دروس مستفادة للقضية السورية من التفاعل الفلسطيني مع أحداث غزة
مقال تحليلي من إعداد الوحدة المجتمعية
مقدمة:
لا شكّ أنّ ما يحصل في قطاع غزة منذ تاريخ 7 تشرين الأول أكتوبر الماضي، ينطبق عليه مصطلح “الإبادة الجماعية”[1]، التي لا يستهدف فيها المهاجمون الفئات المسلحة فقط، إنما يصبح جميع سكان تلك المنطقة أهدافاً مشروعة للقتل والتدمير، وهذا ما عبّر عنه صراحة وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، عندما قال إن “هدف إسرائيل ليس حماس فقط، إنما جميع من يتعاطف معهم ويدعمهم في غزة حتى أولئك الذين يوزّعون الحلوى.. جميعهم إرهابيون”[2]، وهذا أحد أهم بنود مصطلح “الإبادة الجماعية”، التي تهدف للقتل والانتقام وإن كان الهدف لا يتعلق بالطرف المُهاجَم، إنما يتعلق بالبيئة التي يعيش فيها.
على سبيل المقاربة التاريخية، فإنّ كلّ ما ينطبق على حرب الإبادة الجماعية في غزة، عاشه السوريون خلال 12 عاماً بعد اندلاع ثورتهم الشعبية، التي تحوّلت إلى مسلّحة لضرورات الدفاع عن النفس، ففي كافة الجغرافيا السورية وضع نظام الأسد جميع المدن الثائرة بسكانها ومرافقها المدنيّة والحيوية والطبية والدينية والتعليمية ضمن قائمة أهدافه المشروعة، ولا أدلّ على ذلك من استخدامه “البراميل المتفجرة” والتي تُعدّ أكثر أسلحة “الدمار الشامل” غباءً، على اعتبار أنها بلا توجيه دقيق نحو الهدف، ويدرك من يُلقيها من الجو بأن الهدف منها هو القتل والتدمير لجميع من يقطن تحت محور الطائرة، وليس الهدف قصف أو تدمير مركز عسكري لمن يُسمّيهم نظام الأسد بـ “الإرهابيين”.
تتعدّد إذاً أوجه المقارنة بين حرب الإبادة التي شنّها نظام الأسد ضد السوريين، وبين الحرب المماثلة التي تشنّها “إسرائيل” ضد سكان قطاع غزة، ولعلّ من أهم مظاهرها أيضاً “الحصار الإنساني” الذي تواجه به “إسرائيل” القطاع، كما واجه به نظام الأسد المدن الثائرة، فيما وُصف حينها بأنه “حصار قُروَسطي”، في إشارة إلى هذا التكتيك العسكري الذي يعود إلى القرون الوسطى.
رغم كل ذلك، يجد السوريون اليوم أن غزة تأخذ حيّزاً معقولاً من التعاطف الدولي مع ضحاياها، إلى درجة غصّت بها شوارع برلين وباريس وهلسنكي ومدريد بالمتظاهرين الذين حملوا الأعلام الفلسطينية وصور ضحايا العدوان “الإسرائيلي”[3]، بل إن شوارع أهم العواصم التي تدعم أنظمتها “إسرائيل”، كواشنطن ولندن، مشت فيها طوفانات بشرية من الرافضين لسلوك “إسرائيل” الذي رأوا أنه “تجاوز حدّ الردّ العسكري ودخل في نطاق الانتقام الجماعي”. بينما يرى السوريون كلَّ ذلك يتذكّرون أن المحرقة الجماعية التي مارسها نظام الأسد عليهم في كافة الخارطة السورية لم تحظَ بهذا الزخم الإعلامي الواسع، ولم تحظَ كذلك بهذا التعاطف من الرأي العام الغربي، فبينما كانت روائح غاز السارين تملأ أجواء غوطة دمشق في آب 2013، لم تخرج أي مظاهرات عربية أو غربية تطالب بمحاسبة نظام الأسد، واكتفى الموقف الرسمي الغربي بمطالبته بتسليم السلاح الكيماوي بدلاً من معاقبته.
وتكرر الأمر في عشرات المجازر بحمص وحلب ودير الزور وإدلب وغيرها من المحافظات السورية، دون أن يرى السوريون ذاك التعاطف الغربي، الذي يُشكّل بالنسبة للحكومات الغربية عامل ضغط لا يقل أهمية عن عوامل الضغط الأخرى.
بناء على ذلك، يُناقش المقال أسباب التعاطف العالمي مع الحدث الفلسطيني في غزة وعوامل نجاح الفلسطينيين بإدارة المعركة إعلامياً وصولاً إلى معرفة أبرز أدوات الحشد والمناصرة التي يمكن أن يستلهمها السوريون من تجربة الحرب في غزة فيما يخدم قضيتهم ويعزز حقهم بالتحرّر من الاستبداد والظلم.
أسباب التعاطف العالمي مع الحدث الفلسطيني ونجاح إدارة المعركة إعلامياً:
التباين بين مشهدَي التعاطف العالمي مع الحدثين السوري والفلسطيني رغم أن ما حدث من فظاعات في سوريا لا يقل البتة عن ما حصل في غزة بعد السابع من أكتوبر عام 2023 يعود لأسباب كثيرة يمكن إجمال أبرزها فيما يلي:
1- القضية الفلسطينية تبرز لدى الملايين من الأمريكيين (الجنوييّين والشماليين حتى) والأوروبيين، على أنها قضية تحرّر وطني، وأن الحركات الفلسطينية (السلمية وحتى المسلّحة) هي حركات تحرّر وطنيّة تُقاوم لانتزاع أرضها من طرف تقوم المنظومة الأممية (الأمم المتحدة) بوسمه بصفة “الاحتلال” حتى اليوم. (وإن كانت صفة الاحتلال بالمنطق الأممي لا تتعلّق بالأراضي الفلسطينية كلها، إنما بالأراضي التي احتلتها “إسرائيل” بعد حرب 1967)، بينما يتم توصيف ما جرى ويجري في سوريا على أنه “حربٌ أهليّة” تستلزم إدانة جميع “أطراف الصراع” فيها، بغضّ النظر عن فرق القوة والانتهاكات، وبالتالي ليس بالضرورة أن تنظر الكثير من الشعوب العربية والإسلامية بنفس منظار السوريين لنظام الأسد وأحقيتهم في التخلص الظلم والاستبداد.
2- نجاح الجاليات الفلسطينية في أمريكا والدول الأوروبية في استثمار الإعلام الحديث ووسائل التواصل لتحويل ميزان الإدانة من موقف مندِّدٍ بعملية “طوفان الأقصى” خلال الأسبوع الأول، إلى موقف مندّد بالردّ “الإسرائيلي” على العملية، ويعود ذلك لعوامل مختلفة لديهم من أبرزها تكرار التجارب المشابهة خلال العقود الماضية حول أحداث القضية الفلسطينية بشكل عام ومجازر الاحتلال “الإسرائيلي” بشكل خاص، مع وجود جهات فلسطينية متخصّصة تبلورت لديها التجربة وكانت متوقّعة ردة فعل همجيّة من قبل “إسرائيل” بعد ما جرى في يوم 7 أكتوبر، ولذلك فإن نشاط الجاليات الفلسطينية كان شبه منظّم وعَمِلَ على التأثير بالرأي العام لمصلحة القضية، مستفيداً من الإرث السابق في التعامل مع مثل هذا الحدث.
3- خلال سنوات الذروة في الثورة السورية ومعاركها، كان الإعلام المحلي هو المصدر الرئيسي للصور والفيديوهات التي انتشرت على شاشات التلفزة العالمية، مع استثناءات قليلة، حيث قيَّدَ نظام الأسد عمل القنوات العربية والعالمية، واعتبر العاملين فيها ممن يُغطّون في النقاط الساخنة أهدافاً للقتل أو الاختطاف، وهذا ما قوبل بشيء من “عدم المصداقية” الكافية في نقل الصورة، إذ ثمة فرق بين مجزرة يوثّقها ناشط محلي (كما حصل في سوريا)، ومجزرة توثقها كبريات القنوات ووكالات الأنباء العالمية (كما يحصل اليوم في غزة)، الأمر الذي يُحدِث فرقاً في انتشار الخبر وتناقله على المستوى العالمي.
4- الإرث الشعبي والإعلامي الفلسطيني الطويل في التعامل مع الحروب والمجازر هو بلا شك أعمق وأكثر خبرة من التجربة السورية، التي انتقل فيها الناشطون بشكل مفاجئ من تغطية المظاهرات السلمية إلى تغطية معارك طاحنة وحوادث قصف كبيرة لم تخل من حالة اليأس بينما في غزة كانت وسائل الإعلام الفلسطينية حريصة على بث الروح المعنوية وهزيمة “إسرائيل” رغم تكرار المجازر بشكل يومي.
وقد تمكن الفلسطينيون من كسب المعركة الإعلامية لصالحهم، رغم أن “إسرائيل” استخدمت كل ما تملك إعلامياً وسياسياً لكسب الرأي العام الغربي عبر استحضار فكرة “الإرهاب” ونموذج تنظيم داعش ومزاعم قطع رؤوس الأطفال التي تم توريط كبرى الصحف العالمية وكبار الزعماء والسياسيين بها مثل الرئيس الأمريكي[4]، لكن مع مرور الوقت بما يحمله من مجازر بحق الفلسطينيين وحسن إدارة الخطاب الإعلامي وجهود المناصرة الإعلامية من الفلسطينيين والعرب ومناصري حقوق الإنسان بشكل عام في العالم الغربي قُلِبت الموازين لصالح الفلسطينيين وفقدت “إسرائيل” كثيراً من التعاطف الغربي معها.
5- الإرث التاريخي القديم للقضية الفلسطينية والذي يمتد لنحو 80 سنة أصبح خلالها الملف الفلسطيني عنواناً عاماً للصراعات في منطقة الشرق الأوسط، في نفس الوقت الذي يعمل فيه الفلسطينيون في كافة أنحاء العالم على زرع القضية في عقول أبنائهم بشتى الوسائل المتاحة[5]، وهذا ما كان أثره ظاهراً في حملة الحشد والمناصرة التي قام بها فلسطينيون بمختلف بلدان العالم بعد الحرب في غزة والدعوات لمقاطعة المنتجات الداعمة لـ”إسرائيل”، فضلاً عن بناء شبكة علاقات لحشد المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي وتسليط الضوء على دعمهم لعدالة القضية، والدعوات لتظاهرات في نقاط حيويّة مثل محطات القطار، الأمر الذي يلفت انتباه الشعوب الغربية إلى ما يجري في غزة.
ثمة عوامل داخلية أيضاً كان لها دور واضح في تماسك الحاضنة الشعبية ومنع الانقسام الداخلي[6]، لأن أغلبية الفلسطينيين يعتبرون أن قضيتهم هي القضية الأساسية، وقضية غيرهم دون ذلك، وأن الوحدة حول القضية مقدّمة على الاختلاف على ما دونها، فمثلاً رغم مواقف الفصائل الفلسطينية المتقلّبة تجاه نظام الأسد وتكرار الحديث عن علاقتها بإيران ومليشيا “حزب الله” اللبناني، لم يكن لذلك أثر كبير في انتماء والتزام الحاضنة الشعبية معها، بل لم يؤدّ لأيّ انقسام داخلي فيها، وقد تجلى ذلك في عدم وجود خلافات عميقة داخل حركة حماس -تطفو للسطح- بعد إعادتها العلاقات مع نظام الأسد مع وجود تيارات داخل الحركة رافضة لتلك الخطوة.
بينما في الحالة السورية كان الاختلاف يتكرر دائماً حول قضايا ثانوية ومعنوية وتفصيلية بما يؤدي بالنتيجة إلى مفاصلة وتشتت واقتتال فصائل عسكرية في خضم المعارك مع نظام الأسد، وانقسام كيانات ومؤسسات محلية وسياسية وإعلامية، وهذا ما أدى في كثيرٍ من المواطن إلى عدم قدرة القيادات على اتخاذ القرارات الصحيحة تفاوضياً، في صورة معاكسة لما جرى خلال أحداث غزة وما أظهرته الفصائل الفلسطينية من ضبط في الرواية، وجعل كلمة الناطق باسم القسام أبو عبيدة هي المصدر الأساسي لنقل الأحداث على أرض الواقع ورفع الروح المعنوية للحاضنة[7]، ما أدى لتعلُّق الكثير من الشباب العربي وغير العربي[8] عموماً بهذه الشخصية التي حازت على ثقتهم واهتمامهم وزيادة قناعتهم بإمكانية مقارعة العدو رغم تفاوت الإمكانيات.
كيف يستفيد السوريون في هذه المرحلة من تجربة الحرب في غزة؟
ربما يبدو طرح هذه المقاربة متأخّراً من الناحية العملية، لأن مرحلة الحروب والمواجهات الكبرى في سوريا لم تعد موجودة (حالياً على الأقل)، غير أن الفعاليات السورية القانونية والإعلامية لا يزال لديها متّسع للاستفادة من تجربة “التأثير بالرأي العام” بناءً على مواصلة نظام الأسد انتهاكاته ضد المدنيين، وبناءً على أرشيف يمتد لأكثر من عقد من الزمان، وذلك من خلال ما يلي:
1- زيادة النشاطات والفعاليات لدى الجاليات السورية التي أصبحت لا يُستهان بها في أمريكا وأوروبا، عبر تنظيم تظاهرات دورية للتذكير بمطالب السوريين العادلة، ومطالبة الرأي العام بالضغط على الحكومات لتسريع وتيرة الحل السياسي في سوريا.
وهنا يمكن للناشطين والفعاليات الثقافية والحقوقية تجاوز نشاط التظاهرات إلى تنظيم مؤتمرات شبابية وثقافية تتضمن عرض أفلام وثائقية وتسجيلات مصوّرة، تتم فيها دعوة شخصيات سياسية وثقافية غربية.
2- العمل على محاولة نفي صفة “الحرب الأهليّة” حول ما يجري في سوريا، من خلال جمعيات شبابية سورية تضمّ كافة مكوّنات الشعب السوري، وتكون قادرة على القيام بما ورد في البند الأول، على الأقل خلال الفعاليات المحلية والثقافية.
3-استثمار حدثين مُهمّين في هذا المجال: الأول هو محاكمة نظام الأسد في محكمة العدل الدولية في لاهاي، والثاني هو مذكّرة التوقيف التي أصدرتها فرنسا ضد بشار الأسد مؤخّراً[9]، حيث يمكن من خلال هذين الحدثين التذكير كذلك بملفّ “صور قيصر” التي صدمت الرأي العام العالمي يومها، غير أن تأثيرها لم يلبث أن خفت منذ بدء تطبيق قانون العقوبات الأمريكي الذي حمل اسم هذا الملف عام 2020.
4- استهداف الشعب الأمريكي والأوروبي عبر مواقع التواصل الاجتماعي عبر ترجمة أفلام وثائقية قصيرة أو مقالات أو منشورات تُذكِّرُ بأن ما يجري حالياً في غزة ارتكب نظام الأسد فظاعات أكبر منه في سوريا خلال 10 سنوات على الأقل، دون أي حل يلوح بالأفق لنهاية المأساة السورية، دون أن يؤثر مثل هذا الاستهداف على زخم التعاطف الحالي مع قضية غزة.
5- تسليط الضوء على معاناة المدنيين الخاضعين تحت سيطرة نظام الأسد على أنهم من ضحاياه، وليسوا “حاضنة شعبية” وفقاً لسردية بعض وسائل الإعلام السورية المعارضة، فهذا يُعطي الرأي العام العالمي انطباعاً بأن ممارسات نظام الأسد لا تختلف عن ممارسات الاحتلال الخارجي.
6- عدم الاعتماد على وسائل الإعلام المعارضة فقط في كشف جرائم نظام الأسد، وذلك لعدة أسباب: منها أن جميع هذه الوسائل ناطقة بالعربية ولا تستهدف الجمهور الغربي، إضافة إلى تناقص عدد هذه الوسائل بعد الإغلاقات التي فُرضت على الكثير منها بسبب نقص التمويل أو الضغوطات السياسية.
والبديل عن ذلك إنشاء منصّات متطورة على وسائل التواصل تستهدف الجمهور الأوروبي والأمريكي، بإدارة كوادر قادرة على مخاطبة هذه الشرائح التي لا تكتفي عادة بالجانب العاطفي، إنما تدعم رأيها عادة بجوانب قانونية وحقوقية.
خاتمة:
يوحي التفاعل الفلسطيني مع الأحداث الجارية في غزة بعمق جذور القضية لدى ملايين الفلسطينيين المنتشرين في دول الشتات، والذين استطاعوا بإمكاناتهم المتنوّعة القيام بأدوار مهمّة في الحشد والمناصرة كان لها أثر واضح في تغيير نظرة قسم لا يُستهان به من الشعوب الغربية إلى أحقيّة القضية الفلسطينية وتكذيب الرواية “الإسرائيلية”، وهو ما انعكس بشكل عملي على أرض الواقع في تعالي الأصوات بالدول الغربية سواء على مستوى الشعوب أو حتى بعض السياسيين الذين بدؤوا يُندّدون بالعمليات “الإٍسرائيلية” الجارية واستمرار الحرب، ويدعون إلى وقف فوري لإطلاق النار.
وتبدو التجربة الفلسطينية الأخيرة جديرة بالاهتمام لكل السوريين المناصرين لثورتهم، خصوصاً مع تهجير الملايين منهم في دول الشتات وملامح طول أمد القضيّة في ظل غياب أفق الحل السياسي[10] وما آل إليه الوضع مؤخراً بعد اتجاه العديد من الدول العربية إلى إعادة تعويم نظام الأسد كسلطة أمر واقع، الأمر الذي يجعل من الضروري الحراك على مستوياتٍ عدة؛ أبرزها الحقوقي للتأكيد على أن جرائم نظام الأسد لا تسقط بالتقادم، فضلاً عن ضرورة إسقاط توصيف “الحرب الأهلية” عما يجري في سوريا، وأن ما يجري في غزة تعرّض السوريون لما هو أشد منه فظاعةً على يد نظام الأسد منذ 12 عاماً ولا يزالون.
عوامل تعزيز ثقـة الحاضنة الشعبية بالكيانات المسلحة: دراسة حالة حركتي حماس وطالبان، مركز الحوار السوري، 21 / 5 / 2021
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة