ما هو تأثير السوريين على معدلات البطالة في تركيا؟!
مع اقتراب موعد الانتخابات التركية في العام 2023م، تبرز قضية الوجود السوري في تركيا كأحد أبرز القضايا التي يتم تداولها في الشأن العام التركي، سنحاول في سلسلة من المقالات نقاش بعض القضايا ذات الطابع الاقتصادي بشكل موضوعي، باعتبار أن تلك القضايا قد شكلت أرضية للجدل حول وجود السوريين في تركيا، وتسهم في رسم السياسات المتعلقة بهم، كالحديث عن تسبب السوريين بزيادة معدلات البطالة والغلاء والتضخم وزيادة إنفاق الدولة عليهم (خاصة مع التصريحات الحكومية حول أرقام الإنفاق على السوريين[1])، وصولاً إلى محاولة فهم جذور محركات الجدل حول الوجود السوري، وتأثير العوامل الاقتصادية والسياسية والهوياتية فيها، سنحاول فيها الرجوع إلى الدراسات والمقالات العلمية والأكاديمية التي تناولتها مع نقاشها وتحليلها والاستفادة من آراء الخبراء والمطلعين ممن قمنا بمقابلتهم[2].
السوريون ومعدلات البطالة في تركيا، آثار مختلطة، ووجهات نظر متباينة:
يعتبر موضوع تأثير هجرة السوريين على معدَّلات البطالة والتوظيف الرسمي أو غير الرسمي[3] في تركيا من القضايا الأكثر جدليَّة وتأثيراً على مختلف المستويات الشعبيَّة أو النخبويَّة على حدٍ سواء، الأمر الذي يجعل من قضية وجود السوريين في تركيا بكاملها محل شدٍ وجذب واستقطاب داخل المجتمع التركي، وتكاد تغدو فكرة تسبُّب السوريين بمعدَّلات عالية من البطالة أو انخفاض معدلات الأجور للمجتمع المضيف من المسلَّمات الشائعة بشكلٍ كبير بين عموم المواطنين الأتراك[4]، باعتبار أن العمَّال السوريين يعملون بأجور منخفضة وغالباً بشكل غير رسمي، مما يؤدي إلى تفضيل المصانع وأرباب العمل للعمَّال المهاجرين السوريين على أقرانهم من المواطنين الأتراك، الجدير بالذكر هنا أن العمالة غير الرسميَّة في تركيا أمر شائع جداً، وهي كانت موجودة قبل الهجرة السورية، ففي العام 2011 كان أكثر من 40٪ من العمالة التركية ذات طابع غير رسمي/ غير مسجَّلة، نقول هذا للتأكيد على أن عمل السوريين بشكل غير رسمي ليس مستحدثاً بسبب الوجود السوري في تركيا، فلم تأت العمالة السورية بجديد في هذا السياق، لكن بالفعل، كانت منافسة العمال والموظفين السوريين لنظرائهم الأتراك تتركز في هذا القطاع غير الرسمي من العمل، وهو ما أدى إلى حلول نسبة من العمال السوريين محل العمال الأتراك وزيادة نسبة البطالة بينهم بحسب بعض الدراسات، في ذات الوقت، قللت دراسات أخرى من هذا التأثير، وسلطت الضوء على التأثير الإيجابي للهجرة السورية في إيجاد أسواق استهلاك جديدة خارجية وداخلية، أو حتى تحدثت عن نتائج معاكسة، حيث أدت الهجرة السورية لاستحداث فرص عمل جديدة للمواطنين الأتراك، لا نتحدث هنا عن تصريحات بعض السياسيين غير المسؤولة، والتي لا تستند إلى دراسات علمية وموضوعية، بل نتحدث عن دراسات اقتصادية وأكاديمية حاولت تقصي تأثيرات الهجرة السورية بشكل موضوعي علمي، ودون تحيز كما هو مفترض، سنحيل إلى تلك الدراسات في هوامش المقالة.
يختلف الطابع غير الرسمي للعمل بشكل كبير حسب المنطقة والقطاع وحجم الشركة[5]، وهذا ما سينعكس على التوظيف السوري كنسبة وتناسب منطقي بطبيعة الحال، باعتبار أن المهاجرين السوريين سيكونون في عداد العمالة غير الرسمية، مما يعني أنهم سيعملون في الشركات الأصغر حجماً نسبياً، عمل السوريين في القطاع غير الرسمي هو ما ركزت عليه إحدى الدراسات[6] حول تأثير السوريين في سوق العمل التركي، وهي من أشهر الدراسات التي تم ذكرها والعزو لها في الدراسات التالية باعتبارها قدمت إطاراً نظرياً ونتائج تجريبية بدت موضوعية، حيث تنطلق الدراسة من فرضية أن جزءاً من المواطنين العاملين يتم استبدالهم بالمهاجرين الجُدد، ونتيجة لذلك، من المتوقع أن تنخفض أجور المواطنين ومعدَّلات توظيفهم، ويشير هذا الإطار النظري البسيط إلى آثار سلبيَّة للمهاجرين السوريين على سوق العمل للمواطنين الأتراك في معدلات الأجور والتوظيف، ومع ذلك، بحسب الدراسة نفسها، تشير الدراسات التجريبيَّة إلى نتائج متضاربة ومختلفة، فهنالك تأثير سلبي على توظيف المواطنين الأتراك في سوق العمل غير الرسمي بالدرجة الأولى، لكن مع تأثير إيجابي طفيف على توظيفهم في سوق العمل الرسمي، ودون تأثير على معدَّلات أجورهم.
وتفصِّل الدراسة بنتائج احصائيَّة، حيث تشير إلى أن هجرات السوريين أدت إلى خفض العمالة غير الرسميَّة (للمواطنين الأتراك) إلى نسبة السكان بنحو 2.2% بشكلٍ عام (أي من أصل حوالي 37% من العمالة)، والتخفيض في نسبة العمالة غير الرسمية حدث للنساء أكثر من الرجال، فهو بنسبة 1.9% للرجال، بينما هو بنسبة 2.6 % للنساء، وتعلل الدراسة تأثر النتائج المتعلقة بالعمل غير الرسمي أكثر من العمل الرسمي باعتبار أنه لا يُسمح للمهاجرين السوريين بالعمل بشكل رسمي، وهم _ بحسب الدراسة _ في الغالب “غير متعلمين”[7]، وبالتالي، لا يمكنهم الانتشار في سوق العمل التركي إلا من خلال العمالة غير الرسمية[8]، مما يعني أنهم سوف يقومون بمنافسة العمال الأتراك قليلي المهارة والتعليم منهم (تختلف مستويات العمال الأتراك في المهارة) في قطاع العمل غير الرسمي.
والجدير ذكره هنا أن الدراسة تتبعت مصير العمال الذين انتهى بهم المطاف بخروجهم من سوق العمل (نسبة 2.2% للرجال، و 2.6 % النساء )، فاقترحت أن حوالي 50٪ منهم خرجوا من القوى العاملة نهائياً (تركوا السعي لإيجاد عمل)، فيما بقي 32٪ منهم عاطلاً عن العمل (لا زالوا يبحثون عن عمل ولكنهم لا يعملون)، ولكن أيضاً، تحول 18٪ إلى العمل بشكل رسمي، أي أنهم وجدوا وظيفة رسمية.
بمعنى آخر، يمكن القول بأن التأثير السلبي على العمال الأتراك الذين تم استبدال جزء منهم بالعمالة السورية الوافدة في سوق العمل غير الرسمي، قد أدى إلى تحول نسبة منهم إلى عمالة رسمية بفعل ازدياد نشاط المنظمات الحكومية وغير الحكومية بعد تدفق الهجرة السورية وفق ما تقترحه الدراسة نفسها كتعليل، لكن أموراً أخرى ربما لم تناقشها الدراسة، وهو أن فرص العمل في القطاع غير الرسمي نفسه لم تكن بنفس المستوى قبل قدوم السوريين، فقد ازدادت بتوافد الهجرة السورية، لأن الهجرة السورية لم تتضمن هجرة عمالة فقط، بل مستثمرين ورواد أعمال وأصحاب شركات كبيرة ومتوسطة وصغيرة ومتناهية في الصغر فتحوا أسواقاً داخلية وخارجية جديدة، وهو ما تؤكده دراسات أخرى، حيث أشارت دراسة[9] إلى البطالة وعلاقة السوريين بها، والتهمة التي توجه مباشرة للسوريين كسبب رئيسي لارتفاع نسبتها، حيث بينت الدراسة بأن البطالة في غازي عنتاب وصلت إلى أعلى مستوى لها في العام 2007 بنسبة مئوية قدرها 18%، وانخفضت بشكل ملحوظ في العام 2013م إلى 7.3% بشكل عام لدى الأيدي العاملة الماهرة وغير الماهرة على السواء مع بدء الهجرة السورية، والمفاجأة هنا، أن نسبة البطالة في الأيدي العاملة غير الماهرة التركية تناقصت باطراد منذ العام 2004، لتشهد أدنى مستوى لها في العامين 2013 و2014، وهي الأعوام التي شهدت أكبر موجة للهجرة السورية، على الرغم من الافتراض المعروف أن السوريين ينافسون العمالة التركية غير الماهرة في القطاعات غير الرسمية.
يضاف إلى ذلك، أن العمال الأتراك استفادوا من قدوم العمالة السورية برفع مكانتهم في السلم الوظيفي، حيث أصبحوا رؤساء ورشات تضم العمال السوريين، وأسهم السوريون في إنعاش بعض القطاعات، كالأحذية والنسيج[10]، الأمر الذي يؤكده الدكتور ياسين أقطاي، الأكاديمي التركي[11].
إذاً، تبدو نتائج الدراسات مختلطة ومتناقضة أحياناً، ولا بد بالتالي من مناقشة مختلف جوانب التأثير السوري الاقتصادية دون نزعها من سياقها، حيث شهدت تركيا أزمات عديدة لم يكن لها علاقة بالوجود السوري، وهو ما سوف نناقشه في مقالات لاحقة لنحاول الإحاطة بمختلف جوانب تأثير الهجرة السورية، مما يساعدنا على فهم تلك التأثيرات بشكل أكبر بهدف توظيف هذا الفهم لدعم سياسات وتوجهات الوئام المجتمعي بين السوريين ومجتمعاتهم المضيفة.
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،
5 تعليقات