نظرة على حصاد التدخل العسكري الروسي مع دخوله العام السابع
إضاءات تحليلية ضمن مسار الراصد تصدر عن وحدة تحليل السياسات
مثّل التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا في 30 أيلول من العام 2015م أحد أهم العوامل التي غيرت مسار الثورة السورية لصالح نظام الأسد، حيث نجحت موسكو عبر هذا التدخل في تغيير المعادلة العسكرية لصالح نظام الأسد، وتمكّنت من زيادة مساحة سيطرته على طول الجغرافية السورية. وعلى الرغم من نجاح روسيا في تثبيت أركان نظام الأسد ومنع سقوطه عسكرياً، لكنها فشلت في التوصل إلى تسوية سياسية شاملة معترف بها دولياً تكرس دورها في الساحة السورية، وتترجم انتصارها العسكري لانتصار آخر سياسيٍ يحفظ لها مصالحها الاستراتيجية في سوريا، مما يعني عدم القدرة على الذهاب نحو إعادة الإعمار بعد العمل على إعادة تعويم الأسد ونظامه، وهو ما بات فيما يبدو عامل قلق للروس بالتزامن مع العرقلة الأمريكية المتفاوتة للنفوذ الروسي[1]، ولاسيما بعد الضغوطات الاقتصادية المتراكمة على موسكو بسبب تفشي وباء كورونا، وتراجع أسعار النفط العالمي الذي أرهق الاقتصاد الروسي المكبّل أصلاً بعقوبات الاتحاد الاوروبي والأمريكي بشكل أكبر من أي وقت مضى، إضافة إلى العقوبات الأمريكية عبر قانون قيصر؛ الذي ينص على فرض عقوبات على نظام الاسد وداعميه.
مرت السياسة الروسية في سوريا بالعديد من المنعطفات طوال فترة وجودها العسكري المباشر في سوريا؛ أثّرت سلباً أو ايجاباً على طبيعة تفاعل موسكو مع القوى الفاعلة الأخرى المتنفذة في الملف السوري، كالولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وحتى مع نظام الأسد.
نحاول في هذا العرض التحليلي المختصر تسليط الضوء على أبرز المحطات والمنعطفات السياسية التي أثرت وتُأثر بشكل مباشر على مسار الوجود الروسي في سوريا، محليةً كانت أم إقليمية ودولية، لا سيما بعد دخول الصراع مرحلة “الجمود الهش”، محاولين الوقوف على ملامح المقاربة الروسية للحل السياسي في ضوء التدافع السياسي المفعم بالتنافس المحموم بين أطراف النزاع على تحصيل مزيد من المكتسبات والاستحقاقات تضمن لها مصالحها وأهدافها الاستراتيجية في سوريا.
إضاءة على الدوافع الروسية للتدخل العسكري في سوريا:
لا يمكن اجتزاء الدور الروسي في سوريا، والدعم الكبير لنظام الأسد عن الهدف الاستراتيجي الأوسع لروسيا على الصعيد الدولي، حيث تُعتبر سوريا بالنسبة لروسيا بوابة لها لإعادة تموضعها على المستوى الدولي كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية وتفردها في النظام الدولي، في مواجهة التجاهل والاستخفاف الغربي بدور روسيا وفاعليتها على الساحة العالمية، ومن ثم توظيف الصراع في سوريا بوصفه ورقة تفاوضية مع الغرب والولايات المتحدة فيما يتعلق بملفات أخرى خلافية إشكالية، وتعزيز الوضع الدبلوماسي لروسيا؛ بحيث أصبح اتخاذ أي قرار في سوريا دون مشاركتها صعباً، وقد ازدادت فعلياً الاتصالات الدبلوماسية بين الغرب وروسيا منذ التدخل الروسي في سوريا بعد مرحلة من الجمود، ولا سيما بعد التدخل الروسي في أوكرانيا وضمِّ شبه جزيرة القرم[2]، والرغبة الروسية الفعلية في الاستفادة من وجودها في سوريا في سبيل انتزاع اعتراف دولي بدورها العالمي[3]، فضلاً عن تحقيقها مكاسب اقتصادية وجيوسياسية وعسكرية استراتيجية انطلاقاً من الجغرافية السورية، كتعزيز الحضور الروسي على ضفاف البحر المتوسط عبر قاعدتي حميميم وطرطوس البحرية (الوصول للمياه الدافئة)[4]، واستخدام تموضعها في سوريا للتأثير في المعادلات الإقليمية والدولية[5].
ومن هنا يمكن القول بأنَّ الدوافع الروسية الكامنة وراء تدخلها العسكري في سوريا ودعمها لنظام الأسد مَنح روسيا رافعة قوية في علاقاتها مع الغرب ضمن حساباتها الاستراتيجية الأوسع، وبهذا تلاقت المصالح الروسية مع نظام الأسد في محاولته تثبيت حكمه، ورهنت مصالحها الإستراتيجية ببقاء نظامه في الحكم.
مرتكزات السياسة الروسية في سوريا، ومقاربتها للحل السياسي:
تولي روسيا أهمية إلى حدٍّ ما للمسار السياسي على الرغم من تحايلها ومحاولتها تجيير المسار بأكمله لصالح حساباتها الاستراتيجية وأجندتها في سوريا؛ فبعد أنَّ نجحت روسيا فعلياً في تثبيت أركان النظام ومنع سقوطه عسكرياً تحولت بقوة تجاه العمل على ترجمة انتصارها العسكري بآخر سياسي عبر تفعيل قدراتها الدبلوماسية لرعاية عملية سياسية توظّفها لتعزيز استقرار وفق سرديتها ومقاربتها الخاصة للملف السوري، حيث سلكت الدبلوماسية الروسية مبكراً مساراً سياسياً موازياً للمسار العسكري استطاعت من خلاله حرف مسار الحل السياسي الخاص بسوريا لصالح رؤيتها؛ الذي ابتدئ مع بيان جنيف1 في العام 2012م[6]، مروراً بفكرة المجموعات الأربع وبيانات فيينا 1+2 والقرار رقم 2254 وانتهاءً باللجنة الدستورية[7]، متكئةً على قدرتها في التواصل والتأثير على بقية الدول المعنية بالملف السوري، سواء بالنسبة لمجموعة أستانا (تركيا وإيران) أو للمجموعة المصغرة حول سوريا وحتى للأمم المتحدة، وهو ما جعل من الروس أصحاب الكلمة العليا في سوريا، ومكنهم في نفس الوقت من فرض الجزء الاكبر من رؤيتهم للحل السياسي في سوريا[8].
وضمن هذا السعي ارتكزت روسيا في بناء نفوذها المتداخل في سوريا على عدد من الدعامات التي سندت سياساتها تجاه سوريا والمنطقة، ولعل أهمها:
- تماهي المجتمع الدولي عموماً والغرب على وجه الخصوص مع الرؤية الروسية للحل السياسي في سوريا، وتنسيق الجهود معها عبر بوابة الأمم المتحدة، ولعلَّ في سياسة أوباما الانطوائية في التعامل مع الملف السوري وترك المجال لروسيا للتدخل في الملف السوري بثقلها؛ أبرز الأمثلة على التماهي الغربي المبكر مع الموقف الروسي في سوريا[9].
- العلاقة الجيدة التي تجمع موسكو مع الفواعل الإقليمين النافذين في الملف السوري، إيران وتركيا و”إسرائيل”.
- نفوذ روسيا داخل أروقة مؤسسات نظام الأسد الأمنية والعسكرية والاقتصادية.
- تشتت المعارضة السورية وتشرذمها ومجاراة بعض الوجوه السورية “المعارضة” الموقف الروسي للحل السياسي[10].
- نشاط الجهاز الدبلوماسي الروسي وجهوده في التواصل المباشر مع القوى الإقليمية والدولية لرسم خارطة طريق تثبّت النفوذ والدور الروسي في سوريا والمنطقة[11].
عقبات تحول دون حصد روسيا ثمار تدخلها العسكري:
يبدو أنَّه لا غنى لروسيا عن الانخراط في المسار السياسي نظراً لتشابك الملف السوري وارتباطه بملفات أخرى لها أهمية كبيرة لدى روسيا كالعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها غربياً، وبسبب العديد من المنغصات والعقبات التي قد تحول بينها وبين قطف ثمار حصادها وانتصاراتها العسكرية، ومن أبرزها:
- عدم قدرتها على ترتيب تسوية سياسية دائمة تفرض رؤيتها للحل السياسي في سوريا.
- عجز الدبلوماسية الروسية عن اقناع المجتمع الدولي للبدء بضخ الأموال لإعادة الإعمار.
- فشل الجهود الروسية -حتى الآن- الرامية لكسر ملموس للعزلة الدولية المفروضة على نظام الأسد وتعويم نظامه دولياً.
- اصطدام النفوذ الروسي بالوجود العسكري التركي والأمريكي في شمال وشرق سوريا، ما يمنع موسكو من الحسم عسكرياً ويجبرها على أخذ مصالح هذه القوى بالحسبان عند أي استحقاق سياسي.
- التوغل الإيراني داخل المؤسسات العسكرية والاقتصادية التابعة للنظام، وتضارب المصالح بين الطرفين.
- الاقتصاد السوري المنهك بالعقوبات، خاصة المتعلقة ب”قانون قيصر”؛ الذي يحظر التعامل مع نظام الأسد.
- خلافات تكتيكية مع نظام الأسد أسهمت في بعض الأحيان في توتر العلاقات بين روسيا ونظام الأسد، نتيجة تعنّت النظام في مفاوضات الحل السياسي التي ترعاها روسيا وقضايا أخرى كاتكاء الأسد على إيران لموازنة الضغوطات الروسية[12].
في النهاية، يمكن القول بأن روسيا حققت عدداً من أهدافها من خلال التدخل، أبرزها منع سقوط نظام الأسد المتوقع حينها، والاستفادة من التدخل في سوريا كبوابة لفرض وجودها الاقليمي والعالمي، ولكنها لا تزال تصارع لحصاد نتائج هذا التدخل العسكري، خاصة النتائج المتعلقة بتحقيق المكاسب الصلبة التي تضمن استقرار وجودها على المدى الطويل.
على الرغم من ثقل التدخل الروسي العسكري والسياسي، والضغوطات الكبيرة التي مارسها الروس لإعادة شرعية نظام الأسد، إلا أنهم لم ينجحوا في ذلك حتى الآن، الأمر الذي يؤكد على وجود فرص لقوى الثورة والمعارضة في التدافعات الدولية لمنع الروس من إنجاز “حل” على مقاسهم ونظام الأسد، يستلزم هذا تكثيف الجهود والتشاور والتنسيق بين مختلف قوى الثورة والمعارضة السياسية والعسكرية بعيداً عن إتاحة الفرصة للروس في الانفراد ببعض قوى المعارضة والاجتماع معها وإعطائها بعض المكاسب الوهمية مقابل محاولة اكتسابهم لشرعية الوجود وتفريق صفوف المعارضة، وهو ما نجحت به موسكو عندما فرضت مع بعض القوى دخول منصة موسكو إلى هيئة التفاوض.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة