من إدلب إلى أوكرانيا؛ إعادة تدوير “المقاتلين الأجانب” برعاية “هتش”: الأهداف والمآلات
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
ملخص:
- ضيّقت “هتش” على جماعاتٍ من المقاتلين الأجانب في مناطق نفوذها شمال غربي سوريا خلال الفترة الماضية؛ مما دفع بعضها للخروج من المنطقة حينما سنحت الظروف الإقليمية والدولية، مثل جماعة “أجناد القوقاز” التي اتجهت نحو أوكرانيا، فيما تُشير التوقعات إلى أن جماعة “جنود الشام” قد ترحل قريباً.
- بعض العناصر الذين غادروا إدلب كانوا في معتقلات “هتش”، وخيّرتهم بين البقاء في السجن أو الانضمام إليها أو المغادرة؛ مما يعكس وجود دور لها في دفعهم نحو الخروج من سوريا.
- تُحاول “هتش” تصدير نفسها على أنها الضابط لتحركات المقاتلين الأجانب لتوصيل رسالة إلى الفاعلين، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بأنها سلطة يمكن الاعتماد عليها فيما يتعلّق بضبط إيقاع هؤلاء المقاتلين، كما تحاول “هتش” إظهار انحيازها للغرب فيما يتعلق بالقضية الأوكرانية.
- يبدو أن حالة مقاتلي القوقاز والألبان الذين خرجوا من إدلب إلى أوكرانيا لا تنطبق على غيرهم من المقاتلين الأجانب في شمال غربي سوريا، مثل “الحزب الإسلامي التركستاني” خاصة.
- إخراج المقاتلين الأجانب من منطقة شمال غربي سوريا -وإن كان يخدم سياسات “هتش”- إلا أنه يمكن أن يكون ذا أثر إيجابي على المنطقة؛ لأنه يُسهم في تقليل أعداد المقاتلين الأجانب في إدلب.
مقدمة:
شهدت الأشهر الماضية جدلاً واسعاً بعد انتشار تسجيلات مصورة تُظهر انتقال مقاتلين أجانب من شمال غربي سوريا إلى أوكرانيا للقتال ضد القوات الروسية؛ مما يفتح باب التساؤلات عن دور “هيئة تحرير الشام-هتش” في تلك العملية على اعتبار أنهم كانوا ينتشرون ضمن مناطق نفوذها وفي سياق تحالفاتها القديمة، فضلاً عن موقف الفواعل الدولية والإقليمية من ذلك ومآلاته على المنطقة.
يناقش هذا التقرير أبعاد خروج المقاتلين الأجانب من إدلب إلى أوكرانيا وأثره في منطقة شمال غربي سوريا، والأطراف المستفيدة أو التي لعبت دوراً في تسهيل تلك العملية، وصولاً إلى استشراف مصير بقية المجموعات الراديكالية وإمكانية حصول سيناريو خروجها من المنطقة.
دور “هتش” في خروج المقاتلين ورسائلها للأطراف الفاعلة:
في أواخر شهر تشرين الأول 2022 تحدّثت مصادر إعلامية عن وصول القيادي الشيشاني وزعيم جماعة “أجناد القوقاز” العاملة في إدلب شمال غربي سوريا “رستم آزييف” المعروف بـ”عبد الحكيم الشيشاني” مع مجموعة من عناصره إلى أوكرانيا[1]، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً، خاصةً عن طريقة خروجه، إلى أنْ ظهر الشيشاني في تسجيلٍ مصوّرٍ قبل أسابيع أكد فيه أنه موجود فعلاً في إحدى الجبهات في شرق أوكرانيا[2]، كما أكدت مصادر أخرى وصول مجموعة جديدة من المقاتلين المنشقّين عن كتيبة “جماعة الألبان” التابعة عسكرياً لـ “هتش” إلى أوكرانيا انتقالاً من شمال غربي سوريا[3].
ضيّقت “هتش” على بعض جماعات المقاتلين الأجانب في مناطق نفوذها شمال غربي سوريا خلال الفترة الماضية، فيما تشير التوقعات إلى أن جماعة “جنود الشام” قد ترحل قريباً من سوريا. |
وبحكم أن منطقة شمال غربي سوريا منطقة حدودية مع تركيا؛ فمن المرجح أنه خرج إلى تركيا ثم وصل منها بطريقة غير معلومة بعدُ إلى جبهات أوكرانيا، ويبدو أنه كان لـ”هتش” دورٌ في تسهيل خروج هؤلاء المقاتلين لاعتبارات عديدة، أولها: أنها كانت على خلافٍ مع مجموعة عبد الحكيم الشيشاني، لاسيّما مع ما حاولت أن تُظهره خلال السنوات الماضية من تحولات وتوجّه نحو تفكيك الجماعات المتشددة[4]، خاصة غرفة عمليات “فاثبتوا” التي تشكّلت أساساً رداً على انعطافة “هتش” وقبولها بالدوريات التركية- الروسية المشتركة في شمال غربي سوريا[5]، كما عمدت “هتش” قبل أشهر إلى التضييق على قائد مجموعة “جنود الشام” مسلم الشيشاني وأجبرته على تسليم مقراته والخروج من منطقة شمال اللاذقية[6]؛ لذا فإن التوقعات تشير إلى أن الجماعة قد ترحل قريباً إلى أوكرانيا بسبب تضييقات الجولاني، وهذا ما يؤكد أن لـ “هتش” مصلحة في خروج المقاتلين الأجانب من مناطقها بهدف التخلّص من تلك المجموعات من جهة، ومن جهة ثانية التماهي مع مواقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية فيما يخصُّ الحرب في أوكرانيا، وإن كان تأثير تلك المجموعات رمزياً بالنسبة إلى الغرب وأوكرانيا فإنه أكثر من رمزيّ بالنسبة إلى الجولاني؛ لأنه يريد أن يبرهن للغرب ولتركيا أيضاً أنه طرف مساهم في تقوية “الفيلق الدولي” الذي تشكّل للقتال لصالح أوكرانيا[7]، في حين يبدو أن روسيا قد تكون مستفيدة من ذلك أيضاً؛ لأنه يدعم سرديّتها حول وجود “مرتزقة” يقاتلون في صفوف القوات الأوكرانية، وهذا ما قد يُفسّر سبب تجاهلها إثارة هذا الموضوع مع تركيا.
وبحسب موقع “المونيتور” فإنه من المتوقع أن يغادر المزيد من القادة الشيشان إدلب إلى أوكرانيا هرباً من حملة القمع التي تقودها “هتش”، إضافة إلى السعي للانتقام من روسيا وقوات حليف بوتين الرئيس الشيشاني رمضان قديروف الذي يقاتل إلى جانب روسيا ويحشد المقاتلين الشيشان لصالحها هناك[8]، كما أن مؤسسة “Jamestown” الاستراتيجية الأمريكية ذكرت أنه مع تصاعد الضغط من “هتش” تم تفكيك مجموعات المقاتلين الأجانب الأخرى أو استيعابها في فصائل أكبر، الأمر الذي أجبر بعض القادة على الانتقال إلى تركيا، ومنهم “الشيشاني” الذي رأت أنه يتمتع بخبرة كبيرة في مجال الحروب، وكذلك فإن مقاتلي الجماعة ليسوا عسكريين “خفيفي الوزن”، بل لديهم خبرات تراكمية واحترافية كبيرة[9].
بعض العناصر الذين غادروا إدلب كانوا في معتقلات “هتش”، وقد خيّرتهم بين البقاء في السجن أو الانضمام إليها أو المغادرة؛ مما يعكس وجود دور حقيقي لها في دفعهم نحو الخروج من سوريا. |
وتحدّثتْ مصادر أخرى عن أنّ بعض العناصر الذين غادوا إدلب كانوا في معتقلات “هتش” منذ انشقاقهم عن كتيبة “جماعة الألبان” بقيادة “أبو قتادة الألباني”، إذ خيّرتهم “هتش” بين البقاء في السجون أو الانضمام إليها أو مغادرة المنطقة[10]؛ وهذا ما يعكس وجود دور حقيقي لـ “هتش” في عملية تدفّق المقاتلين الأجانب من إدلب إلى أوكرانيا بشكلٍ يتقاطع مع توجهاتها الحالية، وفي الوقت نفسه لا يجعلها تفقد كليّاً ورقة المقاتلين الأجانب التي تُشكّل حساسية كبيرة لدى الدول الغربية[11]، في وقتٍ ما يزال فيه الحل السياسي في سوريا متعثراً.
ملف المقاتلين الأجانب؛ إمكانية سيناريو مماثل لجماعات “القوقاز” وحسابات التطبيع التركي مع نظام الأسد:
بحسب المصادر المتوفّرة حتى الآن فإن عدد المقاتلين الأجانب الذين خرجوا من إدلب إلى أوكرانيا ما زال بحدود العشرات، وليس هناك حديث عن أعداد خرجت بالمئات، وهو ما يُثير تساؤلات عن إمكانية “هتش” مواصلة استثمار ورقة المقاتلين الأجانب وما إذا كانت بالفعل قادرة على تحريكهم وفق أجنداتها ومصالحها الخاصة، لاسيّما وأن في منطقة شمال غربي سوريا مجموعات أخرى كبيرة من المقاتلين الأجانب[12] ربطت مصيرها -بشكل أو بآخر- بمصير “هتش” التي ما تزال مصنّفة على لوائح الإرهاب الدولي، وأنّ الجولاني سوّق نفسه أمام حاضنته “الجهادية” بصفته مدافعاً عن المقاتلين الأجانب[13] قبل أن ينقلب عليهم في السنوات الأخيرة بشكل تدريجي، وسط اتهامات لـ “هتش” بالتعاون بشكل غير معلن مع التحالف الدولي في ملاحقة قياديي القاعدة، تزامناً مع غضّ التحالف الدولي الطرف عن تحركات الجولاني رغم سهولة استهدافه إن أراد ذلك[14].
تُصدّر “هتش” نفسها على أنها الضابط لتحركات المقاتلين الأجانب؛ لتوصل رسالة إلى الفواعل الدولية، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أنها بديل أفضل من نظام الأسد فيما يتعلّق بضبط إيقاع هؤلاء المقاتلين. |
ولا يبدو أن ملف التطبيع التركي مع نظام الأسد يغيب عن حسابات “هتش” فيما يخص ورقة المقاتلين الأجانب؛ فهي تُصدّر نفسها على أنها الضابط لتحركات هؤلاء المقاتلين لتوصيل رسالة إلى الفواعل الدولية، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أنها بديل أفضل من نظام الأسد فيما يتعلّق بضبط إيقاع المقاتلين الأجانب، فهي تحاول الدفع نحو سيناريو الضغوط الأمريكية والأوروبية على تركيا لثنيها عن التطبيع مع نظام الأسد، للاستمرار بالوضع كما هو عليه ولتثبيت خرائط السيطرة الحالية، تزامناً مع حراك آخر لـ”هتش” تسعى فيه لاستثمار الانعطافة التركية نحو نظام الأسد تُصدِّر فيه نفسها على أنها الطرف الرافض للتطبيع؛ في محاولةٍ منها لرفع رصيدها على المستوى الشعبي والفصائلي[15]، لاسيما وأن ذلك يتزامن مع ملامح أزمة غير معلنة بين تركيا و”هتش” بسبب رفض فصيل “أحرار الشام-القاطع الشرقي” المتحالف معها تسليم معبر الحمران الواصل مع مناطق سيطرة مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية-قسد”، ثم ما جرى من عملية اغتيال للقيادي في الفصيل “صدام الموسى”[16] في قرية الحدث بريف حلب وتحميل مصادر مقربّة من “هتش” المسؤولية في الاغتيال للجانب التركي[17]، مشيرة إلى أنه جرى عبر طائرة مسيرة من نوع “بيرقدار”، في حين أن أنقرة لم تعلن رسمياً مسؤوليّتها عن العملية.
في المقابل يعتقد بعض المحللين أنّ عملية خروج المهاجرين من شمال غربي سوريا تتم برضا تركي بهدف تسريع عملية التطبيع مع نظام الأسد[18]، لاسيما وأن وجود هؤلاء المهاجرين يمثّل تحدياً كبيراً أمام تركيا التي يبدو أنها لا ترغب بحصول صدامات عسكرية مع تلك المجموعات، ولذا فإنها توكل المهمة -وإن بشكل غير رسمي- لـ “هتش” في التضييق عليها ودفعها إلى الهجرة من سوريا، ومن ثَمّ العمل نحو إفراغ المنطقة من الجنسيات غير السورية التي لا يمكن أن تدخل ضمن أي اتفاق “تسوية” متوقع مع نظام الأسد، وهو ما يُعيد إلى الأذهان طرح خيار تطبيق سيناريو شبيه إلى حدٍّ ما بسيناريو “تسوية” الجنوب السوري عام 2018 التي لم يكن غيرُ السوريين مشمولين بها[19].
يرى خبراء ومطلّعون أن حالة مقاتلي القوقاز والألبان الذين خرجوا من إدلب إلى أوكرانيا لا تنطبق على غيرهم من المقاتلين الأجانب في شمال غربي سوريا. |
ولكن بحسب خبراء ومطلّعين[20] فإن حالة مقاتلي القوقاز والألبان الذين خرجوا من إدلب إلى أوكرانيا لا تنطبق على غيرهم من المقاتلين الأجانب في شمال غربي سوريا؛ فهؤلاء مثلاً لديهم صراع قديم مع الروس ويقاتلون ضدهم منذ عقود عدة[21]، وفي العقد الأخير كانت سوريا إحدى ساحات المواجهة، لكن بعد تضييقات “هتش” وما رافقها من تجميد المعارك شمال غربي بسوريا[22] بعد اتفاق موسكو بين تركيا وروسيا في 2020 تحفّزوا للمغادرة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا للقتال ضد القوات الروسية، ولذا تساءل “الجهادي” المنشق عن “هتش” علي العرجاني على قناته في تطبيق تلغرام بقوله: “لماذا يغادر جماعة القوقاز والألبان من إدلب إلى أوكرانيا؟ التحليل المنطقي أنهم وجدوا أن في أوكرانيا حريةً أكثر لهم من إدلب، والمعارك فيها حقيقة… يبدو أنهم يسيرون على فتوى ….. بأن الخروج إلى بلاد الكفار أفضل من الجلوس في إدلب تحت سلطة الجولاني”[23].
إن سيناريو خروج مجموعات غير قوقازية وألبانية مثل “الحزب الإسلامي التركستاني” غير وارد غالباً، لاسيما وأن أوكرانيا لا ترغب في استعداء الصين التي تخوض نزاعاً ضد الحزب منذ عقود، وفي الوقت ذاته لم تدعم الصين بشكل مباشر الغزو الروسي ضد أوكرانيا، مما يجعل أوكرانيا ساحة مفتوحة على وجه الخصوص أمام المقاتلين القوقاز الراغبين بالانتقال من سوريا لقتال روسيا، كما أن الجولاني نفسه دافع عن “الحزب الإسلامي التركستاني” وقال في مقابلة مع “Crisis Group” (مجموعة الأزمات الدولية)، في العام 2020: إن الحزب التركستاني لم يشكل تهديداً للعالم الخارجي، وهو ملتزم فقط بالدفاع عن إدلب[24]، معتبراً أن “مقاتلي الحزب ليس لديهم أي مكان آخر يذهبون إليه؛ لذلك فإنهم مرحَّب بهم طالما أنهم يلتزمون بقواعدنا”، كما أن الولايات المتحدة رفعت الفصيل أواخر العام 2020 من قائمة المنظمات الإرهابية[25].
عموماً فإن خروج المقاتلين الأجانب والترحيب بهم في أوكرانيا أثبت ازدواجية الغرب في ملف القتال عبر الحدود، بعكس النظرة السلبية التي كان ينظر بها إلى منطقة شمال غربي سوريا بحجة أن فيها مجموعات غير سوريّة؛ فهذه المجموعات بات مرحّباً بها في أوكرانيا، وتحوّلت من “إرهابية” في سوريا إلى “صديقة وحليفة” في أوكرانيا[26].
خاتمة:
رغم شحّ وغموض التقارير عن حجم أعداد المقاتلين الأجانب المغادرة من إدلب إلى أوكرانيا فإن إخراج مثل تلك الفئات من منطقة شمال غربي سوريا، وإن كانت “هتش” تحاول تطويعه وفق ما يخدم سياساتها البراغماتية؛ إلا أنه سيناريو إيجابي للمنطقة كما يبدو، لأنه يسهم بتقليل أعداد المقاتلين المصنّفين على لوائح الإرهاب في إدلب، وبالتالي إضعاف الحجج الروسية التي تطلقها عند شنّها أية عملية عسكرية أو قصف جوي ضد منطقة شمال غربي سوريا، أو عند مساعيها لإغلاق المعابر الحدودية أمام المساعدات الإنسانية، ولكن مع التوجُّه التركي الجديد نحو التطبيع مع نظام الأسد واضطراب رؤية الحل السياسي فإنه من غير المتوقع أن يُفرّط الجولاني بورقة المقاتلين الأجانب بسهولة؛ ولذا فإنه سيحاول ما أمكن توظيفها ليرفع من رصيده لدى الفواعل المؤثرة، ويثبت نفسه طرفاً يمكن الاعتماد عليه في أي سيناريو يُرسَم للحل في منطقة شمال غربي سوريا.
يمثل كل ذلك استمراراً للتحول الذي بدأته “هتش” منذ إعلان انفصالها عن تنظيم القاعدة، وشملت التحولات تغييرات تدريجية ولكنها جذرية في العديد من الملفات الداخلية والخارجية، خلاصتها رغبة “هتش” في موضعة نفسها فاعلاً محلياً مقبولاً محلياً ودولياً، مع حرصها على الاستفادة من مختلف الملفات والأوراق التي بين أيديها لإرسال الرسائل حول استعدادها لتبادل وتحقيق مصالح مختلف الفاعلين، بما يضمن بقاءها بصفتها جزءاً من الحل لاحقاً.