الانتحار؛ الموت الصامت الذي قد يهدّد سوريا مستقبلاً
تقرير تحليلي صادر عن الوحدة المجتمعية
في “ظاهرة” تستدعي الانتباه شَهِد شهر آذار عام 2021 عدة حوادث انتحار في عموم المناطق السورية؛ إذ سُجلت حادثة انتحار في دمشق وأخرى في القامشلي[1]، و4 حوادث انتحار في مناطق سيطرة قوى الثورة والمعارضة السورية في النصف الأول من شهر آذار 2021[2]؛ وهو ما يدفع للتساؤل حول مدى تفشي هذه “الظاهرة” داخل سوريا، وهل ما زالت الأعداد في نطاق حالات فردية أم تحولت إلى “ظاهرة” اجتماعية تستدعي تحركاً سريعاً؟
يواجه نظام الأسد الكثير من الانتقادات التي تتهمه بإخفاء الإحصائيات المتعلقة بحوادث الانتحار في البلاد، خاصة مع التناقضات الواضحة في التصريحات والأرقام الرسمية مع بعضها البعض؛ حيث يحاول المسؤولون التأكيد أن معدلات الانتحار ما زالت في حدودها الدنيا مقارنة مع الكثير من الدول المتقدمة والمستقرة[3].
وبالعودة إلى الإحصائيات الرسمية المعلنة رسمياً؛ فقد سجلت حكومة نظام الأسد عام 2019 قرابة 124 حالة انتحار، وأحصت في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2020 قرابة 116 حالة انتحار، حيث يشير أحد المسؤولين إلى أن نسب الانتحار المسجلة في سوريا ارتفعت لتصل إلى خمسة أضعاف النسبة التي كانت عليها قبل عام 2011، ورأى أن الانتحار لم يعد يُعزى لأسباب اجتماعية؛ وإنما بات “ظاهرة” مقترنة بالاكتئاب والفقر والوضع الأمني والسياسي والاقتصادي السيئ[4].
وقد أشار المدير العام للهيئة العامة في مستشفى ابن خلدون للأمراض النفسية والعقلية في حلب إلى أن كوادر المشفى تمكنت عام 2019 من إنقاذ 99 حالة انتحار من أصل 100 حالة أسبوعياً، مشيراً إلى وجود أطفال لا تتجاوز أعمارهم 7 سنوات يتحدثون عن الموت بشكل روتيني؛ وهو ما قد يؤدي إلى الانتحار من دون وعي[5].
وأما في مناطق سيطرة قوى الثورة والمعارضة فقد ارتفعت أيضاً حالات الانتحار في شمال غربي سوريا بنسبة 38%، ما بين الربعَين الأول والثاني من 2020 وفق إحصائيات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة[6]؛ فلا يبدو وضع هذه المنطقة أحسن من المناطق الأخرى، وتشير نتائج مسح قامت به مجموعة عمل الصحة النفسية التقنية شمال غربي سوريا عام 2019 إلى تسجيل 751 محاولة انتحار فاشلة، و47 حالة انتحار انتهت بالوفاة[7].
نظرة في العمق
مع ندرة الدراسات والأبحاث والأرقام التي تعكس واقع حالات الانتحار في مناطق سيطرة نظام الأسد؛ فإن المعلومات الواردة – على شحِّها – تشير إلى أننا أمام مؤشرات تدل على وجود العديد من العوامل والظروف التي يمكن أن تساعد في تفاقم أعداد هذه الحالات وانتشارها.
وبالعودة إلى نتائج المسح الذي قامت به مجموعة عمل الصحة النفسية التقنية في شمال غربي سورية عام 2019، والذي درس قرابة 800 حالة، وبتحليل النتائج المعلنة والموضحة في المخططات التالية؛ فإننا نلاحظ أن 40% من محاولات الانتحار في الشمال السوري تركزت في الشريحة العمرية بين 21-30عاماً، بينما تركزت 30% من حالات الانتحار لدى الأطفال والمراهقين (الشريحة ما دون العشرين سنة)، و22% في الشريحة بين 31-40 عاماً.
وقد كانت المشاكل الزوجية أبرز أسباب محاولات الانتحار بنسبة بلغت 26%، تلتها المشاكل المالية بنسبة 18%، والمشاكل مع الوالدين بنسبة 15%، ثم البطالة بنسبة 12 %.
وعلى الرغم من لا أن أغلب المتابعين لتزايد حالات الانتحار يَعزون هذه الزيادة لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، ثم لأسباب اجتماعية تتعلق باضطرابات العلاقات الأسرية أو الزوجية أو العاطفية؛ إلا أن ارتفاع هذه “الظاهرة” بين الأطفال والمراهقين وبين الشباب في أعمار صغيرة يشير إلى أسباب أخرى غير تلك المعروفة بشكل عام. |
ظاهرة عالمية أم انعكاس لآثار الحرب؟
تتصاعد معدلات الانتحار في العالم، خاصة في الدول المتقدمة والمستقرة؛ إذ تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أن شخصاً ينتحر كل 40 ثانية في العالم، ويبلغ معدل الانتحار العالمي 10.5 لكل مئة ألف شخص، منها 79% في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، ويُعد الانتحار السبب الثالث للوفاة عند الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عامًا، والسبب الثاني في للوفاة عند الشباب بين 15 و29 عامًا، بعد إصابات الطرق[8].
وللانتحار أسباب عامة تتشارك فيها أغلب المجتمعات المستقرة، كالمشاكل الاقتصادية والعائلية والعاطفية والاجتماعية؛ إلا أن “مجتمعات ما بعد الصراع” تظهر فيها أسباب إضافية أكثر وضوحاً، حيث يقترن السلوك الانتحاري كثيراً بالنزاعات والكوارث والعنف وسوء المعاملة، أو الفقدان والشعور بالعزلة، كما أن معدلات الانتحار تتزايد بين الفئات المستضعفة التي تعاني من التمييز مثل اللاجئين والمهاجرين، لاسيما وأن مثل تلك الظروف تتسبب في زيادة الضغط النفسي نتيجة التعرض للصدمات أو الإصابات أو الظروف القاسية[9].
وعلى عكس الاعتقاد السائد فإن المشاكل النفسية في مجتمعات ما بعد الصراع تتفاقم بعد أن تتوقف تلك الصراعات وتهدأ الأمور، وتتزايد بعدها حالات الانتحار والاكتئاب والمشاكل النفسية؛ وذلك يعود لعدد من الأسباب والعوامل الإضافية، منها:
1- اعتياد الألم:
تتركز اهتمامات الناس خلال فترات الصراع على محاولات إنقاذ الذات والنجاة من الخطر ومواجهة الاستهداف، إلا أنه عندما يطول أمد الصراع تعتاد هذه المجتمعات على مستويات مرتفعة من الألم والخوف والعدائية والعنف، وتصبح هذه المشاعر السامة اعتيادية لا يتقبل البعض تراجعها، وقد يحاول تعويضها بطريقته الخاصة، وبالتالي يصبح التفكير بالانتحار مستساغاً[10].
ومما يزيد من الحاجة لتغذية تلك المشاعر السامة أو ما يُعرف باسم “الألم العاطفي”: وجود العديد من الاحتياجات التي لا تتم تلبيتها، عدا مشاعر اليأس وفقدان الأمل من تحسن الأوضاع، كما تلعب تداعيات المشاكل النفسية دوراً كبيراً في تعزيز الرغبة بالانتحار خاصة في بعض الحالات المرضية كإصابات الحرب، أو بعض الأمراض النفسية مثل حالات الاكتئاب الحادّ والفِصام والاضطراب العاطفي ثنائي القطب واضطرابات ما بعد الصدمات، وبعض الاضطرابات الشخصية مثل الشخصية الحدّيّة[11].
2- شيوع فكرة القتل أو الموت وانتشارها:
يؤدي ارتفاع معدلات الموت والفقد في الحروب والصراعات إلى أن يصبح الموت الجماعي حالة متكررة، وتصبح مناظر الدم والألم والأشلاء مناظر اعتيادية، تنكسر معها رهبة الموت أو القتل ليصبح مقبولاً، سواء للفرد أو لغيره.
ومن جهة أخرى فقد تسهم الدعاية الإعلامية التي تروّج للقتال في بعض الأحيان بشيوع هذه الفكرة، خاصة في أنماط الحروب والصراعات الجديدة التي ارتكز بعضها على فكرة ترويج العنف الطائفي الذي ترعاه الدولة، والذي يسمح بظهور عصابات ومجموعات دفاع ومليشيات تستغل حاجة الشباب المهمشين الاقتصادية لتزجّ بهم في معارك عنيفة قد تسبب لهم الكثير من الصدمات النفسية خلال المعارك[12].
وبالتالي فإن تكرار التعرض لمواجهة الموت خلال الصراعات أو تكرار مشاهدته أو للحديث عنه أو نتيجة للأعراض المرافقة للتعرض لأحداث ومواقف قاسية قد تدفع أصحابها -ممن لا يجد معنىً لمعاناته- للانتحار أو التفكير به كأحد الحلول للتخلص من المعاناة.
3- الفقر وسوء إدارة الدولة:
يُعدّ الفقر وسوء إدارة الموارد من أسباب اندلاع الصراعات ومن النتائج المترتبة عليها؛ فالصراعات تستنزف موارد البلاد الاقتصادية والبشرية، وقد تتسبب نتائجها بظهور حكومات لا تملك الكفاءة، تُدير البلاد غالباً بشكل سيئ وتزيد من معاناة الناس بدلاً من تخفيفها.
ومع ارتفاع معدلات الفقر وانهيار الاقتصاد وتراجعه يواجه الناس صعوبات إضافية في الحصول على الخدمات الرئيسة واحتياجاتهم الأولية، ويسود جوّ من اليأس والإحباط؛ لاسيما في حالة انسداد الأفق وانعدام الفرص في استثمار الطاقات وغياب أي مؤشرات للتحسن، وهو ما يعمّق لدى البعض الشعور بالنقص واستحالة تحسين الواقع، خاصة عند وجود مقارنة مستمرة مع الآخرين في مكان آخر ومع الواقع الذي يعيشون فيه والإمكانات المتاحة لهم[13].
4- التصدُّع الاجتماعي:
تتسبب الحروب غالباً بخللٍ في بنية المجتمع، وتحوّله إلى جماعات هجينة حائرة متصارعة فيما بينها تحرّكها المصالح ويغذّيها سوء الإدارة والرغبة في التفوق، كما تتسبب أيضاً بتغير شكل السلطات المحلية كالعائلة والقبيلة ومختار الحي وشيخ الجامع، التي كانت تشكل إحدى أدوات التوازن الاجتماعي وحل المشاكل، فضلاً عن كونها سبباً في نقص وغياب المؤسسات الرئيسة الداعمة كالمؤسسات التعليمية والصحية والترفيهية، التي يمكن أن تحمي الشباب وتوجه طاقاتهم[14].
ومن جهة أخرى تعاني فئات الشباب خلال الحروب وبعدها من حالة التهميش؛ إذ غالباً ما يتم الزجّ بهم في خطوط الصراع وتوريطهم بأعمال عنف وأعمال غير قانونية، وفي إبعادهم من مراكز التأثير والعمل العام أو العمل السياسي، فيصبحون وقوداً لمعارك تستخدمهم وتعود بالنفع على غيرهم[15].
5- انتشار المخدرات:
تتزايد معدلات الاتجار بالمخدرات في مجتمعات ما بعد الصراع مستغلة حالة الانفلات الأمني وغياب سلطة القانون من جهة، والحاجة إلى مصادر تمويل في ظل اقتصاد متهالك، وازدياد الطلب عليها نتيجة الحالة النفسية المتردية لبعض فئات المجتمع التي ترغب بالهرب والانسحاب من مشاكلها بدلاً من مواجهتها[16].
ويشكّل تعاطي الخمور والكحول وبعض أنواع المخدرات أو الإدمان على بعض الأدوية المهدئة عاملاً إضافياً في رفع معدلات الانتحار؛ فهي تقوم بعملية إزالة التثبيط، فيتحرر المتعاطي مؤقتاً من مخاوفه ويقدم على أمور قد لا يتجرأ عليها في حالات وعيه[17]، كما أن انتشار بعض أنواع المخدرات الرديئة يرفع نسبة المنتحرين بين المتعاطين نتيجة آثاره الجانبية[18].
6- النضوج غير السّويّ عند الأطفال والمراهقين:
ترافق الحروبَ ظروفٌ غير طبيعية ومعدلاتٌ مرتفعة من العنف تتسبب بكثيرٍ من المشاكل النفسية، ومن أبرزها اضطرابات ما بعد الصدمة؛ حيث تظهر هذه الأعراض فوراً أو تتأخر أكثر من ستة أشهر بعد الصدمة، وقد تستمر من سنّ مبكرة لفترة طويلة، وقد تظهر كصدمة ثانوية (يصاب بها أشخاص يعتنون بشخص تعرض لحادث صادم)[19].
في فترات الصراع الطويلة تتحول المشاكل النفسية نتيجة الظروف القاسية إلى حالة من الإجهاد السامّ الذي يؤثّر في الأطفال والمراهقين[20] بشكل كبير، لاسيما إن كانت الصدمة قوية أو متكررة أو طويلة الأمد؛ حيث يتسبب التنشيط المطول لأنظمة الاستجابة للضغط بتعطيل تطور بنية الدماغ وأنظمة الأعضاء الأخرى، ويزيد من خطر الإصابة بالأمراض المرتبطة بالإجهاد والضعف الإدراكي في سنوات البلوغ[21].
وقد تتسبب مجتمعات الحروب بإنضاج المراهقين في وقت مبكر والدفع بهم لاستلام أدوار الكبار؛ ولكنْ بتكلفة هائلة – غالباً ما تكون غير مرئية – من الإجهاد والإرهاق والاكتئاب والإنهاك، ومن غياب الأحلام المستقبلية وفقدان الثقة بالناس وفقدان الأمل واليقين بالمستقبل، فيعطي المراهق في كثير من الأحيان الأولوية لدعم الأسرة والحفاظ عليها، وإن كان على حساب إهمال طموحاته الشخصية واحتياجاته[22].
وإلى جانب ذلك أيضاً يمكن تفسير ارتفاع معدلات الانتحار بين الأطفال والمراهقين بأنه نتيجة لما يُعرف بالسلوك الاندفاعي؛ فقد تخطر الفكرة في بال الطفل أو المراهق أو حتى الشاب، فينفذها دون تفكير بها أو بعواقبها، خاصة مع وجود عوامل إضافية محرّضة كالإحساس باليأس أو الغضب أو الذعر، أو إحساس المراهق بأنه سجين لواقعه الذي لا مجال لتحسينه[23].
الاستعداد المبكر واجب
على الرغم من أن فكرة الانتحار فكرة غريبة عن المجتمعات المسلمة عموماً، وعن المجتمع السوري خصوصاً إذ تُعدّ الأقل من حيث معدلات الانتحار السنوية مقارنة بالعديد من الدول الغربية[24]؛ إلا أن ارتفاع معدلات الانتحار مؤخراً أمر لابد من معالجته بشكل فوري.
فالظروف التي تشهدها سوريا حالياً يمكن أن تكون سبباً في ارتفاع كبير في معدلات الانتحار مستقبلاً، ما لم يتم اتخاذ خطوات استباقية من قبل المختصين والمعنيين، والعمل على حل بعض المشاكل والأسباب المسبّبة للانتحار وتقنينها، وزيادة أعداد المراكز التي تقدم خدمات الدعم النفسي، والإعداد لبرامج تخصصية تتعامل مع هذه الظاهرة بشكل علمي مدروس ومن كل النواحي[25].
ولعل من أسوأ التحديات التي قد يواجهها المعنيّون بهذا الموضوع أن يتحول الانتحار إلى ثقافة شائعة في المجتمع، وهو ما بدأ يظهر في بعض الدول ويمكن تسميته “الانتحار بالتقليد”؛ وذلك بأن تصبح حوادث الانتحار الفردية محفّزة للآخرين لتقليدها، لاسيما إن كانت تتم من قبل بعض المشاهير أو المؤثّرين على السوشيال ميديا، كما حدث في اليابان منذ فترة قريبة[26].
كما لابد من تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة حول الانتحار، وأهمها المفهوم المغلوط الشائع الذي ينفي أن يُصاب المؤمن باكتئاب أو أن يفكر بالموت أو الانتحار، والذي يغيب معه أن الشخص الذي يفكر بالانتحار قد يكون في كثير من الأحيان مريضاً يحتاج إلى تشخيص مبكر ومساعدة من اختصاصيين، وقد يصل في بعض الأحيان إلى حالة لا يعي فيها تصرفاته، بغضّ النظر عن دينه ودرجة إيمانه[27].
فمن أجل الوقاية لابد من تأهيل المختصين في كل المجالات ذات الصلة؛ فدوافع الانتحار مركّبة تجمع بين الجوانب النفسية والروحية والاجتماعية والبيئية والعضوية البيولوجية، وبالتالي لابد من مواجهة هذه “الظاهرة” بأبعادها المتعددة وبشكل مدروس يجمع ويكامل بين دور الطبيب النفسي والمعالج النفسي والمرشد الاجتماعي والمرشد الديني، الذين يتم تدريبهم على برامج مخصصة للوقاية من الانتحار تُصمم لتتوافق مع ظروف المجتمع الذي تتم فيه.
لمشاركة الصفحة: https://sydialogue.org/7e6r
لتحميل التقرير : https://sydialogue.org/lebp
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة