المصلحة العامة على المصلحة الذاتية أشار أحد السياسيين إلى أن تحقيق ذلك يمكن أن يتم عبر بناء نموذجٍ مؤسساتيٍّ حقيقيّ، وحوارٍ وطنيٍّ جامعٍ يُطبّق في المناطق المحرّرة شمال غربيّ سوريا، يظهر فيه ترجيح المصلحة الوطنية.

ثانياً: دور الأسرة في بناء الثقة المجتمعيّة:

تتأثّر الثقة الاجتماعيّة بالتربية والأخلاق بشكلٍ كبير؛ إذ إنّ تكريس الثقة مُهمّة تبدؤها الأسرة، ويتمّ بنيانها تجاه البيئة المحيطة من خلال التجارب التي يمرّ بها الإنسان[5]، وهذا ما لم تستطع الأسرة السورية نسبياً ترسيخه في نفوس الأجيال المتعاقبة؛ نتيجةَ السياسة المتبعة في حقبة البعث بتعزيز انكفاء الإثنيات والأقليات على بعضها، وزرع الخوف من الغير بدل الثقة بهم في نفوس السوريّين[6].

خلال الحديث عن الدور المنوط بالمجتمعِ بشكلٍ عام، والأسرة على وجه الخصوص، شدّدت مديرة إحدى الشبكات النسائية على مركزّية دور المرأة في بناء الثقة كونها الحامل الأساسيّ للأسرة؛ إذ تنطلق الثقة منها للأسرة ثم إلى المجتمع عموماً، مشيرةً إلى العلاقة الوثيقة بين الثقة المجتمعية ودور المرأة والمجتمع، فثمّة علاقة طردية بين منح الثقة للمرأة وتقوية رأس المال الاجتماعي.

وأكّدت على ضرورة تفعيل دور المرأة في المجتمع السوريّ، خصوصاً في هذه المرحلة التي تتضاءل فيها الثقة بين المكونات؛ إذ ترى أنه يمكن للمرأة السورية -بوصفها عضواً فاعلاً في الأسرة- أن تسهم في الحد من النزاع من جهة، وفي بناء السلام من جهة أخرى.

ثم استعرضت المشارِكة مسيرة المرأة السورية في مجال دعم الثقة؛ فأشارت إلى أن المرأة في بداية الثورة أخذت أدواراً متعددة، وكانت حاضرة اجتماعياً؛ غير أنه مع تحوُّل الثورة نحو العسكرة، ونتيجة الضغوط الاجتماعية الكبيرة التي تعرضت لها الأسرة السورية تراجع دور المرأة وتحولت إلى المكان الذي تحتاج فيه الدعم والمساعدة. ومن المفترض حالياً في ظل نشاط المجتمع المدني السوري أن يكون ثمّة أدوار كبيرة للمرأة السورية، ولكنها في الآونة الأخيرة تعرضت للاتهام بأنها تمثل أداة تُستخدم لهدم قيم المجتمع وقيم الأسرة السورية، في دليلٍ واضحٍ على تراجع الثقة فيها؛ فلا يمكن -والكلام للمشارِكة- للمرأة أن تسهم في بناء الثقة داخل أسرتها وتعززها داخل المجتمع في المرحلة التالية طالما أنها لم تُمنح الثقة ابتداءً.

واختتمت المشارِكة مداخلتها بالتركيز على أنّ دور المرأة في الأسرة يكمن في تعزيز الثقة أولاً ضمن الأسرة لإنتاج أفرادٍ متوازنين وواثقين؛ إذ يساعدُ ذلك في الخروج من الأدوار النمطيّة للمرأة إلى أدوار إنتاجيّة وثقافية، مشيرةً إلى أنّ هذا كلّه لا يشكّل أيّ معارضةٍ لهُويّة المجتمع السوريّ بحال تطبيقه.

وقد عقّبت إحدى الناشطات في المجال التعليمي على ما سبق، مشدّدةً على ضرورة حفظ الإطار العام لتمكين المرأة ضمن هُويّة المجتمع وثقافته، منوّهةً إلى أنّ المجتمع بصورته الحاليّة لا يعارض عمل المرأة في مختلف المجالات؛ ما لم تمضِ وراء دعاوى “المساواة” و”الحريّة الزائدة” على حدّ وصفها. وهو ما أيّده أحد السياسيين، مؤكداً ضرورة تنشئة الأبناء على مبدأ الخيريّة للجميع، كمحاولةٍ لصدّ الهجمات “الليبراليّة المتطرفة” السّاعية لهدم الأسرة السوريّة.

ثالثاً: دور المؤسّسات التعليميّة في بناء الثقة المجتمعيّة:

تشكّل المؤسّسات التعليميّة الخطّ الداعم في بناء الثقة عند أفراد المجتمع إلى جانب التربية الأسريّة؛ إذ تُعدّ عاملاً أساسيّاً في تشكُّل النظرة الاجتماعيّة لدى الأطفال، من خلال المناهج الدراسية وسلوكيّات الكوادر التدريسيّة، فالمعلِّم يشكّل في مرحلةٍ ما القدوة الأولى للطالب، فيتبنى آراءه ويقلّد ردات فعله[7].

وحول الدور المهم للمؤسّسات التعليميّة في بناء الثقة ثارَ نقاشٌ بين المشاركين في الندوة حول وضع المؤسّسات التعليميّة في سوريا، وآليّة تسخير جهود هذه المؤسّسات في بناء الثقة؛ فأشار أحد ناشطي الداخل السوري إلى تردّي الوضع التعليميّ في المجتمع في شمال غرب سوريا في ظلّ غياب قدرة المؤسّسات التعليميّة على تأمين الموارد اللازمة، مستشهداً على ذلك بتدنّي رواتب المعلمين، مما يدفعهم إلى ترك التعليم والتوجه إلى وظائف ومهن أخرى تكفيهم ولو نسبياً.

وقد عرّج أحد الأكاديميين السوريين على دور المؤسّسات التعليميّة الأساسي في تعزيز الثقة المجتمعية عبر غرس قيمٍ سليمةٍ عن طريق المنهاج التعليميّ والإعداد الجيّد للمعلمين، مشيراً إلى أنّ ضعف البنية التعليميّة للمؤسّسات الثوريّة متمثّلاً بغياب المناهج التي تواكب التغيرات يوجب على المؤسّسات العمل على إعداد المعلمين إعداداً صحيحاً ليقوموا بغرس القيم المطلوبة.

ويرى الأكاديمي أنّ المؤسّسات التعليميّة يجب أن تغرس الثقة المجتمعيّة على مستويَين: يتمثّل الأول بتعزيز ثقة الطلاب بأنفسهم، بينما يركّز المستوى الثاني على بناء الثقة بأبناء الجيل نفسه، بتمليكهم أدوات اكتساب الثقة بالمجتمع والمؤسّسات حولهم، عن طريق نشر ثقافة الحوار وتعزيز مبادئ الشفافيّة والرقابة، مشيداً بالتجربة الأوروبيّة المتمثّلة بالزيارات الدوريّة التي يقوم بها طلاب المدارس لمنظّمات المجتمع المدنيّ. وكمقترح عملي للمقاربة السابقة في توظيف العملية التعليمية لتعزيز الثقة اقترح أحد المدرّسين توجيه الطلاب السوريين المغتربين رسائل عن طريق منظّماتٍ داعمةٍ إلى الطلاب الموجودين في الشمال المحرّر، داعياً لإقامةِ نوادٍ مشتركة بين الطلاب المغتربين والطلاب داخل الأراضي المحرّرة.

رابعاً: دور المؤسّسات الدينيّة في بناء الثقة المجتمعيّة:

اكتسبت المؤسّسات الدينيّة قيمةً اجتماعيّةً على امتداد التاريخ السوريّ؛ وذلك بسبب السّمة المحافظة المنتشرة على طول الجغرافيا السوريّة، وقرب هذه المؤسسات من مختلف طبقات المجتمع السوري، مما أكسبها قوّة جماهيريّة وحضوراً على مختلف المستويات[8].

تحدث أحد أعضاء الأمانة العامة في المجلس الإسلامي السوري عن دور المجلس في تعزيز الثقة المجتمعيّة وفق مستويين؛ الأول: هو السعي لتعزيز الثقة الداخلية بين المكونات التي يتشكل منها المجلس، والثاني: بناء الثقة مع المكونات والمؤسّسات الأخرى خارج المجلس. وقد أشار المتحدث إلى دور المجلس في بناء الثقة بين الحاضنة الشعبيّة ومختلف المؤسّسات والمكوّنات السوريّة عبر وسائل متنوعة، من أهمها:

  • المشاركة في هموم الناس والاختلاط معهم والقرب منهم في الأتراح والأفراح.
  • لجان الصلح كاللجنة الوطنيّة للإصلاح، ولجنة ردّ الحقوق ورفع المظالم في عفرين التي كان لها دور ملموس في إزالة الاحتقان بين السوريين من مكونَي العرب والكرد.
  • المشاركة الفاعلة مع فصائل قوى الثورة والمعارضة السورية من خلال التوجيه المعنوي لتجاوز الانتهاكات ومظاهر الفساد التي تُتهم بها بعض مكونات الجيش الوطني.
  • رعاية بعض الحملات التي تقوم بها المنظمات الإغاثية والتعليمية والشبابية، والتي يكون لها أثر إيجابي على شرائح مهمة من المجتمع شمال غرب سوريا.
  • المشاورات المتخصّصة واللقاءات المتكرّرة التي يقوم بها المجلس وتتمخض عن بياناتٍ تسعى إلى تقريب وجهات النّظر تجاه المواقف السياسيّة الكبرى التي تمسّ القضيّة السوريّة، كوثيقة المبادئ الخمسة التي رعى المجلس إصدارها، والتي حظيت بدعمٍ من أكثر من 50 مؤسّسة سوريّة.

حيث أشار المتحدث إلى أن مثل هذه المبادرات لها دور في تعزيز الثقة بين المكونات السورية ذات التخصصات المختلفة.

وتعقيباً على ما تحدث به عضو الأمانة العامة للمجلس رأى أحد الناشطين أنّ المجلس الإسلاميّ السوريّ يستحقّ أن يكون نواة الإصلاح الذي يعزّز الثقة المجتمعيّة لدى السوريّين؛ إذ إنّ دور المجلس تجاوز -برأيه- دور المؤسّسة الدينيّة ليصبح مرجعاً سوريّاً، داعياً المؤسّسات السوريّة إلى الالتفاف حول المجلس الإسلامي السوريّ لوجود نواة الإصلاح الاجتماعيّ لديه، والإعلان عن الثقة الكاملة بدور المجلس، ودعم برامجه الإصلاحيّة والمشاركة فيها.

وقد أيّد أحد أعضاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ما تحدث به الناشط، مشيراً إلى أن انعدام الثقة البينية بين الشخصيّات والمؤسّسات الموقّعة على البيانات المختلفة التي يرعاها المجلس يشكّل أحد أهم العوائق أمام توافق السوريين، ويعطي دليلاً مهماً على ضعف الثقة بين المؤسسات مقارنة بثقتها جميعاً بالمجلس، مطالباً بأن يبذل المجلس الإسلامي السوري جهوداً أكبر في مجال بناء الرؤى المشتركة بين القوى، وداعياً في الوقت ذاته المكونات السورية الثورية إلى الالتفاف بما يساعد في تكوين رؤىً واضحة تساعد في التخلص من نظام الأسد.

بالمقابل رأى أحد الأكاديميين السوريين أن الحكم على أعمال المجلس الإسلامي السوري كمؤسسة دينية يتطلب وجود مؤشرات؛ فالحديث عن وجود ثقة مجتمعية بجهة ما يتطلب وجود بيانات توضح ذلك حتى لا يكون الأمر خاضعاً لتقدير شخصي يختلف من فرد إلى آخر، كما أوضح أن المجلس خلال الفترة الماضية ونتيجة وجود أنشطته في الداخل السوري حاز مزيداً من الثقة، ولكن هذا الأمر بحاجة لتحقق.

في هذا السياق تابع أحد السياسيين تعليقه على فكرة “مركزية دور المجلس الإسلامي السوري في تعزيز الثقة المجتمعية”، مبيناً أن المجلس يمكن أن يكون أحد الركائز التي تحقق الثقة، وليس الركيزة الوحيدة؛ إذ ترجع عدم قدرة المجلس على بناء الثقة منفرداً إلى سببين رئيسين هما: قلة الاختصاصات ذات الصلة المنضوية تحت لواء المجلس الإسلامي السوري، بالإضافة إلى تشكيك بعض المكوّنات بنوايا المجلس في حال تزعّمه المشهد السوريّ، داعياً إلى تشكيل جهةٍ تضمّ مختلف الاختصاصات اللازمة لبناء الثقة. وهو ما وافقه عليه سياسي آخر؛ مؤكداً ضرورة عدم إعطاء أيّة مؤسسة أكبر من دورها المفترض، موضحاً أنّ بناء الثقة بين المجتمع والمؤسّسات يكون إمّا بطريقة فوقيّة عبر وجود هيئة تحظى بثقة السوريين يتم إنشاؤها بعد التخلص من النظام والدخول في المرحلة الانتقاليّة، وإما من القاعدة عبر إعادة بناء العقد الاجتماعيّ من خلال التواصل بين منظمات مجتمع مدني حقيقية يثق بها المجتمع والمجالس المحلية.

وقد بنَى سياسي آخر على الكلام السابق، فأشار إلى أن المجلس الإسلامي السوري إذا كان قد حقق شيئاً من الثقة عبر الخطوات التي أشير لها سابقاً فإنه مما يُؤخذ عليه “فئوية خطابه” في بعض الحالات بحكم توجهه إلى فئة محددة.

وهنا أشار رئيس إحدى الكيانات السياسية إلى أن أحد أهم المعايير في الحكم على إنجاز المؤسّسات يتمثل بالتوازن بين ما تحقّقُه هذه المؤسّسات مقارنة بتطلعات المجتمع، مرجّحاً أن السبب وراء إعطاء المجلس الإسلاميّ السوري دوراً كبيراً في هذه المعادلة هو غياب المؤسّسات السوريّة الأخرى.

خامساً: دور وسائل الإعلام في بناء الثقة المجتمعيّة:

شكّلت وسائل الإعلام السوريّة في عهد نظام الأسد أداةً يمارس من خلالها تلميع صورته، وتغييباً للشارع السوريّ عمّا يدور حوله من أحداث يوميّة مؤثّرة؛ إذ اقتصرت أخبارها على تلك المتعلقة بالسلطة، في محاولةٍ لتشتيت الانتباه عن الواقع المأساوي[9]. وعلى الرغم من ذلك كلّه نجد أنّ وسائل الإعلام السوريّة فقدت تقريباً ثقة السوريين مع انطلاق الثورة عام 2011؛ إذ بدا تدليسها للحقائق ظاهراً جليّاً، فبينما كانت تنقل وسائل الإعلام العالميّة أخبار الحراك الشعبيّ السوري كانت وسائل إعلام نظام الأسد العامة منها والخاصة تدلّل على “فبركة” هذه الأخبار، مدّعيةً أن مُصوِّري الحراك هم مجموعةٌ من المرتزقة والإرهابيّين[10]. وأشار أحد الإعلاميين إلى أنّ وسائل إعلام نظام الأسد فقدت خلال السنوات العشر الأخيرة ثقة شرائح عريضة من السوريينّ، بما في ذلك الموالين للنظام.

وعلى الطرف الآخر فإنّ وضع وسائل الإعلام المعارضة والثورة لا يدعو للتفاؤل؛ إذ باتت هي الأخرى رهينةً لما يمليه عليها المموِّل.

وأوضح الإعلامي أن الدور الواجب على وسائل الإعلام حاليّاً هو الوصول للسوريّ أينما كان من خلال دائرة الأحداث في سوريا وبلاد اللجوء؛ إذ يلزم وضع سياسيةٍ تحريريّة تصوغ الخبر وتعالجه بالتحليل، وتضيء عليه حال اللزوم، ضمن معايير تحدّدها كلّ وسيلةٍ على حدة، كما أكّد ضرورة تفعيل ميثاق شرفٍ إعلاميّ مصاغٍ من قبل خبراء في اختصاصات مختلفة، كالإعلام وعلم النفس والاجتماع، ليتحقّق الوصول المطلوب للجمهور بمحتوى يعزز الثقة الاجتماعيّة؛ إذ بغياب المشروع الإعلاميّ الواضح الجامع المخطط استراتيجياً ذي الأهداف المرسومة يتحول دور وسائل الإعلام إلى الهدم لا البناء، واصفاً ما يحصل على الساحة الإعلاميّة السوريّة بـ “ردّات فعل المراهقين”.

ونوّه الإعلامي إلى ضرورة أن يسعى الإعلام إلى تعزيز القيم المشتركة بين أبناء المجتمع بكلّ شرائحه عبر ترسيخ فكرة الحوار بين الأطياف؛ حيث إن دور الإعلام أساسي في هذا المجال، فمن خلاله يمكن نشر فكرة قبول الآخر والحوار معه، بما يساعد على تعزيز الثقة بين مختلف المكونات والتيارات.

وختم الإعلامي كلامه بالتأكيد على فكرة “ترسيخ الانتماء لما يستحقّ الانتماءُ إليه”، مبيناً ذلك بقوله: “إذا كانت الثورة كفكرة فليكن الانتماء لها، أو الوطن الذي أعطيه فيردّ بالمقابل فأهلاً ومرحباً به، وإن كان الدين في ظل الأمان والغذاء والحرية فما أحلاه، وكل ما يعزز الانتماء على وسائل الإعلام انتهاجُه، وكل ما يعزز القيم على وسائل الإعلام ترسيخُه، بتكراره بمعالجات لائقة من خلال استثمار الطاقات الإعلامية لا استنزافها؛ فالموضوع يحزن الجميع اليوم لأنه يتم استنزاف طاقات الإعلاميين وبعض الوسائل الإعلامية، عبر البحث عن فضيحة لصنع مادة يُدفع عليها، مما يسهم في إضعاف الثقة المجتمعية”. واستناداً إلى ذلك دعا الإعلامي إلى استثمار طاقات الإعلاميّين بما يخدمُ الانتماء ويعزز الثقة المجتمعيّة، مشيراً إلى الدور المهم للإعلام كمراقبٍ ومحاسبٍ للمسؤولين.

سادساً: دور منظّمات المجتمع المدني في بناء الثقة المجتمعيّة:

في عالمنا العربي ظهر مفهوم المجتمع المدني مع نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين، وارتقى تدريجياً ليصبح مكوناً إيديولوجياً وحركياً رئيساً في رؤى القوى والتيارات المختلفة. آنذاك لم ينفصل اكتشاف المجتمع المدني عن إخفاق أغلبية نخب الحكم في إنجاز أهداف التنمية المستدامة والاستقلال الوطني وصياغة عقد اجتماعي توافقي يضمن للمواطن حقوقه وحرياته ويشركه في إدارة الشأن العام، واليوم يعبر استمرار الاهتمام بالمجتمع المدني وفاعليه من منظمات غير حكومية ونقابات عمالية ومهنية وشبكات النشطاء عن بحثٍ لا ينقطع عن سبل إنقاذ البلاد من نخب الحكم الفاشلة واحتواء التداعيات الكارثية لسياساتها وممارساتها[11].

وعلى إثر الحديث الدائر حول دور المؤسسات الحكوميّة وغير الحكوميّة في بناء الثقة المجتمعيّة في الحالة السورية تحدث أحد الباحثين عن أن منظمات المجتمع المدني بشكل عام والمنظمات غير الحكومية السورية بشكل خاص لم تصل بعد إلى فهم احتياجات المجتمع بشكلٍ دقيق، مشيراً إلى غياب آليّة عملها عن المواطنين، مؤكداً ضرورة تفعيل الدور الرقابيّ على جودة العمل؛ لِـمَا لذلك من دور في تحقيق الأهداف المرجوة، ورفع مستوى الثقة بين المؤسّسات والمجتمع.

وعقّب مدير إحدى المنظمات على ذلك، موضحاً أن دور منظمات المجتمع المدنيّ حالياً في بناء الثقة المجتمعية يمكن تقسيمه قسمين: الأول عبر تمكين الأفراد لرفع قدراتهم وإكسابهم مهارات وكفاءات جديدة يمكن من خلالها زيادة فرصهم في دخول سوق العمل، وبما يسهم ولو بشكل غير مباشر في تنمية المجتمع السوري، والثاني: عبر تفعيل ثقافة العمل التطوعي وبناء الفرق التطوعية القادرة على تلبية احتياجات المجتمع بشكل أفضل. فكلا الأمرين يسهمان في تعزيز الثقة بين الأفراد والمجتمع، منبهاً في الوقت ذاته إلى ضرورة حفاظ منظّمات المجتمع المدنيّ السورية على الشفافيّة وسياسات التوظيف الجيّدة، بالإضافة لتوفير مساحاتٍ أكبر للفرق التطوعيّة لتعمل بها؛ “فالثقة المجتمعيّة أحد مكونات رأس المال الاجتماعيّ الذي تشكّل الفرق التطوعية أحد مقوّماته”، ناصحاً كذلك منظّمات المجتمع المدنيّ بالعمل على ترسيخ الثقة الواعية عبر الإفصاح عن مخططاتها، وتعزيز الشفافية أثناء تنفيذها.

سابعاً: دور السياسيّين وأنظمة القانون في بناء الثقة المجتمعيّة:

على الرغم من تعدُّد اتجاهات القوى والأحزاب السياسية السورية، وامتداد نشاطها الذي يقارب مئة عام منذ تأسيس الكيان الجمهوري السوري عام 1918م؛ فإن ضعف البنية الداخلية للأحزاب السياسية ممثلة بالانقسامات المتكررة في الأحزاب، وتغلب النزعة الفردية على البرامج السياسيّة، بالإضافة للانعزال عن الحاضنة الشعبية، والتغلغل في الجيش الذي كان يُنظر إليه كأقصر الطرق للوصول للسلطة أدى إلى تحديد بنية القوى والأحزاب السورية ومدّ تأثيرها على المجتمع، وترتب على ذلك طغيان روابط المناطقية والطائفية والعائلية على الرابطة الأيدلوجية الحزبية، وضعف تأثير الأحزاب في الحياة العامة[12].

انطلق أحد السياسيين من هذه الفرضية “ضعف ثقة الحاضنة الشعبية بالسياسيين”، فقدّم عدة نصائح تمثل -برأيه- أدوات يمكن العمل عليها لاستعادة هذه الثقة، ولخّصها بما يلي:

  • ضرورة جعل “مصلحة السوريّين الثابت الوحيد في معادلة التعاطي مع الأحداث”.
  • تحديد هذه المصلحة عبر التشاور والحوار بين السياسيين وأصحاب الاختصاص ومراكز الدراسات والفكر، وليس بشكل انفرادي، ثم البحث عن تقاطعات المصلحة الوطنية مع المصالح الخارجية.
  • بناء الشرعية الداخلية عبر توجه السياسيين إلى الحاضنة لإقناعها وترويج الرؤية السياسية الموضوعة.
  • تمتُّع السياسيين بروح المبادرة وعدم اكتفائهم بموقع المنفعل الذي يتعاطى مع الأحداث أو ما “يُملى عليه”.
  • ضرورة العمل على حاجات الناس اليومية الملحّة كتحسين الوضع الاقتصادي وزيادة مستويات الحوكمة.

كل ذلك إلى جانب المبادرات السياسيّة الاستراتيجية البعيدة؛ فذلك كله يمثل برأي السياسي المتحدث خطوات تساعد على زيادة الثقة بين الحاضنة الشعبية والمجتمع.

من هنا أشار أحد الناشطين إلى أن “المؤسسات القائمة” ونتيجة ضعف شفافيتها وبُناها ما زال دورها سلبياً في بناء الثقة؛ إذ نجد في العموم شرخاً واضحاً بين الشعب من جهة والمؤسسات من جهة أخرى، مشيراً إلى أن وضع غالبية فئات الشعب المقيمين في مناطق قوى الثورة والمعارضة كمتلقّين للقرارات ومنفّذين لها لا مشاركين في اتخاذها قد أضعف الثقة المجتمعيّة بين المجتمع وتلك “المؤسسات”.

في السياق ذاته أكد أحد أعضاء الائتلاف الوطني أنّ اكتساب الثقة عن طريق صناديق الاقتراع غير متاحٍ حاليّاً، مشيراً إلى أن الطريق الوحيد المتبقي حالياً لكسب الثقة المجتمعية هو “شرعية الإنجاز”، مشدّداً على ضرورة تحقيق الإنجاز لكسب الثقة المجتمعيّة، وهو ما دعا إليه سياسي آخر من خلال الإشارة إلى ضرورة العمل على المشاريع التي تلامس حاجة المجتمع، منوّهاً إلى أن مشروع الائتلاف ربما يلبي هذه الحاجة؛ لكنّ العقبات التي تعترض تحقيق هذا المشروع كثيرة، مما يجب أن يدفع السياسيّين إلى إعادة النّظر في المشروع وتجديده بما يلامس الواقع المجتمعيّ.

واختتم هذا المحور أحدُ الأكاديميين بتأكيده أن السياسيّ الذي لا يعبّر عن هموم الشعب، ويمرّر المشاريع الدولية التي تهدف إلى سرقة ثورته، ويعبّر عن رأي السفارات التي تدعمه، أو يصادم ثقافة المجتمع وهويته؛ لن يحظى بثقة المجتمع، مشيراً إلى ضرورة العمل على تحقيق المشاريع الوطنيّة التي تُبنى على القواسم المشتركة بين المكونات.

ثامناً: دور الجيش الوطني في بناء الثقة المجتمعيّة:

تقوم فكرة الجيش في البلاد عامّة على حماية الدولة من الاعتداءات الخارجية، دون التدخل بالحياة السياسيّة والمجتمعيّة، وفي الحالة السوريّة يبدو الوضع مختلفاً؛ إذ إن الجيش في عهد حكم عائلة الأسد لعبَ دوراً محورياً في ترسيخ الحكم، إذ ورث الجيش هذه العقليّة من “جيش الشرق” الذي أسسته فرنسا التي رسخت حبّ السلطة واحتقار الحكم المدني في نفوس الضباط، كما سادت الجيش صبغةٌ طائفيةٌ تمثّلت باحتكار الأقليات -“العلوية” على وجه الخصوص- لمراكز القيادة وصناعة القرار، كما تحوّل الجيش من جيش وطنيّ إلى “جيشٍ عقائديّ”[13].

في محاولةٍ لتأطير الدور المنوط بالجيش الوطنيّ السوريّ بما يخدم بناء الثقة المجتمعيّة نبّه أحد قادة الجيش الوطني أنّ توطيد الثقة بين الحاضنة الشعبيّة والقوى العسكريّة عمليّةٌ معقّدةٌ لعدة أسباب، من أهمها: المفهوم الخاطئ والملتبس لدى الحاضنة حول دور “الجيش الوطني” ومهامه؛ حيث تنتظر شرائح واسعة من الحاضنة الشعبية أن تقوم هذه المؤسسة بتلبية احتياجاتها الأساسية وتقديم الخدمات لها من مياه وكهرباء ونظافة وتعليم …إلخ، وبما أنّ القدرات والإمكانات التي تمتلكها تلك القوى العسكريّة مجتمعة لا تلبي طموح وتطلعات الحاضنة في هذا المجال فإنَّ ذلك يولّدُ فجوةً عميقةً بين المطلوب لدى الحاضنة والقدرات التي تمتلكها تلك القوى، مما يؤدّي لحالةِ إحباطٍ أو فقدان للثقة بشكلٍ جزئيّ أو كلّي في هذه المؤسسة.

مشيراً إلى أن هذه النظرة الملتبسة دفعت في أوقات كثيرة بعض الفصائل إلى القيام بأدوار خارج مهامها العسكرية والأمنية الأساسية، كبعض المهام الاقتصادية والتعليمية والخدمية؛ مما شكّل عبئاً كبيراً على تلك الفصائل نتيجة محاولاتها المتكررة والخاطئة تلبية متطلبات الحاضنة، ظناً منها أن ذلك يعزّز دورها ويكسبها ثقة شريحة أوسع من الحاضنة الاجتماعية، مع عدم اعترافها بمحدودية الإمكانيات والقدرات التي تمتلكها.

كما أكّد المشارك أن بناء الثقة يرتكز على وجود توافق في الآراء بين ما تتوقعه الحاضنة الاجتماعيّة وما تستطيعه القوى العسكريّة، وعلى القبول الضمني لظروف الواقع الذي يعيشون فيه، والذي يشكل حجر أساس ينطلق منه الطرفان نحو أهداف مشتركة قابلة للتحقيق ولتعزيز الثقة المشتركة.

وتابع المشارك أنّ غياب الشفافيّة لدى القوى العسكريّة، وانغماس عددٍ من هذه القوى بأدوارٍ ومهام ذات طابعٍ مدنيّ، إضافةً لغياب العمل المؤسّساتيّ، مع عدم توطيد الهرميّة العسكريّة، في ظلّ انتشار الفوضى والاختراقات الإرهابيّة المتمثلة بالتفجيرات، إلى جانب توقف العمليات العسكريّة ضد نظام الأسد وداعميه، والنزاع بين الفصائل من جهة، والتنميط المبرمج لصورة الفصائل وتعميم أوصاف مثل “العمالة والخيانة” و”البيع من تحت الطاولة” والفساد…إلخ من جهة أخرى؛ قد أدت إلى غياب الثقة بين الحاضنة الشعبيّة والقوى العسكريّة.

ويكمن الحلّ كما يراه فائد الفصيل بخطوات متعددة لخّصها بما يلي:

  • الإسراع في عملية البناء التكاملي المؤسساتي بين الفصائل لترسيخ هيكل عسكري جامع يقوم على أسس احترافية وتراتبية حقيقة واندماج كامل.
  • الفصل بين الأدوار العسكرية لتلك القوى والمهام المدنية والخدمية، وتحديد دورها كفاعل عسكري فقط.
  • عدم مزاحمة المؤسسات المدنية على مهامها، والاقتصار على دورها العسكري في الدفاع عن المواطنين.
  • البدء في تطبيق نظام محاسبة صارم بحق العناصر وتقديمهم للقضاء المختص، دون ممارسة أي ضغط لتبرئتهم أو تخفيف الأحكام المستحقة.
  • بناء شبكة علاقات مشتركة ذات أهداف بنّاءة بين الفاعل الاجتماعي والقوى العسكرية، وتحديد نقاط الاتفاق والاختلاف، ومعالجة كل الفجوات والإشكاليات البينية.
  • الشفافية بين القوى العسكرية وممثلي القوى الاجتماعية، وبناء تصورات حقيقية حول قدرات وإمكانيات كل طرف، ومدى مساهمته في الصالح العام.
  • بناء جهاز أمني محترف قادر على ضبط الأمن من العمليات الإرهابية وعلى مكافحة الاختراقات وإحباط التفجيرات، ويكون محل ثقة لدى الحاضنة، ويستند على تعاونها في تحقيق مهمته.

وعقّب أحد السياسيين على الدور المنوط بالقوى العسكريّة لبناء الثقة، مذكراً أن “الثورات لا تنجح بالفصائليّة”، داعياً إلى وجوب الإسراع في بناء مؤسسة عسكرية احترافية، ومؤكداً ضرورة مراجعة العلاقة بين الائتلاف الوطنيّ والقوى العسكريّة، لاسيما وأن الفصائل موجودة فعلياً داخل الائتلاف، وفي الوقت ذاته تشوّه سمعته على الأرض وتحرّض الحاضنة عليه؛ الأمر الذي لا يخدم الثقة بين المؤسسات، فضلاً عن الثقة بينها وبين الحاضنة.

تاسعاً: دور العاملَين الاقتصادي والجغرافي في بناء الثقة المجتمعيّة:

ترتفع مستويات الثقة الاجتماعيّة في المجتمعات التي تتمتّع بمستوى عالٍ من الرفاهية والاستقرار الاقتصاديّ، مع غياب الفواصل الجغرافيّة الناتجة عن الصراعات والحروب؛ إلا أنّ الوضع السوريّ حالياً في ظلّ التدهور الاقتصاديّ وانقسام سوريا ومجتمعها إلى عدّة مناطق يتبع كلّ منها مرجعيّة سياسيّةً معيّنة ربما يلعبُ دوراً سلبياً في بناء الثقة بين أطياف المجتمع[14].

خلال الحديث عن دور هذَين العاملَين ببناء الثقة المجتمعيّة رأى رئيس أحد التجمعات السياسية أنّ دور العامل الاقتصاديّ “مقدّم حتى على دور الأسرة”؛ إذ إنّ الاستقرار الاقتصاديّ وارتفاع مستويات المعيشية ينعكس إيجاباً على التعليم والصحة وبقية المحددات، مما يهيّئ الظروف الملائمة لبناء الثقة المجتمعيّة.

وبالمقابل رأى أحد الناشطين أنّ العامل الاقتصاديّ لا يلعب دوراً كبيراً في بناء الثقة، مشيراً إلى تجارب بعض الدول التي عانت من مشاكل اقتصادية في ظل حروب ودمار كاليابان؛ إلا أن ذلك لم يؤثر على الثقة المجتمعية التي ترتبط -برأيه- بوجود أجندة قانونيّة وسياسيّة تصبّ في مصلحة الشعب.

في سياق آخر متعلق بالحديث عن تـأثير العامل الجغرافي على الثقة المجتمعية أكد أحد الناشطين ضعف تأثير هذا العامل في الحالة السورية، مستشهداً على ذلك بقوة النسيج المجتمعيّ بين سكان منطقتي إدلب ودرع الفرات على الرغم من عدم انسيابية الحركة بينهما.

التوصيات:

في نهاية هذا التقرير يمكن التقدُّم بالتوصيات الآتية:

أولاً: إلى السياسيين السوريين:

  • تقديم المصلحة العامة السورية على المصالح الأخرى الجزئيّة؛ لـِمَا لذلك من دور في تعزيز الثقة بين مختلف الأطراف، وتحديدها عبر التشاور بين السياسيّين والخبراء ومراكز الفكر والدراسات.
  • تعزيز المراجعات الداخليّة والنقد البنّاء، والابتعاد عن تراشق الاتهامات تجنباً لتعميق الشرخ.
  • العمل على المشاريع التي تلامس حاجة المجتمع، ابتداءً من حاجات الناس اليومية الملحّة كتحسين الوضع الاقتصادي وزيادة مستويات الحوكمة، وانتهاءً بالمبادرات السياسيّة الاستراتيجية البعيدة، بالإضافة إلى إشراك الحاضنة الشعبية في اتخاذ القرار.

ثانياً: إلى الأسرة السورية والمؤسسات التعليمية:

  • غرس مفاهيم الثقة والعيش المشترك في الأطفال والناشئة، والابتعاد عن خطاب التخوين والتشكيك في الآخر.
  • تفعيل دور المرأة، ومنحها الثقة الكاملة لتستطيع القيام بدورها في الحد من آثار النزاع، وتهيئة البيئة الملائمة للسلام، مع ضرورة حفظ الإطار العام لتفعيل دور المرأة ضمن هُويّة المجتمع وثقافته.
  • إعداد المعلمين إعداداً جيداً بما يعزّز قدرتهم على غرس القيم الصحيحة في الأجيال، وإكسابهم أدوات اكتساب الثقة بأنفسهم وبأبناء جيلهم.
  • إقامة نوادٍ طلابيّة مشتركة بين الطلاب السوريّين المغتربين والطلاب الموجودين في المناطق المحررة، بما يساعد في تعزيز الثقة بين هاتين الشريحتين.

ثالثاً: إلى وسائل الإعلام:

  • التركيز على قصص العيش المشترك بين السوريين، والحد من التركيز على قصص تخوين الآخر واتهامه دون أدلة، عبر وضع سياسات إعلامية وميثاق شرف إعلامي يراعي ذلك.
  • مكافحة خطاب الكراهية عبر التوعية التي تستهدف مختلف الشرائح العمرية، خصوصاً الفئات الصغيرة والشابة.
  • تفعيل الدور الرقابيّ على جودة عمل مؤسّسات المجتمع المدنيّ؛ لـِمَا لذلك من دور في تحقيق الأهداف المرجوّة، ورفع مستوى الثقة بين المؤسّسات والمجتمع، وتمكين الأفراد وتفعيل أدوارهم من خلال إدخالهم سوق العمل، وتعزيز دور الفرق التطوعيّة في الخدمات المجتمعيّة.

رابعاً: إلى المؤسسة العسكرية:

  • الإسراع في عملية البناء التكاملي المؤسساتي بين الفصائل لترسيخ هيكل عسكري جامع يقوم على أسس احترافية وتراتبية حقيقية واندماج كامل، وحصر دور المؤسّسة العسكرية في الأعمال العسكريّة، مع ضمان محاسبة العناصر، والحفاظ على مبدأ الشفافيّة مع الحاضنة؛ بما يضمن بناء تصورات حقيقيّة حول قدرات هذه المؤسّسات.
  • بناء شبكة علاقات مشتركة ذات أهداف بنّاءة بين الفاعل الاجتماعي والقوى العسكرية، ومعالجة الفجوات والإشكاليات البينية، وإنشاء نظامٍ أمنيٍّ لمكافحة الاختراقات والعمليات الإرهابية يكون محل ثقة لدى الحاضنة الشعبيّة.
  • تعزيز مبدأي الشفافيّة والمحاسبة في كل المؤسّسات السوريّة على حدٍّ سواء.
  • عدم مزاحمة المؤسّسات المدنيّة على مهامها، والاقتصار على الدور العسكري في الدفاع عن المواطنين.

خامساً: إلى المؤسّسات الدينيّة:

  • مضاعفة الجهود لبناء رؤى مشتركة بين القوى السوريّة، وتوسيع دائرة الاختصاصات التي يتواصل معها المجلس الإسلامي السوري؛ بما يضمن بناء الثقة المجتمعيّة بينها من جهة، وبينها وبين المجتمع من جهة ثانية.
  • توجيه الخطاب إلى عموم المجتمع السوريّ الذي يتطلع لهذا الأداء من المؤسسات الدينية المرجعية الجامعة، وتجنب الخطاب الفئوي.

لمشاركة الصفحة: https://sydialogue.org/6ja8


[1] يُنظر: في الإجابة على سؤال ما العمل؟ تصورات لبناء الثقة الاجتماعية بين السوريين، مقال تحليلي، مركز الحوار السوري، 08/07/2021، شوهد في: 3/10/2021.
[2] المرجع السابق.
[3] يُقصد بقاعدة “تشاتام هاوس” أنه: “حينما يُعقد اجتماع أو جزء منه في إطار قاعدة تشاتام هاوس فإن المشاركين يكونون أحراراً في استخدام المعلومات التي يحصلون عليها، لكن من دون كشف هوية المتحدث أو انتمائه أو أي شخص آخر، ودفعاً للقارئ للتركيز على سياق الحوار ومضمونه بغضّ النظر عن أشخاصه”.
Chatham House Rule, Chatham House. Available at: https://bit.ly/3hFIEr0.
[4]  في الإجابة على سؤال: ما العمل؟ مرجع سابق.
[5]    Eric M. Uslaner, 2008. The foundations of trust: macro and micro, Cambridge, Journal of Economics, Vol 32, p.291.
[7] يُنظر: صوفي عبدالوهاب، دور المعلم شخصيته وصفاته في تنمية القيم السلوكية للمتعلمين، مركز ابن النفيس للدراسات والأبحاث، 25/10/2020، شوهد في: 3/10/2021.
[8]  يُنظر: رغداء زيدان، الجمعيات الإسلامية ودورها الاجتماعي والسياسي في سورية في بداية القرن العشرين حتى عام 2011، مجلة قلمون، العددان /13-14/ ملف خاص: التفاعل بين الدين والمجتمع في سورية 1920-2020، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 11/12/2020، شوهد في: 5/10/2021، ص 19.
يُنظر أيضاً: دينيس دراغوفيتش، دور الدين في إعادة بناء دولة سوريا: دراسة حالة الإسلام السني، جسور للدراسات، 20/9/2018، شوهد في: 5/10/2021.
[9]  يُنظر: عبدالفتاح قاسم، مهزلة الإعلام العربي، الجزيرة، 4/6/2015، شوهد في: 4/10/2021.
[10] يُنظر على سبيل المثال: المقداد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: معركة سورية ضد الإرهاب متواصلة.. نحذر أصحاب الأجندات الانفصالية من مواصلة أوهامهم، سانا (الوكالة العربية السورية للأنباء)، 27/9/2021، شوهد في: 5/10/2021،  وكالةسانا“: إرهابيون ارتكوبوا مجزرة التريمسة تنفيذا لتعليمات من اسطنبول، روسيا اليوم، 13/7/2012، شوهد في: 5/10/2021.
[11] يُنظر: عمرو حمزاوي، في شرح أهمية المجتمع المدني في بلادنا، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 14/03/2017، شوهد في: 4/10/2021.
[12] يُنظر: الورقة البحثيةبنية الهيئة السياسية الممثلة للثورة، “أوراق مشروع تمكين”، مركز الحوار السوري، 1/12/2015، شوهد في: 4/10/2021.
[13] يُنظر: الورقة البحثيّةالرؤية المستقبلية لفصائل الثورة، أوراق مشروع “تمكين”، مركز الحوار السوري، 1/12/2015، شوهد في: 4/10/2021، ص4.
[14] في الإجابة على سؤال: ما العمل؟ مرجع سابق.

مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى