نظرة فاحصة على الموقف “الإسرائيلي” والأمريكي من التدخّل الإيراني في سوريا
مقدّمة:
سار مشروع التغلغل الإيراني في سوريا على مبدأ “دبيب النمل” خلال عقود، وكان متأرجِحاً بين عوامل الجذب والعقبات، إلى أن كان ارتماء نظام الأسد في حضن إيران للاستعانة بها في حربه على الشعب السوري بعد انطلاق الثورة فرصة استثمرتها طهران لتحقيق حلمها القديم وابتلاع عاصمة عربية جديدة.
مع بدء موجة ثورات الربيع العربي أعلنت إيران دعمها لما اعتبرتها “حركات تحرُّر شعبية” في تونس ومصر ثم ليبيا، وعندما وصلت الانتفاضة إلى سوريا سارعت إلى وصف ذلك بأنه “مؤامرة إسرائيلية أمريكية على محور الممانعة”[1].
مثّل الحراك الشعبي في سوريا نافذة واسعة لطهران للدخول إلى عُمق بنية نظام الأسد، الذي لم يتأخّر بدوره عن طلب العون بعد وقوعه تحت قيود العقوبات والعُزلة الإقليمية والدولية؛ فالتقت مصالح الطرفين بشكل كلّيّ بعد عقود، وانتقلت العلاقة بين طهران ودمشق من مستوى التقارب والتنسيق والتبعية النسبية المستترة إلى مستوى تبعيّة الأسد بشكل واضح وجلي لإيران، فاندفعت ترمي بكل أوراقها العسكرية والاقتصادية سعياً لإنقاذ كرسيّ الأسد، الذي سيُحقّق لها مصالح داخل سوريا من جهة، ويجعل من الملفّ السوري ورقة ضغط في يدها تستخدمها للمساومة في ملفات سياسية وعسكرية واقتصادية من جهة أخرى[2].
رغم تغلغل إيران في مفاصل حيوية وحسّاسة في هيكل نظام الأسد إلا أن هذا لم يكن كافياً لها لتحقيق غايتها القديمة بجعل سوريا “محافظة إيرانية”[3]؛ لأن الوضع في سوريا لم يكن كحال العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، ففي العراق كان هناك طرفان قويان فقط، هما الولايات المتحدة وإيران، واستطاعت الأخيرة أن تسيطر على البلاد لعوامل ذاتية وموضوعية[4]، أما في سوريا فاصطدمت إيران بأطراف كثيرة ومشاريع متعددة، كلٌّ منها يسعى إلى تحقيق غايته.
أمام كثرة الأطراف الفاعلة في الملف السوري كان على إيران أن تخوض عدة تحدّيات في وقت واحد:
الأول: التحدّي العسكري ضد قوات المعارضة السورية من جهة، وضد قوات أجنبية أخرى من جهة ثانية[5].
الثاني: تحدّي إدارة التنافس مع روسيا؛ الحليف الثاني القوي لنظام الأسد[6].
الثالث: التحدّي السياسي في وجه الأصوات الإقليمية والدولية والعربية الرافضة للتدخّل الإيراني في سوريا.
الرابع: التحدّي الداخلي في إيران؛ حيث رأت شريحة من الإيرانيين أن التدخّل في سوريا استنزف خزينة الدولة، وأن دعم بشار الأسد بات على حساب اقتصادهم[7].
وكان الموقفان “الإسرائيلي” والأمريكي من أهمّ التحدّيات أمام التدخل الإيراني؛ لأنهما طرفان يشتبكان مع سياسات إيران في عدّة ملفات، إضافة إلى الملف السوري[8]، ورغم اختلاف مواقفهما في بعض التفاصيل المهمة إلا أن الاتجاه العام لسياسات الطرفين اتّسم بالتناغم تجاه ضرورة إخراج إيران من سوريا بعد أن أنجزت ما يخدمهم جميعاً.
تكمن أهمية هذا التقرير البحثي في محاولته إبراز طبيعة التعامل السياسي والعسكري للجانبين “الإسرائيلي” والأمريكي مع إيران في سوريا، ومدى تحقيق الطرفين أهدافهما من هذا التعامل، والإجابة عن مجموعة من الأسئلة، أبرزها:
1- كيف نظرت “إسرائيل” وأمريكا إلى التدخّل الإيراني في سوريا في بداياته؟
2- هل سار الطرفان على سياسة ثابتة تجاه التعامل مع التدخل الإيراني في سوريا؟
3-إلى أيّ حدّ استطاع التعامل العسكري للطرفين تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا؟
4- ما هي العوامل التي أسهمت في منع الطرفين من تحقيق هدف إخراج إيران من سوريا؟
يعتمد التقرير البحثي: المنهج التاريخي، والمنهج الاستقرائي التحليلي؛ فأما المنهج الأوّل فمن خلاله يعرض البحث محطّات تاريخية متسلسلة لسياسة “إسرائيل” والولايات المتحدة تجاه الوجود الإيراني في سوريا، ويحدد زمن كل محطة إما قياساً على طبيعة التعامل مع إيران في سوريا (كما في الموقف “الإسرائيلي”)، وإما قياساً على سياسة كل إدارة (كما في الموقف الأمريكي).
أما المنهج الثاني (الاستقرائي التحليلي) فيقوم على تقييم الموقف “الإسرائيلي” والأمريكي من التدخّل الإيراني في سوريا بناءً على الأهداف التي وضعها الطرفان إزاء هذا التدخّل، والوصول إلى استنتاجات قائمة على تحليل التعامل السياسي والتعامل العسكري، بشكل يقدّم خُلاصات عامّة للقارئ.
لمحة تاريخية:
بعد “الثورة الإيرانية” عام 1979م نظر الخميني إلى سوريا بوصفها إحدى أهم القواعد المحتمَلة لفكرة “تصدير الثورة”، وإقامة مشروع “الهلال الشيعي” الممتد إلى لبنان[9]. وتمكّن النظامان في إيران وسوريا آنذاك عبر عقود من تأسيس علاقات إستراتيجية؛ غير أن تلك العلاقات اصطدمت بعوامل منعت وصولها إلى الطموح الإيراني المنشود، ومن أهم تلك العوامل:
1- أن حافظ الأسد فضّل أن يلعب دوراً ندّياً في التعامل مع إيران[10]، معتمداً على توظيف قدرات الدولة السورية، في وقت كانت فيه إيران ما تزال ضعيفة نتيجة حربها مع العراق، بينما كان نظام حافظ الأسد في وضع أفضل نسبياً، لاسيما بعد اشتراكه مع قوات التحالف الدولي في تحرير الكويت[11]، واكتساب التشجيع الدولي بناءً على ذلك.
2- وجود نظام الأسد في محيط عربي وإقليمي مُعادٍ لتوجّهات إيران وسياستها في “تصدير الثورة”، فضلاً عن لعب حافظ الأسد على وتر “العروبة والعلمانية”، وهذا ما يصطدم مع إعلان اندماج كامل بالسياسات الإيرانية[12]، رغم أن طهران كانت لها مصلحة من التحالف مع الأسد الأب؛ لأنها وجدت فيه فرصة لإضعاف دعاية صدام حسين عن العروبة والقومية العربية.
بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000 وجدت إيران الفرصة سانحةً لزيادة معدّلات تغلغلها في سوريا، مستغلةً وصول “بشار الأسد” إلى سُدة الحكم بوصفه رئيساً لا يمتلك من الشرعية –داخلياً ودولياً- والقوة الحدّ الكافي ليسير على سياسة أبيه مع طهران، وكانت تلك حجرة الأساس الأولى للتدخّل الإيراني في سوريا، الذي بدأ تحت عناوين اقتصادية وثقافية وسياحية[13].
شكّل غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003 حجرة الأساس الثانية لإيران، بعد أن تخلّصت من أهمّ بوابات التصدّي العربية لمشروعها في المنطقة، وما أتبع ذلك من سيطرتها على مفاصل الحكم في العراق عبر سلطات الحكم الجديدة هناك.
أما حجرة الأساس الثالثة للمشروع الإيراني في سوريا فكانت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في فبراير/ شباط 2005، الذي وُجّهت فيه أصابع الاتهام لنظام الأسد ومليشيا “حزب الله”[14]، ومن ورائهما إيران؛ وفي هذه المرحلة ارتمى نظام الأسد أكثر فأكثر في أحضان إيران بعدما أحسّ أن حبل العقوبات الدولية سيلتفّ حول نظامه، وبات بحاجة إلى دعم طهران[15] .
أولاً- الموقف “الإسرائيلي”:
ربّما يمثّل الموقف “الإسرائيلي” من التدخُّل الإيراني في سوريا الجانب الأهمّ بين سياسات تعاطي الأطراف الإقليمية والدولية مع هذا التدخُّل، من حيث إننا أمام طرفين يدخلان في “حرب باردة”، وأحياناً “ساخنة” منذ نهاية حكم الشاه وإمساك ثورة الخميني زمام الحكم في إيران.
يمكن القول: إن رؤية “إسرائيل” للتدخّل الإيراني في سوريا مرّت بثلاث مراحل منذ اندلاع الثورة السورية، واستنجاد بشار الأسد بطهران لقمع الثورة:
المرحلة الأولى: التزام الصمت ورسم الخطوط الحمراء
تمتدّ هذه المرحلة منذ بداية الثورة السورية إلى قرابة العام 2015، وكانت “إسرائيل” في هذه المرحلة ترى الصراع في سوريا أمراً لا يشكّل خطراً عليها طالما أن نظام الأسد يُحافظ على اتفاقية “فضّ الاشتباك” الموقّعة بين الجانبين عام 1974؛ علماً أن أوساطاً “إسرائيلية” عديدة رأت أن مصلحة “تل أبيب” تقتضي بقاء بشار الأسد في السلطة بحكم محافظته على هدوء جبهة الجولان على غرار أبيه، وعدم تهديده “إسرائيل” بشكل حقيقي منذ احتلالها الجولان[16]، إذ ظل الهدوء سيد الموقف لعقود، وهي الورقة التي لعب عليها نظام الأسد نفسه بعد اندلاع الاحتجاجات لابتزاز “إسرائيل” وحلفائها من أجل الحفاظ على بقائه[17].
في هذه المرحلة اتّخذت “إسرائيل” وضع المتفرّج الحذِر، الذي ينتظر الطرف المنتصِر على الأرض ليضع الخطّة التالية في مواجهته وإبعاد خطره؛ إلا أنها وضعت خطوطاً أمنية حمراء لضمان عدم حدوث مفاجآت غير محسوبة[18]، واستخدمت “إسرائيل” في هذه المرحلة تكتيك الدفاع داخل “حدودها”، مع استثناءات برية وجوية قليلة[19].
المرحلة الثانية: استهداف ميليشيات إيران في العمق السوري بشكل غير مُعلَن وعلى فترات متباعدة وفي مناطق محدودة
بدأت هذا المرحلة عقب التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا أيلول/ سبتمبر 2015، وتغيُّر ميزان القوى وكفّة السيطرة الميدانية لصالح قوات نظام الأسد بدعم جوي روسي وبرّي إيراني.
في الوقت الذي كان فيه الدعم الروسي لنظام الأسد مقتصراً على الغارات الجوية بشكل عام كانت الميليشيات الإيرانية المستفيد الأكبر من تقدُّم قوات نظام الأسد في المدن المُنتزعة من يد المعارضة، ولا سيما في محافظة حلب ومدن الجنوب السوري[20]، مما دفع “إسرائيل” إلى تغيير سياسة المراقبة من بعيد، وشنّ ضربات بعُمق الأراضي السورية، مستهدفةً فيها قياديين من ميليشيا “حزب الله” وتجمّعات للميليشيات الإيرانية وقيادات “الحرس الثوري” الإيراني.
في هذه المرحلة التي تمتدّ إلى العام 2020 ازدادت وتيرة الضربات “الإسرائيلية” الجوّية، التي اتّصفت بأنها:
– جاءت في فترات متباعدة.
– شملت مناطق محدودة في الخريطة السورية، واستهدفت في غالبيتها مناطق في دمشق والجنوب السوري عموماً [21].
– لم تعترف “إسرائيل” بمعظم الضربات بشكل علني، رغم تصريحات قادتها أنهم لن يسمحوا لإيران بالاستفادة من تغيّر موازين القوى عقب التدخُّل الروسي، وجعل سوريا ممراً لأسلحتها.
المرحلة الثالثة: الاستهداف المتكرّر واسع النطاق
من أبرز سمات هذه المرحلة:
-اتساع رقعة الاستهدافات “الإسرائيلية”؛ حيث شملت العديد من المناطق في الجنوب السوري والمنطقة الوسطى وحلب والساحل السوري، حتى إنها وصلت إلى حدّ استهداف الميليشيات الإيرانية في أقصى شرق البلاد قرب الحدود مع العراق.
-تكرار الغارات “الإسرائيلية” في سوريا ارتفعت وتيرته بشكل متصاعد، حتى وصل في بعض المراحل إلى غارات شبه يومية، وبات الحديث عن ذلك خبراً اعتيادياً في إطار أخبار الحرب في سوريا[22]، خصوصاً بعد انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ إذ كثّفت “إسرائيل” من هجماتها في سوريا ودون إخطار روسيا مسبقاً بالضربات[23].
(الشكل 2): خريطة تقريبية للضربات ”الإسرائيلية“ على الميليشيات الإيرانية في سوريا بعد العام 2020
الجدير بالذكر أن هذه المرحلة بدأت مع خروج ترامب من البيت الأبيض، وتغيّر سياسة إدارة بايدن تجاه إيران أملاً في إعادة إحياء الاتفاق النووي معها، الذي انسحب منه ترامب في 2018.
لم يُخفِ “الإسرائيليون” امتعاضهم من تعامل إدارة بايدن تجاه الوجود الإيراني في سوريا، فقد كان ترامب من الداعمين لـ “تل أبيب” في مواجهته، حتى إن وزير المخابرات “الإسرائيلي” إيلي كوهين قال لإذاعة “الجيش الإسرائيلي”: “على بايدن أن يسأل نفسه ما الذي تسعى إليه إيران تحديداً في سوريا؟”[24].
هل حقّقت الضربات “الإسرائيلية” أهدافها؟
بين عامي 2012 و2023 شنّت “إسرائيل” مئات الضربات الجوية على مواقع تابعة لميليشيات إيران متعدّدة الجنسيات في سوريا، وشملت بعض هذه الغارات مواقع مشتركة مع قوات نظام الأسد، خاصة في مطارات عسكرية أو مدنية[25].
أكّدت عشرات التصريحات الرسمية “الإسرائيلية” –أهمُّها التي صدرت عن رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو- عزم “تل أبيب” منع إيران من جعل سوريا قاعدة متقدّمة أو ممراً للأسلحة والصواريخ[26]، كما صدرت تصريحات أخرى عبّرت عن الهدف النهائي لـ “إسرائيل” من ضرباتها في سوريا، وهو إخراج إيران كلّياً[27]، إلى درجة التفاوض مع روسيا على الموافقة على بقاء الأسد والمساعدة في تأهيله مقابل تحقيق هذا الهدف[28].
وتستند “إسرائيل” إلى عوامل تُقوّي موقفها في تطبيق أهدافها عن طريق القوة العسكرية/ الضربات الجوية، ومن أهم هذه العوامل:
1- توافق أطراف فاعلة ومؤثرة في الملفّ السوري مثل الولايات المتحدة وروسيا على أهمية ضمان أمن “إسرائيل” وعدم تأثير الحرب المندلعة في سوريا على ذلك[29].
2- أن روسيا الحليف الأقوى لنظام الأسد أعطى “إسرائيل” ضوءاً أخضر للقيام بما يلزم لضمان أمنها، وغضّ الطرف عن غاراتها الجوية في سوريا، بل تفاوضت بشكل شبه علني حول الحدّ من النفوذ الإيراني في سوريا[30].
3- استغلال “إسرائيل” فرق القوة التي تُواجه بها ميليشيات غير قادرة على صدّ الغارات الجوية، ونظام الأسد الذي لا يملك من المؤهّلات كذلك ما يُمكّنه من وقف الغارات أو الردّ عليها.
ولكن على الرغم من وجود هذه العوامل التي تُقوّي موقف “إسرائيل” في مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا؛ إلا أن هناك عوائق أيضاً تجعل “تل أبيب” غير قادرة على حسم هذا الملفّ عبر الضربات العسكرية الحالية. ومن أهم هذه العوائق:
1- الحذر “الإسرائيلي” من تجاوز التفاهمات المُبرمة مع روسيا، التي تصمُت عن الغارات “الإسرائيلية” أحياناً، وتكتفي بالتنديد بها أحياناً أخرى؛ غير أن الخروج عن نصّ التفاهمات (غير المعلنة) يمكن أن يجعل الطرفين في مواجهة[31].
فعلى الرغم من الأفضلية الواضحة للقوة الجوية “الإسرائيلية”، إلا أن هدف إضعاف إيران أو إخراجها من سوريا يتناقض مع رغبة روسيا في الحفاظ على التماسك البرّي لحليفها الأسد قائماً، وهذا التماسك لا يمكن أن يتحقق دون وجود الحليف الآخر الإيراني، مما يعكس تضادّاً بين موسكو و”تل أبيب” في هذا الملف، رغم دخول روسيا في مفاوضات مع “إسرائيل” بشأن مستقبل الوجود الإيراني في سوريا[32].
2- على الرغم من مواصلة “إسرائيل” شنّ هجمات على مواقع تابعة لإيران ونظام الأسد في معظم مناطق الخريطة السورية إلا أن “تل أبيب” لم تُظهِر رغبة في توسعة خطوط الاشتباك، لاسيما مع قدرة إيران على توظيف ميليشيات موالية لها في عدة دول، وهذا ما ظهر مثلاً بعد انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في غزة، وشنِّ المليشيات الإيرانية في سوريا والعراق واليمن ولبنان هجمات على أهداف ومصالح “إسرائيلية”؛ بغضّ النظر عن تأثيرها المحدود في مسار المعارك على الأرض[33].
3- بالإضافة إلى أن مسار المواجهات بين الميليشيات الإيرانية و”إسرائيل” يُظهِر ميلاً لدى صُنّاع القرار في الجانبين إلى عدم التصعيد لدرجة تصبح فيها المواجهة مفتوحة؛ فإن هناك أطرافاً أخرى في الساحة السورية تسعى كذلك إلى ضبط إيقاع المواجهة، وعدم تحوّل سوريا من ميدان “حروب بالوكالة” إلى ميدان حروب إقليمية ودولية[34].
4- حرصت إيران على التغلغل العسكري داخل بُنية قوات نظام الأسد، فأصبحا بمثابة التوءم السِّيامي الذي يصعب فصل أجزائه، ولذا فإن “إسرائيل” عندما تستهدف ميليشيات إيران فهي تستهدف كذلك مواقع ومنشآت وعناصر نظام الأسد، وهي لا تريد أية مشاركة أو جهود أو ضربات تؤدّي إلى إضعاف هذا النظام أو إنهائه، رغم تهديداتها المتكررة له إذا واصلَ دعم وجود إيران في سوريا[35].
5- مع تكرار الضربات خلال السنوات الثلاث الأخيرة استطاعت إيران التكيّف مع هذه الضربات وامتصاص تأثيرها، ورغم الخسائر المادّية والبشرية التي يتسبب بها القصف “الإسرائيلي” إلا أنها لا تُعدّ ذات أثر كبير عسكرياً، ولم تؤدِّ إلى أي تراجع عسكري أو سياسي لإيران عن انغماسها في الملف السوري[36].
ثانياً – الموقف الأمريكي:
على الرغم من تشابك الخطوط العريضة بين الموقفين “الإسرائيلي” والأمريكي حيال التدخّل الإيراني في سوريا؛ إلا أنّ بينهما خطوط تباعُد فرضتها مصالح كلٍّ من “تل أبيب” وواشنطن، وطبيعة سياستهما العامة تجاه إيران. فقد شكّل التدخّل الإيراني في سوريا بنداً جديداً في قائمة الملفّات المتشابكة بين الولايات المتحدة وإيران، وبشكل واضح لعبت الدولتان على وتيرة جعل الملف السوري ميداناً لتصفية حسابات كل منهما مع إيران، وورقة ضغط يستخدمها الطرفان لتحقيق مصالحهما في ملفات أوسع، وهذا ما يُعطي تفسيراً أوّلياً لاضطراب وتذبذب السياسة الأمريكية تجاه الملف السوري عموماً، وإزاء التدخّل الإيراني بشكل خاص[37].
وضعت السياسة الأمريكية تجاه التدخّل الإيراني في سوريا خطوطاً عريضة رغم تعاقب ثلاثة رؤساء أمريكيين منذ العام 2011 إلى الوقت الحالي؛ غير أنّ عهد كل واحد من الرؤساء الثلاثة حمل طابعاً خاصاً فرضته المصالح الأمريكية من جهة، وتبدُّل الخريطة السياسية والعسكرية في سوريا من جهة أخرى. ووفق ذلك يمكن تقسيم الموقف الأمريكي من التدخل الإيراني في سوريا إلى ثلاث مراحل زمنية.
أولاً- عهد أوباما:
حمل الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عند وصوله إلى سدّة الحكم في البيت الأبيض عام 2009 ملامح سياسة جديدة إزاء التعامل مع إيران، ومثّلت قرارات أوباما توجُّه إدارته الديمقراطية الرافض لسياسة سلفه الجمهوري “جورج بوش” الابن تجاه إيران، التي انتهجت المواجهة والتهديد والمقاطعة وتشديد العقوبات. إذ كان أوباما يفضِّل في التعامل مع إيران التخفيف من سياسة العقوبات، والميل إلى سياسة ليّنة[38]، تحت قناعة أن سياسة القوة لم تُفلح في ثني إيران عن برنامجها النووي[39]. ويمكن أن تنطبق السياسة العامة لأوباما مع إيران عموماً على سياسته الخاصة تجاه تدخّل طهران في سوريا لدعم بشار الأسد، ومن أبرز سمات هذه السياسة ما يلي:
1- التردُّد والتراخي في التعامل مع الوجود الإيراني في سوريا؛ إذ اتّهم الرئيس الأمريكي إيران خلال العام الأول للثورة الشعبية بـ”دعم الديكتاتورية في سوريا”، والمساعدة على إبقاء بشار الأسد في السلطة[40]؛ إلا أن إدارته في الوقت نفسه غضّت الطرف عن الدعم الإيراني المباشر لنظام الأسد في قمع الثورة، ووصل الأمر إلى حدّ إخفاء حكومته إرسال إيران قوات إلى سوريا[41].
2- استخدام الملفّ السوري بشكل غير مُنعزل عن سعي إدارته لإنجاز الاتفاق النووي مع إيران، وهذا ما انعكس بشكل مباشر ليس على التعامل مع التدخل الإيراني في سوريا فحسب؛ وإنما انعكس كذلك على سياسة واشنطن تجاه نظام الأسد، الذي كان أهم مستفيدٍ من هذا الاتفاق، سواءٌ في مراحل التفاوض قبل توقيعه أو بعد توقيع الاتفاق في نيسان أبريل 2015[42].
3- تأكيد مبدأ “أمن إسرائيل أولاً” في التعامل مع الوجود الإيراني في سوريا[43]؛ وهذا ما أتاح لإيران استغلال هذا الموقف المبدئي للولايات المتحدة في توسيع نفوذها بسوريا تحت عنوان “محاربة الإرهاب”، و”حماية العتبات المقدّسة”.
ثانياً- عهد ترامب:
تغيّرت السياسة الأمريكية تجاه إيران –كما كان مُتوقَّعاً- مع وصول الرئيس الجمهوري دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي عام 2016، وانعكس ذلك بشكل مُطّرد على سياسة واشنطن تجاه الوجود الإيراني في سوريا.
حمّل ترامب سلفه أوباما مسؤولية التراخي في التعامل مع إيران، وهاجم سياسته التي سمحت بتدفُّق الأموال للنظام الإيراني[44]، وأبدى سياسة أكثر قوةً وحزماً تجاه طهران، وفي سوريا لم تختلف سياسات ترامب عن سياسات سلفه من حيث ربطُ الملف السوري بعموم اشتباك العلاقات مع إيران. وعلى العموم يمكن تسجيل الملاحظات الآتية سمات عامة لتعامل إدارة ترامب مع التدخل الإيراني في سوريا:
1- وضع مبدأ الضغط واستخدام القوة محلّ التفاوض، ويظهر ذلك في شنّ القوات الأمريكية ضربات جوية في مناسبات عديدة ضد مواقع للميليشيات الإيرانية في سوريا، حتى إنه يمكن القول: أعطى ترامب أوامر بتنفيذ بعض الضربات على مواقع نظام الأسد، فلم تكن رسائل مباشرة للأسد نفسه فحسب، وإنما إلى إيران؛ وذلك بغية دفعها إلى القبول بشروط التفاوض التي تريدها واشنطن بخصوص الاتفاق النووي بعيداً عن صيغة اتفاق 2015، الذي صرّح ترامب مراراً بأنه من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها إدارة سلفه أوباما[45].
2- على الرغم من أن ترامب وضع ضمن شروط رفع العقوبات عن إيران أن تحدّ من نفوذها الإقليمي في دول الشرق الأوسط، ومن بينها سوريا، ومطالبته إيران في عدّة مناسبات بالخروج من سوريا؛ إلا أنه على أرض الواقع فعل عكس ذلك تماماً، وذلك من خلال:
أ: إيقاف برامج تسليح المعارضة السورية في تموز / يوليو 2017، وأول مَن استفاد من هذه الخطوة هي ميليشيات إيران في سوريا[46].
ب: إعلان إطلاق مسار التنسيق السياسي والعسكري مع روسيا بشأن سوريا خلال القمة التي جمعت ترامب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي (تموز يوليو 2018)، وهو ما يصبّ ضمنياً في مصلحة نظام الأسد وإيران، خصوصاً مع احتمالات أن تبلّغ روسيا إيران بالضربات “الإسرائيلية” قبل وقوعها[47].
ج: إعلان خطوة سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا في كانون الأول ديسمبر 2018، التي تراجع عنها لاحقاً إلى “تخفيض” عدد تلك القوات[48].
3- اتّباع حالة التردّد والتناقض ذاتها التي اتسمت بها السياسة الأمريكية تجاه التدخل الإيراني في سوريا في عهد أوباما، وعدم اتخاذ خطوات جدّية حاسمة لتقليص أو إنهاء الوجود الإيراني في سوريا.
4- الموقف الثابت فقط -على غرار موقف أوباما- هو تأكيد ترامب أهمية “أمن إسرائيل”، وجعل ذلك أهم أهداف سياسته في سوريا.
ثالثاً- عهد بايدن:
وصل جو بايدن إلى البيت الأبيض مقيّداً بتركة ثقيلة من سلفَيه حول التعامل مع إيران، ورغم أنه كان من ضمن الفاعلين في إدارة أوباما (نائباً له) إلا أنه حاول اتّباع نهج مختلف إزاء العلاقة مع طهران؛ فإذا كان أوباما اتّبع سياسة الجزرة، وترامب اتّبع سياسة العصا إلى حدّ ما؛ فإن بايدن حاول النزوع إلى نهج وسطي، إذ يسلك طريق أوباما في محاولة جرّ إيران إلى طاولة التفاوض بشأن برنامجها النووي من جهة، ومن جهة ثانية يتّبع تكتيك استخدام القوة الدفاعيّة في الردّ على تحرّشات إيران بالوجود الأمريكي، سواءٌ في العراق أو في سوريا[49]، وعلى العموم يمكن إجمال معالم سياسة إدارة بايدن تجاه التدخّل الإيراني في سوريا بما يلي:
1- سعت إدارة بايدن إلى تحقيق “فصل نسبي” بين التعامل مع إيران كدولة، والتعامل مع إيران كقوّة داعمة لنظام الأسد ذات نفوذ في الأراضي السورية، وكذلك الفصل بين الملفّات المتشابكة مع إيران دولياً، والتعامل مع نظام الأسد.
ففي الوقت الذي تُواصل فيه إدارة بايدن السعي إلى جرّ إيران مجدّداً لطاولة المفاوضات النوويّة يبدو التعامل مع الوجود الإيراني منفصلاً “إلى حدّ ما” عن مُجمل العلاقات الأمريكية مع إيران وحليفها بشار الأسد، ويتّضح ذلك في عدة نقاط:
- الإبقاء على القوات الأمريكية العاملة في شمال شرق سوريا، واستخدام سياسة “الردع” في وجه هجمات وتحرّشات تنفّذها الميليشيات الإيرانية ضدّ الجيش الأمريكي في مناطق شرق الفرات.
- عدم تشجيع المساعي العربية للتطبيع مع نظام الأسد بقيادة السعودية عقب توقيعها اتفاق التفاهم مع إيران في نيسان أبريل 2023، والتأكيد في أكثر من مناسبة أن واشنطن لا تدعم هذا التطبيع، وتشدّد على أن “الحلّ السياسي المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 هو الحلّ الوحيد القابل للتطبيق لإنهاء الصراع في سوريا”[50].
- عرقلة حصول إيران وميليشياتها على مكاسب مادّية من خلال نفوذها في بنية نظام الأسد، من خلال تمديد العقوبات المفروضة ضد نظام الأسد، والإصرار على إيقاف أية جهود لإعادة إعمار سوريا قبل إنجاز الحلّ السياسي[51].
2- عدم وضع “إخراج إيران من سوريا هدفاً أساسياً في إستراتيجية إدارة بايدن تجاه سوريا، والالتزام بأمن دول الجوار، خاصة “إسرائيل”[52].
3- استخدام القوة العسكرية الأمريكية في سوريا تجاه إيران للدفاع لا للهجوم؛ إذ إن جميع الهجمات التي شنّتها القوات الأمريكية ضد ميليشيات تابعة لإيران في سوريا جاءت ردود أفعال على هجمات أو تحرّشات إيرانية، وليس مبادرة من قبل الجيش الأمريكي؛ وهذا ما عبّر عنه بايدن صراحة في قوله: إن الولايات المتحدة “لا تسعى إلى الصدام مع إيران” في سوريا[53].
واشنطن و”تل أبيب”.. من الاستثمار في التدخُّل الإيراني إلى محاولة تحجيمه:
قد تكون “تل أبيب” وجدت في التدخل الإيراني بسوريا بين 2011 و2015 فرصة مناسبة لإخماد الثورة الشعبية فيها انطلاقاً من رؤيتها العامة للثورات العربية، ورفضها قيام أنظمة حكم ديمقراطية نتيجة لتلك الثورات، ومن باب أولى أن يكون رفضها للثورة السورية مُضاعَفاً؛ لأن قيام دولة ديمقراطية مجاورة سيكون التهديد الأكبر لوجود “إسرائيل”[54].
وفي المرحلة الممتدة بين 2015 و2020 طغت ثلاثة أحداث جميعها مرتبطة بالجانب الأمريكي على سياسة “إسرائيل” من التدخل الإيراني في سوريا:
الأول: انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران في أيار/ مايو 2018، وما أعقبه من تعرُّض إيران لعقوبات اقتصادية واسعة؛ مما أدّى في المجمل إلى استخدام إيران مجالَ ضغطٍ بديلاً في سوريا كنوع من الضغط من جهة، ولأنها باتت غير محكومة بقيود الاتفاق النووي من جهة ثانية.
الثاني: قمة هيلسنكي بين الرئيسين الأمريكي والروسي في 16 يوليو/ تموز 2018، التي كان الملف السوري فيها من أهم ملفات النقاش بين الجانبين، اللذين أكّدا إعطاء الأولوية لأمن “إسرائيل” ضمن أية حلول أو تسويات مقبلة في سوريا[55].
الثالث: اجتماع القدس الثلاثي، الذي استضاف فيه رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو يومي 24 و25 حزيران/ يونيو 2019 اجتماعات في القدس ضمّت مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، وأمين مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف، ومستشار الأمن القومي “الإسرائيلي” مئير بن شبات؛ ففي هذا الاجتماع كان الوجود الإيراني في سوريا على رأس الاهتمامات والمناقشات، وعلى الرغم من عدم الإفصاح عن المُخرجات التي أسفر عنها الاجتماع فإن وسائل إعلام “إسرائيلية” سرّبت أطرافاً منه، أهمُّها أن واشنطن و”تل أبيب” أبدتا لموسكو استعدادهما لتأهيل نظام الأسد وإعادته للمجتمع الدولي مقابل إخراج إيران والميليشيات المحسوبة عليها من سوريا[56].
وهذا الشرط يعني أن “إسرائيل” انتقلت مما يمكن وصفها بمرحلة “الحياد العسكري” إلى مرحلة متقدّمة باتت ترى فيها الوجود الإيراني خطراً حقيقياً، وانتهت من مرحلة مراقبة الأطراف المتصارِعة بعد تأكُّدها من تغيُّر ميزان القوى والسيطرة لصالح نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين، واضمحلال أية قوى معارضة في منطقة الجنوب السوري[57].
وعلى الرغم من العداء المُعلَن بين إيران و”إسرائيل” خارج الملفّ السوري فإن سنوات المواجهة الصامتة بينهما على الساحة السورية كانت محكومة بحسابات دقيقة لكلا الطرفين، الأمر الذي لم يسمح بأن يتحوّل التوتّر إلى مواجهة مفتوحة وحرب علنية، وأتاح للطرفين أن يُحافِظا على حدود المواجهة عند مستوى معيّن، لاسيما وأن “إسرائيل” لا تتعامل مع إيران في سوريا كقوتين متواجهتين على أرض ثالثة؛ وإنما يحكم كلّاً منهما تفاهمات مرتبطة ببقية القوى الفاعلة في الملف السوري.
وكان الصمت أو الحياد “الإسرائيلي” والرّضا غير المعلن عن تدخّل إيران لدعم نظام الأسد دافعاً قوياً لإيران لزيادة نفوذها في سوريا، وحين رأت “تل أبيب” أن هذا النفوذ أصبح يشكّل خطراً عليها بعد تغلغل إيران في الجنوب الغربي من سوريا[58] صار ملف الوجود الإيراني أكثر ما يعنيها في الملف السوري برُمّته، مما دفعها للدخول مع روسيا في مفاوضات ومقايضات حول الوجود الإيراني في سوريا؛ إلا أن تدخُّل موسكو العسكري هناك جلب أكبر الفوائد لإيران لأنه شكّل دافعاً لنظام الأسد والمليشيات الإيرانية للسيطرة على مزيد من المناطق[59].
وبالمجمل، فإن سياسات الولايات المتحدة و”إسرائيل” اختلفت بحسب رؤية كل طرف لمصالحه السياسية والعسكرية؛ فـ”تل أبيب” رأت الوجود الإيراني في سوريا في البداية فرصةً لإنهاء الثورة، ثم لاحقاً صارت تنظر له كتهديد بسبب انتشار المليشيات في الجنوب الغربي، بينما قامت الولايات المتحدة بما يُشبه “استثمار” هذا التدخّل لتسوية الملفات المشتركة مع إيران، وعلى رأسها الملف النووي، وذلك في ذات الوقت الذي لم تبذل فيه جهوداً حقيقية لكبح النفوذ الإيراني.
خاتمة:
يمكن القول إن “إسرائيل” استثمرت بالتدخُّل الإيراني في سوريا لكي يُحقّق لها هدف القضاء على الثورة السورية، والإبقاء على نظام الأسد بحكم أنه الخيار المُفضَّل بالنسبة لها لجملةٍ من العوامل أبرزها أنه يستخدم شعارات “المقاومة” و”الممانعة” دعاية ويسعى للاستمرار بتكريس نهج أبيه في الحفاظ على هدوء جبهة الجولان، وهذا ما ظهر أحد جوانبه بعد عملية “طوفان الأقصى” في غزة في تشرين الأول عام 2023[60]، الأمر الذي يُفسّر عدم تدخُّل “إسرائيل” من البدايات لمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، فسياسات طهران وتل أبيب أظهرت أنهما اشتركا بهدف واحد وهو الحفاظ على وجود نظام الأسد، ثم لاحقاً بدأت “إسرائيل” تشعر بأنه حان وقت تحجيم الوجود الإيراني (العسكري على وجه الخصوص) ولاسيما في الجنوب الغربي.
ومع ذلك، لم تستطع “إسرائيل” رغم عوامل القوة المرجِّحة لديها أن تحسم ملف التدخّل الإيراني لصالحها، أو تحقّق أهدافها العامة من ضرباتها المتواصلة، إذ لا تزال إيران حتى اليوم –بعد التكيُّف مع الضربات “الإسرائيلية”- تسيطر على أجزاء واسعة من الخريطة السورية، وتتمركز في مناطق تُشكّل حساسية بالنسبة إلى “إسرائيل”، مثل الجنوب الغربي من سوريا[61]؛ ولعل هذا ما يُفسّر كثافة القصف “الإسرائيلي” في الآونة الأخيرة على مناطق في دمشق وريفها التي تُعد صلة الوصل إلى القنيطرة ودرعا.
من جانب آخر، أظهرت سياسة الرؤساء الأمريكيين الثلاثة تجاه الوجود الإيراني في سوريا أنها ارتبطت في بعض جوانبها بالملف النوويّ الإيراني، ويظهر ذلك قبل توقيع الاتفاق في 2015 وبعد انسحاب ترامب منه في 2018، في حين برز التخبُّط داخل الإدارات الأمريكية الثلاث في طرق التعامل مع إيران في سوريا بين المسارين السياسي والعسكري، وعدم اتخاذ خطوات حاسمة لكبح نفوذ إيران رغم علوّ سقف التصريحات والتهديدات، الأمر الذي أدى إلى إهمال هدف إخراج إيران من سوريا بشكل غير صريح من إداراتي أوباما وترامب، وبشكل صريح من إدارة بايدن.
ومن أبرز ما يمكن ملاحظته إزاء السياسة الأمريكية تجاه سوريا أن الولايات المتّحدة أحجمت في عهد أوباما عن تقديم دعم عسكري فعّال للمعارضة السورية المسلّحة كبديل محلّي وطني في مواجهة النفوذ الإيراني، وفي عهد ترامب أوقفت واشنطن جميع أنواع الدعم العسكري، وتواصل ذلك في عهد بايدن. في حين وجّهت الولايات المتحدة في إدارة الرؤساء الثلاثة مزيداً من الدعم لميليشيا قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بهدف وحيد “مُعلن”[62] هو مكافحة تنظيم داعش، وليس مواجهة إيران، كما أن الضربات الأمريكية ضد إيران وميليشياتها في سوريا لم يكن بمبادرة من الولايات المتحدة، إنما كانت ردّاً على ضربات أو تحرّشات إيرانية.
لبنان والعراق في بعض مفاصل تاريخهما الحديث، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 129 شتاء 2022، شوهد في: 9 / 2 / 2024
لهذه الأسباب تحالفت إيران الخمينية مع حافظ الأسد، العربية نت، 30 / 6 / 2017، شوهد في: 9 / 2 / 2024
عبد الحليم خدّام يكشف لـ «البيان» خفايا نظام الحكم ويستشرف مستقبل الصراع، البيان، 13/ 2/ 2017، شوهد في: 9/ 2/ 2024.
الجيش الإسرائيلي يقر.. بقاء نظام الأسد مصلحة استراتيجية، عربي 21، 25/ 9/ 2015، شوهد في: 9/ 2/ 2024.
نتانياهو: نخطط لاجتماع ثلاثي يبحث إخراج إيران من سوريا، الحرة، 3/ 9/ 2019، شوهد في: 2/ 2/ 2024.
تفاعلات العلاقات الإيرانية الأمريكية وتأثيراتها على الملف السوري، مركز الحوار السوري، 22/ 12/ 2021.
“واشنطن بوست”: أميركا وقطر اتفقتا على وقف حصول إيران على 6 مليارات دولار، روسيا اليوم، 13 / 10 / 2023، شوهد في: 12 / 3 / 2024
تفاعل “محور المقاومة” مع عملية “طوفان الأقصى” في غزّة، مركز الحوار السوري، 10 / 11 / 2023
باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.