الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة تحليل السياسات

خيارات دمشق تجاه “قسد” بين الاندماج والحسم: المحركات والسيناريوهات المحتملة

الملخص التنفيذي:

يعالج هذا التقرير الخيارات المتاحة أمام الحكومة السورية في التعامل مع ملف “قسد” في شمال شرقي سوريا، ضمن طيفٍ يتراوح بين الاندماج التدريجي والحسم العسكري، مروراً بخيارات وسطية مثل التقدّم المرحلي أو الجمود المؤقت، وينطلق التقرير من فرضية مركزية مفادها أن الوجود الأميركي هو العامل الأكثر تأثيراً في رسم موازين القوى شرق الفرات، إذ يُشكّل الغطاء العسكري والسياسي الأميركي ركيزة استمرار “قسد” كقوة أمر واقع، وفي الوقت ذاته يمثل عائقاً أمام قدرة دمشق وأنقرة على فرض حل على حاسم في ملف “قسد”.

يبيّن التقرير أن ما يجري منذ مطلع 2025 يعكس إعادة تشكيل للوجود الأميركي شمال شرق سوريا عبر تقليص القواعد وعديد القوات وتحويل الانتشار إلى “بصمة أخف”، مع الحفاظ على الحد الأدنى اللازم لإدارة ملفات حساسة مثل مكافحة خلايا “داعش”، والسجون التي تضم أفراد “داعش”، ومخيم الهول. وفي المقابل، يظل مزاج إدارة ترامب ميالاً لتقليل الكلفة والانخراط المباشر، ما يفتح الباب نظرياً لانسحاب أوسع لاحقاً، لكنه يصطدم بحذر مؤسسات أميركية (البنتاغون والكونغرس) وباعتبارات أمنية مرتبطة باستمرار نشاط “داعش” وملف المعتقلين والفراغات الجغرافية في البادية. ويضيف التقرير أن الهجوم على الدورية المشتركة قرب تدمر شكّل عاملاً جديداً يمكن أن يدفع واشنطن باتجاهين متعاكسين: تيار يُشكّك بأهلية الشريك السوري الجديد بسبب مخاطر الاختراق الأمني، وآخر يرى أن الانخراط الميداني الأميركي أصبح أكثر كلفة ويجب تقليصه وتسليم الملف لشركاء محليين/إقليميين تحت إشراف استخباراتي أخف.

في محور النفط، يوضح التقرير أن جوهر الصراع شرق الفرات ليس أمنياً فقط، بل أيضاً سيادي واقتصادي بامتياز، إذ تمنح السيطرة على الحقول النفطية الرئيسية “قسد” مورداً مالياً يُعزّز استقلالها السياسي والإداري، بينما ترى دمشق أن استعادة موارد الطاقة شرطٌ لإعادة بناء الدولة، وتحسين الكهرباء، وتقليص اقتصاد الحرب والتهريب. ويستحضر التقرير درس كركوك في العراق عام 2017 بوصفه نموذجاً تحذيرياً: التعويل على المظلة الأميركية أو الإصرار على إدارة الموارد خارج الدولة سوف ينتهي بخسارة مفاجئة، بينما تظل التسوية المؤسسية أقل كلفة وأكثر استقراراً.

بناء على ذلك، يعرض التقرير أربعة سيناريوهات محتملة:

  1. الاندماج التدريجي وفق اتفاق 10 آذار: وهو المسار الأقل كلفة نظرياً، لكنه يصطدم بمراوغة “قسد”، وضغوط تيارات متشددة داخلها، واستمرار سعيها لشراء الوقت وصياغة نموذج “دولة/ميليشيا داخل الدولة”.
  2. الحسم العسكري الواسع بالشراكة مع تركيا: يزداد احتمال هذا السيناريو إذا تعثّر الاندماج تماماً، لكنه يظل مرهوناً بالموقف الأميركي وبقدرة أنقرة ودمشق على تجنب الاستنزاف أو الانزلاق إلى تصعيد غير محسوب.
  3. الضم على مراحل/التقدم التدريجي: وهو السيناريو الأكثر واقعية على المدى القريب، عبر تركيز دمشق على المناطق الاستراتيجية (النفط، العقد الطرقية، المراكز العربية)، وتفعيل أوراق محلية كالعشائر ضمن إطار سياسي وتنموي يضمن عدم تفجير صراعات أهلية.
  4. الجمود (اللّا حسم): سيناريو وارد بقوة، حيث يُمدَّد اتفاق 10 آذار كإطار مؤقت لإدارة الخلاف، في ظل رغبة واشنطن في الاحتفاظ بالشريكين معاً (دمشق و”قسد”) كورقتي ضغط متوازنتين، بما يسمح لـ “قسد” بتعزيز مكاسبها وتأخير الحسم، خصوصاً مع نشاط تيارات راديكالية تعمل على إبقاء التوتر، وهو ما يفتح الباب غالباً للسيناريو الثالث بالتوازي مع مفاوضات بين الأطراف، للتوصل إلى اتفاقيات تعكس الموازين الجديدة للقوة على الأرض.

ويخلص التقرير إلى أن السيناريو الأرجح لن يكون غالباً على شكل حلٍ سريعٍ واحد، بل أقرب إلى مسار تراكمي تتداخل فيه أدوات الاندماج والضغط السياسي والأمني، وقد يتطور إلى تقدّم مرحلي في مناطق محددة (خصوصاً مناطق النفط) وفق توازنات الأرض والإقليم واتجاه القرار داخل واشنطن لجهة استمرار التعامل المزدوج مع كل من “قسد” والحكومة السورية، أو الضغط الحقيقي على “قسد” للاندماج. ويختم التقرير بالتذكير بأن أفضل السيناريوهات بالنسبة لعموم السوريين يمر من طريق تجنُّب المواجهات العسكرية الشاملة، والسعي لإنتاج تسوية مؤسسية تُعيد السيادة للدولة تدريجياً مع ضمانات واقعية لدمج القوى المحلية وتوزيع عادل للموارد والخدمات.

مقدمة:

تزايدت خلال الفترة الأخيرة التغطيات والتحليلات الإعلامية التي تؤكّد صعوبة خروج “قسد” من المشهد السوري دون مسارٍ ذي طابع عسكري، أو على الأقل دون توافر تهديد جدّي باستخدام القوة، بما يُعيد خلط التوازنات في الشمال الشرقي، خاصة مع اقتراب المهلة المحددة للاتفاق من نهايتها[1]، وفي المقابل، تتواتر تقارير عن ترتيبات متنامية بين أنقرة ودمشق، تشير – بدرجات متفاوتة من المصداقية – إلى احتمالات تعاون عسكري أمني محدود قد يشمل تزويد تركيا للحكومة السورية بمعدّات أو خبرات عملياتية، مقابل منح أنقرة هامشاً أوسع في التعامل مع ملف “قسد” وضبطه ضمن إطار أمني أشمل[2].

يتقاطع ذلك مع معطيات جديدة حول إعادة تشكيل الوجود الأميركي في سوريا، حيث تتحدث مصادر متعدّدة عن انتقال واشنطن من نموذج “الانتشار الواسع” إلى نموذج البصمة العسكرية الأخف المعتمدة على قاعدة عسكرية مركزية واحدة[3]، مع الإبقاء على الشراكة العملياتية مع “قسد” في ملفات مكافحة خلايا “داعش” وإدارة سجناء التنظيم ومخيم الهول.

في هذا السياق شديد التعقيد، يسعى هذا التقرير إلى تسليط الضوء على المسار الأرجح للسياسة الأميركية في شمال شرقي سوريا، بوصفه عاملاً حاسماً في تحديد مستقبل “قسد” وموقعها ضمن معادلة التوازنات المحلية والإقليمية، كما يعمل التقرير على استخلاص الدروس الممكنة من تجارب سابقة، سواء من تجربة الانسحاب الأميركي الجزئي خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، أو من نموذج كركوك في العراق، حين استعادت القوات الحكومية السيطرة على المدينة وحقولها النفطية بعد انسحاب قوات “الـبيشمركة”، وما يحمله ذلك من دلالات قابلة للمقارنة في السياق السوري.

وبالتوازي، يتناول التقرير الخيارات الواقعية المتاحة أمام الحكومة السورية في التعامل مع ملف “قسد”، ضمن طيفٍ يتراوح بين الاندماج التدريجي والتسوية الأمنية، وصولاً إلى سيناريوهات الحسم العسكري الجزئي أو الكامل، مع تحليل العوامل المحرِّكة والمثبِّطة لكل مسار في ضوء التحولات الإقليمية والدولية الجارية.

الانسحاب الأميركي؛ العامل الأكثر تأثيراً في معادلة الشمال الشرقي:

يُعدّ الوجود الأميركي العامل الأكثر تأثيراً في تحديد موازين القوى في شمال شرقي سوريا، فمن دون الغطاء العسكري والسياسي الأميركي يصعب على “قسد” مواجهة الضغوط التركية المتزايدة، كما لا يمكنها موازنة اندفاع الحكومة السورية الحالية لاستعادة السيطرة على المنطقة، وقد برزت أهمية هذا الغطاء بوضوح في خريف 2019 عندما اتخذت إدارة ترامب قراراً مفاجئاً بسحب القوات الأميركية من عدة مناطق على الحدود السورية–التركية. قرار الانسحاب كان مُنسَّقاً غالباً مع تركيا، وخلق فراغاً فورياً استغلّته أنقرة لتنفيذ عملية “نبع السلام”، فتوغلت قواتها، ومعها الفصائل السورية المعارضة، بين تل أبيض ورأس العين، بينما سارعت “قسد” إلى عقد تفاهمات اضطرارية مع روسيا، سمحت بانتشار قوات روسية في منبج وكوباني وأطراف الحسكة في محاولة لفرملة التقدم التركي، مع قوات من النظام البائد، إلى جانب قيام “قسد” برفع علم النظام البائد[4].

لقد رسّخت تلك التجربة قاعدة واضحة لدى مختلف الأطراف: “قسد” تحتاج إلى الوجود الأميركي للحفاظ على خطوط التماس القائمة، وأي فراغ مفاجئ سيُستغل من أنقرة ودمشق وموسكو معاً[5]. واليوم ورغم تغيّر البيئة السياسية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد البائد، يبقى جوهر المعادلة على حاله: تعتمد “قسد” على الوجود الأميركي، وإن أصبح هذا الوجود أخف من حيث الحجم العسكري، وأثقل من حيث الدور السياسي والرمزي، نظراً لتحسن العلاقة بين دمشق وواشنطن.

تقليص كبير للوجود العسكري الأمريكي بعد سقوط نظام الأسد البائد:

منذ شباط/فبراير عام 2025، بدأت تتوالى التقارير الأميركية والغربية التي تتحدث عن إعادة هيكلة واسعة للوجود العسكري الأميركي في سوريا، فقد أشارت مصادر عديدة إلى انتقال واشنطن من منظومة انتشار واسعة تضم ثماني قواعد إلى تموضع يعتمد في الأساس على قاعدة مركزية واحدة في الشرق، مع تخفيض عدد القوات إلى أقل من 1000 جندي. هذا التحوُّل جاء ضمن مقاربة جديدة تقوم على تخفيض التكلفة وتقليص التدخُّل المباشر، خاصة بعد سقوط نظام الأسد البائد، وفيما بدا أنه انعكاس لاستراتيجية ترامب في فترة رئاسته الأولى، ورغبته في الانسحاب، مع تكرار لحالة الخلاف المبطَّن بين الرئيس الأمريكي والمؤسسة العسكرية الأمريكية، بشكل مشابه لما حدث في العام [6]2019، وإن كان الخلاف بدرجة أقلّ حدّية ووضوحاً، حيث إن الوثائق الرسمية الصادرة عن وزارة الدفاع والكونغرس ما تزال تؤكد استمرار مهمة هزيمة “داعش” وبقاء الحاجة إلى قوة محلية شريكة في إدارة ملف المعتقلين من “داعش” ومخيم الهول[7]، كما أن الكونغرس الأمريكي وافق على استمرار تمويل وزارة الدفاع لـ “قسد” لعام 2026[8]، علاوة على ذلك، ثمة طروحات عن إقامة قاعدة عسكرية أمريكية قرب دمشق كجزء من التفاوض بين سوريا و”إسرائيل”، مما يشير إلى رغبة في البقاء أو حتى التوسع[9]، فضلا عن تكهنات حول إنشاء قاعدة في تدمر[10].

العوامل المحرّكة لقرار الانسحاب؛ بين ترامب والمؤسسات الأميركية:

تتداخل عدة عوامل في صياغة الموقف الأميركي. على المستوى الرئاسي، يميل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تاريخياً إلى تجنُّب “الحروب الطويلة المكلفة”، ويستثمر سياسياً في خطاب إعادة الجنود إلى الوطن وتقليص الكلفة الخارجية، وقد كانت تجربة 2019 التجسيد الأوضح لهذا المزاج، إذ أصرّ الرئيس ترامب حينها على الانسحاب رغم اعتراض البنتاغون والكونغرس وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة[11]، ونتج عن ذلك كمحصلة انسحاب جزئي سمح لتركيا بالقيام بالتدخل العسكري في عملية “نبع السلام”.

لكن إدارة ترامب تعمل اليوم في سياق جديد بعد سقوط النظام البائد، حيث جاءت حكومة جديدة مقربة من تركيا، التي يحتفظ ترامب بعلاقات جيدة مع رئيسها أردوغان ويُفضّل التعامل معه[12]، كما تحظى الحكومة السورية الجديدة بشرعية دولية نسبية، وتطرح نفسها شريكاً في مكافحة الإرهاب، وانضمت رسمياً إلى التحالف الدولي ضد “داعش”. وتركيا بدورها أصبحت في موقع أقوى في نظر واشنطن داخل سوريا، هذه التطورات مجتمعة تجعل خيار الانسحاب الكامل يبدو أكثر جاذبية بالنسبة لترامب بالمقارنة مع عام 2019، حيث قد يظهر أمام ناخبيه وكأنه أنهى مهمة مواجهة “داعش”، وسلّم الإقليم إلى شركاء موثوقين مع الإبقاء على بصمة أميركية محدودة للردع.

ورغم ذلك، فإن المؤسسات الأميركية التقليدية، كالبنتاغون والكونغرس، لا تتبنّى الحماسة ذاتها، فالتقارير العسكرية تشير إلى أن خطر خلايا “داعش” ما زال قائماً في البادية السورية وبالقرب من مخيم الهول والسجون التي تضم آلاف العناصر، كما أن الكونغرس جدّد تمويل برامج التدريب والتجهيز في سوريا حتى نهاية 2026. هذا الاتجاه يعكس رغبة المؤسسات الأميركية في تقليص الكلفة، ولكن دون تكرار سيناريو الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، ومن المتوقع أن تضغط “إسرائيل” صاحبة اللوبي القوي في واشنطن لدعم “قسد” وإبقاء الدعم الأمريكي لها[13].

عند جمع الاتجاهات الثلاثة، موقف ترامب الانسحابي، وحذر المؤسسات الأميركية المتأثرة باللوبي الموالي لـ”إسرائيل”، والضغط “الإسرائيلي” لدعم “قسد”، يبدو السيناريو الأكثر ترجيحاً هو تقليص الوجود الأميركي وتحويله إلى بصمة عسكرية–استخبارية خفيفة، مع بقاء قوات محدودة شرق الفرات حتى عام 2026 على الأقل، وربط أي انسحاب إضافي بسرعة تقدُّم مسار دمج “قسد” في المؤسسات السورية الجديدة، وهو ما يبدو النقطة التوافقية بين إدارة ترامب وتركيا ودمشق، مما يجعله السيناريو المفضل للفاعلين المؤثرين الثلاثة، ويمكن استنتاجه من كلام توماس باراك، السفير الأمريكي في أنقرة، والمبعوث الخاص إلى سوريا، حيث تحدث عن تقليص عدد القواعد العسكرية من 8 إلى واحدة فقط[14].

وأثناء إعداد هذا التقرير، حدث تطوّر مهم يمكن أن يدخل كعامل جديد في الحسابات الأميركية حول البقاء أو الانسحاب من سوريا، وهو الهجوم الذي استهدف دورية مشتركة سورية–أميركية قرب مدينة تدمر في 13 كانون الأول/ديسمبر 2025، وأدّى إلى مقتل جنديين أميركيين ومترجم مدني أميركي، وإصابة ثلاثة جنود آخرين[15].

هذا الهجوم فتح سريعاً شهية خصوم الحكومة السورية لاستثماره في توجيه السهام لها، إذ سارعت بعض المنصات إلى التركيز على أن المهاجم كان عنصراً في الأجهزة الأمنية السورية، وأن الحادثة تكشف “اختراقاً متطرفاً” لتلك الأجهزة، في مقابل الترويج لصورة “قسد” بوصفها “الشريك الأكثر تماسكاً ومهنية” في مكافحة الإرهاب، مع التشكيك في أهلية مؤسسات الدولة السورية للقيام بهذا الدور[16]. في المقابل، عكست تصريحات رسمية أميركية استمرار الرغبة الأمريكية في خيار التعاون مع دمشق في مكافحة “داعش”[17].

يمكن القول إن هذا الهجوم سيغذّي اتجاهين متعاكسين داخل مراكز صنع القرار الأميركية: اتجاه يسعى إلى استخدام الحادثة لنزع الشرعية عن الحكومة السورية كشريك في مكافحة الإرهاب، وإعادة تلميع صورة “قسد” بوصفها الشريك “الوحيد الجاهز والمعتمد عليه”، واتجاه آخر أقرب إلى دوائر ترامب قد يُوظّفها في الاتجاه المعاكس تماماً: أي التأكيد على أن استمرار الانخراط الأميركي الميداني يحمل أثماناً بشرية وسياسية لا ترغب الإدارة في دفعها، وأن الحل الأنسب هو تقليص البصمة المباشرة وتسليم الملفات الأمنية – بما فيها ملاحقة “داعش” في البادية – للقوى المحلية والإقليمية، وفي مقدمتها أنقرة ودمشق، مع الاكتفاء بدور إشرافي واستخباراتي أقل كلفة، وقد أشاد ترامب بالحكومة السورية والرئيس أحمد الشرع، معتبراً أنهما قاتلا إلى جانب الولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب[18].

النفط والسيادة؛ من ترتيبات التزويد إلى درس كركوك:

ما تزال الكتلة الأكبر من الحقول النفطية السورية شرق الفرات—وفي مقدمتها حقول العمر والتنك ورميلان والسويدية—تقع عملياً تحت سيطرة “قسد”، مع حضور أميركي مباشر أو غير مباشر يوفّر الغطاء الأمني والسياسي لهذا الواقع. في المقابل، تسيطر الحكومة السورية على حقول أصغر وأقل إنتاجاً في غرب الفرات والبادية، كما تسيطر الحكومة على عدد أكبر من حقول الغاز على اعتبار أن الكثير منها يقع في بادية حمص[19]، لكن في ظروف غير مستقرة، حيث تنشط خلايا “داعش”[20].

غير أن عام 2025 حمل مؤشرات لافتة على تحوّل تدريجي في آليات التعامل مع هذا الواقع، فقد بدأت تظهر تقارير متقاطعة عن ارتفاع كميات النفط التي تصل إلى مناطق الحكومة السورية من مناطق شمال شرق سوريا عبر ترتيبات رسمية وشبه رسمية بعضها جرى تحت عنوان “تأمين احتياجات محطات الكهرباء” أو “منع انهيار المنظومة الخدمية”، وبعضها الآخر اتخذ طابعاً تجارياً منظماً أكثر مما كان عليه في سنوات اقتصاد الحرب[21]. تشير معطيات ميدانية واقتصادية إلى أن “قسد” تعتمد بدرجة كبيرة على العائدات المتأتية من إدارة حقول النفط والغاز الواقعة ضمن مناطق سيطرتها في شمال شرقي سوريا، وهو ما يوفّر لها مورداً مالياً أساسياً لتمويل هياكلها الإدارية والأمنية والقوات التابعة لها. وفي هذا السياق يمكن فهم تمسُّك “قسد” بالحفاظ على هذه الموارد ضمن أي مسار تفاوضي مع الحكومة السورية، وسعيها إلى صياغة ترتيبات حكم محلي موسّع يضمن سيطرتها تحت عناوين مثل “اللامركزية” أو “الإدارة الذاتية”، أو على الأقل يضمن لها استمرار نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة، كما تتحدث تقارير عن قيامها بتمويل المليشيات المعارضة للحكومة السورية في الساحل السوري وجنوب سوريا واحتضانها لها[22].

في المقابل، ومع محدودية الموارد المالية المتاحة للحكومة السورية، يساهم استمرار الوضع القائم في ترسيخ اختلال اقتصادي وأمني في ميزان القوى بين الطرفين. إذ يمنح التحكم بعائدات الطاقة “قسد” هامشاً أوسع للحركة الاقتصادية والعسكرية، بما في ذلك تمويل قواتها، وتأمين احتياجاتها التسليحية واللوجستية، وإدارة شبكة علاقات محلية وإقليمية معقّدة، كما يتيح هذا الواقع نشوء أنماط تصدير أو نقل للنفط خارج الأطر المركزية للدولة، سواء عبر قنوات رسمية جزئياً أو غير رسمية، وهو نمط سبق أن شهدته تجارب إقليمية أخرى، مثل إقليم كردستان العراق، حيث أدار الإقليم موارده النفطية لفترات طويلة بمعزل عن رقابة الحكومة المركزية.

بالنسبة للحكومة السورية الجديدة، لا يقتصر ملف النفط شرق الفرات على كونه مسألة إيرادات مالية، بل يرتبط مباشرة بمفهوم السيادة وإعادة بناء الدولة، فاستعادة السيطرة على موارد الطاقة تعني تعزيز الاستقرار المالي عبر تقليص الاعتماد على المانحين، وتحسين القدرة على توليد الكهرباء من الغاز المحلي بدل الاستيراد المكلف سياسياً ومالياً، إضافة إلى تفكيك جزء مهم من اقتصاد الحرب القائم على التهريب والوساطات والشبكات غير الرسمية، كما يمنح هذا الملف دمشق ورقة تفاوضية ثقيلة في علاقتها مع دول الجوار، إذ إن من يمتلك الطاقة يمتلك جزءاً أساسياً من مفاتيح التأثير الإقليمي[23].

وقد كان ملف النفط والغاز أحد الملفات التي تناولها اتفاق آذار بين الحكومة السورية و”قسد”، ولكنه كباقي بنود الاتفاق، لم يجد فرصته للتطبيق العملي بسبب مماطلات “قسد”، واستخدامها للاتفاق كفرصة لشراء الوقت، ولانتزاع موقعٍ موازٍ للدولة، والتحول إلى نموذج الدولة/ المليشيا داخل الدولة[24].

في هذا السياق، يبرز نموذج كركوك العراقي بوصفه مرجعاً حاضراً بقوة في الحسابات السياسية. ففي عام 2017 أصرّ إقليم كردستان العراق على المضي في استفتاء الاستقلال ورفض تسليم مدينة كركوك وحقولها النفطية إلى الحكومة المركزية. ردّت بغداد حينها بعملية عسكرية–أمنية سريعة أعادت السيطرة على المدينة والحقول خلال أيام، مستفيدة من موقف إقليمي داعم من تركيا وإيران، وحياد أميركي عملي، فضلاً عن الانقسام الداخلي الكردي. النتيجة كانت خسارة الإقليم لأهم أوراقه الاقتصادية، وتحوّله من لاعب نفطي شبه مستقل إلى طرف يعتمد مجدداً على بغداد في تصدير النفط وتحصيل العائدات، وهو ما تزال تعكسه المفاوضات المعقدة حتى اليوم بين بغداد وأربيل وأنقرة[25].

هذا الدرس لا يمرّ من دون دلالات بالنسبة لـ “قسد”. فالإصرار على الاحتفاظ بالموارد السيادية خارج إطار الدولة المركزية المعترف بها دولياً، ولفترة طويلة، قد يفتح الباب أمام سيناريو خسارة شاملة إذا ما تبدّلت موازين القوى الإقليمية أو قررت واشنطن رفع غطائها فجأة، وهو أمر ليس فقط ليس مستبعداً، بل مرجح في ظل توجه إدارة ترامب للمضي قدماً في تحسين العلاقات مع الحكومة السورية. في المقابل فإن قبول “قسد” بتسوية تضمن شراكة في إدارة الموارد والتنمية قد يوفّر لـ “قسد” موقعاً تفاوضياً أفضل وأقل كلفة.

وقد ترددت في الآونة الأخيرة أنباء عن استعداد “قسد” لتسليم نفط دير الزور تحديداً إلى الحكومة السورية[26]، وهي خطوة يمكن قراءتها في إطار محاولة امتصاص التصعيد السياسي والأمني المتزايد من جانب دمشق وأنقرة، لا سيما في ظل امتلاك الحكومة السورية أوراقاً تفاوضية أقوى بعد انضمامها إلى التحالف الدولي ضد “داعش”، وما رافق ذلك من تحسّن نسبي في موقعها الإقليمي والدولي.

غير أن هذه المؤشرات، وإن بدت لافتة، فلا واقع على الأرض يدعم صحتها، ولا تضمن بالتالي بالضرورة نتائج مستقرة أو دائمة. فاستقراء سلوك “قسد” في محطات سابقة، سواء بعد اتفاق آذار، أو في سياق تفاهماتها السابقة مع نظام الأسد البائد، يُظهر نمطاً متكرراً يقوم على الانحناء المؤقت للعاصفة عبر إبرام اتفاقات عامة الصياغة، تحتمل تفسيرات متعددة، ثم ترك تنفيذها العملي رهناً لتوازنات القوى على الأرض. وفي أكثر من حالة، أعادت “قسد” تفسير هذه التفاهمات أو النكوص عنها متى ما شعرت بأن ميزان القوى بات يسمح بذلك.

وعليه، فإن أي ترتيبات مستقبلية تتعلق بملف النفط أو تقاسم الموارد، ما لم تُدعَّم بآليات تنفيذ واضحة وضمانات سياسية وأمنية، ستظل عرضة لإعادة التفاوض أو التعطيل، بما يعكس هشاشة التسويات القائمة على التفاهمات الرمزية أكثر من كونها تسويات مؤسسية ملزمة.

خيارات الحكومة السورية في التعامل مع ملف “قسد”:

بعد عام من سقوط نظام الأسد البائد، حققت الإدارة السورية الجديدة نجاحات دبلوماسية ملفتة على المستوى الإقليمي والدولي، وبات المشهد يختلف تماماً عما كان عليه الوضع في عهد نظام الأسد البائد، وهو ما كان مشهداً مناسباً ومريحاً لـ “قسد”، حيث كان النظام البائد يتموضع دولياً في موقع الطرف غير المؤهّل للشراكة في مكافحة الإرهاب والمخدرات والنفوذ الإيراني.

باتت الإدارة السورية الجديدة شريكاً أساسياً في مكافحة “داعش”، وإعادة بناء الدولة السورية بدعم تركي وعربي متزايد، وبقبول دولي نسبي يتجسّد، في أحد أبعاده، بانضمامها الرسمي إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب. هذا التحوّل البنيوي في موقع دمشق أعاد فتح ملف “قسد” على نحو أكثر تعقيداً، ودفع نحو تبلور عدة سيناريوهات للتعامل معه، لا تتحرّك في فراغ، بل تتأثر بعوامل ضغط ودفع متعاكسة.

السيناريو الأول: الاندماج التدريجي وفق اتفاق آذار

يظل خيار الاندماج التدريجي، كما نصّ عليه اتفاق 10 آذار بصيغته الأولية، المسار الأقل كلفة نظرياً على جميع الأطراف. هذا الاتفاق يقوم على منطق “الغموض البنّاء”، إذ لا ينص صراحة على حلّ “قسد”، لكنه يفتح الباب أمام إدماج تدريجي لبنيتها العسكرية والأمنية والإدارية ضمن مؤسسات الدولة الجديدة، سواء عبر إعادة تنظيم الوحدات القتالية ضمن الجيش الوطني، أو دمج الأجهزة الأمنية في وزارتي الداخلية والأمن الوطني، أو إعادة صياغة الإدارة الذاتية ضمن نموذج لامركزية إدارية موسّعة.

تتعزّز قابلية هذا السيناريو بفعل مجموعة من العوامل المُحرِّكة، أبرزها شعور “قسد” بتزايد عزلتها الإقليمية والدولية، وتكثّف الضغوط التركية عليها، وتراجع هامش المناورة الأميركية في حال انتقال واشنطن إلى تقليص بصمتها العسكرية، وعدم وجود قدرة ولا رغبة روسية في احتضانها كما كان يحدث سابقاً في عهد النظام البائد لاختلاف الواقع اليوم. ويُضاف إلى ذلك عامل بالغ الأهمية يتمثل في انضمام الحكومة السورية إلى التحالف الدولي ضد “داعش”، وهو ما نزَع من “قسد” ورقة احتكار “الشرعية الدولية في مكافحة الإرهاب”، وقلّص قدرتها على تقديم نفسها كشريك لا بديل عنه.

في المقابل، يواجه هذا السيناريو عوامل تثبيط واضحة، في مقدمتها خشية قيادة “قسد” من فقدان أوراقها التفاوضية قبل اتضاح الشكل النهائي للنظام السياسي السوري، فضلاً عن ضغوط داخلية من تيارات مرتبطة بجناح قنديل ترى في الاندماج المبكر تنازلاً استراتيجياً[27]، كما يلعب العامل “الإسرائيلي” دوراً غير مباشر في إبطاء هذا المسار، عبر إشارات دعم سياسي وإعلامي، وضغوط تمارسها تل أبيب في واشنطن للحفاظ على “قسد” كأداة توازن بوجه النفوذ التركي–السوري المتصاعد.

السيناريو الثاني: الحسم العسكري الواسع بالشراكة مع تركيا

في الطرف المقابل، يبرز سيناريو الحسم العسكري الشامل عبر عملية سورية–تركية مشتركة تستهدف تفكيك البنية العسكرية لـ “قسد” في الشمال الشرقي. هذا الخيار يكتسب زخماً كلما زاد تعنُّت قيادة “قسد” في مسار الاندماج، وكلما ازدادت الرغبة التركية في تأمين حدودها الجنوبية وفتح ممرات برية أوسع داخل العمق السوري، لا سيما في ظل وجود عسكري تركي كثيف ودعم سياسي مفتوح للحكومة السورية الجديدة.

العامل الحاسم في هذا السيناريو يظل الموقف الأميركي. فنجاح أي عملية واسعة يتطلّب إما غطاءً أميركياً ضمنياً، أو على الأقل امتناعاً عن التدخل كما حدث خلال الانسحاب الأمريكي الجزئي في سوريا عام 2019، أو كما حدث في كركوك عام 2017، ويتم بالتالي فرض وقائع ميدانية سريعة تجعل الاعتراض الدولي متأخراً وغير مؤثر، غير أن هذا المسار يواجه بعض العوائق المثبِّطة، في مقدمتها خطر التصعيد غير المحسوب، واحتمال تحوُّل العملية إلى ساحة استنزاف، إضافة إلى محاولات “إسرائيل” الضغط على واشنطن لفرملة أي تدخُّل تركي–سوري واسع قد يغيّر موازين القوى في شمال سوريا[28]، وربما قيام “إسرائيل” بالضغط عسكرياً على دمشق في جنوب سوريا وصولاً إلى دمشق، من خلال تنفيذ اقتحامات برية وقصف جوي، وبينما لا يُتوقع أن يتدخل “الإسرائيليون” جوياً أو برياً في شمال شرق سوريا، نظراً لبعدها جغرافياً وكون ذلك يعني صداماً واضحاً مع تركيا، أو حتى تدخلاً غير مناسب في منطقة نفوذ للولايات المتحدة، لكن القصف العسكري الذي يمكن أن تنفذه “إسرائيل” على مناطق سيادية في العاصمة دمشق قد يكون عامل ضغط حقيقياً، لكنه في الغالب سيبقى محدوداً، حيث لا يتوقع أن تنهج “إسرائيل” ذات النهج الذي أظهرته في حالة السويداء، إضافة إلى وجود الثقل التركي، في مشهد سيكون مختلفاً عن المعادلة في السويداء، عندما قصفت “إسرائيل” الأركان السورية لفرض الانسحاب على دمشق.

في العموم، لا يبدو هذا الحل مفضلاً لدى دمشق ولا لدى أنقرة، حيث تحرص أنقرة أيضاً على الحل السياسي للقضية الكردية في ظل التطورات الأخيرة التي بدأت بمبادرة عبد الله أوجلان.

السيناريو الثالث: الضمّ على مراحل أو التقدّم العسكري التدريجي

بين الاندماج الكامل والحسم الشامل، يبرز سيناريو ثالث يبدو أكثر واقعية على المدى القصير، ويتمثل في استعادة تدريجية للمناطق الأكثر استراتيجية، ولا سيما حقول النفط، والعقد الطرقية، والمراكز العربية الكبرى، عبر مزيج من الضغط السياسي، والتفاهمات الموضعية، وتفعيل أوراق اجتماعية محلية، كورقة العشائر.

في هذا المسار، يمكن للحكومة السورية أن تبدأ بالمطالبة بالوجود حول الحقول النفطية ومحطات الكهرباء تحت عناوين مكافحة “داعش” وحماية البنية التحتية وضرورة فرض الدولة السورية لسيادتها، وأن تعقد تفاهمات أمنية محدودة -بالتنسيق مع الفاعلين الدوليين- في مدن ذات غالبية عربية، تسمح بعودة تدريجية لمؤسسات الدولة المدنية قبل الانتقال إلى استعادة السيطرة العسكرية الكاملة، وربما يُعزّز هذا السيناريو إرث الاحتقان الاجتماعي بين “قسد” وقطاعات من العشائر العربية، والذي انفجر بوضوح خلال أحداث عام 2023 في دير الزور.

غير أن هذا المسار بدوره ليس محصّناً تماماً من عوامل الإعاقة، إذ قد تواجه دمشق محاولات احتواء أميركية أو ضغوطاً “إسرائيلية” لمنع تحوّل التقدّم التدريجي إلى تغيير استراتيجي شامل، إضافة إلى خطر الانزلاق إلى صدامات محلية غير منضبطة إذا أُسيء استخدام الورقة العشائرية.

وهنا، تجدر الإشارة إلى تجربة نظام الأسد البائد في استثمار الاحتقان العشائري ضد “قسد”، رغم ضعفه وعزلته آنذاك[29]، وهو ما يؤكد أن الحكومة السورية الحالية، بما تملكه من شرعية ثورية وعلاقات جيدة مع شرائح واسعة من عموم الشعب السوري، وعلاقات أفضل مع تركيا والعالم العربي، تملك قابلية أكبر لتحويل العشائر إلى شريك فعلي في استعادة السيادة، غير أن نجاح هذا المسار يتوقف على تجاوز المقاربة الأمنية الضيقة، وتقديم ضمانات حقيقية بمشاركة العشائر في إدارة الموارد والتنمية، وتجنّب إعادة إنتاج أنماط التهميش والفساد القديمة.

يبقى هاجس تكرار تجربة السويداء عام 2025 حاضراً في حسابات دمشق، ورغم أن احتمالات تكرار هذا السيناريو شرق الفرات أقل لأسباب تم شرحها أعلاه، إلا أن الحذر يظل مطلوباً، خاصة في ظل استمرار قدرة “إسرائيل” على التأثير في القرار الأميركي.

السيناريو الرابع: سيناريو الجمود (اللّا حسم)

إلى جانب سيناريوهات الاندماج أو الحسم العسكري، يبرز سيناريو بديل يبدو واقعياً إلى حدٍّ كبير مؤقتاً على الأقل، وهو سيناريو الجمود؛ أي غياب الحسم العسكري، وعدم المضي فعلياً في مسار الاندماج. في هذا الإطار، يُرجَّح أن يتم تمديد اتفاق 10 آذار لأشهر إضافية، بصفته إطاراً مؤقتاً لإدارة الخلاف، ريثما تنضج الرؤية الأميركية تجاه مستقبل وجودها في سوريا وملف “قسد”.

وخلال الفترة الماضية، بدا أكثر وضوحاً أن واشنطن تميل إلى الاحتفاظ بالشريكين معاً؛ “قسد” والحكومة السورية بما يضمن لها أوراق ضغط متوازنة على الطرفين؛ فلا هي مارست ضغطاً حقيقياً على “قسد” لدفعها نحو الاندماج، ولا هي منحت الحكومة السورية ضوءاً أخضر لعمل عسكري، رغم كثافة الدعم السياسي المعلن لها. هذا التوازن المقصود يفضي عملياً إلى حالة جمود، واستثمار متعمد في عامل الوقت، تستفيد منه “قسد” لتعزيز مكاسبها التفاوضية. ويعزّز هذا السيناريو تصاعد تحركات تيارات راديكالية داخل “قسد” لجأت في الآونة الأخيرة إلى رفع منسوب التوتر العسكري في جبهات الرقة وشرق حلب، في محاولة لإفشال أي توافقات محتملة، وإبقاء العلاقة مع دمشق في دائرة عدم الثقة، بما يطيل أمد الجمود ويؤجل الحسم.

خاتمة:

تدلّ المعطيات الجديدة على أن معادلة الشمال الشرقي تدخل مرحلة إعادة تموضع عميقة، تتزامن فيها ثلاثة مسارات: تقليص البصمة الأميركية العسكرية والأمنية، وتعاظم التنسيق التركي–السوري، وتحوّل موقع دمشق دولياً في ملف مكافحة “داعش” بعد انضمامها إلى التحالف الدولي. ضمن هذا السياق، تتراجع نظرياً أوراق “قسد” التفاوضية بشكل لافت، بالدرجة الأولى لأنها لم تعد قادرة على تقديم نفسها بوصفها الشريك الوحيد الذي لا بديل عنه في الحرب على الإرهاب، كما أن الضغوط التركية والسورية، ومعها تقليص الانتشار العسكري الأمريكي المتدرّج، وتراجع الدعم الأمريكي المالي نسبياً يُضيّق هامش المناورة على “قسد”، ويدفعها نحو تقديم تنازلات حقيقية.

وفي المحصلة، فإن السيناريو الأرجح لا يتمثل في حسمٍ واحدٍ سريع، بل في مسار تراكمي تتداخل فيه أدوات الاندماج التدريجي مع الضمّ المرحلي والضغط الأمني، وربما العسكري، بشكل مشابه لما حدث سابقاً في عملية “نبع السلام”، أو سيناريو كركوك في العراق، على أن تتحدد وتيرة هذا المسار بموازين القوى على الأرض محلياً وإقليمياً، وعلى مستوى صناعة القرار داخل واشنطن، وخاصة فيما يتعلق بموضوع استمرار التعامل بشكل مزدوج مع كل من “قسد” والحكومة السورية، ويبقى الحل الأمثل للمنطقة هو تجنُّب المواجهات العسكرية الواسعة، لمنع تزايد معاناة المدنيين.


[1] خبراء: قسد لم تنفذ أي بند من اتفاق دمشق ومواجهة عسكرية محتملة نهاية العام، الجزيرة نت، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2025.
[4] الصحف الأمريكية حول نبع السلام: “أنقرة أخذت ما تريد، الأناضول، 18 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
[7] يشير تقرير Operation Inherent Resolve (من وزارة الدفاع الأميركية ويُقدَّم إلى الكونغرس بانتظام) إلى أن جهود الولايات المتحدة في إطار هذا التحالف ما تزال تركز على مكافحة داعش، وتشمل الدعم للعمليات والمبادرات الهادفة إلى الاستقرار في العراق وسوريا، وتعكس استمرار المهمة وعدم إنهائها، مع إشارة التقرير إلى العمل على تقليص “البصمة العسكرية” وتوحيد وتمركز الوجود العسكري، ينظر:
[12] ترامب: أردوغان يحظى باحترام كبير في جميع أنحاء العالم، وكالة الأناضول، 25 أيلول/ سبتمبر 2025.
[13] حدود العلاقة بينإسرائيلوقوات سوريا الديمقراطيةقسدشمال شرقي سوريا، عامر المثقال، مركز الحوار السوري، 20 كانون الأول/ديسمبر 2024.
[14] باراك: سنقلص عدد قواعدنا العسكرية وندعم دمجقسدفي جيش سوريا الجديد، تلفزيون سوريا، 3 حزيران/يونيو 2025، في ذات الوقت أشرنا سابقاً إلى وجود حديث عن إقامة قاعدة عسكرية أمريكية في دمشق.
[15] هجوم سوريا.. 6 أسئلة لفهم ما حدث، الجزيرة نت، 13 كانون الأول/ديسمبر 2025، وزارة الداخلية السورية تدين هجوم تدمر وتؤكد استمرار مكافحة تنظيم داعش، تلفزيون سوريا، 13 كانون الأول/ديسمبر 2025.
[16] هجوم تدمر: اختبار أمني وسياسي للعلاقات السورية الأمريكية، عامر المثقال، مركز الحوار السوري، 16 كانون الأول/ ديسمبر 2025.
أيضاً: مجلة “المجلة”: هجوم تدمر يحرج الحكومة السورية ويكشف ضعفاً استخباراتياً.. ويفتح الباب أمام استغلاله من جانب “قسد” وفصائل السويداء، تداعيات هجوم تدمر على الحكومة السورية.. هل تستغله “قسد”؟، العربية الحدث، 14 كانون الأول/ديسمبر 2025.
[17] اعتقال 5 أشخاص على خلفية هجوم تَدمر وترامب يتعهد برد قوي، الجزيرة نت، 14 كانون الأول/ديسمبر 2025.
[18] وهو ما نراه واضحاً في تصريحات توماس باراك بعيد الحادثة، والذي يُعبّر عن نهج إدارة ترامب، حيث قال” إن الإستراتيجية الأميركية تقوم على تمكين الشركاء السوريين المحليين بدعم عملياتي محدود، مع الحفاظ على انتشار عسكري مُقيَّد بالتعاون مع القوات المحلية لملاحقة شبكات تنظيم داعش، وأكد أن هذا النهج يبقي المعركة محلية ويجنب الولايات المتحدة التورط في حرب أخرى واسعة النطاق في الشرق الأوسط، مع مساهمته في حماية الأميركيين من تهديدات كبيرة، المصدر السابق.
[19] Syria’s Gas Sector: Recovery Under Pressure, Karam Shaar Advisory, July 28, 2025.
[20] تمتلك سوريا احتياطيات متوسطة من الغاز الطبيعي تُقدَّر بنحو 240 مليار متر مكعب، تتركز غالبيتها في مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة، مقابل احتياطيات نفطية محدودة نسبياً تتركز أساساً في شمال شرق البلاد. وقد تراجع إنتاج الغاز من أكثر من 21.9 مليون م³ يومياً قبل 2011 إلى نحو 7–9 ملايين م³ يومياً في 2024–2025، وهو مستوى لا يغطي سوى جزء محدود من الطلب الوطني، فيما بقي إنتاج النفط بعيداً عن مستوياته السابقة. ورغم أن توحيد إدارة النفط والغاز تحت سلطة مركزية يمكن أن يخفف فجوة الطاقة، ويحسّن توليد الكهرباء، ويوفر وقوداً أساسياً للريّ، تشغيل مضخات المياه، والصناعات الزراعية والغذائية، إلا أن هذه الموارد لا تشكّل وحدها محرّكاً كافياً لنهضة اقتصادية شاملة. فدورها التنموي يبقى مشروطاً بإعادة تأهيل البنية التحتية، عودة الاستثمارات، والاستقرار السياسي، بما يجعل النفط والغاز رافعة مساندة للزراعة والتنمية لا بديلاً عنها، المعلومات الأساسية من المرجع السابق، مع إضافة رأي الباحث.
[22] لماذا ترفضقسدتسليم حقول النفط والغاز للحكومة السورية؟، مركز جسور للدراسات، 25 حزيران/يونيو 2025، ويمكن ملاحظة استضافة “قسد” للهجري وغزال غزال في المؤتمر الذي أقيم في الحسكة، ينظر: مؤتمرقسدفي الحسكة.. الرسائل والأبعاد والسيناريوهات، مركز الحوار السوري، 12 آب/ أغسطس 2025.
[23] قسدقبل سقوط الأسد وبعده: عام التحولات الكبرى، المدن، 8 كانون الأول/ديسمبر 2025.
[24] قراءة في التصعيد الأخير بين الجيش السوري و”قسد” وأثره على اتفاق آذار، عامر المثقال، مركز الحوار السوري، 27 أيلول/سبتمبر 2025، خبراء: “قسدلم تنفذ أي بند من اتفاق دمشق، الجزيرة نت، 10 كانون الأول/ديسمبر 2025.
[25] خسارة كركوك ستؤجل الحلم الكردي سنوات، الجزيرة نت، 17 تشرين الأول/أكتوبر 2017.
[27] تحدثت مصادر عن وصول قوات “الغوريلا” من جبال قنديل. بعد اتفاق السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، حيث انتقلت خلال النصف الأول من 2025، مجموعات من مقاتلي قنديل إلى مناطق “قسد”، ينظر: قسدقبل سقوط الأسد وبعده: عام التحولات الكبرى، المدن، 8 كانون الأول/ديسمبر 2025، كيف يؤثر انسحاب العمال الكردستاني من العراق علىقسد“؟، الجزيرة نت، 1 تشرين الثاني/نوفمبر.
[28] خاصة وأن “إسرائيل” باتت تستثمر في “قسد”، ومختلف التشكيلات التي يمكن أن تضمن استمرار سوريا ضعيفة مقسمة، ينظر: حدود العلاقة بينإسرائيلوقوات سوريا الديمقراطيةقسدشمال شرقي سوريا، عامر المثقال، مركز الحوار السوري، 20 كانون الأول/ديسمبر 2024.

باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى