الهَدم من الداخل… المخدِّرات؛ السلاح الخفيّ لتدمير المجتمع السوري
دراسة استكشافية من إصدار مركز الحوار السوري بالشراكة مع منظمة ميديجلوبال
الملخص التنفيذي
يُعد الإدمان اضطراباً انتكاسياً مزمناً ومعقداً، أسبابه كثيرة وآثاره عديدة متشابكة، له تأثيرٌ واضحٌ على الدماغ ويؤثر في المزاج، ويسبّب سلوكاً قهرياً يُجبر صاحبه على البحث عن المادة الإدمانية، وعلى الاستمرار في استخدامها رغم الضرر النفسي والجسدي والاجتماعي الذي تسبّبه، وقد يصل به هذا الاستخدام إلى الإعاقة أو الوفاة المبكرة عند التأخر في الخضوع للعلاج أو الشفاء.
ويمرّ الطريق إلى الاعتمادية “الإدمان” عبر ثلاث مراحل؛ أولها: التعاطي والاستخدام غير المؤذي، ثم مرحلة الاستعمال المؤذي، ثم الاعتمادية. وتُصنَّف المواد المؤدية للاعتمادية في 6 زُمَر رئيسة: فصيلة المنشِّطات، والحشيش، والأفيونات، وفصيلة المهدِّئات والمنوِّمات ومضادّات القلق، ثم المهلوسات، وفصيلة المستنشَقات والمواد الطيّارة.
يسعى هذا البحث لتتبُّع ظاهرة انتشار المخدرات المتزايد في سوريا، ودراسة انعكاساتها على السوريين الذين يعانون من غياب الأمن وفقدان احتياجاتهم الأساسية، إلى جانب ارتدادات الحرب وآثارها النفسية والجسدية؛ في محاولةٍ لمعالجة قضية تهدّد المجتمع وأفراده بكل شرائحهم وتعطّل طاقاتهم، لاسيما وأن التدخُّل المبكّر يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل، إلى جانب تزويد الجهات المعنية -طبيةً كانت أو مجتمعيةً- بتصورات وتقديرات أولية يمكن أن تساعدهم في تصميم مشاريعهم، وتشجّع الداعمين والمنظمات الدولية على الاستجابة لها.
وقد اعتمد البحث منهجية تم تحكيمها قبل مرحلة الإعداد وبعدها، وأسهم فيها مجموعة من الأكاديميين والمتخصصين في الموضوع الطبي والاجتماعي، مستخدماً المنهج الوصفي التحليلي الذي ارتكز على: مصادر ثانوية تمثّلت في تحليل ما تم نشره من تقارير ودراسات وأبحاث حول الموضوع، وعلى مصادر أولية: هي نتائج تحليل عيّنة إحصائية عشوائية ذاتية المشاركة تم الحصول عليها من خلال استبانة إلكترونية محكَّمة أجاب عنها ما يقارب 500 سوري يتوزعون داخل سوريا بين مناطق سيطرة نظام الأسد وحلفائه ومناطق سيطرة المعارضة السورية، وخارج سوريا في بعض دول اللجوء، بالإضافة إلى نتائج مقابلات معمقة مع 27 من الخبراء والمطلعين في المجال الطبي والاجتماعي والعسكري داخل مناطق سيطرة المعارضة.
وتعاطي المخدرات ظاهرة ملاحظة في المجتمع السوري قبل عام 2011، خاصة في المدن الكبيرة؛ حيث كانت تنتشر فيها بشكل سرّي ومحدود؛ إلا أن هذه الظاهرة أصبحت علنية بعد عام 2011، لاسيما مع نشاط تجارة المخدرات في سوريا، وارتفاع حجم الإنتاج والتصدير، فقد ازدادت المخدرات المصادرة القادمة من سوريا في الأعوام الأخيرة ما بين 6-21 ضعفاً مقارنة مع حجمها عام2011.
وتشير نتائج العيّنة المدروسة في هذه الدراسة إلى أن نسبة تعاطي المشروبات الكحولية بلغت عام 2011 ما يقارب 16%، وارتفعت بعد عام 2011 لتصل إلى نسبة 18%، بزيادة قدرها 2%، وبرز هذا الارتفاع بأوضح أشكاله عند شريحة المقيمين في دول اللجوء، ثم مناطق سيطرة نظام الأسد، وكان بين الإناث أوضح منه بين الذكور.
كما تغيرت نسبة الإدمان على المخدرات من 3% من إجمالي الشريحة المدروسة قبل عام 2011، لتصل إلى 8% بعد عام 2011، وبإجمالي زيادة وصلت إلى 5%؛ وكان هذا الارتفاع بأوضح أشكاله في مناطق سيطرة نظام الأسد وبلاد اللجوء، وكان هذا الارتفاع أوضح في شريحة الذكور وبين شرائح الشباب.
وارتفعت نسبة تعاطي الأدوية المسببة للاعتمادية لدى الشريحة المدروسة قبل عام 2011 من 3% من إجمالي الشريحة المدروسة، لتصل إلى 6%، بزيادة قدرها 3%، وكان هذا الارتفاع أوضح أيضاً في مناطق سيطرة نظام الأسد ثم دول اللجوء من مناطق سيطرة المعارضة.
وقد أشارت النتائج إلى انتشار واضح لحالات التعاطي والإدمان في محيط الشريحة المدروسة؛ إذ أفادت نصف الشريحة بوجود متعاطين للمخدرات حولها، بينهم 9% أشاروا إلى وجود أكثر من 20 متعاطٍ في محيطهم، بينما أشار 41% من الشريحة إلى وجود أشخاص حولهم أدمنوا الأدوية المسببة للاعتمادية، بينهم 4% أشاروا إلى وجود أكثر من 20 مدمناً في محيطهم.
تشير 80% من إجابات الشريحة المستطلعة آراؤها إلى زيادة واضحة في حجم تجارة المخدرات في مناطق وجودهم مقارنة بالفترة قبل عام 2011، وتصل هذه النسبة إلى 90% عند الشريحة المقيمة في مناطق سيطرة نظام الأسد، تليها المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية بنسبة 81%.
تبدو محاولات ترويج المخدرات أنشط في دول اللجوء بين مجتمعات اللاجئين، تليها مناطق سيطرة نظام الأسد مقارنة بمناطق سيطرة المعارضة، في حين أن محاولات الترويج بين الذكور تصل تقريباً إلى ثلاثة أضعافها بين الإناث، وركزت على الشرائح العمرية الشابة أكثر من تركيزها على الشرائح الأكبر سناً.
كما توضح إجابات الشريحة المستطلعة آراؤها أن أكثر المواد المسببة للاعتمادية انتشاراً في محيط المستجيب هي مادة الحشيش بنسبة 66% من الإجابات، تليها حبوب كودائين وترامادول بنسبة 64%، ثم حبوب كبتاغون بنسبة 56%، ويختلف هذا الترتيب باختلاف منطقة الإقامة؛ حيث تبدو حبوب كودائين وترامادول أكثر انتشاراً في مناطق سيطرة المعارضة السورية، تليها الحشيش وكبتاغون.
وتشير النتائج إلى أن مصدر المواد المخدرة المنتشرة في السوق هي مناطق سيطرة نظام الأسد، وأن عمليات التهريب تتم بالتنسيق مع أشخاص يتبعون لمليشيا حزب الله اللبناني؛ إذ أصبحت هذه المواد رخيصة الثمن سهلة التحصيل، وهو ما أكده 23% من الشريحة المستطلعة آراؤها الذين أشاروا إلى سهولة الحصول على المخدرات؛ فتأمين المخدرات يبدو أسهل عند نسبة أوسع من الشريحة المقيمة في مناطق سيطرة نظام الأسد، تليها الشريحة المقيمة في دول اللجوء، ثم الشريحة المقيمة في مناطق سيطرة المعارضة السورية.
وحول كيفية تأمين المخدرات أشار 76% من المستجيبين إلى أن المخدرات في مناطقهم تُباع عبر مروّجين معروفين، و20% أشاروا إلى أنها تُباع عبر المعارف والأصدقاء، بينما رأى 16% أنها تُباع في المحلات والأكشاك، و15% تُباع في الصيدليات، و10% عبر وسائل التواصل، و9% تُباع في الجامعات والمدارس؛ ويُلاحظ انتشار بيع المخدرات في المدارس وعبر المحلات والأكشاك وفي الجامعات في مناطق سيطرة نظام الأسد بشكل أكبر منه في مناطق سيطرة المعارضة السورية.
وحول الجهة الأكثر تورطاً في عملية الاتّجار بالمخدرات رأت الشريحة المستطلعة آراؤها المقيمة في مناطق سيطرة نظام الأسد أن الجهة الأكثر تورطاً في ذلك هي الجهات المدعومة من القوى الأمنية المسيطرة يليها مروّجون عاديون، ثم جهات تعمل مع مليشيات غير سورية (إيرانية أو لبنانية). بينما تشير إجابات الشريحة المستطلعة آراؤها المقيمة في مناطق سيطرة المعارضة إلى أن الجهة الأكثر تورطاً في عملية الاتّجار هي جهات مدعومة أو تعمل مع الفصائل المحلية، يليها مروجون عاديون، ثم جهات مدعومة من القوى الأمنية المسيطرة.
ولعل من أهم الأسباب التي أسهمت في زيادة ظاهرة تعاطي المواد المسببة للاعتمادية بعد عام 2011 انتشارها بين المقاتلين على أنها منشّطات تساعدهم في الرباط وتقلّل من احتياجهم للنوم، كما أسهم ظهور تنظيم “داعش” في منطقة ريف حلب بازدياد حالات تعاطي المخدرات، حيث أصبحت المخدرات إحدى أدوات تجنيد الشباب في صفوفها إلى جانب الإغراءات المادية. وكان لحصار المناطق المعارضة دور في زيادة انتشار بعض أنواع المخدرات، خاصة مع حدوث تغيرات في تكتيكات تجارة المخدرات في المنطقة؛ فالفوضى في إدارة القطاع الطبي قد تسببت بزيادة حالات الإدمان الدوائي نتيجة دخول عدد من الممرضين الذين يفتقدون الخلفية العلمية وغياب الآليات الرقابية لصرف بعض الأنواع، وهو ما أدى إلى إدمان المريض على هذه الأدوية.
كما أن غياب العلاج الطبي اللازم لحالات الإصابات الحربية القاسية أسهم بزيادة الإدمان على المواد المسببة للاعتمادية بأنواعها كافة؛ فصدمة التهجير وما رافقها من مشاعر الخوف والفقد والألم كانت عاملاً إضافياً أدى إلى زيادة انتشار المخدرات بين صفوف النازحين والمهجرين قسرياً، لاسيما وأن عمليات التهجير القسري تسببت في تغيير تركيبة المجتمع المحلي، وفي غياب الرقابة المجتمعية وسطوة العائلة والأقارب والجيران والمعارف، وانكسار الخوف من العار المجتمعي الذي يلحق متعاطي المخدرات في هذه المجتمعات الجديدة التي لا يعرف بعضها بعضاً.
وبالنظر إلى حالات تعاطي المخدرات التي تمت دراستها وشكلت 8% من إجمالي العينة فقد كان معدل الإدمان عند الذكور ضمن الشريحة المدروسة أعلى بـ 5 أضعاف من معدلاته عند الإناث، وكانت معدلات الإدمان أوضح عند الشريحة العمرية الأقل من 30 عاماً، وبين العازبين.
وقد ظهرت حالات الإدمان بشكل واضح في شريحة اللاجئين، تليها الشريحة المقيمة في مناطق نظام الأسد ثم مناطق المعارضة، وانتشرت بين سكان المناطق الأصليين الذين لم يتعرضوا لتجارب نزوح أو تهجير في مناطق نظام الأسد، في حين انتشرت بشكل أوضح في محيط المهجَّرين والنازحين المقيمين في مناطق المعارضة. كما كان للبطالة دور ملاحظ في انتشار حالات التعاطي؛ فقد انتشرت المخدرات بشكل متقارب بين العاطلين عن العمل والعاملين بشكل متقطع، وبرزت البطالة وعدم الاستقرار الوظيفي ضمن العوامل المشجعة على التعاطي.
ومن الملاحظ أن أغلب متعاطي المخدرات هم من المتعاطين الجدد الذين لم يكن لهم سابق تاريخ في تعاطي المخدرات قبل عام 2011، وقد يكون لجوؤهم إلى المخدرات هرباً من الظروف النفسية والاقتصادية وحالة عدم الاستقرار التي خلّفتها سنوات الحرب، وكان الحشيش المادة الأكثر تداولاً بين المتعاطين، يليه الكبتاغون والماريغوانا والترامدول .
وقد لُوحظ أن ثلث شريحة المتعاطين يعيشون في وسط ينتشر فيه التعاطي بشكل كبير جداً يزيد عن 20 شخصاً، وأن ثلث شريحة المتعاطين يتناولون المخدرات بشكل يومي. وبلغ متوسط الإنفاق على المخدرات شهرياً قرابة 10 دولار عند 44% من الشريحة المدروسة، إذ أشار 90% إلى أنهم لا يواجهون صعوبة في الحصول على المخدرات؛ وهو ما يشير إلى تدنّي سعر المخدرات المتوفرة وتدنّي جودتها أيضاً.
ويُعد الفضول والرغبة في التجريب أحد أهم الأسباب التي دفعت المتعاطين لتعاطي المخدرات، يليه الرغبة في الهروب من الواقع، ثم محاولة التخلص من الألم، ثم الهرب من المشاكل العائلية؛ فالنتائج تشير إلى وجود حالات إدمان غير مقصود تم الإيقاع بأصحابها دون علمهم من أجل تعويدهم على المادة المخدرة التي كانت تُقدم لهم ضمن الطعام، كما ظهرت حالات من الإدمان الأسري وقع ضحيته عددٌ من النساء والأطفال.
كانت آثار التعاطي السلبية أوضح على المتعاطين، خاصة الآثار السلبية الصحية والمادية، في حين لم تكن التأثيرات النفسية الإيجابية – تحسُّن المزاج – واضحة إلا عند 40% فقط من شريحة المتعاطين، كما كانت حالة الوعي بالأضرار الصحية وبالحكم الشرعي والقانوني واضحة عند المتعاطين؛ إلا أنها لم تكن رادعة لهم.
وقد تسبب 49% من المتعاطين بتعاطي آخرين بشكل مباشر أو غير مباشر؛ وهو ما يؤكد التأثير السلبي المتعدي لمتعاطي المخدرات في محيطه. وقد أشار 41% من شريحة المتعاطين إلى رغبتهم في التعافي؛ إلا أن تجارب التعافي الناجحة التي يعرفونها ما تزال قليلة جداً.
أما فيما يتعلق بحالات الإدمان الدوائي التي بلغت 6% من إجمالي العينة المدروسة فيُلاحظ فيها أن نسبة الإدمان بين الذكور تبلغ ضِعف النسبة لدى الإناث؛ إلا أن نسبة إدمان الإناث على الأدوية أعلى من نسبة إدمانها على المخدرات، كما يظهر الإدمان الدوائي واضحاً عند الشريحة العمرية الأصغر من 30 عاماً، وبين العازبين بشكل أكثر وضوحاً.
وقد تركزت 48% من حالات الإدمان الدوائي في مناطق المعارضة السورية التي كانت مسرحاً للعمليات القتالية وللقصف والاستهداف الذي أوقع آلاف الإصابات بين المدنيين إضافة إلى تردّي الواقع الطبي فيها، تليها مناطق نظام الأسد ودول اللجوء بنسبة 26% لكل منهما، وتوزعت بشكل متقارب بين النازحين والمقيمين الأصليين في مناطقهم.
وقد كانت المسكّنات من أبرز الأدوية التي استخدمتها هذه الشريحة تليها الأدوية العصبية والنفسية وأدوية السعال؛ بما يؤكد أن المرض والإصابة كان السبب الرئيس للإدمان عند أفراد الشريحة المقيمين في مناطق سيطرة المعارضة، تليها المشاكل النفسية التي قد تعود لارتفاع معدلات اضطراب ما بعد الصدمة الشائع بين السوريين، ثم الاعتياد والرغبة في الهروب من الواقع، في حين تتساوى الأسباب بين المرض والاعتياد والمشاكل النفسية ومشاكل النوم عند الشريحة المقيمة في مناطق نظام الأسد.
يُلاحظ أن ثلاثة أرباع الشريحة التي أدمنت الأدوية المسببة للاعتمادية كانت تصرف عليها أقل من 10 دولار شهرياً، وقد أشار 59% من إجمالي الشريحة التي أدمنت الأدوية المسببة للاعتمادية إلى رغبتهم في التعافي والتخلص من هذا الإدمان، بينما كانت 34% من الإجابات مترددة في قرارها، مقابل 7% ترفض التعافي .
ومن الملاحظ أن ثمّة تداخلاً بين حالات الإدمان على المخدرات وعلى الأدوية؛ فغالباً ما يتجه مدمن المخدرات لتناول بعض أنواع الأدوية المسببة للاعتمادية -والعكس بالعكس- رغم خطورة هذا المزج بين الأنواع في بعض الأحيان وآثاره المضادة؛ إلا أن النتائج تشير إلى أن نسبة الإدمان نتيجة تعاطي المخدرات ما زالت أكبر إلى حدّ ما من نسبة الإدمان على الأدوية المسببة للاعتمادية، وأن نصف الشريحة التي أشارت إلى تعاطيها الأدوية إلى مرحلة الإدمان استخدمت المخدرات أيضاً.
وحول جهود مواجهة ظاهرة الإدمان: رأى 54% من المستطلعة آراؤهم أن الجهود المبذولة في عملية مكافحة المخدرات في المنطقة التي يقيمون فيها ضعيفة، وتبدو إجابات الشريحة المقيمة في مناطق نظام الأسد الأعلى بنسبة 77% من إجمالي الشريحة المستطلعة آراؤها، تليها الشريحة المقيمة في مناطق سيطرة المعارضة السورية بنسبة 46%.
وقد انطلقت العديد من حملات التوعية لمخاطر المخدرات التي رافقت هذه الحملات الأمنية واستهدفت مقاتلي الفصائل والمدنيين على حد سواء، وساعدت تلك الحملات الفصائل بالحصول على الدعم المجتمعي، وعلى بناء حالة من الثقة المتبادلة؛ إلا أنها واجهت العديد من الانتقادات لأنها لم تقم على أسس سليمة، ولم تُبنَ على معلومات دقيقة حول أنواع الإدمان والمواد المسببة للاعتمادية، ولم تنتهج منهجية علمية سليمة؛ إنما قام عليها بعض الأشخاص غير المتخصصين في مجال مكافحة الإدمان، كما أنها لم تدرب هؤلاء المتحدثين وتخلق عندهم حالة وعي مشترك، واكتفت بأن يقدّم كل منهم ما لديه؛ فبقيت بعض الحملات قاصرة عن الوصول إلى درجة التأثير المطلوب.
ولابد من الإشارة إلى وجود جهود معاكسة تسعى إلى كسر الوصمة المجتمعية تجاه المتعاطين وتحدّي السلطات الموجودة؛ إذ بدأ يُلاحظ حالة من الإشهار والتفاخر التي يقوم بها بعض المتعاطين، وصلت إلى حد قيامهم ببث مباشر يصورّون فيه جلسات التعاطي الجماعي عبر موقع فيس بوك، في محاولةٍ لتحدي جهود المكافحة وجذب المزيد من المتعاطين أو الشباب.
تعاني جميع المناطق في سوريا -خاصة الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية- من ندرة في المصحّات والمراكز التي تقدم خدمات علاجية للتعافي من الإدمان، وإن كان هناك العديد من التجارب الناجحة المحلية التي لم يُكتب لها الاستمرار؛ وذلك نتيجة مجموعة من التحديات، بعضها يتعلق بالمريض كعدم وجود رغبة حقيقية في متابعة العلاج، وغياب وجود الأسرة الداعمة المتفاعلة، وعدم القدرة على إشغال المريض بأنشطة نافعة تساعده على قضاء وقته بشكل فعّال ودمجه في المجتمع.
وإلى جانب تلك التحديات واجهت المراكز المحلية إشكاليات مختلفة تتعلق بقلة أعداد الكوادر الطبية المؤهلة والخبيرة، وصعوبة الضبط الأمني للمراكز، وضبط عمليات صرف الأدوية؛ إلا أن الإشكالية الرئيسة كانت في الحصول على دعم مستدام يضمن عدم توقفها، ويضمن تقديم رعاية طبية شاملة للمرضى تحفظ كرامتهم وتعاملهم بوصفهم ضحايا لا مجرمين.
ومن جهة أخرى واجهت جهود المكافحة وملاحقة تجّار المخدرات تحديات شتى، أهمها: عدم وجود منظومة قانونية محددة يخضع لها المتورط في عملية التعاطي والإدمان، وانتشار الفساد والتلاعب بالأدلة الخاصة بقضايا مكافحة الاتّجار والترويج للمخدرات، وغياب العقوبات الرادعة، إلى جانب تعدُّد السلطات المسيطرة على الأرض مما أعاق عمليات التنسيق المشترك في الكثير من الأحيان.
مما سبق: يبدو انتشار ظاهرة المخدرات في المجتمع المحلي السوري نتيجة طبيعية لتنامي تجارة المخدرات ولارتدادات الظروف التي عاشتها البلاد في العقد السابق؛ إلا أن انتشار المخدرات في مناطق سيطرة المعارضة يمكن أن يُنظر إليه على أنه تم وفق سياسة مدروسة ولم يكن لغرض تجاري ابتداءً، بل لأهداف سياسية سعت إلى إضعاف بنية التجمعات السكانية التي عارضت نظام الأسد وتدميرها من الداخل، واستخدمت المخدرات ضمن الأسلحة التي شاركت في الصراع بشكل غير مباشر.
لابد من الإشارة إلى أن المواجهة المبكرة لهذه الظاهرة يمكن أن تخفف بشكل كبير من آثارها المستقبلية، وأن كل دولار يُصرف على البرامج الوقائية الفاعلة توفر الحكومات مقابله عشرة دولارات من التكاليف الناتجة عن تعاطي المخدرات؛ إلا أن جهود التوعية لابد أن تترافق مع برامج طبية تقوم عليها فرق وهيئات متخصصة تحاول إنقاذ المتورطين وإعادة دمجهم في الحياة الطبيعية والمجتمع.
وفي هذا السياق قدّم البحث مجموعة من التوصيات تركز على سياق التوعية كأحد السياقات الأساسية للمواجهة، والتي تنبّه إلى ضرورة تصميم برامج متنوعة تتناسب مع الشرائح المستهدفة، يقوم عليها فريق متخصص مدرَّب قادر على بناء حالة من الوعي الطبي والقانوني والشرعي والمجتمعي تجاه الآثار المترتبة على عمليات التعاطي.
كما قدّم البحث مجموعة من التوصيات الموجهة إلى المنظمات العاملة في السياق الإنساني والجهات المانحة؛ وذلك لتشجيعهم على ضرورة التحرك في هذا الملف الحساس، ولإنشاء منظمات ومراكز متخصصة في معالجة الإدمان بأشكاله، والتركيز بشكل خاص على برامج تعافٍ تستهدف بعض الشرائح الحسّاسة والهشّة، بالإضافة إلى توصيات أخرى موجهة للسلطات الإدارية من أجل ضمان أفضل استجابة وتفاعل مع الجهود المبذولة في هذا السياق.
ختاماً: نتوجه بالشكر والتقدير لكل مَن أسهم في إنجاز هذا البحث؛ ابتداءً بفريق العمل، ثم المحكّمين الذين تابعوا إنجازه وأسهموا في تطويره، وكل الأطباء والناشطين والأكاديميين والقادة الميدانيين الذين تفاعلوا مع الموضوع، وقدّموا معلوماتهم ومشاهداتهم وشاركوا تجاربهم التي أثرت الموضوع.
لتحميل و قراءة الورقة كاملة:
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
تعليق واحد