مستقبل الحضور الروسي في الشرق الأوسط والملف السوري
حسابات الكرملين في ضوء تداعيات الحرب الأوكرانية والتطورات الإقليمية
مقدمة:
تشير مختلف الأدبيات إلى أهمية الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً في السياسة الروسية منذ حقبة الاتحاد السوفيتي باعتبار الأخيرة لديها هاجس الوصول إلى المياه الدافئة. وعلى الرغم من مرور بعض الفترات التي تراجع فيها الاهتمام الروسي بتلك المنطقة، إلا أن التوجه العام بقي على استمرار الاهتمام بالحضور وتعزيز النفوذ.
أعطت الثورة السورية فرصة استثنائية لروسيا للعودة إلى منطقة الشرق الأوسط سياسياً وعسكرياً؛ حيث مثّلّ الموقف الروسي الداعم لنظام الأسد بداية عبر حمايته سياسياً من خلال استخدام حق النقض الفيتو في مجلس الأمن، ثم عسكرياً من خلال التدخل العسكري المباشر في أيلول 2015، بداية العودة الروسية إلى هذه المنطقة الحيوية.
تُعدّ سوريا كما يبدو بالنسبة لروسيا بوابة لها لإعادة تموضعها على المستوى الدولي قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية وتفردها في النظام الدولي، في مواجهة التجاهل والاستخفاف الغربي بدور روسيا وفاعليتها على الساحة العالمية، ومن ثم توظيف الصراع في سوريا بوصفه ورقة تفاوضية مع الغرب والولايات المتحدة فيما يتعلق بملفات خلافية إشكالية، وتعزيز الوضع الدبلوماسي لروسيا؛ بحيث أصبح اتخاذ أي قرار في سوريا دون مشاركتها صعباً[1].
بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، بدا أن خيار تثبيت الوضع الراهن في سوريا بشكل عام، هو الخيار الذي مالت إليه جميع الأطراف المنخرطة في الملف السوري، إلا أن ذلك لا ينفي احتمالية حدوث بعض المتغيرات على المشهد السياسي والعسكري، خصوصاً مع استمرار حالة التوتر بين روسيا من جهة، والغرب من جهة أخرى[2].
يهدف هذا التقرير إلى الإجابة على الأسئلة التالية: ما هي السيناريوهات المتوقعة لتطور المواقف الروسية تجاه الملف السوري في ضوء التطورات المرتبطة بالحرب الروسية على أوكرانيا؟ وما سبل التعامل معها من قبل الثورة والمعارضة؟ ويتفرع عن هذه الأسئلة الرئيسة أسئلة فرعية، نحدد بالآتي:
- ما هي محددات السياسة الكلية الروسية تجاه الشرق الأوسط وسوريا تحديداً؟
- ما هي انعكاسات العلاقة الروسية التركية على السياسة الروسية في سوريا؟
- ما هي تطورات الموقف الروسي تجاه سوريا بعد الحرب الروسية على أوكرانيا؟
- ما هي مآلات السياسة الروسية في سوريا؟ وهل يمكن أن يتغير الموقف الروسي من الملف السوري؟ ولماذا؟
- كيف يمكن لقوى الثورة والمعارضة وحتى الحاضنة المعارضة التعامل مع السياسة الروسية؟ وما هي الأدوات المتاحة لهم؟
اعتمد هذا التقرير المنهج الوصفي التحليلي؛ وذلك بهدف تحليل السلوك الروسي في تعاطيه مع الملف السوري والوقوف على محركاته وأهدافه.
يأتي هذا التقرير في سبعة أقسام؛ يبحث الأول والثاني والثالث محددات السياسة الكلية الروسية تجاه منطقة الشرق الأوسط، مع بيان خصوصية سوريا في هذا الإطار. ويتناول الرابع العلاقات الروسية- التركية وتأثيرها المتبادل في السياسات الروسية والتركية إزاء سوريا، ليناقش الخامس والسادس تأثيرات الحرب الأوكرانية في الاستراتيجية الروسية تجاه سوريا – خاصة التدخل العسكري – في ضوء عدد من السيناريوهات، ليستعرض السابع الأدوات المتاحة لقوى الثورة والمعارضة السورية للتعامل مع السياسات الروسية، والعوائق الذاتية والموضوعية التي تحول دون توظيف تلك الأدوات وتثميرها، وكيفية التغلب عليها أو تحييدها على الأقل، ليختم الثامن بمناقشة الإجابة على سؤال: هل يمكن للمعارضة السورية مفاوضة روسيا؟.
أولاً: نظرة تاريخية على موقع الشرق الأوسط في السياسة الخارجية الروسية:
شكَّلت منطقة الشرق الأوسط تاريخياً عنصراً مهماً في صلب المشاريع الجيوسياسية لروسيا القيصرية، للوصول إلى المياه الدافئة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، واتسمت تلك المشاريع في طور متقدم منها بتطلعات استعمارية، بالتنافس مع بريطانيا وفرنسا على تقاسم تركة الدولة العثمانية، وانتهت هذه المرحلة باندلاع الثورة البلشفية عام 1917.
إلا أن الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط استمرّ في الحقبة السوفييتية وما بعدها، لكنه مرَّ بعدة مراحل تباينت فيها السياسات تجاه المنطقة لجهة الاختلاف في درجة الاهتمام؛ ففي الحقبة الستالينية (1923- 1953)[3] سادت نظرة عقائدية سلبية نحو حركات التحرر العربية، إذ إن المنظور الماركسي الذي ساد في الحقبة الستالينية كان ينظر إلى حركات التحرر العربية _ رغم استهدافها النفوذ الغربي _ أنها ذات طابع قومي (غير تقدمي)، وهذا ما يفسّر جانباً من خلفيات دعم الاتحاد السوفييتي لإنشاء دولة “إسرائيل” والمسارعة للاعتراف بها عام 1948[4].
ولكن مع اشتداد وتيرة الحرب الباردة في منتصف خمسينيات القرن الماضي بدأ الاتحاد السوفييتي في عهد نيكيتا خروتشوف[5] يتبع خطاً براغماتياً في العلاقات الخارجية، أفرد فيه اهتماماً ملحوظاً بقضايا منطقة الشرق الأوسط، ضمن سياسة الانفتاح على دول العالم الثالث، وتشجيع حكوماته على السير في نهج قبول الاشتراكية. وسرعان ما تحول هذا الانفتاح إلى تحالف مع الأنظمة الشمولية التي تدور في فلك السياسات السوفييتية، وترسّخ ذلك في عهد ليونيد بريجنيف (1964- 1982)[6]، الذي قطعت في عهده العلاقات بين الاتحاد السوفييتي وإسرائيل عقب حرب 1967.
وبتولّي ميخائيل غورباتشوف السلطة في عام 1985[7] اعتمد استراتيجية سوفييتية جديده تجاه منطقة الشرق الأوسط، ضمن رؤيته للتعاون مع الولايات المتحدة والغرب وإنهاء الحرب الباردة، أدت إلى تراجع الاهتمام السوفييتي بالقضايا العربية، في مقابل إعادة تفعيل العلاقات مع “إسرائيل”، وصولاً إلى استئنافها على المستوى القنصلي عام 1987، واستعادتها بشكل كامل عام 1991 قبل مؤتمر مدريد للسلام[8].
وفي النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، في عهد الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين[9] بقيت منطقة الشرق الأوسط غائبة عن أجندة السياسة الخارجية الروسية[10]، وكان الاستثناء الوحيد في سياسة وزير الخارجية الروسي آنذاك كوزيريف تجاه منطقة الشرق الأوسط إعطاء اهتمام خاص لكل من تركيا وإيران و”إسرائيل”.
وبعد فشل سياسته التي كانت تهدف إلى إدماج روسيا بالمنظومة الغربية، ومع تولي يفغيني بريماكوف[11] حقيبة الخارجية بدلاً منه (1996- 1998)، ومن ثم منصب رئاسة الوزراء (1998-1999)، أسّس مرة ثانية لانعطاف روسيا نحو الشرق، وإعادة الاهتمام الروسي بمنطقة الشرق الأوسط.
وتعمّق نهج العمل على استعادة العلاقات بين روسيا والبلدان العربية، وإعادة روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط بعد انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً للبلاد عام 2000[12]؛ إذ اعتمدت موسكو عقب تسلُّم بوتين السلطة نهجَ فتحِ قنوات استراتيجية مع الغرب ضمن منظور جديد، فقد حاولت بعد أحداث 11 أيلول /سبتمبر 2001 التقارب مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، من خلال عرض التعاون بين البلدَين، خاصة في ملف “مكافحة الإرهاب”؛ غير أن هذا النهج لم يمنح روسيا نفوذاً في منطقة الشرق الأوسط، وسرعان ما بدأ يتراجع في الولاية الرئاسية الثانية للرئيس بوتين (2004- 2008)[13]. عموماً واجهت السياسات الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط والجوار الإقليمي القريب (بلدان الاتحاد السوفيتي سابقاً) تحديات كبيرة خلال الولايتين الأولى والثانية للرئيس بوتين (2000- 2008( أثّرت فيها وفي ترتيب أولوياتها[14]. الأمر الذي فرض على روسيا إيلاء أهمية استثنائية لسياساتها تجاه الجوار الإقليمي من بلدان الاتحاد السوفييتي سابقاً، بتركيز جهودها لمنع تمدُّد ظاهرة ما يُصطلح على تسميته بـ”الثورات الملونة”[15] التي حكمت لاحقاً نظرة روسيا إلى “ثورات الربيع العربي”؛ إذ صنّفتها موسكو ضمن ظاهرة “الثورات الملونة” التي حظيت بدعم غربي، وأسّس هذا الموقف الروسي السلبي من “ثورات الربيع العربي” للتدخل العسكري الروسي في سوريا أيلول/سبتمبر 2015[16].
وهكذا في كل مرّة شهد فيها الدور الروسي والسوفييتي صعوداً في منطقة الشرق الأوسط كان يترافق مع انكفاء الدور الأمريكي والغربي، وسعي موسكو لملء الفراغ الجيوسياسي الذي يتركه وراءه[17]. إلا أن الروافع التي وفّرتها موسكو لاستراتيجياتها بقيت محدودة؛ مما أعاق إمكانية منافسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط من موقع الندّيّة[18].
ثانياً: محددات السياسة الروسية الكلية تجاه منطقة الشرق الأوسط:
تستند السياسات الروسية تجاه منطقة الشرق الأوسط إلى أهمية هذه المنطقة من ناحية موقعها الجيوسياسي، وما تتمتع به من ثروات، وما توفره من فرص اقتصادية، وإلى كونها واحدة من أهم بؤر الصراعات في العالم وأكثرها سخونة وديمومة، وتكتسب طابعاً إقليمياً ببٌعد دولي. وترى موسكو ضرورة الحفاظ على الاستقرار الإقليمي من خلال الإبقاء على أنظمة الحكم القائمة، ومكافحة “التطرف الفكري والديني”، والتعاون العسكري والأمني في “مكافحة الإرهاب”. وذلك للأسباب التالية[19]:
- الموقع الجيوسياسي: تُعد منطقة الشرق الأوسط مهمة جداً في السياسات الخارجية الروسية؛ حيث تُصنّف ضمن متطلبات الأمن القومي الروسي، والمصالح الروسية العليا، كون منطقة الشرق الأوسط متاخمة لحدود روسيا الجنوبية، وتؤثر الصراعات ذات الطابع المذهبي فيها على الأوضاع في شمال القوقاز ومنطقة آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة والمتعددة مذهبياً. إضافة إلى أن منطقة الشرق الأوسط تُعدّ همزة وصل بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وممراً رئيسياً لحركة المواصلات والتجارة العالمية البرية والبحرية والجوية.
- العامل الاقتصادي: تنظر روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط باعتبارها توفر لها فرصاً واسعة لتقوية اقتصادها، عن طريق التبادل التجاري والاستثمار، وضمان استقرار أسعار النفط والغاز العالمية؛ وهذا مهم جداً لتغطية نفقات الموازنة العامة الروسية، ولتوازن الاقتصاد الروسي بطبيعته الريعية، لاعتماده بدرجة كبيرة على بيع النفط والغاز والخامات الأولية.
- العامل السياسي: ينبع اهتمام روسيا بمنطقة الشرق الأوسط من أن الصراعات فيها تحظى باهتمام دولي كبير، ولا يمكن لروسيا أن تحافظ على مكانتها كدولة كبرى، وكعضو دائم في مجلس الأمن الدولي دون أن تلعب دوراً في معالجة أوضاع المنطقة، في عمليات التفاوض والسعي للمشاركة في اتخاذ القرارات المهمة، سواءٌ فيما يتعلق بالصراع العربي والفلسطيني- “الإسرائيلي”، أو النزاعات الداخلية، أو البينية بين دول المنطقة.
- العامل العسكري والأمني: بعد انهيار الاتحاد السوفييتي انحسر الوجود العسكري الروسي الخارجي إلى حد كبير؛ فمع نهاية عهد الرئيس بوريس يلتسين بات ينحصر في بعض بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، وبالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط اقتصر على قاعدة طرطوس في سوريا بشكل رئيسي، وعلى شكل خبراء عسكريين وخدمات لوجستية للبحرية الروسية في الجزائر.
ومع مجيء الرئيس بوتين للسلطة عام 2000 أولى اهتماماً خاصاً لمنطقة الشرق الأوسط، وإعادة بناء وتشغيل العلاقات الروسية – العربية، وتشكيل تحالفات إقليمية ودولية، عبر التعاون الاقتصادي والتقني والعسكري؛ بما يشمل صفقات السلاح والخبراء العسكريين، ومثّل الوجود العسكري الروسي في سوريا، وبعدها التدخل العسكري المباشر فيها عام 2015 استثناءً في الاستراتيجية الروسية الجديدة[20].
- الحفاظ على الاستقرار الإقليمي ضمن مفهوم روسي خاص: يرجع السبب في ذلك جزئياً من المنظور الروسي إلى الحفاظ على الأنظمة الحاكمة الحالية، وتجنب وجود دول غير مستقرة، لمنع تمدد “التطرف والإرهاب” إلى الدول المجاورة. وقد شكّل انتشار” ظاهرة الإرهاب الدولي” بعد الاحتلال الأمريكي للعراق قلقاً بالغاً لموسكو؛ نظراً للمخاوف الروسية المتجذرة من “التنظيمات الإسلامية المتطرفة”، وتفاقم تلك المخاوف بسبب مشاركة آلاف من المقاتلين الروس في المعارك التي خاضتها تلك التنظيمات في سوريا والعراق، وعودة أعداد كبيرة منهم إلى روسيا[21]؛ مما دفع موسكو إلى مزيد من الانخراط في منطقة الشرق الأوسط.
وتحت هذا العنوان حرصت روسيا في خطابها السياسي والإعلامي على تأكيد رفضها لأي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، لاسيما بعد اندلاع ثورات الربيع العربي في نهاية 2010 ومطلع 2011[22]. والترجمة العملية لهذا الخطاب هي منع انهيار أنظمة الحكم التي تربطها علاقات وطيدة أو جيدة مع موسكو تقوم على تلاقي أو تقاطع المصالح مع النظام الشمولي في روسيا، الذي عمل الرئيس فلاديمير بوتين على تثبيت وتقوية ركائزه على مدار 23 عاماً من سيطرته على مقاليد السلطة.
- انتهاز الفرص: إنّ الاستراتيجية الروسية في المنطقة هي مقاربة تعتمد على الموارد والفرص، وتسعى لتحقيق امتيازات اقتصادية وسياسية وأمنية قصيرة المدى، والتقليل في الوقت ذاته من امتيازات منافسيها المحتملين، خاصة الولايات المتحدة. وتقدّم روسيا نفسها -متى أمكن- لدول الشرق الأوسط بديلاً للغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، وترى روسيا أن تصوُّر، أو اعتقاد حكّام دول الشرق الأوسط بوجود ثغرة في القيادة الغربية، وانعدام الترابط السياسي الغربي في المنطقة يمنح موسكو فرصاً كبيرة لكسب النفوذ في المنطقة. وتختلف مقاربة موسكو عن مقاربة الولايات المتحدة في أنها مرنة وقصيرة المدى وعملية وتقدّم منافع؛ لكنها تظل محفوفة بالمخاطر على المدى الطويل، في حين تطمح المقاربة الأمريكية إلى علاقات طويلة المدى مع الشركاء الإقليميين[23].
- الانفتاح على كل الأطراف وتغييب البُعد الأيديولوجي: البراغماتية العالية التي تمتاز بها السياسة الخارجية الروسية، أو بمعنى آخر النفعية دون ضوابط أيدلوجية أو سياسية محددة[24] مكّنت موسكو من بناء علاقات مع أطراف شديدة التناقض، فعلى سبيل المثال لا الحصر: تتحالف روسيا مع بشار الأسد وإيران، وتؤكد دائماً على دعمها للقضية الفلسطينية، وفي الوقت نفسه لديها علاقات متينة مع “إسرائيل”[25].
وتبعاً للنهج البراغماتي في السياسة الخارجية الروسية لا تركيز على أي بُعد إيديولوجي في تعامل روسيا مع حكومات بلدان الشرق الأوسط، أو محاولة فرض قوالب سياسية معينة؛ فالأيديولوجية التي يتبناها الرئيس بوتين موجهة للداخل الروسي بشكل رئيس، وعلى الرغم من أنها تؤثر في سياسات موسكو تجاه عدد من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق التي فيها أقليات كبيرة من أصل روسي فإن هذه الأيدلوجية لا تُعدّ ركيزة ظاهرة أو ثابتة من ركائز السياسة الخارجية الروسية عموماً[26].
ثالثاً: الخصوصية السورية في الاستراتيجية الروسية نحو الشرق الأوسط:
هناك مصالح إضافية حفّزت أيضاً من النشاط الروسي في منطقة الشرق الأوسط، مثل تأمين الوصول إلى القواعد البحرية والجوية في سوريا، من أجل ترسيخ الوجود الروسي في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ ولكن لا ينبغي اعتبارها مؤشراً على تمدّد عسكري روسي أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط، لأن روسيا لا تسعى إلى تكرار التدخل العسكري المباشر كما وقع في الحالة السورية، لعدم مقدرتها على تأمين المقومات وتحمل التكاليف؛ ولذا لجأت روسيا إلى تنفيذ تدخلات عسكرية غير مباشرة، أو بالأحرى غير رسمية ظاهرياً من خلال مرتزقة “فاغنر”[27].
وتبرز في الموقف الروسي حيال سوريا، ولاسيما بعد اندلاع الثورة السورية، مجموعة المحددات التالية ضمن المنظور الاستراتيجي الروسي:
- تحظى سوريا بأهمية خاصة في الرؤية الجيوسياسية الروسية في منطقة الشرق الأوسط، بوصفها ركيزة تضمن لروسيا استمرار حضورها ونفوذها في المنطقة، من خلال الحفاظ على قواعدها العسكرية؛ القاعدة البحرية في طرطوس والقاعدة الجوية في حميميم، مع بقاء حكم نظام الأسد أو رحيله[28]. وهو ما أكدته العقيدة العسكرية البحرية الجديدة لروسيا، التي صدّق عليها الرئيس بوتين في 26 تموز/يوليو 2015، فقد نصّت الوثيقة على ضرورة وجود عسكري بحري روسي دائم في البحر المتوسط، كواحدة من الأولويات الروسية على خلفية اندلاع الأزمة الأوكرانية عام 2014.
ورأت روسيا على الدوام أن سوريا تمثل منطقة نفوذ خاصة بها، ورثتها عن الاتحاد السوفيتي، وليس منطقة صراع على النفوذ مع الولايات المتحدة الأمريكية. وخلال سنوات الثورة السورية برز بشكل أو بآخر إقرار ضمني من الغرب بأن سوريا تندرج في إطار المصالح العليا لروسيا.
وبعد عام من تدخلها العسكري في سوريا بدأت روسيا تكشف عن أن أحد أهم أهداف تدخلها العسكري على المستوى الاستراتيجي إعادة رسم خريطة تقاسم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بالاعتماد على إيجاد شراكات وتنسيقات متعددة الأطراف، لا تخلو من التنافس أحياناً، أبرزها ثلاث حلقات رئيسة: الأولى مع الصين[29]، والثانية مع إيران، والثالثة مع تركيا؛ في لعبةٍ مركبةٍ محفوفةٍ بمتاهة من التناقضات الجيوسياسية، تراهن روسيا بقدرتها على توظيفها لصالحها في ظل انكفاء سياسات الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي.[30]
- خلال سنوات حكم الرئيس بوتين أصبحت الكنيسة الأرثوذكسية حليفاً وشريكاً سياسياً رئيساً للكرملين[31]، وتضفي هذه العلاقة نوعاً من (القدسية الدينية) على سعي بوتين لاستعادة (أمجاد الإمبراطورية الروسية). ونتج عن ذلك أن فكرة حماية الأقلية المسيحية المتضائلة في سوري، وفي الشرق الأوسط عموماً بدأت تبرز -على ما يبدو- باعتبارها مصلحة جيوسياسية جديدة، من ناحية الخطاب السياسي والدعائي الروسي على الأقلّ[32].
- تُعد سوريا سوقاً رئيسية للسلاح الروسي، ومن أهم الشركاء التجاريين لروسيا بين البلدان العربية، وفيها استثمارات كبيرة للشركات الروسية، توسع نطاقها في السنوات القليلة الماضية، خاصة في مجال الطاقة[33]. وتشكل هذه الاستثمارات أداة مهمة لتعزيز نفوذ روسيا في سوريا على المدى الطويل مستقبلاً، ويُنظر إليها أيضاً كجزء من الأهداف الاستراتيجية الروسية للاستفادة من علاقاتها مع بلدان الشرق الأوسط[34].
- سياسياً: منذ بداية الثورة السورية في آذار/مارس 2011 اعتبرت روسيا أن محاولة إسقاط نظام بشار الأسد مناورة جيوسياسية غربية، لخلق ميزان قوى جديد في منطقة الشرق الأوسط، يهدف إلى احتواء النفوذ الروسي باستبعاد آخر رابط جيوسياسي لروسيا في المنطقة. ومن هذا المنطلق عملت روسيا على توفير مظلة حماية لنظام بشار الأسد وتبرير لجوئه لاستخدام القوة العسكرية ضد المظاهرات السلمية في الفترة الأولى من الحراك الشعبي المعارض. وقد أسهم الموقف الروسي في إفشال الجهود الدولية والإقليمية للبحث عن مخرج سلمي للأزمة؛ مما شجع نظام الأسد على زيادة البطش بالمتظاهرين والمدنيين، واعتماد الحل العسكري خياراً وحيداً لاحقاً؛ فقد عملت موسكو على تعطيل مسار جنيف، وفرضت مسارات خاصة بديلاً عنه، مسار أستانا وسوتشي واللجنة الدستورية[35].
ولكن خلافاً لما هو شائع لم يكن دائماً بقاء نظام الأسد على المدى الطويل خطاً أحمر بالنسبة إلى روسيا، بل ظهر في كثير من الأحيان ورقة مساومة محتملة مع الولايات المتحدة والغرب، واتضح ذلك منذ عام 2012[36]، وهذا أكد وجود قناعة حينذاك لدى صانع القرار في روسيا بأن أية تسوية غير ممكنة إلا برحيل بشار الأسد في نهاية المطاف، مع التنبيه إلى إعطاء المسؤولين الروس أكثر من إشارة متناقضة بخصوص مستقبل بشار الأسد؛ فتارة يؤكدون أن ما يهمهم هو الدولة السورية، وتارة أخرى يؤكدون أن بشار الأسد رئيس شرعي وله شعبيته، في محاولة لتوظيف هذا التناقض للإمساك بهذه الورقة وفق ما تتطلبه المصالح الروسية؛ فعندما كان هنالك ضغوط على روسيا – خصوصاً قبل 2013 – كانت التصريحات الروسية أن ما يهمها هو الدولة السورية، وأما بعد أن أصبح للروس الكلمة العليا في سوريا عقب تدخلهم العسكري المباشر في سبتمبر/أيلول 2015 فبدأت التصريحات تأخذ المعنى المعاكس، لاسيما وأن البعض يرى أن روسيا تريد تطبيق النموذج الشيشاني في سوريا[37].
وعلى الرغم من بروز تغيُّر واضح في الخطاب الرسمي الروسي تجاه نظام الأسد يدعو للتمسك ببقائه بعد التدخل العسكري في أيلول/سبتمبر 2015، لارتباط ذلك بتوفير غطاء رسمي للتدخل، وتعزيز الوجود العسكري بالحصول على قاعدة حميميم الجوية وتوسيع قاعدة طرطوس البحرية، بالإضافة إلى انتزاع المزيد من المزايا الاقتصادية التي تراهن عليها روسيا مستقبلاً؛ إلا أن موسكو بقيت تطلق بين الحين والآخر إشارات متناقضة حول علاقتها مع نظام بشار الأسد[38].
على سبيل المثال: منذ أبريل/ نيسان 2020 ازداد عدد المقالات والتحليلات المنشورة في مواقع إعلامية ومراكز بحوث مقربة من الخارجية والكرملين حول “الأسد الضعيف والفاسد”، وضرورة القيام بإصلاحات سريعة، وتقديم تنازلات لدعم الحل السياسي على أساس القرار 2254، وتصريحات مسؤولين روس حول الأوضاع الصعبة وعدم قدرة روسيا على الدعم المادي وغيرها. وهذا يصبّ في اتجاه الترويج من قبل موسكو لفكرة أن بقاء نظام الأسد من عدمه ورقة مساومة ستُلقيها على الطاولة عندما تنضج ظروف مواتية لعقد صفقة مجزية مع الولايات المتحدة والغرب، تستطيع روسيا من خلالها الحفاظ على مصالحها في سوريا مستقبلاً، وحتى ذلك الحين مما لا شك فيه أن موسكو ستبقى متمسكة بوجود نظام الأسد[39].
ومن المنطقي وفقاً للطابع النفعي في السياسة الخارجية الروسية ألا تبقى موسكو متمسكة بنظام الأسد دون قيود أو ضوابط؛ فمن أجل أن تحافظ روسيا على مصالحها في سوريا على المدى الطويل يجب إخراج البلاد من “الحرب الأهلية”، وحل ملف اللاجئين، وإيجاد تسوية سياسية يتم من خلالها إعادة بناء مؤسسات الدولة السورية؛ وهذا غير ممكن إلا بتوافقات دولية وإقليمية، ما زال الاتجاه الغالب فيها يدعو إلى تسوية تدريجية توافقية تفضي في نهايتها إلى خروج بشار الأسد من الحكم.
بالإضافة إلى أن الهجمات التي تشنها بين فترة وأخرى مواقع إعلامية ومراكز بحثية روسية مقربة من الكرملين تعبرّ عن تشكك روسي في قدرة نظام الأسد على الاستمرار طويلاً، جرّاء تهالك بنيته وتفشي الفساد في مفاصلها، ومحدودية حاضنته الشعبية الآخذة بالتآكل. وتحمل تلك الهجمات الإعلامية في طياتها رسالة للغرب، وهي رسالة مكررة أُبلغت مباشرة لمسؤولين أمريكيين، استناداً إلى تصريح أدلى به جميس جيفري المبعوث الأمريكي الخاص السابق لشؤون سوريا قال فيه: “إن الأسد لم يفعل شيئاً لمساعدة الروس على تسويق النظام، لا في العالم العربي ولا في أوروبا، وقد سمعنا مراراً وتكراراً من الروس ما يدل على أنهم يفهمون مدى سوء الأسد”[40].
فضلاً عن أن روسيا لا يمكنها إخراج نظام الأسد من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف به، ولا تستطيع تحمل أعباء عملية إعادة الإعمار، وجذب أطراف دولية وإقليمية للإسهام فيها بفاعلية؛ مما سيفرض عليها عاجلاً أو آجلاً تداول تصورات لمرحلة ما بعد نظام الأسد ببنيته الحالية.
رابعاً: العلاقات الروسية- التركية وانعكاسها على السياسة الروسية في سوريا:
حظيت تركيا على الدوام باهتمام خاص في السياسات الخارجية الروسية بوصفها لاعباً رئيساً في ثلاث دوائر رئيسية: دائرة الشرق الأوسط، ودائرة منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، والدائرة الأوروبية. واستطاع البلدان تأسيس تعاون بينهما بدأ يشقّ طريقه عام 2003، على الرغم من الإرث التاريخي للعلاقات بين البلدين المحمّل بالصراع بين الإمبراطوريتين العثمانية والروسية[41]، والمواقف المتباينة بين روسيا وتركيا بشأن العديد من القضايا الإقليمية.
مع ذلك مرّت العلاقات الروسية – التركية في السنوات العشر الأخيرة بمنعطفات حرجة، فرضت على الجانبين حسابات دقيقة ومعقدة[42]، أكثرها تعقيداً وخطورة التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا 30 أيلول/سبتمبر 2015. ووصل التوتر بين البلدين إلى ذروة غير مسبوقة بعد إسقاط مقاتلات تركية طائرة روسية مقاتلة من طراز “سو24” في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، لكنه انتهى بعد تقديم الرئيس التركي طيب رجب أردوغان رسالة اعتذار لنظيرة الروسي في 27 حزيران/ يونيو 2016، وعمل الجانبان بسرعة على إعادة تشغيل العلاقات بينهما كنوع من الشراكة النفعية أملتها مصالح ثنائية اقتصادية وأمنية وسياسية، كانت كافية لتحييد الخصومة السياسية قدر الإمكان وببراغماتية عالية.
ولعل النقطة الأهم التي دفعت الجانين الروسي والتركي إلى الإسراع في إعادة تطبيع العلاقات الثنائية أن الأزمة في ذلك الوقت بدأت تشكّل مأزقاً مزدوجاً لكل من موسكو وأنقرة؛ لأن المعطيات الميدانية في سوريا كانت تشير حينذاك إلى أن التدخل العسكري الروسي وصل إلى سقفه الأعلى ضمن ما كان مخطط له روسياً، دون أن يستطيع تحقيق الحسم، فالمعارك على مختلف الجبهات بقيت تتسم بطابع أخذ ورد بين مقاتلي المعارضة وجيش الأسد وحلفائه؛ مما وضع موسكو أمام خيارين: إما زيادة تورطها العسكري في سوريا، وإما وقف تدخلها المباشر عسكرياً والاحتفاظ بوجودها في قاعدة طرطوس وقاعدة حميميم[43].
وفي المقابل شهد التأثير التركي في الملف السوري تراجعاً كبيراً في النصف الأول من عام 2016؛ ليس فقط بسبب التدخل العسكري الروسي، وحالة اللامبالاة عند الناتو والولايات المتحدة في الملف السوري، وخشية أنقرة من التورط في حرب مع موسكو، بل أيضاً بسبب السياسات الأميركية حيال تركيا وضلوع واشنطن في خلق فيدرالية كردية في شمال سوريا على الحدود مع تركيا، وفقاً لما يتردد في الخطاب الرسمي التركي. وبدا حينها أن أنقرة لم تعد تعارض من حيث المبدأ الوجود والتدخل العسكري الروسي في سوريا، وباتت الانتقادات التركية للتدخل الروسي تنصرف إلى المطالبة بضبطه على قاعدة تفاهمات بين موسكو وأنقرة تضمن احترام المصالح التركية[44].
وبهذا فُتحت صفحة جديدة بين الجانبين، انتقلت فيها السياسة التركية في الملف السوري من الصدام مع روسيا إلى البحث عن تفاهمات وضوابط يمكن لها من خلالها الاستفادة من الوجود العسكري في سوريا. ومن جانب آخر أقرّت روسيا من جانبها بالدور المحوري لتركيا في البحث عن حل للأزمة السورية، وضرورة مراعاة المصالح الأمنية والسياسية التركية في المنطقة، وأدى ذلك إلى تحول نوعي في العلاقات الروسية- التركية، ونظرة كل منها إلى دور الآخر في الملف السوري.
وانعكس هذا التحول لاحقاً على مسار الملف السوري بعمق ضمن المحددات الآتية:
– لم تعد أنقرة ترى أن من مصلحتها انسحاب روسيا عسكرياً من سورية في المدى المنظور، خشية حصول فراغ تستغله إيران لزيادة نفوذها، ويفتح الطريق أمام الولايات المتحدة لتنفيذ مشروع إقامة كيان فيدرالي كردي في مناطق شمال شرق سوريا، الأمر الذي تعدّه أنقرة أكبر تهديد لأمنها القومي. وبالنسبة إلى روسيا شكّل التعاون مع تركيا في الملف السوري مدخلاً لموسكو للعمل على إيجاد نوع من التوازن لضبط النفوذ الإيراني المتنامي في سوريا، وفي الوقت نفسه استخدمت موسكو النفوذ الإيراني لضبط الدور التركي عبر تطبيق سياسة “احتواء مزدوج”.
– تبلورت رؤية روسية- تركية مشتركة تقضي بأن يتولى الطرفان دوراً حيوياً في المفاوضات بين قوى الثورة والمعارضة ونظام الأسد تحت المظلة الدولية على أرضية التعاون بين موسكو وأنقرة، ومن هذا المنطلق لبّت تركيا دعوة روسيا للإسهام في مسار سوتشي وأستانا إلى جانب إيران بصفتها دولاً ضامنة، رغم اختلاف المواقف من نظام بشار الأسد.
– شملت الرؤية الروسية – التركية المشتركة أيضاً ضبط التعاون بين الطرفين على ثلاثة أسس:
الأساس الأول: التعاون في الحرب على تنظيم “داعش”، وتوسيع قائمة تصنيف الجماعات الإرهابية لتشمل جبهة النصرة في سوريا.
الأساس الثاني: الحفاظ على وحدة الأراضي السورية والعراقية، ورفض قيام أي كيانات انفصالية (طائفية أو إثنية)[45].
الأساس الثالث: البحث عن تسويات سياسية للأزمات؛ إلا أن ما تحقق عملياً في الأساس الثالث كان محدوداً وجزئياً، فقد فشل مسارا سوتشي وأستانا في إحداث أي اختراق جدّي على مدار عشرين جولة من المباحثات، وبقيت النتائج في إطار تفاهمات جزئية بين الدول الضامنة[46]؛ بسبب عمل روسيا -ومن خلفها إيران- على تحويل هذا المسار إلى بديل عن مسار جنيف الذي رعته الأمم المتحدة، بالإضافة إلى افتقار مسار أستانا إلى مشاركة إقليمية أو دولية مؤثرة تمتلك ما يكفي من قدرة على الدفع نحو إحداث اختراق سياسي في الملف السوري.
– رغم العلاقات التي نسجتها موسكو مع الأحزاب والقوى الكردية التي تسيطر على مناطق شمال شرق سوريا لم تُحدث تلك العلاقات تغيراً مفصلياً في السياسة الروسية فيما يتعلق بالمسألة الكردية؛ ففي الوقت الذي عملت فيه موسكو على التوسط بين “مجلس سوريا الديمقراطية” بقيادة الأكراد ونظام الأسد أرسلت موسكو إشارات ضمنية لأنقرة مفادها أن المسألة الكردية لا تمثل أولوية بحد ذاتها بالنسبة إلى روسيا في الملف السوري، ويمكن لتركيا أن تعمل إلى جانب إيران على تنسيق المواقف في محاربة الجماعات الانفصالية الكردية في الداخل الإيراني والداخل التركي، وأن ثمّة أفقاً لبلورة موقف روسي- تركي- إيراني مشترك بخصوص الملف الكردي في سوريا[47]؛ وهذا الموقف لا يتعارض مع رؤية نظام الأسد لكيفية حل هذا الملف، بل يخدمها في المحصلة.
– في سياق متصل بدأت تركيا تُبدي انفتاحاً على فكرة دخول جيش الأسد إلى المناطق الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تشكل قوامها الرئيسي “وحدات حماية الشعب”، الجناح العسكري لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي[48].
– تحفّظت موسكو على العمليات التي قام بها الجيش التركي في الشمال السوري، لكنها لم تقم بإدانتها صراحة، وفُسّر موقفها بأنها تعمل على الاستفادة من الصراع بين تركيا و”وحدات حماية الشعب”[49]. وكان لافتاً أن بعض الخبراء الروس تحدثوا عن تنسيق روسي تركي قبل عملية “غصن الزيتون” في عفرين كانون الثاني/ يناير 2018، في إطار المصالح المتبادلة. ومما يؤكد ذلك إعلان وزارة الدفاع الروسية في بيان أصدرته قبل بدء العملية عن “سحب أفرادها من عفرين لمنع استفزازات محتملة، واستبعاد التهديد لحياة وصحة العسكريين الروس”، ووصفت التحرك العسكري التركي بأنه “عملية خاصة”. وفي سياق متصل لخّص مصدر عسكري رفيع الموقف الروسي من “غصن الزيتون” في حديث لصحيفة “كوميرسانت” بأنه: “موقف عدم التدخل، وأن روسيا لديها مهامها وأهدافها الخاصة في سورية”[50].
– فشلت روسيا حتى اللحظة في تحويل تدخلها العسكري في سوريا إلى مكاسب سياسية استراتيجية، وستظل أية مكاسب يمكن أن تنتزعها موسكو في المحصلة النهائية رهناً بالموقف الأمريكي والغربي مستقبلاً؛ فاستمرار انكفاء الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي في الملف السوري سيزيد من مكاسب روسيا، في حين ستتقلص المكاسب إذا تطور الموقفان الأمريكي والأوروبي نحو امتلاك فاعلية مؤثرة. ويجدر التذكير هنا مرّة أخرى بأن ثمّة – من حيث المبدأ- إقرار اً ضمنياً من قبل الغرب بوجود مصالح روسية في سوريا لا يمكن القفز عنها تماماً، وهو ما تمثل في أحد جوانبه بالتنازلات المتكررة التي قدمتها الولايات المتحدة لروسيا في سوريا[51].
لكن في كل السيناريوهات المستقبلية من المفروغ منه أنه سيكون لروسيا دورٌ مفصليّ في تحديد مخارج أية تسوية سياسية للأزمة السورية، ومن المؤكد أنّ تمتُّع روسيا بعلاقات جيدة مع تركيا سيحسّن من الموقف التفاوضي لموسكو مع الولايات المتحدة والدول الغربية، وكذلك مع الدول الإقليمية الفاعلة في الملف السوري، التي يجب عدم تجاهل دورها في المحصلة، بصرف النظر عن تراجعه كثيراً في السنوات الأخيرة وجنوحه نحو التطبيع مع نظام الأسد.
ولا شكّ أيضاً في أنّ آفاق الدور التركي في سوريا مستقبلاً رهن بنتيجة الحرب والتسوية النهائية للصراع السوري؛ غير أنّ وجود معادلات أساسية مثل الديموغرافيا والاقتصاد والبُعد العسكري، مع عدم إغفال عامل الجغرافيا سيجعل التقرير في مستقبل سوريا دون أخذ تركيا في الاعتبار أمراً غير ممكن[52].
وبناءً عليه تدرك روسيا وكل الدول الأخرى الفاعلة في الملف السوري أن تركيا كانت وما تزال لاعباً رئيساً، ولا يمكن الاستغناء عنه في مخرجات أية تسوية سياسية للأزمة السورية مستقبلاً. ويعود ذلك إلى عدة عوامل: الجوار الإقليمي، وعلاقة أنقرة مع طيف واسع من المعارضة السورية، والوجود العسكري التركي المباشر في مناطق من الشمال السوري، واستضافة تركيا لملايين اللاجئين السوريين، وخصوصية الوضع الكردي في سوريا بالنسبة إلى تركيا.
– بشكل عام شكّل الملف السوري اختباراً صعباً للعلاقات الروسية التركية، تطلّب عمليات مساومة معقدة لمنع حصول مواجهات مباشرة، وللحفاظ على قنوات الاتصال بين موسكو وأنقرة. ورغم التقارب الذي حصل بين تركيا وروسيا بعد عام 2016 في الملف السوري، إلا أن العلاقات بين البلدين ما زالت سمتها الرئيسة تنافس متفاوت في وتيرته، يعمل الطرفان كي يبقى مرناً ومنضبطاً على أرضية تقاطع المصالح بينهما؛ تضيق هذه الأرضية أو تتسع في الحالة السورية تبعاً للعلاقات التركية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعلى ضوء سعي الرئيس أردوغان بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى إيجاد توازن أفضل بين علاقات بلاده مع روسيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية والغرب من جهة أخرى، وقد تشهد السياسات التركية إزاء الملف السوري نوعاً مختلفاً من التكتيكات بهدف انتزاع مكاسب على حساب روسيا في حال استطاعت أنقرة الوصول إلى نقطة التوازن المطلوبة.
خامساً: تأثير الحرب الأوكرانية في السياسة الروسية في سوريا:
لا شك في أن السبب الرئيس للتدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا أيلول/ سبتمبر 2015 تمثّل في إنقاذ نظام الأسد الذي كان على وشك الانهيار[53].
إلا أنه في الدوافع الروسية على نطاق أوسع لا يمكن فصل التدخل العسكري في سوريا عن الظروف الدولية التي نشأت بعد الحرب في شرقي أوكرانيا، وضمّ روسيا شبه جزيرة القرم ربيع 2014، وما تلاها من عقوبات غربية أدت إلى انكماش كبير في الاقتصاد الروسي وتراجع دخل المواطنين بشكل ملموس[54]. ويبدو أن النخبة السياسية الروسية قرّرت الهروب إلى الأمام من مشكلاتها الداخلية، عبر تسويق التدخل العسكري في سوريا كونه عودة لروسيا قوة عالمية عظمى لا ينبغي تجاهلها في جميع النزاعات الاقليمية، وتستطيع الدفاع عن مصالحها في أي مكان، مستغلة تردّد الإدارات الأمريكية والحكومات الغربية منذ اندلاع ثورات “الربيع العربي”، وانكفاءها عن الملف السوري. ومن المؤكد أن الكرملين قرّر التسلح بالورقة السورية في مواجهة الغرب، وإشهارها في أية صفقة شاملة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وازداد تمسكه بها بعد اندلاع الحرب الأوكرانية في شباط 2022[55]، وستبقى موسكو متمسكة بهذه الورقة التي تُعدُّ مصيرية لمستقبل النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط؛ نظراً لقلة تكلفتها العسكرية على موسكو في مقابل عوائدها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية المهمة[56]، ولمنح الأخيرة أوراقاً مهمة وقوية للضغط على الغرب، مثل ورقة اللاجئين.
وليس المقصود هنا بالصفقة الشاملة قبول روسيا بالمساومة على وجودها لعسكري في سوريا، بل إبداء مرونة في البحث عن تسوية سياسية للأزمة السورية والأسس التي ستقوم عليها، مقابل حصول روسيا على تنازلات غربية في الملف الأوكراني؛ إلا أن الخط الأمريكي والأوروبي المعتمد في المدى المنظور هو الفصل بين الملفين، لأن الربط بين الملفين في الوقت الراهن سيكون على حساب الملف الأوكراني، الذي يُعد مصيرياً لاستقرار وأمن القارة الأوروبية، والمعادلات الجيوسياسية التي تنظم علاقة أوروبا والغرب مع روسيا[57].
وفي الإطار العام يمكن أن تؤثر مجريات الحرب الأوكرانية في الدور الروسي في سوريا، خاصة التدخل العسكري، ضمن سيناريوهين اثنين:
السيناريو الأول: يفترض في هذا السيناريو أن يسهم الصراع المحتدم في أوكرانيا بضعضعة النفوذ الروسي في سوريا، وحصول انعطافه كبيرة في السياسات الروسية إذا حصلت انتكاسة عسكرية كبيرة للقوات الروسية في الحرب مع الجيش الأوكراني؛ وهو سيناريو أصبح ضعيفاً بعد النتائج المحدودة والبطيئة للهجوم المعاكس الذي شنّته القوات الأوكرانية في الصيف الماضي 8 حزيران/يونيو 2023، بعد تأخيره عدة أشهر.
ويسهم في إضعاف هذا السيناريو ظهور بوادر على ازياد حالة التململ في الغرب من تكاليف الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا، خصوصاً مع انخراط الولايات المتحدة في دعم “إسرائيل” عقب معركة طوفان الأقصى، وما قد يسببه من تراجع دعمها لأوكرانيا، إلى جانب انقسامات في الصف الأوروبي إزاء الموقف من الحرب ونهج استعداء روسيا، ومواجهة بلدان (الناتو) صعوبات في الاستمرار بوتيرة الدعم الذي تقدمة حالياً للجيش الأوكراني بالمعدات والذخائر، وتحذير الخبراء العسكريين الغربيين من محذور أن تمتد الحرب لفترة طويلة، وتحولها إلى “حرب خنادق” ثبت في الأشهر الأخيرة أن اليد العليا فيها للقوات الروسية، بفضل التحصينات والخطوط الدفاعية القوية التي شيّدتها بعد الهجوم المعاكس الذي شنّته القوات الأوكرانية في صيف وخريف العام الماضي 2023.
والملاحظ في هذا السيناريو أنه تم استبعاد حدوث مواجهة بين روسيا ودول حلف الناتو؛ لأن كل الأطراف حريصة على تجنب وقوعها، فآثارها ستكون مدمرة على نطاق واسع، وستطيح بكل المعادلات والتوازنات الجيوسياسية العالمية القائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتجنُّب ذلك يُملي على دول (الناتو) أن تضع ضوابط دقيقة لحدود ونوعية الدعم العسكري الذي تقدمه لأوكرانيا، بما لا يُخرج الحرب عن نطاق السيطرة؛ فالغرب لا يراهن على إمكانية إلحاق هزيمة عسكرية ساحقة بروسيا، بل إضعاف موقفها بحيث تقبل بتسوية سياسية للصراع في أوكرانيا بشروط مخففة. ولتقريب هذه الفكرة تدعو العديد من الدول الأوروبية للعودة إلى اتفاقيات مينسك كإطار للتسوية المنشودة في الأزمة الأوكرانية.
ولكن جدلاً – وليس من باب الترجيح – من شأن هذا السيناريو إذا تحقق أن يؤدي إلى إضعاف الموقف الروسي في سوريا، وقد يدفعها إلى تقديم بعض التنازلات للتفاوض مع الغرب؛ لأن الملف الاوكراني يُعد مسألة وجودية لها، في حين أن سوريا – مع أهميتها كما أشرنا في القسم الثاني- تُعد ثانوية على الرغم من أنها تقع ضمن النطاق الحيوي لروسيا في الشرق الأوسط.
وبما أن الملف السوري دولياً ليس بالملف المهم والجوهري، ويُعد أداة صغيرة ضمن الصراع الروسي الغربي الأكبر؛ فمن المتوقع أن يقوم بوتين في حال وقوع هذا السيناريو بمقايضة سوريا بمجموعة شروط تحسن من مفاوضاته في الملف الأوكراني، سيكون المستفيد الأكبر منها دولاً إقليمية هي بالترتيب: تركيا بوصفها طرفاً مرشحاً أكثر من الآخرين للوساطة بين الطرف الروسي والأوكراني، ثم كل من السعودية والإمارات وقطر؛ أي الأطراف التي تقبل فيها روسيا وسيطاً في أوكرانيا[58].
أما على صعيد العملية السياسية ككل ومضامينها كالانتقال السياسي واللجنة الدستورية، وبما أن الروس يجيدون التفاوض؛ فإن التنازلات المتوقعة قد تكون هامشية[59]، بحيث يعمل الروس على إضعاف المعارضة أكثر عبر أدوات وشخصيات تدفع باتجاهات تفاوضية لمصلحتها في سوريا، كما هو حال منصة موسكو التي عرضت حلولاً شكلية.
كما تستطيع روسيا أن تستمر في موضوع التلاعب في تفسير القرارات الدولية، ومن غير المرجح حتى في أسوء الأحوال أن تقبل روسيا بالتخلص من نظام الأسد بمؤسساته الأمنية والعسكرية؛ لأن ذلك سيُظهر المعارضة كمنتصر، بما يتنافى مع منطق بوتين المستمر من سنوات، إلا أن ذلك لا ينفي إمكانية التخلي الروسي عن رأس النظام، ولكن لصالح شخصيات أخرى وفي مراحل متأخرة.
أما مصير القواعد العسكرية الروسية في سوريا في حال تحقق هذا السناريو فيمكن القول بشكل عام: إن القواعد البحرية ستبقى موجودة في أي سيناريو، حتى إن رحل رأس نظام الأسد، وسيتم فرض ذلك على المعارضة وإلزامها بالمعاهدة التي وقعها نظام الأسد مع روسيا التي تنصّ على استمرار وجود الأخيرة فيها لمدة 49 عاماً. فوجود هذه القواعد ليس مرتبطاً بالتدخل العسكري في سوريا أصلاً، بل بالاستراتيجية العسكرية الروسية في الشرق الأوسط، خصوصاً ما يتعلق بقاعدة طرطوس التي يمكن أن تعود إلى دورها قبل التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا كنقطة إمداد بحري، وليس قاعدة بالمعنى العسكري[60]، لاسيما مع وجود توجُّه روسي بالتوجه نحو إفريقيا الوسطى وتشاد ومالي.. إلخ. وبذلك ستزداد حاجتها إلى قاعدة ارتكاز، وهنا من المرجح أن تصبح القواعد الروسية في سوريا نقطة وصل بين روسيا وإفريقيا؛ وكل ذلك يرجّح استبعاد التخلي الروسي عن الوجود العسكري في سوريا.
السيناريو الثاني: عدم تأثر النفوذ الروسي في سوريا، واحتفاظ موسكو بقدرتها على مواصلة وجودها العسكري والبناء عليه لاحقاً، دون اضطرارها إلى تغيير كبير في السياسات التي تتبعها، واللعب على عامل الوقت المتراخي لمواصلة الضغط من أجل فرض تسوية تستجيب لمصالحها. وهو سيناريو بات متداولاً بقوة بعد فشل الهجوم الأوكراني المعاكس في تحقيق أهدافه (صيف 2023)، وتراجع الاهتمام الدولي بالملف السوري بسبب تركيز الاهتمام على الحرب الأوكرانية، وما يحدث في غزة في ضوء العدوان الإسرائيلي المستمر عليها.
مما يعزّز هذا السيناريو الحديث عن تصاعد الخلافات الداخلية بين الأوكرانيين أنفسهم، وقبولهم ببعض الامتيازات الروسية في الأقاليم الجنوبية والشرقية، إلى جانب عجز الصناعة العسكرية الغربية عن تغطية الاحتياجات الأوكرانية، مما انعكس من خلال التقدم العسكري الروسي. فضلاً عن تأثير قدوم ترامب المحتمل للسلطة في الولايات المتحدة، الذي يقوم على عقلية ابتزاز أوروبا للحصول على صفقات وأموال، وهو ما يعطي روسيا فرصة للتمدد، فضلاً عن نجاح روسيا في تثبيت أقدامها أكثر في أوكرانيا وقدرتها النسبية على تأمين الأسلحة وتحويل اقتصادها إلى اقتصاد عسكري.
فضلاً عن أن هذا السيناريو يفترض أن تبقى تكلفة التدخل العسكري في سوريا محدودة، واستمرار الانكفاء الأمريكي والغربي، وقدرة روسيا على تحمل تكاليف تأمين روافع لسياساتها، وضبط التناقضات بين أضلاع مثلث المصالح الروسية- التركية، والروسية- الإيرانية، والتركية- الإيرانية.
يُرجّح في هذا السيناريو استمرار حالة الجمود التي تصبغ الملف السوري حالياً، وسيجعل روسيا مستمرة في تعنّتها برفض أية تسوية سياسية وفق ما وافقت عليه في قرار مجلس الأمن 2254، وستستمر في عرقلة أية جهود دولية في هذا الصدد، حتى وإن كانت هامشية غير مؤثرة، كما حصل في إيقافها جلسات اللجنة الدستورية، في حين أنها ستسعى لإنجاح المسارات البديلة الأخرى من أستانا وسوتشي، لتكون بديلاً عن مسار جنيف الأممي.
كذلك في ظل هذا السيناريو ستحافظ موسكو على المكاسب التي حققتها عسكرياً، وعلى وجودها العسكري في حميميم وطرطوس، فضلاً عن أنها ستبقى متمسكة بورقة بشار الأسد في ظل مناكفتها المستمرة مع الغرب. إلا أن كل ذلك مقرون بقدرة موسكو على انتشال نظام الأسد من أزمته الاقتصادية التي يعاني منها، وكانت أبرز ارتداداتها واضحة في حراك السويداء؛ فاستنفاد روسيا بنك أهداف تدخلها العسكري، وعدم قدرتها على انتشال نظام الأسد من أزمته الاقتصادية الخانقة، وعجزها عن تأمين شركاء إقليميين أو دوليين في عملية إعادة الإعمار، وصعوبة إعادة تسويقه في صورته الراهنة؛ كل هذه العوامل قد تدفعها لإعادة النظر في مواقفها الحالية من الملف السوري، لاسيما إذا ترافق ذلك بتشدّد أمريكي بفرض العقوبات على نظام الأسد، ووضع فيتو على التطبيع معه.
سادساً: استشراف مآلات السياسة الروسية في سوريا:
فرضت تطورات الثورة السورية في بعض المراحل اعتماد موسكو تكتيكات مختلفة، أو استثنائية إذا جاز الوصف؛ ولكن دون المس بهدفَين رئيسَين: الأول منع انهيار نظام بشار الأسد، والثاني إحكام القبضة على الملف السوري لاستخدامه ورقة لتعزيز الدور الروسي في مواجهة واشنطن والغرب، والحفاظ على نفوذها في منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط. ومن الواضح أن تمسُّك موسكو بهذين الهدفين نتج عنه طوال السنوات الماضية أنها لم تبادر طواعية أو من تلقاء نفسها إلى إجراء مراجعات ذاتية معمقة لدورها في “الأزمة السورية” ومواقفها السياسية منها[61].
غير أنه بشيء من التدقيق نجد بوناً شاسعاً في السياسية الروسية تجاه سوريا بين هدف منع انهيار نظام بشار الأسد، وهدف إحكام موسكو قبضتها على الملف السوري كمفتاح لا غنى عنه للحفاظ على نفوذها في منطقة الشرق الأوسط؛ فالهدف الأول تكتيكيّ بحت، على عكس الهدف الثاني الذي يقع في صلب العقيدة الجيوسياسية الروسية.
وتجدر الإشارة إلى أنه منذ اندلاع الثورة السورية أعلنت روسيا أن ثوابت سياستها تجاهها تتلخص -نظرياً- في خمس نقاط، هي: “التسوية السياسية عن طريق حوار غير مشروط، لا للحسم العسكري، وإجراء انتخابات، ووضع دستور جديد، وقيام دولة ديمقراطية في سورية”[62].
والشروط الخمسة مجتمعة تبيّن أن روسيا لا ترى مصير نظام بشار الأسد خطاً أحمر، بل ورقة ستواصل موسكو اللعب بها إلى حين تتوافر ظروف مواتية لإلقائها على الطاولة، بنضوج مقومات صفقة مع الولايات المتحدة والغرب والدول الإقليمية الفاعلة في الملف السوري يتم التسليم فيها بالإبقاء على دور روسيا في سوريا. وهذا يعيدنا إلى أن حقيقة أن الهدف الأساسي لسياسة روسيا في سوريا هو الحفاظ على نفوذها، والأمر سيان بوجود نظام الأسد أو رحيله، والتأكيد هنا يخدم فكرة قابلية موسكو من حيث المبدأ المساومة على ورقة مصير بشار الأسد إذا اضطرت لذلك[63].
وعلى الرغم من أن روسيا بعد ما يزيد عن ثمانية أعوام من تدخلها العسكري في سوريا لا تواجه ضغوطاً جدية تضطرها لإعادة النظر بعمق في سياساتها بخصوص الملف السوري؛ إلا أن الباب ليس موصداً تماماً أمام تغيرات قد تفرض على الكرملين إجراء مراجعات أو عمليات إعادة ضبط لمواقفه، مع تأكيد أن التغيرات تبقى في سياق احتمالات تتعزز في جزء منها بالدور المفترض أن تنهض به قوى الثورة والمعارضة، من أجل امتلاك روافع ذاتية وإعادة تصويب المسار، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- عودة الحراك الشعبي المعارض لنظام الأسد، وتمدّد نطاقه ليشمل مناطق واسعة من سوريا، على ضوء الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة وعودة نظام الأسد لممارسات قمعية في المناطق التي يسيطر عليها. كما حصل في المظاهرات التي انطلقت في درعا والسويداء في آب/ أغسطس 2023، احتجاجاً على حزمة من القرارات الاقتصادية اتخذتها حكومة الأسد، وسرعان ما تطورت الشعارات التي رفعها المتظاهرون لتحمل مضامين سياسية وصولاً إلى شعار “إسقاط النظام”.
- تغيير قواعد الاشتباك، التي أُرسيت تدريجياً لصالح روسيا وجيش الأسد خلال مرحلة خفض التصعيد، سيشكل ضغطاً على الوجود العسكري الروسي في سوريا؛ فقرار التدخل العسكري الروسي واستمرار وجوده استند إلى حساب تكلفة سياسية وعسكرية منخفضة أصبحت شبه معدومة بعد أن استطاعت روسيا تحقيق عدة اختراقات، من أبرزها؛ الفصل بين المكونين السياسي والعسكري للمعارضة، وتعميق الانقسامات داخل المكون السياسي؛ حيث باتت القوى السياسية التي تمثل قوى الثورة والمعارضة السورية عبارة عن مجموعة من المنصات المتصارعة، وذلك بفعل الاستفراد الروسي وسياسات الحواضن الإقليمية التي افتقرت إلى رؤى متجانسة، وعكست صراعاتها البينية على كيفية تعاطيها مع الملف السوري، من خلال توجهات متضاربة أربكت وكبّلت قوى الثورة والمعارضة السورية على المستوى السياسي، وأدت إلى حالة استقطاب بين الفصائل العسكرية[64].
ويُشترط لتغيير قواعد الاشتباك تحولات إيجابية في موقف الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي تنسحب على الدول الإقليمية الفاعلة في الملف السوري، تسهم في قدرة قوى الثورة والمعارضة السورية على استغلال انشغال روسيا بالحرب على أوكرانيا للعمل على جعل الوجود العسكري الروسي في سوريا مكلفاً، والاستفادة من الصراع الغربي – الروسي المحتدم على خلفية الحرب الأوكرانية لحشد موقف دولي يضغط على روسيا سياسياً، بما يضعف قبضتها على الملف السوري، وليس أن تتحول قوى المعارضة السورية إلى جزء من حرب بالوكالة قد تدفع الدول الغربية نحوها خدمة لأجنداتها تبعاً لتطورات الحرب الأوكرانية.
- توسُّع “إسرائيل” في استغلال انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا لشنّ المزيد من الضربات في العمق السوري ضد أهداف إيرانية أو تابعة لنظام الأسد، وتوسيع نطاق وحجم تلك الضربات، فمن غير المستبعد أن يؤدي ذلك إلى صدام عسكري بدرجة أكبر من المستويات السابقة بين إيران و”إسرائيل” لا يؤدي في جميع الأحوال إلى مواجهة مفتوحة.
- لجوء الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ خط متشدد في التعامل مع نظام الأسد المؤيد للحرب الروسية على أوكرانيا والحليف الوحيد لروسيا في المنطقة؛ بما يشمل كبح جماح التطبيع الإقليمي مع نظام الأسد[65]، بتفعيل سلسلة العقوبات المفروضة ضده، وممارسة ضغوط على الدول المطبعة معه[66].
- تعميق أزمة اقتصاد النظام السوري، الذي يعاني من اختناقات هائلة وانكماش؛ إذ إن الحرب الأوكرانية أدت إلى ارتفاع فاتورة استيراد السلع والمواد الأساسية، ففي العام الأول من الحرب الأوكرانية ارتفعت أسعار المواد الأساسية في مناطق سيطرة نظام الأسد بشكل كبير، تراوحت بين 50% إلى 100%، كما تدهور سعر صرف الليرة أمام العملات الأخرى، وفي الوقت ذاته تراجع حجم الدعم الاقتصادي الذي كانت تقدمه روسيا لحكومة الأسد.
- ستفرض تكاليف إعادة إعمار سوريا على روسيا بعد نهاية الحرب وعلى المدى الطويل تقديم تنازلات في التسوية السياسية النهائية؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الاتحاد الأوروبي هي من ستعطي الضوء الأخضر للبدء بهذه العملية، وسيكون لها الدور الأكبر بالإسهام فيها، وإقناع دول الخليج العربي بتحمل عبء رئيسي فيها.
- عودة الاهتمام الأمريكي والغربي بمنطقة الشرق الأوسط، وإحياء جهود البحث عن تسوية سياسية للصراع الفلسطيني – “الإسرائيلي”، تحت تأثير تداعيات عملية “طوفان الأقصى” والحرب “الإسرائيلية” الوحشية على قطاع غزة. فمن شروط نجاح أية تسوية سياسية للصراع الفلسطيني – “الإسرائيلي” أن تكون ضمن تسوية شاملة يدخل في نطاقها تسوية الصراع السوري – “الإسرائيلي”، وفي القلب منه قضية الجولان السوري المحتل[67]. مما يتطلب وضع حل للأزمة السورية أولاً كمدخل لإعادة إحياء المسار التفاوضي السوري – “الإسرائيلي” في سياق جهود البحث عن تسوية شاملة[68]؛ وهذا سيُملي ممارسة ضغوط على نظام الأسد والراعي الروسي.
كل هذه العوامل من شأنها أن تُضعف قبضة روسيا على الملف السوري، غير أن التطورات الحاسمة -سلباً أو إيجاباً- ترتبط بشكل أساسي بمدى وحدة قوى الثورة والمعارضة وفاعلية دورها أولاً، وتماسك المواقف الأمريكية والأوروبية والإقليمية المؤثرة[69].
سابعاً: المعارضة السورية في مواجهة السياسات الروسية والأدوات المتاحة:
ما سبق يؤكد إمكانية نشوء ظروف تُملي على روسيا إعادة النظر في مواقفها وحساباتها؛ إلا أن قدرة قوى الثورة والمعارضة السورية على الاستفادة من ذلك، وتوظيفه والبناء عليه تظل محدودة جداً إذا لم تتجاوز واقع الانقسام والتشتت الذي يعصف بها، من خلال إيجاد إطار جديد وفاعل للعمل المشترك بين مكوناتها الرئيسة، يمكِّنها من الاضطلاع بدور قيادي وتمثيلي جامع. وهذا يشترط استعادة الثقة بها شعبياً، وحل الخلافات البينية على أرضية القواسم الوطنية الجامعة، وتأطير العلاقة بين الشقين السياسي والعسكري، وانتزاع هامش واسع من الاستقلالية عن حواضنها الإقليمية، حتى لا تقع مرة أخرى فريسة لإملاءات وأجندات خارجية على حساب المصالح العليا للشعب السوري التي انطلقت الثورة من أجلها في ربيع عام2011[70].
وليس المقصود بإمكانية نشوء ظروف تُملي على روسيا مراجعة سياساتها في سوريا اتباع موقف انتظاري يراهن على العوامل الخارجية؛ فالمطلوب من قوى الثورة والمعارضة العمل على امتلاك روافع ذاتية وأدوات عمل تجعل السياسات التي تتبعها موسكو إزاء سورية مكلفة، وتدفع نحو إعادة التوازن لسياسات القوى الإقليمية الفاعلة في الملف السوري، وهو ما من شأنه أن يؤثر بدوره إيجاباً في السياسات الأمريكية والأوروبية. لكن هذا يعيدنا مرة أخرى إلى معضلة الواقع الراهن لقوى الثورة والمعارضة السورية، الذي يبدو معه الحديث عن امتلاك روافع ذاتية وأطر وأدوات عمل مشتركة وهامش واسع من الاستقلالية في المدى المنظور وصفة طوباوية؛ ولكن رغم ذلك يمكن للمعارضة أن تشكل أدوات لبرنامج عمل فاعل في مواجهة السياسة الروسية وسياسات نظام الأسد، إذا استطاعت بلورة رؤية موحدة وبناء موقف مشترك ضمن المحددات التالية:
- إعادة بناء الثقة مع المجتمع المحلي كجمهور ولجان محلية (تنسيقيات) وهيئات، وتمكينه من استنهاض دوره مجدداً؛ بما يمثله من حاضنة للحراك الثوري الذي انطلق في آذار/مارس 2011، وبدأ يستعيد حضوره في مناطق يسيطر عليها نظام الأسد، خصوصاً في السويداء.
- التنسيق والتعاون بين المكونين السياسي والعسكري، جنباً إلى جنب مع إعادة تشكيل هيئات ومؤسسات قيادية تمثيلية وتشاركية جامعة لقوى الثورة والمعارضة، بوسائل ديمقراطية وعلى مبدأ التمثيل النسبي ما أمكن، وأن تكون خاضعة للمساءلة.
- امتلاك رؤية واضحة وشفافة ومتكاملة سياسياً ودستورياً، ومتوافق عليها من قبل كل المكونات الرئيسة في المعارضة حول مستقبل الدولة السورية بعد نظام الأسد، كونها دولة مواطنة متساوية للجميع تتجاوز النزعات الطائفية والجهوية والإثنية.
- التمسك بالعودة إلى مسار البحث عن تسوية شاملة للملف السوري تحت مظلة الأمم المتحدة، على أساس مخرجات مؤتمر جنيف، ووفقاً لمرجعية قرار مجلس الأمن الدولي 2254، الهادف للتوصل إلى تسوية سياسية دائمة للأزمة من خلال إطلاق مسار “الانتقال السياسي”.
- ضرورة تبنّي قوى الثورة والمعارضة سياسات وبرامج تأخذ بعين الاعتبار التغيرات في موازين القوى الداخلية والإقليمية على أرض الواقع، من دون التفريط بمبادئ الثورة السورية، خصوصاً فيما يتعلق بإحداث التغيير السياسي الحقيقي وطوي حقبة نظام الأسد؛ وهو ما يفرض إبداء مرونة في القضايا التكتيكية مثل: مسألة توقيت عملية إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية على مراحل محددة، وفي سياق جدولة مرحلية، وبما لا يؤدي إلى حرف العملية باتجاه ما يُسمى بإعادة تأهيل نظام الأسد.
- يجب أن تلعب المعارضة دوراً نشطاً من أجل إحياء وتفعيل جهود التسوية السياسية تحت مظلة الأمم المتحدة، والعمل على إعادة الاهتمام الدولي والإقليمي بالملف السوري، الذي تراجع كثيراً في السنوات الأخيرة، ووصل إلى درجة الإهمال بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في شباط/فبراير 2022. إذ إن ذلك قد يسهم في حرمان روسيا من استخدام الملف السوري ورقة لإجراء مقايضة سياسية مع الغرب، في إطار البحث عن تسوية سياسية للحرب الأوكرانية؛ مع الانتباه إلى أن الجمود التفاوضي على المسار السوري في هذه الحالة يصبّ في مصلحة موسكو.
- عدم وضع كل الرهانات في أية سلة إقليمية أو دولية أخرى، دون إغفال حقيقة أن الموقف التركي؛ بصرف النظر عن التراجعات التي شهدها منذ عام 2016، وصولاً لاستعداده للتطبيع مع نظام بشار الأسد؛ فإنه يظلّ أكثر تطوراً من مواقف القوى الإقليمية الأخرى، قابلاً للبناء عليه في شكل التسوية النهائية ومضمونها. لكنّ الرهان الأساسي المجدي والمضمون في كل الأحوال هو الرهان على القوى الذاتية، وليس على قوى خارجية دولية أو إقليمية تحكمها في نهاية المطاف أجندات خاصة بها انطلاقاً من مصالحها في المقام الأول؛ فالمشروع الأمريكي لا يقلّ سوءاً عن الرؤية الروسية لمستقبل سوريا.
- وضع خطة استراتيجية شاملة لعلاقة قوى الثورة والمعارضة مع بقية الأطراف الفاعلة في الملف السوري (تركيا، والولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الاوروبي)؛ بحيث تأخذ مصالح هذه الأطراف بعين الاعتبار، من دون الدخول في لعبة المحاور التي أصبح تجنّبها صعباً، خصوصاً بعد الانقسام الحاصل دولياً نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا؛ إلا أنه لا يُعد مستحيلاً في حال توحُّد قوى الثورة والمعارضة.
- على ضوء التغييرات الإقليمية الكبيرة التي فرضتها عملية “طوفان الأقصى”، وفي مقدمتها إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وفتحها مجدداً لملف البحث عن تسوية سياسية للصراع الفلسطيني- “الإسرائيلي”، والعربي- “الإسرائيلي” بات ضرورياً أن تقدِّم قوى الثورة والمعارضة السورية رؤيتها لأسس وثوابت الحل فيما يتعلق بالجولان السوري المحتل؛ كي لا تكون أية تسوية فرصة لإعادة تسويق نظام الأسد على حساب حقوق الشعب السوري في أرضه والسيادة عليها.
ثامناً: هل يمكن للمعارضة السورية أن تفاوض روسيا[72]؟
مما لا شك فيه أن البحث عن أرضية لإيجاد تفاهمات بين روسيا وقوى الثورة والمعارضة السورية بمختلف مكوناتها ومستوياتها – باستثناء المنصات الموالية لموسكو – كانت ومازالت وستبقى قضية إشكالية ومعقدة؛ لأنه من الصعب جداً نسج خيوط ثقة متبادلة بين الطرفين للعديد من الأسباب، أبرزها:
- ثقل الفاتورة الباهظة لنتائج وتداعيات التدخل الروسي العسكري الروسي في سوريا إلى جانب نظام الأسد منذ أيلول/سبتمبر 2015، بسقوط الآلاف من الضحايا المدنيين، وتمكين نظام الأسد من إعادة سيطرته على غالبية المناطق التي كانت تسيطر عليها قوى الثورة والمعارضة، ولاستمرار روسيا في تأمين غطاء سياسي ودعم عسكري للنظام، ومحاولة تعويمه وإعادة تسويقه.
- عملت روسيا على تفتيت قوى الثورة والمعارضة وتهميش دورها، والتعامل مع مسار أستانا وسوتشي من منظور سياسي وأمني يخدم نظام الأسد، كورقة قوية في المساومة مع الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي مستقبلاً، وزادت أهمية هذه الورقة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. ومن هذا المنطلق لا تُبدي موسكو اهتماماً بفتح حوار جدّيّ وبنّاء مع قوى الثورة والمعارضة السورية في المدى المنظور.
- روسيا لا تمتلك رؤية شاملة ومتوازنة لتسوية الملف السوري، تأخذ بعين الاعتبار القرارات الدولية ذات الصلة، ولا تُظهر موسكو أي اهتمام بامتلاك مثل هكذا رؤية.
وفي سياق متصل تُعد قوى الثورة والمعارضة السورية في وضعها الراهن – كما أشرنا أعلاه – غير مؤهلة لخوض معركة سياسية مع موسكو، كما أن الحل العسكري بات مستبعداً في ظل تغير موازين القوى بين فصائل قوى الثورة والمعارضة المسلحة وجيش نظام الأسد والقوى الداعمة له[73]؛ ولذا فإنّ قوى المعارضة خسرت عملياً أوراق الضغط القوية التي كانت تمتلكها. ومن أجل تصويب الخلل ينبغي أن تنطلق قوى الثورة والمعارضة من إجراء مراجعة نقدية شاملة لتجارب السنوات العشر الماضية أساساً لاستشراف المستقبل، وإعادة بناء سياساتها وبرامجها وتوحيد صفوفها وفق المعطيات الآتية:
- أي تسوية سياسية للملف السوري غير ممكنة دون الأخذ بعين الاعتبار الدور الروسي المحوري، وفتح قنوات اتصال مع موسكو ليس بالضرورة من موقع الثقة، كما أنه في الوقت ذاته يجب ألا يكون الحوار مع موسكو من موقف ضعف.
- إذا كان لا يمكن تجاوز روسيا في التسوية فإن قوى الثورة والمعارضة طرف رئيس لا غنى عنه في التسوية[74]، ومدعوم بالقرارات الدولية ذات الصلة وبمواقف القوى المؤثرة في الملف السوري، بصرف النظر عن تراخي مواقف تلك القوى وتراجع مستوى اهتمامها بعد عام 2016.
وفق ما تقدم يجب على قوى الثورة والمعارضة السورية السعي لفتح قنوات حوار مع روسيا ضمن مجموعة من الضوابط والمحددات:
- التمسك بتسوية على أساس مخرجات مسار جنيف، وإبقاء مطلب رحيل نظام بشار الأسد على الطاولة باستمرار؛ ليس شرطاً مسبقاً للحوار، بل هدفاً لا يمكن دون تحقيقه وصول المفاوضات إلى هدفها المنشود بحل مقبول يمكّن الشعب السوري من تقرير مصيره ومستقبله بحرية، كما أشارت لذلك القرارات الدولية ذات الصلة، خاصة القرار 2254، الذي أكّد أن الشعب السوري هو مَن يقرر مستقبل البلاد، ودعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية.
- أية عملية تفاوضية في ظل موازين القوى القائمة والظروف المحيطة من المقدر لها أن تكون بطيئة ومتقلبة، وهذا يُملي على قوى الثورة والمعارضة اتباع استراتيجية طويلة النفس، تُعزّز في خضم العملية بتكتيكات تتعاطى مع التغيرات دون المسّ بثوابت التسوية في نهاية المطاف؛ وهذا يتطلب منها وضع تصورها الخاص للمرحلة الانتقالية، يكون محل إجماع غالبية القوى المنضوية في صفوف قوى الثورة والمعارضة.
- يجب أن يكون التواصل بين قوى الثورة والمعارضة السورية والروس على قاعدة عدم التنازل عن الحقوق السورية، وأن يكون مترافقاً في حال تمامه بحملة توضّح تطوراته بكل شفافية لحاضنة الثورة، حتى يحظى هذا التواصل بالقبول الشعبي؛ فالحاضنة بعمومها أصبح لديها من الوعي ما يرجّح قبولها فكرة التفاوض مع الروس، ولكن ما تخشاه هو عدم الوضوح والصفقات الخفية والخطاب الغامض والمتناقض الذي يمكن أن يشوب هذا التفاوض.
- وضع شروط مسبقة لن يخدم العملية السياسية أو التفاوضية على ضوء ميزان القوى القائم، وفي الوقت نفسه ليس من مصلحة قوى الثورة والمعارضة جمود العملية التفاوضية بسقف مفتوح.
- امتلاك المعارضة استراتيجية تفاوضية ديناميكية قد يمكّنها من انتزاع مكاسب يمكن البناء عليها لاحقاً، حتى لو كانت مكاسب جزئية؛ فالتنازلات الكبرى المفترضة من قبل روسيا ونظام الأسد سيحين أوانها عندما يُفتح ملف التسوية الشاملة وإعادة الإعمار. فعلى سبيل المثال: المكاسب الجزئية يمكن أن تساعد في انفراج الوضع الإنساني، وتحريك ملف المعتقلين؛ وفي هذا المجال يمكن إعطاء مساحة واسعة نوعاً ما لمنظمات المجتمع المدني لفتح قنوات حوار مع روسيا، تقتصر على مناقشة القضايا الإنسانية، وتبقى بعيدة عن أي طابع سياسي.
- غرق روسيا في الحرب على أوكرانيا وحالة عدم اليقين حول مآلها، والمعارضة الدولية الواسعة للحرب وفرض عقوبات على موسكو؛ كل ذلك يشكّل فرصة سانحة للمعارضة السورية للضغط على صانع القرار الروسي، لإعادة النظر في سياساته تجاه الملف السوري، بممارسة ضغط على نظام الأسد في بعض الملفات، مثل ملف المعتقلين والمفقودين، والتعامل بجدية مع مفاوضات اللجنة الدستورية.
- الإبقاء على قنوات الحوار مفتوحة مع روسيا ليس تنازلاً بحد ذاته؛ بل حاجة موضوعية، والاستفادة منها تحددها كيفية توظيف قوى الثورة والمعارضة لها.
- من المهم في حال تحديد موقف قوى الثورة والمعارضة بوضوح في موضوع المشاركة في جولات أستانا المستقبلية تحديد ما هي الصفة التي يشارك بها أعضاء الوفد ومَن يمثلون مِن هيئات المعارضة السورية. وربما من المفيد وضع شروط قبل المشاركة من أجل تنفيذ مقررات سابقة، مثل الإفراج عن المعتقلين، والكشف عن مصير المفقودين؛ وهذا يكون بمثابة اختبار للأطراف الثلاثة الضامنة ومدى التزامها ومدى أخذها المعارضة بالحسبان في اجتماعاتها وقراراتها.
إن تطوير دور قوى الثورة والمعارضة وقدرتها على امتلاك برامج فاعلة وممارسة سياسات ضاغطة يرتبط بتوحيد صفوفها، على أرضية مراجعة ذاتية عميقة وشاملة، تؤدي إلى إنهاء حالة الانقسام، والتصدي للنزاعات الضيقة، ومعالجة حالة الفوضى الأمنية في شمال غرب سوريا.
بما أن روسيا تمثل العقبة الرئيسة أمام أية تسوية سياسية، وفي الوقت ذاته تمتلك مفتاحها؛ فهذا يوجب على قوى الثورة والمعارضة إدارة مفاوضات مع روسيا، لا تقتصر على المشاركة في جولات أستانا التي تلعب فيها موسكو ظاهرياً دور الراعي أو الضامن للمفاوضات بين نظام الأسد الحليف لها وقوى الثورة والمعارضة. فمن المفيد أن تكون هناك مفاوضات ثنائية بين إطار قيادي وتمثيلي جامع لقوى الثورة والمعارضة والجانب الروسي، تنطلق من قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015 الذي وافقت عليه موسكو ويتضمن الانتقال السياسي، ومن الأسس التي لطالما كررتها موسكو كونها ثوابت لسياساتها تجاه الملف السوري، وهي: “التسوية السياسية عن طريق حوار غير مشروط، لا للحسم العسكري، إجراء انتخابات، ووضع دستور جديد، وقيام دولة ديمقراطية في سورية”، ربطاً مع تأكيد موسكو غير مرة – بما في ذلك على لسان الرئيس بوتين – أن المهم مستقبل سوريا.
هذا الربط إذا قبلت موسكو بترجمته سياسياً كفيلٌ بتجاوز عقدة نظام الأسد، وبتأسيس أرضية لتفاهمات – إذا جاز التعبير- بين قوى الثورة والمعارضة السورية وروسيا؛ كل ذلك مع عدم التقليل من صعوبة الوصول إلى هذا المعطى.
خاتمة:
استطاعت روسيا من خلال تدخلها العسكري المباشر في سوريا في خريف 2015 أن تقلب موازين القوى لصالح نظام الأسد وحلفائه، مستغلة الانكفاء الأمريكي والغربي ثم الإقليمي، وانقسام قوى الثورة والمعارضة على نفسها؛ إلا أن التدخل العسكري الروسي استنفد عملياً بنك أهدافه بعد عام 2018.
وعلى الرغم من إحكام روسيا قبضتها على الملف السوري والمسار التفاوضي، والإقرار الضمني من الغرب بأن سوريا منطقة نفوذ روسي فقد فشلت موسكو حتى الآن في تحقيق مكاسب سياسية استراتيجية على المدى الطويل من وراء تدخلها العسكري، وما زال طابع علاقاتها مع تركيا وإيران كونهما شريكتين في مسار سوتشي- أستانا يتسم بأنه نوع من التعاون على أرضية التنافس والتباين بدرجة متفاوتة، يحمل في طياته احتمال نشوء صراعات مستقبلاً إذا رجحت كفة التباينات أو التناقضات وتباعدت المصالح.
وبعد أكثر من ثماني سنوات من هذا التدخل، وإفراغ الجهود الدبلوماسية الدولية من مضمونها، وفرض مسار سوتشي- أستانا بديلاً عن مسار جنيف تحت المظلة الدولية يظهر اليوم أن روسيا غير قادرة على فرض تسوية تلبي أهدافها، وأن ما نجحت به فقط هو وضع عقبات وخلق صعوبات؛ لأن سياساتها لا تمتلك ما يكفي من روافع، وقدرتها على التأثير محدودة نسبياً، حتى على حلفائها. ولا أدل على ذلك من سياسة التعطيل التي يمارسها نظام بشار الأسد في مسار أستانا واللجنة الدستورية، الأمر الذي دفع موسكو بين حين وآخر إلى ارسال إشارات متناقضة حول علاقتها مع نظام بشار الأسد والموقف منه.
وبصرف النظر عن خطاب موسكو الإعلامي الذي يرى بقاء نظام بشار الأسد خطاً أحمر فهذا الموقف لا يعدو كونه تكتيكياً، بالنظر إلى محددات السياسة الروسية تجاه الملف السوري على المستوى الاستراتيجي؛ مما يجعل من مستقبل بشار الأسد ورقة قابلة للمساومة إذا اضطرت موسكو لذلك، مقابل الحفاظ على نفوذها كهدف يقع في صلب العقيدة الجيوسياسية الروسية.
وفي سياق التحديات التي تواجهها موسكو فإن الحرب الأوكرانية أضفت المزيد من التعقيدات أمام السياسة الروسية في سوريا، ومن شأنها أن تؤثر في سلباً تبعاً لمجريات الحرب ومآلها، إلى جانب إمكانية حصول تحولات أمريكية وإقليمية إيجابية في الموقف من الملف السوري للضغط على موسكو. لكن ذلك يرتبط أولاً باستنهاض قوى الثورة والمعارضة السورية أوضاعها، كحلقة مركزية لاستثمار التداعيات المحتملة للملف الأوكراني، ضمن سياسة واقعية لا تقلل من القدرات الروسية، ولكن أيضاً دون المبالغة فيها.
وبشكل عام فإن استفراد روسيا بالملف السوري في جانب رئيس منه يتأتى من انكفاء المواقف الأمريكية والأوروبية والغربية والإقليمية، وتشتت قوى الثورة والمعارضة السورية؛ مما أعاق توظيف ظروف قد تُملي على موسكو إعادة النظر في سياساتها إزاء الملف السوري، والقبول بتسوية سياسية متوازنة؛ رغم أن أية قراءة موضوعية تؤكد انسداد أفق سياسات موسكو، لافتقارها إلى روافع كافية تمكّن صانع القرار الروسي من فرض تسوية للأزمة السورية وفقاً للمقاس الذي يريده الكرملين.
- تمسكها بعدة ثوابت من دون التنازل عنها أثناء تفاوضها مع الفرنسيين، وهي: وحدة التراب والأمة، والسيادة الجزائرية، وأن الجبهة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الجزائري.
- وحدة تمثيل القضية الجزائرية من خلال جبهة التحرير الوطنية عبر أداتها التنفيذية الحكومة المؤقتة وذراعها العسكري قوات جيش التحرير الجزائري؛ وهو ما تحقق تدريجياً، خاصة بعد مؤتمر الصومام 1956.
- نجاحها في تحريك الشارع الجزائري داخل وخارج الجزائر، والتناغم بين جولات التفاوض والنضال بكافة أشكاله، واستخدام وسائل النضال المدني كالتظاهر والاحتجاج والإضراب بكفاءة وسط استجابة شعبية واسعة.
- الاستمرار في الكفاح المسلح في ظل جولات التفاوض منعاً للجانب الفرنسي من تحقيق أهدافه في المماطلة وكسب الوقت.
- استغلال المناخ الدولي، خاصة دول العالم الثالث ودول عدم الانحياز والقوى الكبرى المناهضة للمعسكر الغربي.
- الاستناد للدعم العربي الكبير المقدم للثورة الجزائرية، واستغلال عامل دول الجوار المساند بشكل جيد عبر تونس والمغرب والدول التي تشكل قاعدة خلفية كمصر وليبيا.
- المزاوجة بين المفاوضات العلنية والسرية، والمرونة في التعاطي معها، واستخدام الانسحاب والرفض كآلية ضغط في الوقت المناسب.
- التركيز على الدبلوماسية الدولية بكافة أشكالها لحشد الرأي العام الدولي.
- استغلال الظروف الفرنسية الداخلية لتحقيق أهدافها وغاياتها، من حيث اختلاف مقاربة التيارات اليمينية واليسارية، والوعي بحساسية الشعب الفرنسي لجانب قيمي تاريخي في فرنسا.
- عدم وجود ثوابت واضحة لدى الجهة التي تمثل المعارضة حالياً ممثلة بهيئة التفاوض السورية، وإن كانت هنالك وثيقة أساسية تحكم عملها ممثلة في بيان الرياض 2.
- عدم حصرية تمثيل المعارضة في هيئة التفاوض عملياً، والانفصال الذي ما زال قائماً بين العسكري والسياسي.
- ضعف العلاقة بين المعارضة والشارع السوري، بمن فيهم المقيمون في شمال غرب سوريا، ومن باب أولى في مناطق شمال شرق سوريا وفي مناطق سيطرة نظام الأسد.
- ضعف هوامش العمل العسكري أمام قوى الثورة والمعارضة في ظل اختلال موازين القوى، وتراجع الدعم الخارجي لها.
- عدم وجود المناخ الدولي والإقليمي الذي يمكن أن يساند قوى الثورة والمعارضة، لاسيما بعد فشل ثورات الربيع العربي والانفتاح العربي على التطبيع مع بشار الأسد.
- عدم إمكانية التعويل على الانقسام السياسي لدى الأحزاب السياسية الروسية في موقفها المؤيد لنظام الأسد، بحكم أن الحكم في القائم في روسيا هو أقرب إلى الحكم الدكتاتوري.
سامر إلياس
كاتب مختص بالشأن الروسي، عمل في عدة صحف ومحطات تلفزيونية عربية، عمل مراسلا لصحيفة الحياة اللندنية في روسيا حتى 2018. كتب مقالات تحليلية في مواقع الجزيرة و"العربي الجديد" و" المجلة". يعمل مستشاراً لقناتي العربية والعربية الحدث في الشؤون الروسية والأوراسية، مقيم منذ بداية الحرب على أوكرانيا في الدنمارك.