هجوم تنظيم “داعش” على سجن الصناعة في الحسكة: قراءة في الخلفيات والمآلات
مقال تحليلي صادر عن وحدة تحليل السياسات
مقدمة:
لم يكن هجوم تنظيم “داعش” الأخير على سجن “الصناعة” في منطقة غويران في مدينة الحسكة غريباً أو بعيداً عن التوقعات[1]؛ فهذا النوع من الهجمات ضد السجون التي يقوم بها تنظيم “داعش” لتحرير معتقليه هو استراتيجية عسكرية متبعة يحثّ “التنظيم” أنصاره دائماً على تنفيذها[2]، فضلاً عن توقعات الخبراء وبعض الجهات الرسمية وتصريحات “قسد” نفسها؛ التي حذرت فيما سبق من أن الواقع الهشّ لهذه السجون يُغري خلايا “داعش” بالهجوم عليها[3]، إضافة إلى أن قدرات “داعش” وهجماتها كانت في تصاعد مستمر طوال العامَين الماضيَين.
إلا أن اللافت في هذا الهجوم كان في حجمه وطبيعته والنتائج التي قد تترتب عليه؛ فالهجوم يُعد الأكبر من نوعه في سوريا منذ سقوط آخر معاقل “داعش” في “الباغوز”، وقد اقتصرت أغلب عمليات “داعش” قبل هذه العملية على العبوات الناسفة والكمائن السريعة والإغارات الخاطفة في النقاط المتطرفة وعلى الطرقات الطويلة؛ إلا أنه استطاع في هذه المرة الوصول إلى عمق السيطرة الأمنية والعسكرية لـ “قسد”، مما يشير إلى تعاظم قدراته واستعداده لبدء مرحلة جديدة من العمليات في كل من سوريا والعراق[4].
عملية سجن غويران بين روايتَين:
تتحدث البيانات الرسمية الصادرة عن “قسد” أن أعداد مُهاجمي سجن الصناعة كانت حوالي 200 “انتحاري”، وأن مدة التخطيط لهذه المعركة استمرت 6 أشهر، وقد دخلت هذه الخلايا إلى حي غويران قادمة من المناطق التي يسيطر عليها الجيش الوطني السوري تحت النفوذ التركي، وتتهم “قسد” تركيا والجيش الوطني بشكل مباشر في دعم وتمويل خلايا “داعش” للقيام بهذه العملية، إضافة إلى اتهامهم كذلك بمهاجمة مناطق ونقاط “قسد” في عين عيسى تزامناً مع هجوم السجن، بقصد تشتيت الجهود العسكرية لـ”قسد” وخلق حالة من الفوضى تسمح بفرار سجناء “داعش”[5].
على الجهة الأخرى تحدثت رواية “تنظيم داعش” عن أن عدد المهاجمين كان 12 “انغماسياً” مع عربتين مفخختين فقط، وليست بالمئات كما في رواية “قسد”، وأن المهاجمين انقسموا إلى أربعة محاور؛ واحد منها لمهاجمة أبراج السجن والباقي لإشغال قوات “قسد” وقطع إمداداتها، وذكر “التنظيم” أن الهدف من العملية ابتداء كان تحرير السجناء فقط انطلاقاً من “الواجب الشرعي الذي تؤمن به الدولة الإسلامية”؛ إلا أن وصول عناصر “داعش” إلى مستودعات السلاح وانهيار دفاعات “قسد” جعل التنظيم ينتقل إلى مرحلة أخرى من الاستنزاف، ويوسّع نطاق الهجوم خارج دائرة السجن[6].
مجريات المعركة ونهايتها:
استنفرت “قسد” جميع أجهزتها العسكرية والأمنية للمشاركة في المعركة، وبحسب بياناتها الرسمية فقد شارك آلاف العناصر التابعين لها في عملية أطلقت عليها “مطرقة الشعوب”، كما شارك التحالف الدولي أولاً من خلال الطائرات الحربية والمروحية، ثم استقدم بعد ذلك عدداً من القوات البرية مدعومة بالعربات والمصفحات للمشاركة في عمليات التمشيط واقتحام السجن.
ومع توسُّع رقعة الاشتباكات وتمدُّدها إلى خارج السجن فرضت قوات “قسد” طوقاً أمنياً موسعاً حول مدينة الحسكة، كما فرضت حظراً للتجول داخل المدنية للمساعدة في إمساك عناصر “داعش” الفارين من السجن، ومن ناحية أخرى استطاعت مجموعات “داعش” الإمساك بعدد من حرّاس السجن والعناصر التابعين لـ “قسد” واحتفظت بهم كرهائن من أجل المساومة عليهم.
استمرت الاشتباكات طوال سبعة أيام متواصلة في محيط السجن وداخله وفي المنشآت المجاورة في حي غويران وحي الزهور، وشهدت المنطقة وأبنية السجن تحديداً غارات جوية عنيفة من قبل طائرات التحالف أدت إلى تدمير أجزاء واسعة منه بحسب المتحدث باسم “قسد”[7]، تخلل هذه الاشتباكات محاولات للتفاوض بين الطرفين[8]، سرعان ما انهارت وانتهت باستعادة السيطرة بشكل كامل على السجن ومحيطه من قبل قوات “قسد”[9]؛ لكن رواية تنظيم “داعش” نفت استعادة “قسد” السيطرة على السجن وتخليص الرهائن بالقوة، وتحدثت عن تنفيذ صفقة تحفظت مصادر “داعش” على ذكر تفاصيلها[10].
في نهاية الأمر أعلنت “قسد” استعادة زمام السيطرة بشكل كامل، كما بثّت صوراً ومشاهد عديدة تظهر تسليم أعداد كبيرة من سجناء “داعش” أنفسهم لقواتها، وتعاملت مع آخرين رفضوا تسليم أنفسهم وتحصنوا داخل أبينة السجن أو كانوا متفرقين داخل الأحياء. في حين ذكرت الرواية الرسمية للتنظيم: أن جميع المهاجمين الانغماسيين قد قتلوا، وأن أعداداً أخرى كبيرة من السجناء تم تأمين خروجهم إلى مناطق آمنة بحسب رواية “داعش”، وأن بقية السجناء الذين تحصنوا في السجن وفي أماكن أخرى قاتلوا “حتى الرمق الأخير”، وذكر “داعش” أن المقاطع التي بثتها قوات “قسد” لاستسلام أعداد كبيرة من عناصر التنظيم هي أساساً للسجناء الكبار في السنّ والمصابين الذين لم يحملوا السلاح ولم يشاركوا في القتال ضد “قسد”[11].
نتائج المعركة ومآلاتها:
تحدثت “قسد” عن إلقاء القبض على حوالي 3500 عنصر من الذين كانوا محتجزين سابقاً في السجن، في وقت كانت العديد من التقارير تتحدث عن وجود بين 3000 إلى 5000 آلاف سجين فيه قبل الهجوم[12]، من بينهم 700 طفل أعربت اليونسيف عن قلقها إزاء مصيرهم في ظل الاشتباكات والمعارك الدائرة[13]، ويصعب جداً التنبؤ بصحة هذه الأرقام في ظل التعتيم الإعلامي الشديد الذي فرضته “قسد” أثناء عملية استعادة السجن، إضافة إلى غياب التقديرات والسجلات الرسمية حول عدد السجناء المنتمين للتنظيم داخل سجون “قسد”، مما يجعل تقدير أعداد السجناء الذين استطاعوا الفرار أمراً في غاية الصعوبة.
وتُعيد هذه العملية إلى الأذهان عملية هروب عشرات السجناء من سجني “التاجي” “وأبو غريب” عام 2013م[14]، من بينهم أشخاص تقلدوا مناصب قيادية في تنظيم “داعش” إبان ظهوره بين عامَي 2014 – 2015م، مما يطرح مخاوف حقيقية من قدرة التنظيم على إعادة إدماج عناصره الفارّين من السجن ضمن خلاياه ونشاطاته المتصاعدة أساساً منذ سنتين، مع الأخذ بعين النظر تراجع التماسك الأمني والعسكري شمال شرق سوريا، وتضارب مصالح اللاعبين الدوليين مثل الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا.
رجال ونساء وأطفال؛ أزمة المخيمات والسجون التابعة لـ “قسد” شمال شرق سوريا:
من ناحية أخرى سلطت العملية الضوء على مشاكل عالقة تنتظر حلاً منذ سنوات عديدة؛ إذ تتحدث التقارير عن وجود بين 10 إلى 12 ألف سجين ينتمي أو يُشتبه في انتمائه إلى “داعش” في سجون “قسد”، من بينهم أكثر من 2000 أجنبي[15]، ويتكدس هؤلاء في سجون سيئة التجهيزات الإنسانية والأمنية في أوضاع صحية ومعيشية سيئة[16]، دون وجود أفق لإيجاد حلول تنهي هذه الأزمة، مع رفض دولهم إعادة استقبالهم تحت حجة عدم وجود الدلائل والوثائق اللازمة لمحاكمتهم، وعدم قدرة “قسد” على توفير المحاكمات لهم كذلك [17].
يُضاف إلى ذلك غياب الإرادة الحقيقة لإعادة تأهيل هؤلاء العناصر، أو على الأقل أولئك الذين لم يكن لهم أدوار قتالية مع التنظيم أو انضموا له لأسباب اجتماعية واقتصادية وليس لأسباب أيديولوجية متينة، إضافة إلى الأطفال الصغار بالسنّ الذين لا تتم مراعاة احتياجاتهم أو إبعادهم عن العناصر والمقاتلين الأكثر تشدداً؛ مما يهدد بوقوعهم تحت تأثير الأفكار والأيديولوجيا المتشددة للتنظيم.
وإلى جانب السجون ثمّة أيضاً مشاكل المخيمات التي تُؤوي عائلات مقاتلي “داعش” من النساء والأطفال، والذين تُقدر أعدادهم بعشرات الألوف، من بينهم أجانب يتبعون إلى أكثر من 50 دولة، وأضخم هذه المخيمات وأشهرها هو مخيم الهول الذي يضم أكثر من 70 ألف إنسان ثلثهم من الأطفال[18]، ويرزح هؤلاء تحت ظروف صعبة للغاية، مع حراسة أمنية مخفضة وتهم فساد تجعل من عملية تهريب القاطنين في المخيم أمراً مألوفاً.
من جانب آخر تحاول “قسد” الاستفادة من هذا المشهد لاستجلاب الدعم المادي الدولي تحت غطاء المحافظة على أمن هذه السجون والمخيمات وتحسين أوضاعها الإنسانية والخدمية؛ حيث قامت العديد من الدول منها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بتقديم بعض المساعدات المادية واللوجيستية إلى “قسد” لتأمين تلك المواقع[19]، إضافة إلى اكتساب مزيد من الشرعية والغطاء الدولي بحجة مكافحة “الإرهاب” والقيام بالمسؤوليات التي تنأى الدول الأخرى عن القيام بها تجاه مواطينها المحتجزين في سجونها.
وبحسب مصادر محلية فقد قامت “قسد” بتجريف عدد من البيوت داخل حي غويران بحجة تعاون أصحابها مع خلايا “داعش”[20]، وبناءً على مقابلة شخصية قام بها مُعدّ التقرير فإنه من الممكن الربط بين عمليات التجريف وسعي “قسد” المستمر للتضييق على الأهالي العرب الوافدين إلى مدينة الحسكة من المدن الأخرى وبين الهجوم الأخير على السجن[21]؛ حيث إن “قسد” فرضت فيما سبق ما أسمته بطاقة الوافد[22]، وأضاف: إن جزءاً كبيراً من أهالي حي غويران هم من مناطق دير الزور، ولذلك تتهمهم “قسد” بالتعاون واحتضان خلايا “داعش”، مما يعني أن “قسد” استفادت كذلك من هجوم السجن في تنفيذ مخططات أخرى متعلقة بالتضييق على العرب والوافدين.
خاتمة:
كما بات واضحاً في حالة تحركات تنظيم “داعش”، تحاول مختلف الأطراف الاستثمار في نشاطاته، والهجوم الأخير ليس استثناء؛ فقد زعمت مصادر في التحالف الدولي أن هجوم “داعش” على سجن الحسكة سيؤدي إلى إضعاف التنظيم بسبب الخسائر الفادحة التي تعرض لها[23]، وفي المقابل تشير رواية “داعش” ومعطيات أخرى إلى عكس ذلك؛ حيث إن هذه العملية أسهمت إلى حد كبير في رفع الروح المعنوية والقتالية لعناصر “داعش”، مع التأكيد على شعار “باقية” الذي يرفعه “داعش”، ومع صعوبة التأكد من أعداد الفارين من السجن أو الذين تم اعتقالهم مرة أخرى ووجود العديد من المعطيات التي تؤكد حصول صفقة تم بموجبها تأمين خروج بعض الكوادر للتنظيم؛ فإن ذلك يعني رفد خلايا “داعش” المتمددة في البادية بدماء جديدة ستزيد من وتيرة عملياتها مستقبلاً.
من جانب آخر فإن ازدياد العمليات التي يقوم بها “داعش” في سوريا كمّاً ونوعاً ينعكس بشكل سلبي على عموم المشهد في سوريا؛ فهو من جهة يعزّز الحديث عن أولوية ملف مكافحة الإرهاب في مقابل تراجع الحديث عن ملف الانتقال السياسي وتنفيذ القرارات الدولية بشأن الحل السياسي في سوريا، كما أنه يدعم الادعاءات الروسية التي تبرّر وجودها في سوريا تحت غطاء مكافحة الإرهاب والتصدي لتنظيم “داعش”، مما يعني بشكل عام أن عودة أخبار عمليات “داعش” إلى تصدُّر المشهدر في سوريا يسهم في تكريس معاناة السوريين وتأخير الحل السياسي.
وقد قرعت هذه العملية أيضاً أجراس الإنذار حول مسألة معتقلي “داعش” في سجون “قسد” وعائلاتهم المتوزعة في مخيمات عدة، وأعادت التذكير بهذه المعضلة الأخلاقية والإنسانية والقانونية الكبيرة التي تلقي بظلالها على المشهد في سوريا بشكل عام؛ حيث إن هذه السجون تحولت إلى قنابل موقوتة تنتظر الشرارة اللازمة للانفجار، مهددة بإعادة المشهد سنوات عديدة إلى الوراء، كما أن الهجوم الأخير أثار مخاوف العديد من الجهات وأطلق أصواتاً دولية تدعو إلى ضرورة التعامل مع هذه المعضلة، وإلى تحمل جميع الدول مسؤولياتها القانونية والإنسانية تجاه هذه المخيمات والسجون[24].
لمشاركة الورقة: https://sydialogue.org/o2iw
محمد سالم، أحمد سامر إيبش، الخطاب الإعلامي لتنظيم “داعش” ودوافعه الفكرية، قراءة في نتاجه الإعلامي والشرعي في مرحلة ما بعد البغدادي، مركز الحوار السوري، 8/10/2021.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة