
سوريا بين النفوذ التركي والعدوان “الإسرائيلي”
تقرير صادر ضمن مسار الراصد في مركز الحوار السوري
كانت سوريا منذ سنوات طويلة ساحة للتنافس بين دول الإقليم والعالم، وحوّلها نظام الأسد إلى منطقة للنفوذ الإيراني فيما يُسمّى “الهلال الشيعي”، كما منح روسيا قواعد عسكرية على البحر المتوسط في مكان إستراتيجي بالغ الأهمية من وجهة النظر الروسية، فيما احتلّت “إسرائيل” هضبة الجولان التي تُعدّ أيضاً موقعاً استراتيجياً بالنسبة لها، بينما حاولت تركيا بقيادة أردوغان زيادة نفوذها في الإقليم عبر دعم ثورات الربيع العربي، ومنها الثورة السورية، كما تدخلت قوى إقليمية ودولية أخرى في الساحة السورية بنسب متفاوتة.
أدى سقوط نظام الأسد إلى نشوء فراغ عسكري في سوريا نتيجة انسحاب إيران وميليشياتها، وتضاؤل نفوذ روسيا، وهذا ما دفع اللاعبين الدوليين والإقليميين الآخرين إلى التنافس لملء هذا الفراغ وكسب المزيد من النفوذ في المنطقة، وكانت تركيا المستفيد الأبرز من هذا التحوُّل نتيجة موقفها الداعم للمعارضة السورية خلال الحملة الأخيرة التي أدّت لسقوط نظام الأسد، إلا أن المساعي التركية تواجهها تدخُّلات “إسرائيلية” ترى في النفوذ التركي تهديداً لها.
يسعى هذا التقرير لرصد المساعي التركية لزيادة النفوذ في سوريا، والخطط “الإسرائيلية” المضادة التي تدّعي أنها ستواجه تركيا بها، وذلك باستخدام الأسلوب الوصفي التحليلي، عبر رصد المواد الإعلامية والتصريحات الرسمية المنشورة في المصادر المفتوحة، وذلك بهدف تقديم تصوُّر عن الوضع الحالي واستشراف انعكاساته على سوريا في المستقبل.
المساعي التركية:
منذ سقوط نظام الأسد أرسلت الحكومة التركية العديد من الوفود إلى سوريا لبحث سبل التعاون بين البلدين على جميع الأصعدة، إذ زار سوريا وفود مكوّنة من رئيس الاستخبارات التركية، ووزير الخارجية التركي[1]، وزيارات أخرى لوفود من الوزارات الخدمية والبلديات التركية، مثل وزارات النقل والبنى التحتية والطاقة والموارد الطبيعية، والتقوا نظراءهم السوريين[2].
وفي هذا الصدد، صرح وزراء أتراك بإمكانية عقد اتفاقيات مع الحكومة السورية في مجالات النقل والطاقة، مثل تحسين المطارات وشبكات الطرق وإنشاء خطوط للسكك الحديدية، وترسيم الحدود البحرية[3]، بالإضافة إلى عزم تركيا ربط سوريا بمشروع “طريق التنمية” الذي يربط دول الخليج العربي بالعراق وتركيا في التجارة والطاقة، وتنفيذ مشروع سكك حديدية يربط تركيا بحلب ودمشق[4].
أما على الصعيد العسكري، فقد صرّح وزير الدفاع التركي، ياشار غولر، أن تركيا على استعداد لعقد اتفاقيات عسكرية لتدريب وتسليح الجيش السوري إذا رغب الطرف السوري بذلك[5]، فيما نشر الإعلام التركي والعالمي أخباراً عن احتمال منح الجيش التركي قواعد عسكرية وسط سوريا وتزويدها بأنظمة دفاع جوي وتزويد الجيش السوري بأسلحة حديثة متطوّرة[6]، وبحسب التصريحات الرسمية والتسريبات الإعلامية، تنوي تركيا الحصول على قواعد عسكرية شمال ووسط سوريا، منها مطارات منغ وT4 وتدمر[7].
وبالنظر إلى المواقف الداخلية من الأحزاب التركية تجاه هذه المساعي والعدوان “الإسرائيلي” المقابل، فقد دعا دولت بهتشلي رئيس حزب الحركة القومية، المتحالف مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، إلى فرض عقوبات اقتصادية وسياسية وعسكرية على “إسرائيل الإرهابية” بحسب وصفه، رداً على استفزازاتها ضد تركيا في سوريا[8]، فيما صرح أوزغور أوزال رئيس حزب الشعب الجمهوري؛ أكبر أحزاب المعارضة، أن على تركيا ألا تُقدّم أي تنازلات لـ “إسرائيل” في سوريا، وأن تزيد من ضغطها لإيقاف الحرب في غزة[9].
العدوان “الإسرائيلي”:
منذ لحظة سقوط نظام الأسد بدأت “إسرائيل” حملة قصف جوي عنيفة استهدفت فيها العديد من المواقع العسكرية التي تحوي أسلحة ومعدّات متطورة، خشية أن تحصل عليها الحكومة السورية الجديدة، كما توغّلت برياً في المنطقة العازلة معلنة انتهاء اتفاقية فض الاشتباك الموقّعة عام 1974[10]، وأنشأت “إسرائيل” خلال هذه المرحلة 7 قواعد عسكرية في هذه المنطقة التي احتلتها حديثاً[11].
تغيّرت الذرائع “الإسرائيلية” للتدخُّل في سوريا مع مرور الوقت، إذ كانت في البداية تُبرّر عدوانها بأنه يهدف لمنع “عناصر متطرّفة معادية لإسرائيل” من الحصول على أسلحة متطوّرة، وبرّرت توغُّلها البري في المنطقة العازلة بأنه “إجراء احترازي مؤقت” لتأمين حدودها لحين استقرار الوضع في سوريا[12].
ثم تغيّرت النبرة “الإسرائيلية” لاحقاً وصارت تدّعي الدفاع عن الأقليات، خصوصاً الدروز والأكراد، وسمحت “إسرائيل” لوفد من الدروز السوريين بزيارة الدروز في فلسطين المحتلة في زيارة هي الأولى من نوعها منذ عقود، كما أعلنت عزمها السماح لعمال من الدروز السوريين بالعمل في فلسطين المحتلة (لكنها تراجعت عن ذلك فيما بعد[13])؛ كما صرّحت أنها ستمنع وجود أي أسلحة ثقيلة للجيش السوري في جنوب سوريا، وهدّدت بقصف أي رتل أو وجود عسكري في هذه المنطقة[14].
مؤخراً، عادت “إسرائيل” لمواصلة عدوانها على سوريا بقصف القواعد العسكرية والتوغُّلات البرية، واشتبكت مع الأهالي في درعا في مرتين، ما أسفر عن استشهاد عدد من المواطنين[15]، كما بررت قصفها العنيف للقواعد العسكرية بأنه رسالة تحذير إلى تركيا لمنعها من زيادة نفوذها في سوريا[16]، فيما أعلنت عن نيتها تنظيم رحلات سياحية في جبل الشيخ والمناطق التي احتلتها حديثاً في القنيطرة، في خطوة تحاول من خلالها ترسيخ احتلالها لهذه المناطق[17]، إلا أنها عادت وتراجعت عن تنظيم تلك الزيارات نظراً لـ “المخاطر الأمنية”[18].
هذا ويُصدِر المحللون “الإسرائيليون” بين الفينة والأخرى خرائط تدلُّ على نوايا “إسرائيل”، إذ تظهر هذه الخرائط نوايا بتقسيم سوريا على أساس عرقي/طائفي ووضع الجنوب السوري وحتى حدود “قسد” تحت سيطرتها، أو أن تُقَسَّم سوريا إلى 4 مناطق نفوذ دولي؛ الجنوب لـ”إسرائيل”، والشمال لتركيا، وشمال شرق لأمريكا، والساحل لروسيا لحين استقرار نظام الحكم في سوريا بشكل يُرضي جميع الأطراف[19].
فيما ينشر الإعلام “الإسرائيلي” بشكل متكرر مقالات رأي تُحذّر من “الخطر” التركي، إذ يرون أن تركيا ليست كإيران، فهي عضو في حلف الناتو ولديها جيش قوي مُنظّم من أقوى الجيوش في المنطقة، وتملك قواعد عسكرية في العديد من الدول في المنطقة، ولديها علاقات قوية مع دول الغرب، بالإضافة إلى امتلاكها قوة اقتصادية ونفوذاً على أوروبا في مجال الطاقة، وهذا يُحتّم على “إسرائيل” -برأيهم- استخدام كل الوسائل الدبلوماسية والعسكرية لمنع تركيا من تشكيل “حلف سنّي معادٍ لإسرائيل” يسدّ الفراغ الذي سبّبته هزيمة الحلف الشيعي الذي قادته إيران[20].
ونقلت العديد من التقارير الصحفية رغبة نتنياهو في بقاء روسيا في سوريا لمواجهة النفوذ التركي[21]، كما سعى لإقناع الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب لاتخاذ موقف داعم لـ”إسرائيل” في سوريا بمواجهة تركيا، لكن صرّح ترامب مؤخراً في مؤتمر صحفي مع نتنياهو بأنه صديق مقرّب للرئيس التركي أردوغان، وأنه هنّأه على “فتح” سوريا، وقال لنتنياهو إن عليه أن يحل مشكلاته مع أردوغان بشكل ودّي؛ في تصريحات قد تشير إلى عدم نجاح نتنياهو في إقناع الإدارة الأمريكية بدعم خططه في سوريا[22].
مستقبل التدخُّلات التركية و”الإسرائيلية” في سوريا:
يُعدّ موقف تركيا سياسياً أقوى من موقف “إسرائيل” في سوريا، إذ تتحالف مع الحكومة السورية المعترف بها في كثير من دول العالم، وتتحرك دون مخالفة القانون الدولي، وتحاول أن تستفيد من التغيُّر الحاصل في سوريا لضمان أمنها القومي ولزيادة نفوذها في المنطقة وكسب المزيد من أوراق القوة أمام منافسيها الإقليميين، كما تستغل علاقاتها الجيدة مع أمريكا والغرب وروسيا في تثبيت هذه المكاسب وضمان عدم الدخول في مواجهة مع “إسرائيل”.
وفي الوقت الذي يُروّج فيه بعض الإعلام التركي الموجَّه للداخل التركي، والذي يتبنى خطاباً شعبوياً، لقرب المواجهة العسكرية بين تركيا و”إسرائيل”[23]، دلّت التصريحات الرسمية التركية على عدم نية تركيا الدخول في صراع مع “إسرائيل” في سوريا[24]، فيما يرى محللون أتراك أن “إسرائيل” تتصرف حيال هذه القضية بشكل يُضاعف قلقها، وأن على “إسرائيل” أن تكون سعيدة بتدمير مشروع “الهلال الشيعي”، وأن عليها أن تبحث عن آلية أمنية مشتركة مع تركيا لا تشكّل فيها سوريا تهديداً لأحد[25].
أما بالنظر إلى “إسرائيل”، نجد أن بعض تحركاتها تجاه سوريا مضطربة، إذ لا تملك سبباً واضحاً لتبرير أعمالها العدائية المخالفة للقانون الدولي، وفشلت في استقطاب الدروز والأكراد بالشكل الذي كانت تطمح إليه للعب ورقة الأقليات، وبدأت تتلقّى انتقادات من داعميها في الغرب مثل ألمانيا[26]، كما فشلت بإقناع أمريكا في دعمها للضغط على تركيا للانسحاب من سوريا، وهذا قد يؤدي إلى تخفيف حدة العدوان “الإسرائيلي” في المرحلة المقبلة.
وستواجه “إسرائيل” في المستقبل المزيد من الضغوط الدولية، إذ أعلنت تركيا عن تأسيس حلف خماسي يضم سوريا وتركيا والأردن والعراق ولبنان بهدف ضمان استقرار سوريا والتنسيق معها لمواجهة التهديدات التي تواجهها، ومنها التهديد “الإسرائيلي” وتهديد “داعش”[27]، وهي خطوة ستعطي التحركات السورية والتركية المزيد من الشرعية، في مقابل إظهار الاعتداءات “الإسرائيلية” بصفتها أعمالاً عدوانية تهدد الأمن الإقليمي وتعرقل جهود الاستقرار. كما أن هذا التحالف الخماسي، بدعمه من أطراف عربية وإقليمية، سيُصعّب على “إسرائيل” تبرير تدخلاتها أو مواصلة انتهاكاتها الجوية، خصوصاً في ظل تغيّر ميزان القوى الإقليمي واتساع دائرة التنسيق الأمني بين دول الجوار السوري.
تملك تركيا اليوم إمكانية كبيرة للاتفاق مع الحكومة السورية للتعاون العسكري بين البلدين، وقد تنجح بالحصول على قواعد عسكرية في سوريا، ومن المحتمل أن يكون لها دور كبير في عملية إعادة هيكلة الجيش السوري وتزويده بأسلحة متطورة، وهو الأمر الذي تراه “إسرائيل” بأنه يُهدّد حرية تحركها في سوريا والمنطقة، وبالتالي يهدد أمنها القومي، ويروّج الإعلام التركي مؤخراً لإمكانية تطبيق نموذج الاتفاقيات التي وقّعتها تركيا مع قطر في سوريا، بحيث تسهم تركيا في حماية الأمن القومي باستخدام قواعد عسكرية، وترتبط معها بعلاقات تجارية ودبلوماسية قوية[28].
لن تتوقف “إسرائيل” تماماً عن التحرش بسوريا في المستقبل القريب، لكنها في الوقت نفسه لديها أولويات أهم من الدخول في حرب مع سوريا، مثل إنهاء ملف الحرب في غزة، ومسألة التعامل مع الملف النووي الإيراني ومع الحوثيين في اليمن، الأمر الذي قد يعطي للحكومة السورية بعض الوقت لإيجاد وسائل للتصدي لهذه التحرشات ومنع السيناريوهات التي تُخطّط لها “إسرائيل” من التحقق، وقد يكون ذلك عبر عقد تحالفات عسكرية مع تركيا دون التفريط بسيادة الدولة السورية واستقلاليتها.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة