
معيار القوة والآليات التطبيقية للعدالة الانتقالية: أيُّ درجة مطلوبة للعزل السياسي والتفحص الوظيفي في سوريا؟
على الرغم من وجود قائمة من الآليات المتفق عليها للعدالة الانتقالية فإنها عادة لا تُطبَّق كاملة على أرض الواقع في التجارب، كما تختلف درجة تطبيق كل آلية حال وجودها، على سبيل المثال يمكن تتبع الممارسات العملية للمساءلة القضائية وغير القضائية أو عمليات كشف الحقيقة ونشاط هيئاتها مع قياس مدى التطبيق من خلال معايير مختلفة؛ من أبرزها معيار القوة أو الشدة، أو معايير أخرى كالثبات كما قدمته دراسة كل منGenevieve Bates, Ipek Cinar, and Monika Nalepa ، في جامعة شيكاغو عام 2018م.
يمكن تعريف معيار القوة أو الشدة في إطار تطبيق آليات العدالة الانتقالية بأنه المؤشّر الخاص الذي يكشف مدى حدة واتساع وشمولية تطبيق آلية معيّنة من آليات العدالة الانتقالية؛ بمعنى أنه معيار يتجاوز فكرة وجود وتطبيق آلية معيّنة إلى التعمّق في مدى نفاذها في بنى المجتمع وشبكاته أفراداً ومؤسسات، وبالتالي تأثيرها على بناء الدولة الجديدة التي تسعى لضمان عدم تكرار ما حصل، على سبيل المثال كلما كان نطاق تنفيذ المساءلة الجنائية محدوداً من حيث الأشخاص ورمزياً من حيث الجدوى كان معيار القوة منخفضاً والعكس بالعكس.
بسبر أبرز التجارب المختلفة يظهر وجود تركيز على بعض الآليات وضعف لبعضها الآخر، فالمساءلة القضائية لمرتكبي الانتهاكات بناءً على معيار القوة كانت مرتفعة في حالات عديدة كيوغسلافيا السابقة ورواندا، في حين كانت أقرب للمتوسطة في حالات أمريكا اللاتينية، ومنخفضة في معظم التجارب من دول شرق ووسط أوربا كبولندا وفي التجارب العربية كالمغرب وتونس واليمن. أما بتطبيق المعيار على آلية العزل السياسي والتطهير الوظيفي تحوز التجارب الأوروبية على أعلى مؤشرات القوة في التطبيق كما في تشيكيا وبولندا وألمانيا الشرقية.. الخ، في ذات الوقت الذي أصبحت فيه من أكثر التجارب تحوّلاً من منظور القمع السياسي والفساد والفكر الأحادي إلى التعدُّد واحترام حقوق الإنسان وقيمه. فيما يظهر المعيار منخفضاً في الأرجنتين وتشيلي وسيراليون وتونس، ومتوسطاً في تجارب أخرى كرواندا وكولمبيا.
بالتركيز على آلية العزل السياسي والتفحّص الوظيفي بوصفهما جوهر المساءلة غير القضائية والعملية الأكثر تأثيراً في التفتيت العميق لشبكات النفوذ التقليدية للاستبداد يمكن القول بداية إنهما من آليات العدالة الانتقالية التي تلجأ إليها الدول الخارجة من صراعات أو أنظمة استبدادية عبر إجراءات قانونية وإدارية تستهدف منع أشخاص بعينهم من ممارسة العمل السياسي لفترة محدودة أو دائمة، أو عبر إبعاد الموظفين المتورطين في الانتهاكات من المؤسسات العامة، وفي كل الأحوال فإن الهدف من هذه الآليات هو منع رموز النظام السابق من الاستمرار في التأثير على الحياة العامة أو إعاقة التحوّل، وفي ضوء ماسبق يبرز تساؤل مهم عن المعيرة المطلوبة لقوة العزل السياسي والتفحّص الوظيفي في السياق السوري وخاصة مع اقتراب إعداد مسوّدة قانون للعدالة الانتقالية وفق بعض المعلومات الأولية.
تطبيقياً، تقع مجموعة من العوامل المؤثرة في التركيز على هذه الآليات وتطبيقها، وأيضاً مجموعة من التحديات، يمكن حصر أبرز هذه العوامل بأربعة، وهي- مع وجود قائمة أوسع بطبيعة الحال-:
- نمط التحوّل والقوة الدافعة له؛ فكلما كان النمط ثورياً كان من المتاح تطبيق تلك الآليات بقوة، وكلما كانت التسوية السياسية حاضرة كلما كان التطبيق متوسطاً أو منخفضاً لأن القوى القديمة تحافظ لنفسها على مكان في الحياة العامة.
- أيضاً يبرز عامل الإرادة السياسية الوطنية والدولية، بمعنى آخر هل تتوفر إرادة بناء نظام جديد جذرياً أم تحقيق تسوية تضمن الاستقرار؟
- يرتبط العامل الثالث بقوة المؤسسات والذي يُعبّر عنه عملياً بضرورة التوازن بين الحاجة إلى تحقيق العدالة وبين الحاجة إلى الكفاءة المؤسساتية، فكلما ارتفعت شدة العزل السياسي والتطهير الوظيفي، زادت احتمالات الاستجابة لمطلب العدالة لكن مع خطر تعطيل المؤسسات. وكلما خُفّضت الشدة زادت الكفاءة المؤسسية لكن مع احتمال بقاء نفوذ النظام السابق.
- أما العامل الرابع والأخير فيرتبط بطبيعة العلاقة بين النظام السابق والدولة؛ فكلما كان النظام السابق شمولياً فإن التحول يقتضي وجود تطهير واسع، وكلما احتفظت بعض المؤسسات بالحياد النسبي كلما كانت الحاجة أقل.
في مقابل ماسبق تبرز مجموعة من التحديات وفي مقدمتها مدى توفُّر المعلومات عند تنفيذ الفحص الفردي بدلاً من التطهير الأوسع وخاصة في حالة المتورطين غير المعروفين، أو من غير المستويات العالية، كذلك يبرز عامل المقاومة المضادة من المتضررين من هذه العمليات والذين يحاولون بكل الوسائل إضعاف أو إلغاء هكذا آليات، والتحديات السياسية الأوسع المرتبطة بالتوازنات الانتقالية والاستقطاب الحزبي، والمجتمعية والتي تُولّد إحساساً بالظلم الاجتماعي والإقصاء.
بداية، من المهم التنويه إلى أن المرحلة الأولى لإسقاط نظام الأسد قامت بعملية تطهير واسع من خلال قرار حلّ أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية ومؤسسات القوة الخشنة وهي الجيش والأمن، إلا أنه ومع غياب الإطار القانوني للعزل السياسي والتفحص الوظيفي تظهر حالة من الارتباك على صعيد المؤسسات العامة الأخرى والشبكات الأكثر عمقاً وعلى مستوى العزل السياسي الفردي ونطاقه، وهو ما يعني أن المحطات الأكثر تفصيلاً قادمة.
بالانتقال إلى قراءة العوامل السابقة المؤثرة في معيرة الآليات يمكن القول إنه لا خلاف مبدئياً على حجم الانتهاكات الكبير المرتكب في سوريا وعلى حقب زمنية متتالية، وإن كان أشرسها ما شهدته سوريا من انتهاكات جسيمة خلال سنين الثورة، وإن طبيعة نظام الأسد والحكم البعثي منذ عام 1963 كانت شمولية تسيطر على الدولة والمجتمع وتشكل شبكات مالية واجتماعية وسياسية داعمة وشريكة بالانتهاكات ومستفيدة منها، وإن التغيير في سوريا لم يأتِ عبر عملية تفاوضيّة سياسية بين الأطراف مع فشل الحل السياسي الأممي، وهذا ما يعني توافر العوامل التي تدفع عادة إلى تطبيق عزل سياسي وتفحّص وظيفي وفق معيار قوة مرتفع.
في المقابل، يبدو أن عامل الإرادة السياسية الوطنية والدولية يُركّز على الاستقرار في سوريا قبل أي شيء آخر، وهو ما يظهر عبر خطوات عديدة متخذة كالتفاوضات المعقّدة أثناء عملية التحرير، وفتح باب التسويات بطريقة غير واضحة تماماً، ووجود التشابك الإقليمي والدولي والمصالح المختلفة في سوريا. كذلك فإن مجموعة التحديات الاجتماعية والسياسية حاضرة بقوة، على سبيل المثال تحوّلت الوظائف العامة في ظل حكم الأسد كأداة حشد ومكافأة لمكوّنات معيّنة أو عقوبة، في الوقت نفسه فإن المضيّ في خيارات التطهير الجماعي يُعدّ آلية تتجاهل المخاطر المحتملة ويؤدي للتخبط أو غياب الثبات التشريعي، وهو ما ظهر عملياً في قرارات الاإازات المدفوعة للموظفين.
إلا أنه وبالإضافة لما تقدّم ثمة قضية في غاية الأهمية، وهي الذاكرة الجمعية من جهة، والغايات الرئيسة المأمولة من جهة أخرى، إذ إن وجود ذاكرة جماعية قوية والفترة الزمنية القصيرة ما بعد الانتقال السياسي تصبح عامل دفع وقوة لتطبيق معيار قوة مرتفع.
بناء عليه، يمكن القول إن تطبيق آلية العزل السياسي الفردي الذي يُركّز على السلوك عموماً وليس مجرد الانتماء بحد ذاته خاصة في المستويات المرتفعة يُقدّم تحصيناً مهماً للحياة العامة في سوريا. كذلك يبدو التفحّص الوظيفي الفردي هو المعيار الأدق وليس التطهير الجماعي الموسع، وعلى أساس أولويات مؤسساتية وفي مقدمتها المؤسسات التي تتولى تطبيق العدالة الانتقالية كالسلطة القضائية والتي ترتبط بأذهان السوريين بصورة سلبية؛ سواء لجهة استخدامها كأداة قمع خاصة مع القضاء الاستثنائي أو حجم الفساد المستشري فيها، كذلك تبرز أولوية المؤسسات ذات العلاقة بالبناء الفكري كالمؤسسات التعليمية لأن تغيُّر الثقافة العامة لها يسمح بالقضاء على الحوامل الفكرية والبيروقراطية لنظام الاستبداد، ولأن هذه الجهات التي تعمل على نشر الفكر وتربية الأجيال وأداء هذه الهياكل بالقيم الجديدة يسمح بتحقيق القطيعة مع ثقافة الخوف والاستبداد التي كانت مؤسسات النظام البائد وبعض من موظفيه وخاصة في المراتب المرتفعة والمتوسطة في السلم الوظيفي يحرصون على نشرها، في مقابل ذلك يمكن تخفيف المعيار في المؤسسات ذات البعد التقني مثل وزارة الطاقة ووزارة الاتصالات والزراعة والمالية وغيرها.
من جانب آخر، ومع أولوية المؤسسات توجد قائمة من خيارات التعامل من حيث النتيجة تراعي عدم وجود شعور بالاستهداف لمكون محدد وتفتح الباب أمام النقل وليس الصرف من الخدمة كخيار وحيد، في حين يبدو من المهم في هذه المعيرة أيضاً التفكير بعملية التعويض المنهجية الهادئة من خلال التركيز على الشروط الأخلاقية والفكرية للوظيفة العامة وإدماجها مع المعايير التقنية بما يعطي معنى أوسع للكفاءة.
ختاماً، تمكن أهمية وجود فهم معمّق لكيفية تطبيق الآليات ومدى قوتها بحساسية وخطورة تحويل الفلسفة المجردة لقواعد قانونية ناظمة للعدالة الانتقالية في سوريا، ومن أنها تعني التحرّك الواعي والمتعمد في التخفيف أو التوسط أو التركيز على آليات معيّنة مع فهم آثارها والعوامل المرتبطة بها، ومن هنا أيضاً يستطيع من يريد أن يراقب أو يحلل المسارات التمييز بين التطبيقات الشكلية والرمزية والتي تستهدف الترويج لسياسة عامة، وبين العملية التي تستهدف معالجة انتهاكات الماضي وتفكيك بنى الأنظمة السابقة ومراعاة متطلّبات الواقع والمضي بنجاح نحو التأسيس لمستقبل مختلف.
مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية