رسائل إدارة العمليات العسكرية: بين الواقع وآمال الثوار
تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
تمهيد:
مع بدء عمليات “ردع العدوان” حرصت غرفة “إدارة العمليات العسكرية” على تقديم خطاب تطميني لمختلف مكوّنات الشعب السوري من جهة المساواة مع بقية المكوّنات وضمان الحقوق والحريات الدينية والالتزام بمبادئ العيش المشترك، وتأكّد الأمر مع دخول الفصائل إلى مدينة حلب، حيث تواترت الشهادات بتوافق الوعود مع السلوك الذي التزمت به فصائل “غرفة إدارة العمليات العسكرية”.
ومع تقدُّم هذه الفصائل باتجاه مناطق حاضنة نظام الأسد، استمرت بالخطاب نفسه مع إضافة الابتعاد عن الثأر والانتقام، وهو أيضاً ما تأكّد بشهادات متضافرة عن سلوكها أثناء دخول أرياف حماة ومدن حمص ودمشق، ومحافظتي طرطوس واللاذقية.
وعلى اعتبار أن معظم فصائل “غرفة إدارة العمليات العسكرية” منبثقة أساساً من الثورة، ومحسوبة من قواها، فمن الطبيعي ألا يكون هنالك تطمينات لجمهور الثورة في المراحل السابقة، ولكن مع سقوط نظام الأسد المجرم، وانتقال غالبية هذه الفصائل إلى السلطة والحكم، فمن الطبيعي أن تبدأ قوى الثورة بمطالبتها بتطمينات خشية الانقلاب على المبادئ الأساسية التي يُفترض أنها قامت أساساً لتحقيقها خصوصاً بما يرتبط بمبادئ الحرية والكرامة ومحاسبة المجرمين وإعادة الحقوق لأصحابها، خصوصاً أن السوريين وغيرهم تاريخياً وفي التاريخ المعاصر شهدوا ثورات مضادة انقلبت فيها قوى على شقيقاتها عندما وصلت السلطة واستلمت زمام الأمر. فما هي التطمينات التي جاءت من غرفة “إدارة العمليات العسكرية” وقائدها أحمد الشرع على مستوى الخطاب والتطبيق؟ وهل تُمثّل تطمينات لقوى الثورة والمعارضة؟
كما نعلم أن ثمة مبادئ أساسية قامت الثورة السورية لأجلها تتمثّل في شعاراتها الأولى، ويمكن تلخيصها بمبادئ أربعة: الحرية بمعناها الواسع والسياسي تحديداً، وبما تعنيه من التخلُّص من العبودية، والكرامة بحيث أن المواطن يعيش في وطنه مُعزّزاً مكرّماً دون أن تستطيع أية سلطة إذلاله، والتعدُّدية بعيداً عن مظاهر الحكم الفردي الاستبدادي الدكتاتوري، وسيادة القانون التي تعني خضوع الحكام والمحكومين للقانون بعيداً عن العشوائية والمزاجية التي عادة تكون مرتبطة بأوامر الدكتاتور[1].
يأتي هذا التقرير مبنيّاً على منهجية تحرير المحتوى لجميع البيانات والرسائل والبلاغات التي صدرت من غرفتي “إدارة العمليات”[2] و”القيادة العامة”[3] على التلغرام منذ إطلاق عملية “ردع العدوان” بتاريخ 27/11/2024 وحتى تاريخ صدور هذا التقرير في 14/12/2024[4]، حيث كان إجمالي ما صدر في الغرفتين ما يلي:
النوع | العدد | |
1. | بيانات | 18 |
2. | صور وتعليقات لـ أحمد الشرع | 31 |
3. | فيديوهات لـ أحمد الشرع | 8 |
4. | تصريحات لـ أحمد الشرع | 9 |
5. | تعليقات من أعضاء في غرفة “إدارة العمليات” والمتحدث باسمها | 11 |
المجموع | 77 |
دولة القانون: المعنى الأكثر تكراراً
يُقصد بسيادة القانون خضوع الحكام والمحكومين للقانون بما يعنيه ذلك أن يكون جميع المواطنين -بغضّ النظر عن دينهم أو عرقهم أو طائفتهم- سواسية أمام القانون من دون تمييز، وبما يعنيه أن القاعدة القانونية ستكون هي الناظمة لشؤون الدولة بعيداً عن الآراء ورؤى الحاكم كما كان حال سوريا في زمن نظام الأسد البائد.
من حيث الخطاب، يُعدّ معنى سيادة القانون هو المعنى الأكثر حضوراً في بيانات غرفتي التلغرام محل الرصد، حيث تكرّر هذا المعنى (24) مرة في مختلف البيانات والخطابات، ولعل السبب في وراء تكرار هذا المعنى أنه يُمثّل نقطة التقاء بين أدبيات الفصائل العسكرية المشاركة في عملية “رد العدوان” ومطالب ثورة الشعب السوري بمختلف فئاته ومكوّناته، فضلاً عن أنه يعطي رسالة تطمين للدول.
أما من حيث الأدوات والتطبيق، فحتى هذه اللحظة لم تصدر عن أي من المؤسسات والشخصيات التي استلمت السلطة في دمشق أي قرار أو تصريح يُبيّن القواعد القانونية التي ستحكم المرحلة الانتقالية؛ على سبيل المثال: لم يتم توضيح مصير دستور 2012، ولا الصلاحيات التي تحوزها غرفة “إدارة العمليات العسكرية” ولا شخصياتها، ولا العلاقة بينها وبين قائدها أحمد الشرع، ولا العلاقة بين كل هؤلاء وحكومة تصريف الأعمال، كل ذلك يختلف عن التطبيق المطلوب لفكرة “دولة القانون”، إذ إن من شروط القاعدة القانونية النشر والإعلام.
الحرية والكرامة: الشعارات الأولى التي لا يتسع لها السياق
تُمثّل الحرية والكرامة كما ذكرنا سابقاً، العنوان العريض والرئيس الذي قامت الثورة السورية لتحقيقه، وقد كانت هذه المعاني هي التالية في الحضور ضمن بيانات وتصريحات “إدارة العمليات العسكرية” وقياديّيها والإدارة السياسية التابعة لحكومة الإنقاذ “حكومة تصريف الأعمال حالياً”، حيث ورد معنى الكرامة في بيانات الغرفتين وتعليقات وكلمات قياديّيها ما يقارب (22) مرة لمعنى الكرامة، و(16) مرة لمعنى الحرية، ولعل من الأسباب التي دفعت للتأكيد على هذين المعنيين، أنهما يُمثّلان فعلياً الشعار الأولي للثورة السورية؛ ثورة الحرية والكرامة، وهما في الوقت نفسه، يُعطيان تطمينات ليس لجمهور الثورة فحسب، بل ولحاضنة النظام. هذا من حيث الخطاب.
أما من حيث الأدوات والتطبيق، فلا يمكن خلال الفترة القصيرة الماضية (سبعة أيام) فقط على سقوط نظام الأسد المجرم، أن تكون هنالك فسحة للسلطة الجديدة لتطبيق أدوات تُكرّس هذه المفاهيم على أرض الواقع، خصوصاً أن الأولوية حالياً هي لضبط الأمن واستعادة الاستقرار، بما يتطلّب ربما إجراءات استثنائية قد تحدّ من تفعيل الحرية بأبعادها السياسية والشخصية، أما على الصعيد المجتمعي، فقد تركت السلطة الجديدة لمختلف منظمات المجتمع المدني حرية التحرك لمساعدتها في استعادة الخدمات الأساسية. على سبيل المثال، ساهمت المنظمات الإنسانية بتأمين الاحتياجات الأساسية وعلى رأسها مادة الخبز[5]، وقام الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء” والفرق التطوّعية بعدة حملات تطوّعية لتنظيف الشوارع.
احترام التنوّع والتعددية: حضور الأولى وغياب الثانية
يفترض التنوّع الثقافي الالتزام باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وخاصة حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات والمنتمين إلى جماعات السكان الأصليين، وبالتالي يفترض أن تكون هنالك قواعد قانونية واجتماعية وأخلاقية تحترم هذا التنوّع، بل على قاعدة المساواة أمام القانون بالنسبة لجميع المكونات[6].
في حين تدور التعددية حول “مشروعية تعدد القوى والآراء السياسية واختلافها داخل المجتمع، وحقها في التعايش والمعارضة والتعبير عن نفسها والمشاركة في التأثير على القرار السياسي، في جوٍّ يسوده حرية التعبير والتنظيم، بما يؤدي إلى توفّر فرص متساوية –على الأقل نظرياً- أمام الجميع للمشاركة في القرار والوصول إلى السلطة، وفي الوقت ذاته، منع الهيمنة من قبل تيار فكري أو سياسي على المجتمع”[7].
جاءت خطابات غرفتي “إدارة العمليات العسكرية” و”القيادة العامة” لتؤكد على قضية التنوع السوري واحترامه، حيث ورد هذا المعنى ما يقارب (12) مرة، في حين لم يرد فيها أي مما يشير إلى التعددية، تحديداً بمعناها السياسي، ولعل تركيز تلك الخطابات والبيانات على الرسائل المجتمعية والسياسية التي تطمئن بقية المكونات، وسحب ورقة “حماية الأقليات” من يد نظام الأسد البائد، جعلها تهتمّ بالمعنى الأول من دون الثاني، خصوصاً أن استحقاقات التعدّدية السياسية لم يحن موعدها بعد باعتبار أن الأولوية كانت لإسقاط نظام الأسد عبر العمليات العسكرية.
من حيث الأدوات والسلوك، حرصت الفصائل العسكرية التي دخلت المدن السورية واستعادتها من نظام الأسد البائد على الالتزام بما وعدت به، من حيث احترام التنوّع السوري عبر احترام خصوصيات المكوّنات السورية الثقافية والاجتماعية والدينية، وعدم الإساءة لها. أما على مستوى التعدّدية السياسية، فلم تظهر حتى الآن ملامح تشير إلى الالتزام باحترام هذا المبدأ سواء على مستوى إبراز أدوار بقية الفصائل العسكرية التي ساهمت في معركة “ردع العدوان”، أو على مستوى تشكيل “حكومة تصريف الأعمال”، إذ إنها اقتصرت حتى الآن على “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ “هيئة تحرير الشام”، أو حتى على مستوى توزيع مراكز صنع القرار من حيث حصرها وبشكل واضح في شخص أحمد الشرع[8].
بين العدالة الانتقالية والعفو:
تُمثّل العدالة الانتقالية مجموعة الآليات والأدوات للتعامل مع تركة وإرث من الانتهاكات بهدف كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، وبالتالي تهدف العدالة الانتقالية إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنّهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة الجديدة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون بما يُساهم في المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة[9].
كذلك تشير قواعد الأمم المتحدة المرتبطة بالعدالة الانتقالية على رفض تدابير العفو عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية أو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، كما أنه لا يجوز وفق هذه القواعد أن تُقيّد تدابير العفو حق ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في الحصول على سبل انتصاف وجبر فعالية، كما لا يجوز أن تُعرقل حقوق الضحايا أو المجتمعات في معرفة الحقيقة بشأن تلك الانتهاكات[10].
بالانتقال إلى الخطاب الصادر عن غرفتي “إدارة العمليات العسكرية” و”القيادة العامة” بخصوص العدالة والعفو، كان هنالك شبه تساوٍ -على الأغلب غير مقصود- في التركيز على تطبيق قواعد العدالة بحق مرتكبي الجرائم والانتهاكات بحق السوريين، ومنح العفو لحاملي السلاح من طرف نظام الأسد البائد؛ حيث ورد التأكيد على العفو في (5) مواضع، وقريب منها بالنسبة للتأكيد على العدالة والمحاسبة (6 مواضع)، بل كان هنالك قرار واضح بالعفو عن جميع المُجنّدين في جيش نظام الأسد[11].
على مستوى السلوك والأدوات، التزمت فصائل “إدارة العمليات العسكرية” بشكل عام بما أعلنته بخصوص العفو، حيث إنها لم تقم باعتقال أي من كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين والشبيحة “المدنيين حاملي السلاح”، فضلاً عن المجنّدين إلزامياً والذين كانت أعدادهم بالآلاف، وانتشروا على قارعة الطرق إبان سقوط نظام الأسد. أما بخصوص العدالة ومحاسبة المجرمين، باستثناء بعض الحالات الفردية التي انتشرت بشكل غير رسمي[12]، لم تقم غرفة العمليات باتخاذ إجراءات واضحة في مسار العدالة، والتي يُفترض أن يأتي في مقدمتها إصدار مذكّرات اعتقال بحق كبار مسؤولي نظام الأسد العسكريين والأمنيين الذين ارتكبوا مئات جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية بحق السوريين، ولعل الأسباب التي دفعت السلطة الجديدة في سوريا، أن هنالك ضغوطاً دولية عليها تؤكد على ضرورة استمرار مؤسسات الدولة وتغليب لغة التسامح والعفو، منعاً –من وجهة نظرها- من الانزلاق نحو الاقتتال بين بعض مكوّنات الشعب في حال اتخاذ خطوات واضحة باتجاه المحاسبة والمساءلة.
خاتمة:
أكدت مختلف البيانات والتصريحات التي صدرت عن غرفتي “إدارة العمليات العسكرية” و”القيادة العامة” على معانٍ أساسية تُمثّل تطمينات لمختلف توجُّهات المجتمع السوري، بما في ذلك قوى الثورة والمعارضة، سواء فيما يتعلق بمعاني الحرية والكرامة ودولة القانون واحترام التنوع والعفو ومحاسبة المجرمين، في حين كان هنالك غياب كامل للحديث عن التعدُّدية خصوصاً بمعناها السياسي، حيث لم تتضمن أي من هذه البيانات والتصريحات إشارة إلى هذا المعنى.
أما على مستوى السلوك، فأظهرت قيادة “غرفة إدارة العمليات” وكذلك “حكومة تصريف الأعمال” التزاماً باحترام مبدأ التنوُّع، والخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمكوّنات السورية المختلفة، وكذلك التزاماً بقواعد العفو، حيث إنها لم تقم باعتقال أي من كبار مسؤولي نظام الأسد البائد فضلاً عن عناصره، في حين أنها لم تُظهر أياً من السلوكيات أو الأدوات التي تُكرّس مبادئ الحرية والكرامة، وسيادة القانون، والتعدُّدية السياسية، والعدالة والمحاسبة، وهي المعاني الأساسية التي يُطالب بها الشارع الثوري، والتي تُمثّل الشعارات الرئيسة التي ضحّوا لأجلها بالغالي والنفيس[13].
لا شك أنه من المُبكّر المطالبة بوسائل وأدوات وسلوك فعليّ لتحقيق هذه المبادئ بشكل كامل خصوصاً في هذا التوقيت الاستثنائي، ولكن، بالمقابل، لا يمكن القول بوجود تعارض بين السعي لتحقيق الاستقرار وضبط الأمن، وبين المُضيّ ببعض الإجراءات والاستحقاقات الحالية التي تستند لمبادئ رئيسة طالما خرجت الثورة لأجلها، وفي مقدمتها: الحرية والتعدُّدية وما تتطلّبه من نبذ الاستبداد وحكم الفرد، والمباشرة بتطبيق قواعد العدالة والمساءلة عبر إصدار مذكّرات توقيف بحق كبار مسؤولي نظام الأسد البائد الذين ارتكبوا مئات المجازر والجرائم بحق السوريين.
إذا كانت حاضنة نظام الأسد البائد تحتاج لتطمينات على مستوى التعايش السلمي واحترام التنوّع والعفو خطاباً وسلوكاً، فإن حاضنة الثورة بحاجة لتطمينات على مستوى المباشرة بتطبيق قواعد العدالة والمساءلة، وفتح المجال العام سياسياً ومجتمعياً على مستوى ضمان حرية الرأي والتعبير واحترام التعدُّدية السياسية وحرية الإعلام…إلخ، وبالتالي يفترض ألا توفّر السلطة الحالية أية فرصة لإظهار احترامها لهذه المبادئ إلا وقامت به، خصوصاً أن مثل هذه الخطوات ولو كانت قليلة فإنها ستُرسل رسائل طمأنة لا تساعد على تقوية العلاقة بينها وبين الشارع الثوري فحسب، بل وتساعد السلطة على المضي بخطواتها وسياساتها بشكل ناجح، خصوصاً أن المرحلة الحالية بحاجة لتكاتف الجميع، جميع السوريين.
ملحق رقم 1 يوضح المعاني الرئيسة التي وردت في بيانات وتصريحات غرفتي “إدارة العمليات العسكرية” و”القيادة العامة” وقياديّيها
ملحق رقم 2 يوضح نسب المعاني التي وردت في بيانات وخطابات غرفتي “إدارة العمليات العسكرية” و”قيادة العمليات”