الإصداراتالتقارير الموضوعية

خيارات التعامل مع مراسيم التأميم البعثيّة في المرحلة الانتقالية

ملخص:

يتناول النص قرارات التأميم في سوريا خلال ستينات القرن الماضي، بوصفها لحظة مفصلية أعادت تشكيل الاقتصاد والعلاقة بين الدولة والمجتمع، فقد نقلت تلك المراسيم ملكية القطاعات التجارية والصناعية والمصرفية إلى الدولة تحت شعار “الاشتراكية والعدالة الاجتماعية”، لكنها أفضت فعليًا إلى إضعاف القطاع الخاص، وتراجع الكفاءة الإنتاجية، وهجرة الرساميل والخبرات، وأضعفت الثقة بمبدأ الملكية الفردية.

يُدرج الملف التجربة السورية ضمن سياق مقارن يشمل ألمانيا، بولندا، وتشيكوسلوفاكيا. في ألمانيا الشرقية جرى بعد التوحيد اعتماد الاسترداد القانوني المشروط الذي سمح بإعادة الممتلكات الأصلية أو تعويض أصحابها عندما تعذر ذلك. أما بولندا فاعتمدت التعويض المالي الجزئي المبني على قرارات المحاكم وليس كنهج قانوني مستمر، في حين تبنّت تشيكوسلوفاكيا نهجًا مختلطًا جمع بين الإعادة المادية بشروط محددة والتعويض المالي الجزئي.

انطلاقًا من هذه النماذج، ناقش الملف مسارين لمعالجة التأميم في سوريا: الأول إعادة الملكيات كليًا أو جزئيًا إلى أصحابها الأصليين، والثاني تعويض مالي أو رمزي مصحوب باعتراف قانوني ومعنوي بالضرر.

رجّح التقرير المسار الثاني لكونه أكثر واقعية وأقل إرباكًا اقتصادياً، ويعزز العدالة الانتقالية عبر الجمع بين جبر الضرر واستعادة الثقة المؤسسية دون المساس بالاستقرار العام أو تعقيد عملية إعادة الإعمار.

تمهيد:

شكّلت قرارات التأميم التي أصدرتها السلطات السورية في مطلع عقد الستينات أحد أبرز التحوّلات البنيوية في تاريخ الاقتصاد الوطني، إذ جرى بموجبها نقل ملكية قطاعات واسعة من المؤسسات الصناعية والتجارية والمصرفية وشركات النقل والخدمات من أيدي أصحابها في القطاع الخاص إلى ملكية الدولة، وقد تبرَّر هذا التوجُّه آنذاك بشعارات كبرى حملت بعدًا أيديولوجيًا متأثرًا بالموجة الاشتراكية العالمية وبالتجارب المماثلة في العالم العربي وأفريقيا وآسيا، في ظل سياق دولي شديد الاستقطاب بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.

إلا أن تطبيق هذه السياسات في سوريا جاء مترافقًا مع ظروف سياسية داخلية مضطربة، وتنافس حاد بين القوى الحزبية والعسكرية، الأمر الذي جعل قرارات التأميم تتسم بقدر كبير من الطابع السياسي والإجرائي السريع، على حساب الدراسة الاقتصادية المتأنية أو التوافق المجتمعي حولها، وقد أسهم ذلك في إحداث تحوّلات جذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية؛ أبرزها إضعاف دور القطاع الخاص، وتراجع المبادرة الفردية، وهجرة الرساميل ورجال الأعمال إلى الخارج، فضلًا عن تعميق المركزية الإدارية وتعاظم البيروقراطية.

على الرغم من مرور عقود على تلك المرحلة، بقي ملف استرداد الحقوق وتعويض المتضررين من قرارات التأميم مُغيّبًا عن السياسات العامة لدى نظام الأسد البائد، ولم تُتخذ خطوات جادة لمعالجته سواء في إطار الإصلاح الاقتصادي أو كجزء من عملية مصالحة وطنية شاملة.

مع سقوط نظام الأسد البائد في 8/12/2024، ومع اقتراب البلاد من استحقاقات إعادة الإعمار، وظهور مؤشرات على ضرورة إعادة هيكلة الاقتصاد السوري، تبرز الحاجة الملحّة لفتح هذا الملف من جديد، ليس باعتباره قضية اقتصادية فحسب، بل بوصفه مدخلًا لإعادة بناء الثقة بين السلطة والمجتمع، وتحقيق العدالة الانتقالية، وجذب الاستثمارات الوطنية والعالمية.

وفي هذا الإطار يُثار السؤال التالي: هل ثمة ضرورة لإعادة النظر في ملف التأميم الذي حصل في سوريا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي؟ وما السيناريوهات الممكنة لتسوية ملف التأميم في سوريا؟ وما السيناريو الأنسب للتعامل معه في المرحلة الانتقالية؟

ينقسم التقرير إلى خمسة أقسام: يستعرض الأول التجارب المقارنة في التعامل مع ملف التأميم، ليُسلّط الثاني والثالث الضوء على مسار التأميم في سوريا وآثاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويحلل الرابع قرارات التأميم السورية من الناحية القانونية، فيما يختم بالخامس بمسارات التعامل المحتملة وتقييمها.

أولاً: التجارب المقارنة في إعادة تقييم وتأهيل ممتلكات المؤمَّمين خلال مراحل الانتقال السياسي:

كانت ألمانيا الشرقية تتبع نظاماً اشتراكياً شيوعياً تمثّل بتأميم معظم الشركات والمصانع، مع تأميم كامل للقطاع الصناعي بدءاً من العام 1945 وحتى أوائل الستينات ضمن خطة عُرِفت بـ التحول إلى الاقتصاد الاشتراكي بطريقة منعت المالكيين الأصليين من أي حق قانوني لهم في شركاتهم أو ممتلكاتهم.

مع توحيد الألمانيتين وفي عام 1990، تم إنشاء مؤسسة الائتمان والخصخصة، من أجل خصخصة الشركات المملوكة للدولة في ألمانيا الشرقية، خصوصاً الشركات التي تم تأميمها من قبل نظام ألمانيا الشرقية.

وقد اتبعت ألمانيا في سبيل معالجة هذا الملف أحد طريقين:

  1. إعادة بعض الممتلكات لأصحابها السابقين سيما في حال امتلاكهم لوثائق أو إثباتات.
  2. أما في حال فقدان الوثائق وصعوبة الإعادة فإنها لجأت إلى منح الملاك تعويضات مالية.

مع التنويه إلى أن قانون الملكية الذي صدر في عام 1990، اقتصر على معالجة المصادرات التي تمت لأسباب سياسية أو تمييزية، أما الملكيات الخاصة التي خضعت لتأميم واسع لأغراض المصلحة العامة والبنية التحتية، وكانت التعويضات المقررة بخصوصها ضئيلة، فإنها لم تخضع للمراجعة أو الإلغاء؛ فالقانون لم يسعَ إلى تصحيح نتائج سياسة اقتصادية وعقارية اشتراكية فاشلة عمرها أربعون عامًا، بل يُعدّ في جوهره قانونًا لإعادة التأهيل، يقتصر نطاقه على حالات الحرمان أو التمييز السياسي[1].

أما في بولندا، وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على سقوط الشيوعية، ما تزال الدولة الوحيدة في أوروبا الوسطى والشرقية التي لم تُنفّذ برنامجًا وطنيًا شاملًا لإعادة الخصخصة أو التعويض. فقد طرحت منذ عام 1989 وحتى 2017 اثني عشر مشروع قانون لمحاولة تسوية ملف الاسترداد والتأميم، إلا أن أياً منها لم يدخل حيز التنفيذ، وتراوحت المقترحات -التي لم تقر حتى الآن- بين تعويضات بنسبة 15% إلى 50% من قيمة الممتلكات الأصلية، لكنها جميعًا استبعدت إعادة الملكية العينيّة واكتفت بالتعويض، ولكن حتى هذه المقاربة لم يتم إقرارها بحجة الكلفة الاقتصادية الهائلة لتنفيذ مثل هذه البرامج وخطر زعزعة الاستقرار الداخلي وتعقُّد القضايا المرتبطة بالإثبات، ليبقى باب المطالبة باستعادة الملكية مفتوحاً أمام القضاء الذي اكتفى بإعادة الملكية في حالات مُحدَّدة عندما يثبت وجود خلل قانوني في قرارات التأميم القديمة[2].

في التجربة التشيكوسلوفاكية، بعد نجاح الثورة المخملية في عام 1989م، صدر أول قانون للاسترداد سُمّي “قانون الاسترداد الأولي” عام 1991، أعطى الحق لمن صودرت أو أُمِّمت أملاكه من الأشخاص الطبيعيين أو الكيانات القانونية الخاصة الحق في المطالبة باسترداد أمواله في حال كانت هذه الأملاك بيد الدولة ولم تكن بيعت لطرفٍ ثان، وكان المُطالِب يحمل الجنسية التشيكوسلوفاكية، وفي حال فقدان أحد هذه الشروط كان يتم التعويض بمبلغ نقدي حده الأعلى 30.000 كرونة تشيكية[3].

تفيد عموم هذه التجارب أن غالبيتها -إن لم نقل جميعها- جعلت من التعويض هو السبيل الأهم والأبرز في مجال معالجة التأميم، واقتصرت حالات إعادة الملكية على حالات استثنائية وضيّقة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، حتى التعويض لم يكن كاملاً ومتاحاً، وإنما اقترن -في حالة الموافقة عليه- بشروط من أبرزها أن يكون التأميم قد تم استناداً إلى دوافع سياسية وتمييزية، أما في حال كان التأميم قد تم للمصلحة العامة ووفق إجراءات سليمة قانونياً ووفق تعويضات عادلة، فلم يكن للمالك أي حق سواء بالمطالبة بالتعويض أو بردّ الملكية.

ثانياً: التأميم في سوريا؛ موجتان زلزلتا القطاع الخاص السوري:

بدأت بوادر التأميمات في أواخر الوحدة مع مصر، ولكنها تسارعت بعد انقلاب 8 آذار/مارس 1963 وشملت كلاً من البنوك وشركات التأمين التي أُدمجت في بنوك عامة كالبنك التجاري السوري بالإضافة إلى شركات النقل البحري والجوي مع بعض الصناعات الأخرى كالإسمنت، والغزل والنسيج والسكر.

حيث جرت عمليات التأميم في سوريا على مرحلتين رئيسيتين، اتسمتا بعمق تأثيرهما على البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة.

المرحلة الأولى: كانت في عهد الوحدة السورية–المصرية، حيث أصدر الرئيس جمال عبد الناصر عام 1961 حزمة من المراسيم الاشتراكية عُرفت بقرارات التأميم، وشملت هذه القرارات تأميم المصارف وشركات التأمين، إضافة إلى ثلاثة مصانع بشكل كامل، وتأميم 24 مصنعًا بشكل جزئي، كما نصّت على انتقال ملكية 12 شركة سورية إلى شراكة متساوية بين الدولة والقطاع الخاص بنسبة 50%، فضلًا عن تأميم 12 شركة صناعية أخرى بموجب المراسيم الرئاسية رقم (117 و118 و119). وقد هدفت هذه الإجراءات -فيما أُعلن- إلى تعزيز دور الدولة في الاقتصاد وتقليص نفوذ رأس المال الخاص، إلا أنها أدت في الوقت نفسه إلى تغييرات جذرية في أنماط الإنتاج وعلاقات الملكية.

المرحلة الثانية: جاءت في ظل حكم حزب البعث (1963-1965)، حيث اتخذت الدولة مسارًا أكثر شمولًا في السيطرة على القطاعات الاقتصادية، ففي تلك السنوات صدرت مجموعة من المراسيم التشريعية بتأميم عدد من الشركات وضمّها الى أملاك الدولة[4].

وبذلك، مثّل مسار التأميم في سوريا بين 1961 و1965 نهجًا اقتصاديًا اشتراكيًا متصاعدًا، نقل الدولة من مرحلة التأميم الجزئي والمحدود إلى السيطرة الواسعة على معظم القطاعات الحيوية، وهو ما انعكس على بنية الاقتصاد الوطني لعقود لاحقة، سواء من حيث هيكل الإنتاج أو من حيث ملكية رأس المال.

ثالثاً: آثار سلبية؛ تبعات التأميم السياسية والاقتصادية والاجتماعية:

شكّلت قرارات التأميم التي اتخذتها السلطة في سوريا خلال عقدَي الخمسينات والستينات نقطة تحوّل جوهرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، إذ لم تقتصر آثارها على نقل ملكية الشركات والمؤسسات الخاصة إلى الدولة فحسب، بل امتدت لتشمل إعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية التقليدية، وإعادة توزيع السلطة الاقتصادية والسياسية، وتعميق دور الدولة في كافة القطاعات الحيوية.

وقد انعكست هذه السياسات على أداء الاقتصاد الوطني من حيث الإنتاجية والاستثمار، فقد أدت إدارة مؤسسات الدولة المباشرة للشركات إلى ضعف الكفاءة الإنتاجية نتيجة غياب الحوافز وضعف الخبرة الإدارية، إضافة إلى زيادة البيروقراطية وتباطؤ اتخاذ القرارات، وأسهمت في هجرة الرساميل والكفاءات، بسبب خروج عدد كبير من المستثمرين السوريين وأصحاب الشركات إلى دول عربية مجاورة (لبنان، الأردن، الخليج)، وأدت إلى جانب ذلك إلى تقلُّص القطاع الخاص ليصبح هامشيًا في النشاط الاقتصادي مع سيطرة مؤسسات الدولة شبه المطلقة على التجارة الخارجية والقطاعات الحيوية (المصارف، الصناعات الكبرى[5]).

على سبيل المثال، وصل عدد الشركات الصناعية والتجارية وشركات الخدمات المالية والبنوك وشركات التأمين المصادرة والمؤمَّمة إلى ما يزيد عن 250، بقيمة إجمالية تُقدَّر في ذلك الوقت بما يزيد عن 268 مليون ليرة، إلى جانب تأميم شركاتٍ بملايين الليرات في ذلك الوقت، كما كان هنالك أموال تم تهريبها خوفاً من التأميم قُدِّر عددها في عام 1964 بحوالي 800 مليون ليرة، مع الإشارة إلى أن موازنة سوريا لذلك العام قُدِّرت بنحو 728 مليون ليرة[6].

على المستوى الاجتماعي، أعادت سياسة التأميم تشكيل البنية الطبقية من خلال صعود طبقات جديدة من البيروقراطيين والمسؤولين الحزبيين والعسكريين الذين تولّوا إدارة المؤسسات المؤممة، إضافة إلى تراجع مكانة الطبقة التجارية والصناعية التقليدية[7].

على الصعيد السياسي؛ أدت هذه السياسات إلى تراجع الثقة في مؤسسات الدولة وسياساتها، حيث شعرت فئات واسعة من المجتمع، خاصة رجال الأعمال، بالاغتراب عن النظام السياسي مع تراجع الثقة في استقرار السياسات الاقتصادية، كذلك تراجع تأثير النقابات خصوصاً العمالية بحكم أن طبقة العمال انتقلت لتصبح جزءاً من موظفي الدولة[8].

رابعاً: شرعية مفقودة؛ تقييم قرارات التأميم السورية من الناحية القانونية:

قبل تقييم مراسيم التأميم السورية التي صدرت إبان حكم البعث، لابد من الإشارة إلى ثلاث نقاط في غاية الأهمية، وهي:

  • تعد قرارات التأميم قرارات إدارية من حيث الموضوع، ولكنها عادة ما تصدر بصيغة تشريعية نظراً لأهميتها في نقل ملكية المشاريع الاقتصادية من خاصة إلى عامة، وفي حال صدورها بصيغة قرار إداري فإنها تدخل ضمن أعمال السيادة التي لا تخضع لرقابة القضاء[9]، وفي حال صدورها بموجب تشريع فإنها تخضع لرقابة القضاء الدستوري للتأكد من مدى توافق هذه التشريعات مع النصوص الدستورية، وهذا ما درج عليه اجتهاد المحكمة الدستورية العليا في مصر[10].
  • ثمة خلاف فني حول طبيعة التعويض الذي يترتب للمالك الذي تم تأميم أمواله؛ فالبعض يرى ضرورة أن يكون التعويض عادلاً ويتناسب وقيمة المؤسسات أو الشركات التي تم تأميمها، وبين من يرى الاكتفاء بأن يكون التعويض ملائماً يتناسب وحال الدولة وظروفها[11].
  • أكدت المحكمة الدستورية العليا المصرية في أحد اجتهاداتها بأن التعويض عن التأميم يجب أن يكون عادلاً[12].

لو انتقلنا إلى السياق السوري فإن مراسيم التأميم صدرت بعد انقلاب حزب البعث بموجب مراسيم تشريعية صدرت عن رئيس مجلس قيادة الثورة، وهذه التشريعات – على خلاف شبيهها المصري القانون رقم 134 لعام 1964- لم تضع حداً أعلى للتعويض، بل تركته -نظرياً- مفتوحاً بدون سقف أعلى. إلا أنه من الناحية العملية لم يحصل أصحاب المعامل والمصارف والشركات المؤممة على التعويض المنصوص عنه في القانون، والذي تضمّن أن تدفع الدولة قيمة المؤمَّمات إلى أصحابها والفوائد المتراكمة 4% على مدار 15 سنة.

وفق ما تقدَّم، ومن الناحية النظرية الإجرائية، تُعدّ مراسيم التأميم السورية متوافقة مع المبادئ الدستورية خصوصاً ما يتعلق فيها بضمان حق الملكية الخاصة وعدم الاعتداء عليه، فهي وإن قامت بتأميم هذه الأموال ونقلها إلى ملكية الدولة، فإنها فرضت بموجب النصوص نفسها أن يكون هنالك تعويض عنها. على سبيل المثال، جاء في المادة 3 من المرسوم رقم 54 لعام 1964 ما يلي: “يحدد سعر كل سند بقيمة السهم أو الحصة المحددة من قبل لجنة مكونة من ثلاثة أعضاء يصدر بتشكيلها وتحديد اختصاصاتها قرار من وزير الصناعة وعلى أن يرأس كل لجنة قاض يعينه وزير العدل…” . وهذا ما يجعل أساس التأميم في الحالة السورية نظرياً متوافقاً مع القواعد الدستورية[13] والدولية المتعارف عليها، والتي تعطي الدولة الحق في التأميم استناداً إلى اعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية.

أما من الناحية العملية، فقد شابت العملية الكثير من العيوب سواء على مستوى الغاية أو المحل أو مقدار التعويض؛ فمن حيث الغاية فإن الكثير من المشاريع التي تم تأميمها لم تكن بهدف تحقيق المصلحة العامة وإنما بهدف الانتقام[14]. أما من حيث المحل فإن بعض المشاريع والمؤسسات التي تم تأميمها كانت أقرب إلى المشاريع الصغيرة العائلية والشخصية منها إلى المشاريع الاقتصادية الاستراتيجية التي تؤثر على الدولة[15]. أما من حيث مقدار التعويض، فإنه لم يكن عادلاً ومساوياً لقيمة المشاريع، وإنما كانت قيمته أقل من القيمة الاسمية للفعل، وحتى في حال كانت قيمته مساوية للقيمة الفعلية، فإن المالكين لم يستطيعوا تحصيل حقوقهم على اعتبار أن الحكومة لم تقم بسداد قيمة الأسهم التي أعطيت لهم مقابل مؤسساتهم وشركاتهم المؤممة[16].

تطعن العيوب الأخيرة التي شابت مراسيم التأميم في شرعيتها، كما أن عدم منح الملاك الحق في المطالبة بثمن أسهمهم، يعطيهم الحق في إثارة مطالبهم أمام القضاء الذي كان موقفه سلبياً إبان حكم البعث وآل الأسد البائد[17].

خامساً: مسارات التعامل المحتملة مع ملف الشركات والمؤسسات المؤممة في المرحلة الانتقالية:

على الرغم من مُضيّ عقود على صدور مراسيم التأميم، إلا أن البعض يرى أهمية مراجعة المراسيم في المرحلة الانتقالية من باب كشف حقيقة هذه المراسيم باعتبارها انتهاكات وقعت على حق الملكية، ومثل هذه الخطوة في حال حصولها تُمهّد لجبر الضرر الأخلاقي والقانوني، وخطوة أولى باتجاه إعادة الثقة الاقتصادية وتحفيز الاستثمار المحلي، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي[18].

بالمقابل، قد يرى البعض أنه من الصعب مراجعة مراسيم التأميم في المرحلة الانتقالية لعدة أسباب: أهمها ضيق نطاق الأشخاص الذين وقعت عليهم الانتهاكات؛ فمراسيم التأميم استهدفت أساساً مجموعة من الصناعيين السوريين قد لا تتجاوز 200 شخصية، كما أنه مضى على صدور هذه المراسيم ما بين خمسة إلى ستة عقود، وبالتالي يصعب إثبات الملكيات فيها خصوصاً مع إشكاليات إثبات الميراث وإحصاء الورثة.

على الرغم من تعدُّد وجهات النظر السابقة ووجاهتها، نرى أنه ربما من الأنسب مراجعة هذه المراسيم وفق أحد الخيارين التاليين:

الخيار الأول: وهو القيام بعملية إعادة كلية أو جزئية للأموال التي تم تأميمها كنوع من التعويض العيني المباشر أو وفق شروط محددة كأن تكون المؤسسة أو المنشأة ما تزال قائمة، وهي في ملكية الدولة، ويمتلك المالك كامل الثبوتيات التي تثبت ملكيته.

تتمثل إيجابيات هذا الخيار في أنه يدخل في أعلى درجات جبر الضرر، ويُمثّل قطيعة نهائية مع إجراءات غير عادلة ارتكبها نظام البعث البائد، ويرسل رسائل إيجابية في اتجاه إعادة الثقة بإجراءات الحكومة الاقتصادية، لكن بالمقابل تعتريه الكثير من السلبيات لعل من أبرزها: صعوبة التنفيذ بسبب طول المدة وفقدان الثبوتيات واهتلاك المؤسسات بعد مرور ما يقارب من سبعة عقود عليها، ومخاطر عدم الاستقرار خصوصاً أن بعض المنشآت ربما لديها مئات الموظفين والعاملين الذين قد يفقدون وظائفهم.

الخيار الثاني: التعويض: سواء اتخذ صفة التعويض الكامل أو التعويض الجزئي، وسواء كان تعويضاً نقدياً -وهذا قلما يحدث- أو تعويضاً غير مباشر من خلال أسهم أو إعطاء حالة تفضيلية للمالكين في المشاريع الاستثمارية التي تطرحها الدولة، أو تعويضاً معنوياً من خلال الاعتراف القانوني بالحقوق من دون تنفيذها فعلياً.

يمثل هذا الخيار حلاً مقبولاً في حال تعذَّر تطبيق الإعادة العينية، ولكن تميل غالبية الدول وفي مختلف التجارب إلى تطبيقه بشكل جزئي على اعتبار أن التعويض الكامل يتطلب أموالاً كبيرة[19]، وحتى في حالة التعويض الجزئي كان الأمر يتطلب موازنات ضخمة، الأمر الذي يدفع الدولة إلى عدم إقراره كما حصل في التجربة البولندية.

من هنا، فإنه للاعتبارات المذكورة بخصوص طول المدة التي انقضت على مراسيم التأميم، وضعف موارد الدولة السورية في الفترة الانتقالية، يصبح خيار التعويض الجزئي مع وضع حدّ أعلى، المصحوب بالاعتراف القانوني بحقوق الملاك من دون تنفيذها “تعويض معنوي” أنسب الخيارات وأكثرها واقعية، فهذا الخيار لا يُرتّب تبعات مالية كبيرة على موازنة الدولة في هذه المرحلة، ولكنه في الوقت نفسه يعترف بالأخطاء التي ارتكبتها مؤسسات الدولة السابقة في الاعتداء على حقوق الملكية، وبما يساعد على إصلاح المؤسسات والبنية القانونية، وبما يضمن عدم تكرارها في المستقبل، وبما يعيد اللحمة الاقتصادية والاجتماعية، ويجذب الاستثمارات، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التنمية المستدامة، بما يعيد للمواطنين ثقتهم بأنّ الدولة الجديدة هي دولة حقوق وعدالة، وليست مجرد سلطة بديلة عن سابقتها.

خاتمة:

إنّ معالجة ملف التأميم في سوريا ليست مجرّد إجراء إداري أو خطوة اقتصادية بحتة، بل هي استحقاق وطني وقانوني وأخلاقي، يحمل في جوهره أبعاداً رمزية عميقة تتصل بإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن بعد عقود من القطيعة وفقدان الأمان القانوني، فقد مثّلت سياسات التأميم التي اعتمدتها دولة البعث، خصوصاً في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، نقطة تحوّل جذرية في البنية الاقتصادية السوريا، إذ نُزعت الملكيات الخاصة من أصحابها تحت شعارات الاشتراكية والتخطيط المركزي، ما أدى إلى تراجع الثقة بالبيئة الاستثمارية، وهروب الرساميل، وخلل في العلاقة بين المجتمع والدولة.

وبناءً على ذلك، فإنّ الدولة السورية الجديدة، إذا أرادت أن تبني شرعيتها على أسس العدالة والمصالحة الوطنية، لا بد أن تتعامل مع ملف التأميم باعتباره جزءاً من عملية استرداد الثقة وإرساء دولة القانون. ولن يكون الحل سهلاً أو سريعاً، لكنه ضرورة لا غنى عنها لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، واستعادة دور الملكية الخاصة كضمانة أساسية في أي نظام قائم على سيادة القانون، فالملكية ليست فقط عنصراً اقتصادياً، بل هي مبدأ حقوقي وأداة لحماية الحريات الفردية، وجسراً يربط بين المواطن ومؤسساته.

ختاماً يمكن القول إن تحقيق العدالة دون الإضرار بالمصلحة الوطنية عبر التعويض الجزئي المصحوب بالتعويض المعنوي تبقى الخيار الأفضل، مع مراعاة شفافية الإجراءات وعدالتها وضبطها ضمن قانون العدالة الانتقالية المزمع إصداره.


[2] Michael Bazyler. Szymon Gostynski. Restitution of Private Property in Postwar Poland: The Unfinished
Legacy of the Second World War and Communism. Loyola of Los Angeles International and Comparative Law Review. Vol 41, No 3, pp. 273-329. Omri Levin. On Political Grounds: A Forward‑Looking Argument for Property Restitution in Poland. Contemporary Jewry. Vol 44, pp.683-704.
[3] Volker G Heinz. The Czech and Slovak Law of Restitution. speech in Melbourne on occasion of the IBA conference, 1994. Date access: 12/10/2025. Richard W Crowde. Restitution in the Czech Republic: Problems and Prague-nosis. Ind. Int’l & comp. L. Rev. Vol. 5, 1994, pp. 237-265.
[4] ففي عام 1964 صدرت المراسيم التشريعي ذوات الأرقام 54 و56 و57 التي نصت على تأميم شركات الحاج أحمد ططري وأولاده، وشركة جميل عداس وشركاه، وشركة معامل الشهباء للمغازل والمناسج. والشركة العربية المتحدة (الدبس) وشركة المغازل والمناسج المساهمة المغفلة، والشركة العربية لصناعة الأخشاب المساهمة المغفلة في اللاذقية وضمها إلى أملاك الدولة. وفي عام 1965، نص المرسومان التشريعيان 1 و25 على تأميم الشركة السورية للغزل والنسيج المساهمة في حلب، والشركة الأهلية للغزل والنسيج المساهمة في حلب، والشركة الحديثة للتبريد المساهمة المغفلة في دمشق، وشركة بعلبكي وصمادي وشركاهم في دمشق، إضافة إلى قرارات مماثلة أبرزها المرسوم الجمهوري رقم 8 بتاريخ 11/1/1965.
[5] تشير بعض الإحصائيات إلى أن ما تم تخريبه وتدميره بموجب مراسيم التأميم يساوي حوالي 18 % من ميزانية الدولة السورية عام 1959.
ينظر: نبيل ملحم، نظام الاستبداد المعمم في سوريا: مقدماته ومراحله 4، لوموند النسخة العربية، 23/7/2023، شوهد في: 10/10/2025.
[6] بلقيس أبو راشد، التأميم .. رصاصة “ثورة آذار” في صدر الاقتصاد السوري، اقتصاد، 9/3/2013، شوهد في: 10/10/2025.
وفي أرقام مشابهة، يشير أكرم الحوراني إلى أن مراسيم التأميم الكلية والجزئية شملت 179 مؤسسة يزيد رأس مالها على 300 مليون ليرة، وشملت مصانع للإسمنت والزجاج والكبريت والسكر والنسيج والمعلبات والسجاد والجلود والمحطات الكهربائية ومحالج القطن.
ينظر: أكرم الحوراني، التأميم، الموسوعة العربية، بدون تاريخ، شوهد في: 14/10/2025.
[7] Steven Plaut. The Collapsing Syrian Economy. Middle East Quarterly, Vol 6, No 4, 1999.
[8] ملحم، مرجع سابق.
[9] ناجي الفلاحي وفرحان المساعيد، النظام القانوني للتأميم “دراسة مقارنة”، مجلة الاجتهاد للدراسات القانونية والاقتصادية، المركز الجامعي لتامنغست، الجزائر، العدد 11، 2017، ص177، الحوراني، مرجع سابق.
[10] يراجع: حكم المحكمة الدستورية العليا في مصر في القضية رقم 1 لسنة قضائية 1 الصادر بتاريخ 2/3/1985.
[11] الفلاحي والمساعيد، مرجع سابق، ص185.
[12] حيث جاء فيه: “وحيث إن مفاد ما تقدم أن السبيل الذي ارتآه المشرع محققا للعدالة المطلقة فى نظام التأميم ما درجت عليه القوانين سالفة البيان – بوجه مضطرد وبغير استثناء – من أن يكون التعويض المستحق لأصحاب أسهم ورؤوس اموال المشروعات المؤممة معادلا لقيمة ما يملكونه فى هذه المشروعات جميعها وأيا ما بلغ مقدار هذا التعويض. حكم المحكمة الدستورية العليا في مصر في القضية رقم 1 لسنة قضائية 1 الصادر بتاريخ 2/3/1985.
[13] على الرغم من أن الدستور المؤقت الصادر في 1964 لم يأت على قضية التأميم باعتباره دستوراً مؤقتاً ومختصراً، فإن دستور سوريا لعام 1950 نص على التأميم في المادة 24 التي جاء فيها: “للدولة أن تؤمم بقانون كل مؤسسة أو مشروع يتعلق بالمصلحة العامة مقابل تعويض عادل”.
[15] المرجع السابق.
[16] عصام الرافعي، أسهم الشركات السورية المؤممة، السفير اللبنانية، العدد 10691، 5/5/2007، شوهد في: 15/10/2025.
[17] عمار أبو عابد، الصناعيون السوريون يطالبون باستعادة مصانعهم المؤمّمة، الاتحاد، 27/8/2007، شوهد في: 15/10/2025.
[18] يراجع: العدالة الانتقالية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأمم المتحدة “حقوق الإنسان”، نيويورك وجنيف، 2014.
[19] على سبيل المثال: قد تبلغ قيمة التعويضات التي قد تحتاجها الدولة السورية لتعويض أصحاب المشاريع المؤممة بشكل كامل إلى ما يقارب مليار دولار، في حال اعتبرنا أن قيمة الأموال التي تم تأميمها 268 مليون ليرة سورية، وكان التعويض سيشملها جميعاً وبشكل كامل.

مدير مركز الحوار السوري، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وحائز على اعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل سابقاً مدرساً في كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة. يركز في أبحاثه الحالية على دراسة ديناميكيات العلاقة بين المجتمع السوري والنصوص القانونية والدستورية منها على وجه التحديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى