السوريون في تركيا؛ إسهامات اقتصادية في تنشيط الصادرات وتوليد فرص العمل (2)
تحدثنا في المقالتَين السابقتَين ما هو تأثير السوريين على معدلات البطالة في تركيا؟!، والسوريون في تركيا: إسهامات اقتصادية في تنشيط الصادرات وتوليد فرص العمل (1) عن نتائج مختلطة للهجرة السورية في التأثير على البطالة لدى المواطنين الأتراك، واقترحنا مدخلاً لفهم هذه التأثيرات المختلطة محاولة فهم إسهامات السوريين الأخرى إلى جانب إسهامهم في العمالة؛ كتأسيسهم الشركات، وإسهامهم في تنشيط الإنتاج وفتح أسواق جديدة داخلية وخارجية؛ وسنحاول في هذه المقالة فهم آليات هذه الإسهامات، وكيف تتراكم لتُحدث تلك الآثار.
إسهام المهاجرين السوريين في رفع القدرة التنافسية للسلع والخدمات التركية:
أدى دخول المهاجرين السوريين بشكلٍ كبيرٍ في سوق العمالة غير الرسمي، وتأسيس شركات جديدة صغيرة الحجم[1] بشكل كبير إلى تخفيض نسبة “تركيز السوق”[2]، وإلى طبع الاقتصاد التركي بطابع غير رسمي[3]؛ مما أسهم في زيادة عدد منتجي السلع والخدمات الصغار، الأمر الذي أدى إلى زيادة المنافسة بين المنتجين، وانعكس هذا إيجاباً على المستهلكين والأسواق نتيجة لزيادة العرض أكثر من الطلب؛ مما أدى إلى زيادة خيارات توفر السلع بأسعار أرخص عموماً، أو إنتاج سلع وخدمات بمواصفات وقيمة عالية مقابل السعر، وهذا يتناسب مع منطقية قانون العرض والطلب؛ فمن الطبيعي أن تزداد العمالة غير الرسمية بزيادة الشركات الصغيرة لأن العمالة غير الرسمية تكون نسبتها عادة أعلى في الشركات الصغيرة.
عامل آخر أسهم بشكل واضح في المعادلة السابقة وهو انخفاض تكاليف مدخلات الإنتاج من خلال انخفاض تكاليف أحد أهم المدخلات، وهي الموارد البشرية، وتوفر هذا من خلال دخول العمالة السورية إلى الإنتاج التركي.
وهو ما أكدته إحدى الدراسات التي أشارت إلى حدوث تأثيرات مختلفة؛ إذ أدت “صدمة” قدوم المهاجرين السوريين في البداية إلى ارتفاع معدَّلات البطالة وازدياد سعر الإيجارات وبعض المنتجات الغذائية في بعض المناطق ذات الحضور الكثيف للمهاجرين السوريين (مناطق الجنوب التركي خاصة)، ويعود ذلك إلى ارتفاع الطلب على تلك السلع على نحوٍ مفاجئ، ممّا أخلّ بالتوازن المعتاد بين العرض والطلب في السوق التركية؛ وهو ما أثّر بدوره في أسعار القطاعات التي زاد الطلب عليها[4].
ولكن مع دخول العمالة السورية المهاجرة إلى الأسواق أدى انخفاض أجور العاملين السوريين إلى انخفاض تكاليف الإنتاج؛ مما أثّر بشكل مباشر في انخفاض أسعار المنتجات المحلية، وبالتالي قدرتها على المنافسة الخارجية والتصدير.
إذاً: أدّى دخول أعداد كبيرة من المهاجرين السوريين في سوق العمل التركي إلى توفر العمالة قليلة الكلفة، وهو ما شجّع على زيادة الإنتاج، وقد ظهر ذلك بوضوح في القطاعات غير الرسمية نتيجة لتوجه أرباب العمل لتوظيف السوريين بشكل غير رسمي مع تقاضي أجور أقل من الحد الأدنى للأجور المفروضة في تركيا[5]، الأمر الذي أدّى بدوره إلى انخفاض أسعار السلع والخدمات في تلك القطاعات كثيفة العمالة غير الرسمية بنحو 4%؛ نظراً لانخفاض تكاليف الإنتاج بسبب انخفاض تكلفة العمالة، في حين أن الأسعار في القطاعات الرسمية كثيفة العمالة لم تتغير تقريباً، فضلاً عن زيادة الإنتاج والمبيعات نتيجة ازدياد الطلب المحلِّي مع تدفُّق المهاجرين، حيث شهدت أسعار المواد الغذائيَّة وخدمات الفنادق والمطاعم والتعليم[6] وبعض المنتجات كالفواكه والخضراوات انخفاضاً جيداً بسبب اعتماد هذه القطاعات إلى حدٍّ كبير على العمال غير الرسميين[7].
هذا الانخفاض النسبي في أسعار السلع والخدمات التي تعتمد على العمالة غير الرسمية في مدخلات الإنتاج أسهم في جذب العملاء من بلدان الشرق الأوسط التي تعاني أيضاً من انخفاض الدخل بسبب ظروفها؛ كالعراق، وسوريا، وليبيا، وفلسطين، وحتى العملاء في أسواق الخليج العربي، فيما يتعلق بالبضائع التي تستهدف الوافدين فيها؛ لأن مستويات الوافدين الاقتصادية منخفضة، لاسيما مع وجود عامل اللغة والثقافة العربية المشتركة[8].
عملياً يتوافق هذا الوصول إلى بلدان الشرق الأوسط مع خطة التصدير الرئيسية المعتمدة من الجانب التركي حتى العام 2023، التي تأتي ضمن خطة التنمية الـ /11/ وتستهدف 17 بلداً رئيسياً؛ اثنان منها ضمن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (المغرب والعراق)، وهما يقعان ضمن دائرة الاستفادة من شبكة علاقات السوريين معهم[9]، حيث تشير بيانات العام الفائت إلى تصدُّر العراق قائمة دول الجوار التركي الأكثر استيراداً للمنتجات التركية في الأشهر الستة الأولى من العام 2021 بمبلغ إجمالي وصل إلى ما يقارب 4مليارات دولار أمريكي[10]، وهو من أهم وجهات التصدير لرجال الأعمال السوريين[11].
تأثيرات مختلطة إيجابية وسلبية على معدلات البطالة: مناقشة واستنتاج
يمكننا الاستنتاج أن تأثير هجرة السوريين على معدلات توظيف المواطنين الأتراك محدود ومتعدد الجوانب ومختلط؛ حيث إن تأثير تدفق العمالة السورية محدود بالتأثير فقط على فئة محددة من العمالة التركية، وهي تلك العمالة الأقل مهارة وتعمل في القطاع غير الرسمي، وهي تشكل ما يُقدر بثلث العمالة في عموم تركيا، وتصل إلى نسبة 50% في مناطق الجنوب التركي. وعليه فإنه -باستثناء العمل في القطاع غير الرسمي- لا يشكل المهاجرون السوريون عموماً بدائل للمواطنين الأصليين الأتراك، فلم ينافس السوريون العمالة التركية التي تعمل بشكل رسمي في القطاعات الخاصة أو الحكومية أو المنظمات غير الحكومية لأسباب عديدة، أهمها عوامل اللغة والمهارة.
فضلاً عن ذلك فقد أحضر المهاجرون السوريون أعمالهم وأسواقهم معهم غالباً؛ فلم تعمل العمالة السورية لدى المصانع التركية فقط، بل نقدّر أن نسبة لا بأس بها من العمالة السورية(حوالي 20 % ) تعمل لدى الشركات المملوكة لسوريين؛ فقد أنشأ السوريون مختلف أنواع الشركات، خاصة المتوسطة والصغيرة، ويقارب عددها 20 ألف شركة، تقوم كل شركة بتشغيل ما يقارب 7 موظفين أو عمال، أي أنها تقوم بتشغيل ما يقارب 140 ألفاً من العمال أو الموظفين، وهؤلاء يمثلون تقريباً 15% – 20% من العمالة السورية في تركيا (بين 900 ألف ومليون عامل)[12]، أي أن جزءاً من العمالة السورية يتم استيعابهم عملياً في الشركات التي أنشأها المهاجرون السوريون، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل واضح لدى زيارة عينات من الشركات والمعامل السورية.
ولكن: ماذا عن بقية العمالة السورية خارج النسبة المذكورة؟ إذا كان حوالي 15 إلى 20 بالمئة منهم يعملون غالباً لدى شركات مملوكة لسوريين فهل البقية الباقية من العمالة السورية -أي حوالي (80%)- قد أخذوا أماكن العمال الأتراك في العمل لدى الشركات والمعامل التركية؟ في الواقع: نعم؛ فقد حدث هذا جزئياً، وهو ما تؤكده الدراسات التي أشرنا إلى بعضها[13].
ولكن هناك زاوية أخرى من المهم الإضاءة عليها؛ وهي أن دخول العمالة السورية قد ولّد فرص عمل جديدة في القطاعات الرسمية وغير الرسمية استفاد منها المواطنون الأتراك أيضاً، وهو ما أشارت إليه الدراسات أيضاً وقمنا بشرح كيفيته، ويتوافق مع الملاحظات الميدانية في هذه المقالة والمقالتين السابقتين، ويتوافق مع نتيجة إحدى الدراسات التي أشارت إلى أن أقل نسبة للبطالة بين العمالة غير الماهرة في غازي عنتاب كانت في الأعوام الأكثر كثافة للهجرة السورية[14].
كما أن بعض مَن خرجوا من العمال الأتراك من العمالة غير الرسمية نتيجة منافسة العمال المهاجرين السوريين قد تحولوا إلى التوظيف الرسمي (أصبحوا موظفين بشكل رسمي) مع توليد فرص عمل جديدة نتيجة الهجرة السورية في القطاعات الإنسانية والحكومية أيضاً، والأهم من ذلك -وهو ما نركز عليه هنا- أنه تم توليد فرص عمل في القطاعات التجارية الرسمية وغير الرسمية؛ لعدة عوامل أشرنا إليها سابقاً ونعيد الإضاءة عليها لارتباطها بموضوع البطالة، وهي تتمثل بنشاط المستثمرين ورجال الأعمال السوريين في إنشاء الشركات، وتوفر العمالة السورية منخفضة التكلفة، ووجود دورة إنتاجية جديدة تعتمد على استهلاك شرائح جديدة، وهي شرائح المهاجرين السوريين؛ وهذا ما يفسر انخفاض أسعار الخدمات والمنتجات بنسبة حوالي 4% بحسب الدراسة التي أشرنا إليها سابقاً[15]، وقد عزت الدراسة سبب ذلك إلى انخفاض تكاليف الإنتاج من خلال انخفاض تكاليف أحد أهم مدخلات الإنتاج وهو العمالة البشرية، وذلك من خلال دخول العمالة السورية التي تعمل بأجر قليل، وهذا صحيح جزئياً؛ إلا أنه من المهم حتى تكتمل الصورة أن نقول: إن هذا ما كان ليتم لولا وجود أسواق لبيع وتصريف تلك المنتجات والخدمات بأسعار رخيصة، وتتمثل هذه الأسواق بالدرجة الأولى في أسواق المهاجرين السوريين أنفسهم في تركيا، ثم في أسواق دول الشرق الأوسط التي تبحث عن أسعار تنافسية، وهي مما يبرع السوريون في التجارة معها، كالعراق وليبيا وفلسطين ودول شمال إفريقيا.
وقد أشارت الدراسة التي أكدت انخفاض أسعار السلع التي تم إنتاجها في القطاع الرسمي أن الانخفاض حدث بشكل أكبر في أسعار السلع الأساسية (الضرورية كالخبز) مقارنة بالسلع الترفيهية[16]، على الرغم من أن طلب المهاجرين على السلع الأساسية أعلى؛ فكيف يمكن تفسير ذلك؟
يمكن تفسيره بأن الطلب على السلع الأساسية من المهاجرين قد ولّد إنتاجاً متسلسلاً مكثفاً أكثر من الطلب؛ مما أدى إلى زيادة في العرض مقارنة بالطلب، لاسيما مع وجود مدخلات الإنتاج الرخيصة وكثرة المنافسة، نتيجة كثرة العارضين الناتجة عن زيادة عدد الشركات وانخفاض تركيز السوق، ويُضاف إلى الطلب المحلي ازدياد الطلب من الأسواق التصديرية التي أسهم المهاجرون السوريون في زيادة الصادرات إليها، خاصة أسواق سوريا والعراق وليبيا وبقية أسواق الشرق الأوسط؛ وهي أسواق تركز على التنافسية السعرية بالدرجة الأولى، بمعنى أن أحد أهم العوامل الجاذبة هو انخفاض أسعار السلع النسبي[17].
أسواق جديدة تنشط قطاعات عمل المهاجرين السوريين وتستوعب عمالتهم:
إذاً نحن هنا أمام افتتاح أسواق جديدة لمستهلكين جدد نتجت عن الهجرة السورية، وتستلزم هذه الأسواق الجديدة مدخلات إنتاج جديدة تعتمد بالدرجة الأولى على انخفاض تكاليف اليد العاملة البشرية[18]، وهو الأمر الذي تُؤمنّه العمالة السورية، أي: أن العمالة السورية عندما تعمل في الإنتاج الخاص لتلك الأسواق فإنها لا تأخذ أصلاً أماكن العمال الأتراك؛ لأنهم بالأصل غير موجودين في هذه الدورات الإنتاجية، وليسوا مستعدين للعمل فيها لأنهم لا يقبلون العمل بأجور منخفضة كالتي يقبل بها العمال السوريون.
وهذه النتيجة تتوافق أيضاً مع بعض ما بات يصدر من رجال الأعمال الأتراك؛ إذ صاروا يعلنون أنهم لا يجدون عمالة مناسبة تعمل لديهم ويعانون في ذلك، بل إن أحد مستشاري الأعمال الأتراك ممن كان ضد انخراط العمالة السورية في المصانع التركية أرسل لاحقاً يطلب تعميم إعلان توظيف لإحدى الشركات بين السوريين للحصول على عمال[19]، وقد نشرت إحدى الصحف التركية عن “إركان هاردال” نائب رئيس جمعية لاليلي الصناعية ورجال الأعمال في إسطنبول قوله: “إن الصناعة التحويلية في مأزق، ولاسيما في ورش العمل الصغيرة، بسبب عدم وجود الكثير من العمال المحليين، لذا توجه الطلب للمزيد من العمّال الأجانب” (في إشارة إلى اليد العاملة السورية[20])، كما أشار أحد رجال الأعمال والاقتصاديين الأتراك إلى وجود أزمة في العمالة؛ فهناك مهندسون وخريجو جامعات، لكن العمالة قليلة، وأيّد تصريحات بعض السياسيين الذين قالوا إن ترحيل السوريين سوف يؤدي إلى انهيار الاقتصاد[21].
وهنا لا نريد أن ندخل في جانب آخر من الموضوع، وهو الحديث عن عدالة الأجور واستغلال أصحاب الأعمال للعمال؛ فليس مبحثه هنا وإن كان جديراً بالنقاش[22]، لكن الجدير بالذكر هنا أن الشركات الأمريكية مثلاً تقوم بإقامة مصانع لها في الصين أو المكسيك بهدف الحصول على العمالة الرخيصة ورفع القدرة التنافسية، فهنا نستطيع القول: إن الهجرة السورية قد شكلت فرصة للعديد من رجال الأعمال الأتراك دون ذهابهم للاستثمار في بلاد أخرى[23]؛ وهذا المعنى هو ذاته ما أشار إليه وزير الداخلية التركي عندما صرّح بأن رجال الأعمال سوف يعارضون ترحيل اللاجئين السوريين[24].
وزير الداخلية التركي: رجال الأعمال سوف يعارضون إعادة اللاجئين السوريين. |
من الجدير بالذكر هنا أن استهلاك هذه المنتجات والسلع الرخيصة نسبياً لا يقتصر على المهاجرين وأسواق التصدير؛ إنما يتعدى إلى المجتمع المضيف من المواطنين الأتراك، لاسيما مع دخول تركيا في أزمات اقتصادية مؤخراً بسبب تأثير جائحة كوفيد19 وتراجع سعر صرف الليرة؛ مما يدفع شرائح عديدة للبحث عن الأسعار المنخفضة[25].
نخلص للقول في النهاية: إنه لا يمكن فصل موضوع البطالة عن التأثير على الإنتاج وتنشيط الاقتصاد وفتح أسواق جديدة، فمن الطبيعي أن تكون هنالك آثار مختلطة سلبية وإيجابية للوجود السوري في موضوع البطالة على المواطنين؛ فإن كان العمال السوريون يعملون بشكل منافس للعمال الأتراك فإنهم كثيراً ما يعملون في وظائف ما كانت لتوجد أصلاً لولا الوجود السوري في تركيا. وما يجب أن يتم التركيز عليه في هذا السياق هو النظرة المتوازنة والمنصفة لتأثيرات الهجرة السورية، دون أن يكون ثمّة تركيز على جوانب معينة لأهداف سياسية.
والإنصاف يقتضي أن نذكر أيضاً أن مقالتنا لا تدّعي الإحاطة بمختلف جوانب التأثير، ومنها التأثيرات السلبية على المجتمع التركي المضيف، من ذلك مثلاً: زيادة التوتر بين الطبقة العاملة التركية ورجال الأعمال؛ إذ يرى بعض العمال أن رجال الأعمال الأتراك يقومون باستغلال العمال السوريين لمصالحهم الخاصة، وبما يضر بالعمال الأتراك. ولا شك في أن الدولة التركية والمجتمع المضيف تحملوا أعباء كبيرة مع زيادة الهجرة السورية، ومنها زيادة الإنفاق العام؛ وهو ما سوف نناقشه في مقالة قادمة باعتباره أحد القضايا الجدلية أيضاً.
لمشاركة المقال: https://sydialogue.org/57fl
- Balkan and S. tumen, Previous reference p.676.
- Balkan and S. tumen, p.676_ 677.
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،
تعليق واحد