أبرز ملامح الاستقطاب داخل المجتمع التركي
تحليل للمواد المنشورة في الإعلام والمنصات الأكاديمية باللغتين العربية والتركية
مقدمة:
استقبل المجتمع التركي اللاجئين السوريين خلال السنوات الأولى بالترحاب والدعم والتعاطف والمساندة، وظلت العلاقة مستقرة فيما بين الطرفين عدة سنوات حتى عام 2018؛ حين حدثَ تحوُّل في العلاقة وبدأت بعض الأحزاب السياسية تستغل قضية اللاجئين سياسياً لمهاجمتهم ومهاجمة سياسات الحكومة التركية، خاصة في مواسم الانتخابات.
واستُحضرت في هذه السياقات بعض التحيّزات السابقة ضد العرب، واستُخدمت لتأجيج مخاوف الشعب التركي، وانتشر خطاب كراهية على مواقع التواصل الاجتماعي استهدف اللاجئين تارة والعرب تارة أخرى، وتسبّب بالعديد من الحوادث التي طالت لاجئين أو سائحين في السنوات الأخيرة.
في حين يعتقد البعض أن هذا التوتر المجتمعي الموجَّه ضد العرب يستهدفهم بشكل خاص يبدو أن التجاذب والاستقطاب الداخلي في المجتمع التركي لا ينحصر في هذه المسألة فحسب؛ وإنما يجري استغلال أمور أخرى داخل المجتمع التركي منذ تأسيس الجمهورية لزعزعة الاستقرار الداخلي وإحداث القلاقل.
يهدف هذا التقرير لرصد أبرز مظاهر الاستقطاب داخل المجتمع التركي؛ وذلك لقياس مدى التشابه بين الحملات التي تهدف لإثارة البلبلة داخل تركيا عن طريق استهداف اللاجئين والحملات الأخرى التي تثير النعرات الداخلية، وكيف يُستَخدم السوريون أداة في هذا الاستقطاب في بعض الأحيان.
يعتمد التقرير المنهج الوصفي التحليلي؛ عبر وصف ظواهر الاستقطاب المجتمعي داخل تركيا، مع إعطاء لمحة عن جذورها التاريخية، والإشارة إلى حوادث تؤكد استمرارها إلى مدة قريبة، من خلال تحليل المواد المنشورة في الإعلام والمنصات الأكاديمية باللغتَين العربية والتركية.
أبرز الصدوع المجتمعية في تركيا:
يبلغ عدد سكان تركيا قرابة 85 مليوناً، وينقسمون في عدة أعراق وطوائف دينية، من أبرزها الأتراك والأكراد والعرب والشركس وغيرهم، بالإضافة إلى السنّة والعلويين والشيعة والمسيحيين وغيرهم، مشكّلة تحدياً واضحاً في تعزيز الترابط الاجتماعي وتحقيق السلم الأهلي، لاسيما مع وجود محفّزات داخلية أو خارجية تعيد بعض الخلافات القديمة إلى الواجهة.
لا تُعدّ هذه الاختلافات العرقية والدينية عوامل الاستقطاب الوحيدة؛ إذ ثمّة خلافات سياسية ومناطقية ورياضية مرتبطة بتلك الاختلافات في الغالب، تكون دائماً بؤراً للتوتر المجتمعي تزيد من حالة الاستقطاب في البلاد، ومن أبرزها الخلاف المستمر بين الإسلاميين والعلمانيين الكماليين، والخلافات الرياضية بين جماهير الأندية الكبرى، التي وصلت في بعض الأحيان إلى وقوع أحداث شغب في المدن الكبرى، كما سيتم توضيح ذلك بالتفصيل في الفقرات التالية.
خلاف الإسلاميين والعلمانيين الكماليين:
تعود جذور هذا الخلاف إلى ما قبل تأسيس الجمهورية التركية، أو بالأدق إلى “عهد التنظيمات” الذي سعى روّاده إلى تقريب الدولة العثمانية من الدول الأوروبية من جميع النواحي تأثّراً بمبادئ الثورة الفرنسية، وقُوبلت هذه الإجراءات باعتراض علماء الدين والطبقة المحافظة في البلاد؛ ولكن مع زيادة قوة تيار العثمانيين الجدد الذي تبنّى هذه التغييرات التي وصلت إلى خلع السلطان عبد العزيز بسبب رفضه تنفيذ مطالبهم، وجرى تعيين عبدالحميد الثاني سلطاناً جديداً بعد أن وعدهم بإعلان دستور جديد وتطبيق النظام الملكي الدستوري في البلاد عام 1877، وسُمّي هذا العهد بـ”عهد المشروطية الأول”[1].
لم تستمر هذه الخطوات لوقت طويل؛ إذ أعلن السلطان عبد الحميد في عام 1878م حلّ البرلمان وتعليق الدستور، وانتقلت البلاد لمرحلة من الحكم المطلق بيد السلطان وعدم تفعيل البرلمان والدستور استمرت لمدة 30 عاماً، وتبنّى السلطان عبد الحميد الثاني توجهاً إسلامياً في إدارته البلاد.
أعقبت هذه الفترة عودة العهد الدستوري “عهد المشروطية الثاني” في 1908، وأجريت انتخابات فاز فيها حزب الاتحاد والترقي ذو التوجهات القومية (العثمانية) العلمانية[2]، ومرّت الدولة بعد ذلك بقلاقل أدت في النهاية إلى تفككها وإعلان انتهائها بشكل نهائي عام 1923[3].
بعد تأسيس الجمهورية التركية اتخذ مصطفى كمال أتاتورك منحى أكثر علمانية وقومية من اتجاه جمعية الاتحاد والترقي؛ إذ ألغى الخلافة، وأضاف مبدأ العلمانية إلى الدستور، وغيّر الأبجدية في اللغة التركية من الأحرف العربية إلى اللاتينية، وغير ذلك من القرارات التي كانت تهدف إلى تقريب تركيا من الدول الغربية[4].
لم يحظَ هذا التوجه بقبول عدد من رفاق أتاتورك، وكان من بينهم الجنرال كاظم كارابكر الذي أسّس الحزب الجمهوري التقدمي، وكان من أوائل أحزاب المعارضة في تاريخ تركيا واتبع توجهات ليبرالية[5]، لكنه أُغلق بعد مدة وجيزة، ومُنِع من السياسة بتهمة مشاركته في محاولة اغتيال لأتاتورك، ولم يعد للسياسة إلا بعد وفاة أتاتورك[6]. كما كانت هناك مجموعة معارضة في مجلس الشعب خلال حرب الاستقلال وبعد تأسيس الجمهورية كان يقودها النائب عن ولاية طرابزون علي شكري بيه، الذي كان ينتقد سياسات أتاتورك التغريبية بشكل كبير، وطالب مرة بمنع بيع المسكرات، وانتقد بشدة إلغاء الخلافة، وقُتِل علي شكري بيه بعد ذلك في ظروف غامضة، ويَتهم الإسلاميون مصطفى كمال أتاتورك بأنه أعطى أمراً باغتياله، فيما تقول الرواية الرسمية إن قاتله كان توبال عثمان، أحد قادة الميليشيات التي دعمت حركة المقاومة في حرب الاستقلال، وأُعدم بتهمة قتل علي شكري بيه[7].
لقيت قرارات وتوجهات الحكومة التركية اعتراضات كبيرة بين شرائح واسعة من المجتمع التركي المحافظ في ذلك الوقت، واندلعت عدة تمردات وثورات في مدن مختلفة ضد الحكومة الجديدة بسبب قراراتها التغريبية تلك، وجُوبهت تلك الحركات بالقمع بالقوة[8]، كما أُعدم عدد من رجال الدين والوجهاء الذين اعترضوا على هذه القرارات[9].
ومع مرور السنوات زادت حدّة التوجه العلماني في البلاد بتغيير الأذان من اللغة العربية إلى التركية، ووضع قيود على ارتداء الحجاب والملابس ذات الخلفية الدينية[10].
لم يهدأ الصراع بين المحافظين والكماليين في السنوات اللاحقة بعد انتهاء حكم حزب الشعب الجمهوري عام 1950م؛ إذ بدأت حكومة عدنان مندريس باتباع سياسة معتدلة تجاه الدين، من بينها السماح بالأذان العربي، ومنح المزيد من الحريات؛ لكنّ الجيش انقلب عليه عام 1960 وأعدمه مع عدد من أعضاء حكومته، وأعاد فرض سياسة علمانية متشددة[11].
وفي العقود اللاحقة انتقل صراع الإسلاميين مع العلمانيين إلى مرحلة جديدة؛ إذ شهدت السبعينيات مواجهات مسلحة بين الإسلاميين والقوميين والشيوعيين، وانتهت هذه المواجهات بانقلاب كنعان إفرين عام 1980، الذي فرض من خلاله دستوراً علمانياً ما زال يُعمَل به حتى اليوم، كما جرى سجن العديد من قادة الحركة الإسلامية وقتها، من بينهم نجم الدين أربكان رئيس حزب السلامة الوطنية التي جرى حلّه بعد الانقلاب[12].
شهدت تركيا أواخر الثمانينيات والتسعينيات موجة انفتاح سياسي مع تولّي تورغوت أوزال رئاسة الوزراء ثم رئاسة الجمهورية؛ إذ أُزيلت عقوبات المنع من الحياة السياسية عن أربكان وأجاويد وتوركيش، وأسّس كل منهم حزباً جديداً، وعادوا إلى التنافس من جديد. وتولى أربكان رئاسة الوزراء عام 1997، ولكن أُجبر على الاستقالة من طرف الجيش بسبب ما وصفوه بأنه “توجُّه رجعيّ” للحكومة، وبدأت مع تاريخ 28 فبراير/شباط موجة جديدة من التضييق على المحجبات ومنعهن من الدراسة الجامعية[13].
تولّى حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2002، وبدأ سنوات حكمه بالعمل على إزالة الكثير من المظاهر العلمانية المتشددة، مثل إلغاء منع المحجبات من دخول المؤسسات الحكومية، وفتح المجال أمام المدارس الدينية، وغير ذلك من القرارات[14]. ورغم ذلك فإن الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين الكماليين ما يزال قائماً حتى اليوم، وما يزال عرضة للاستغلال من أجل إثارة البلبلة في البلاد، حتى يمكن القول: إن الجيل الجديد من الشباب والمراهقين الأتراك يزداد ميلهم إلى الاتجاه القومي العلماني أكثر من الأجيال السابقة؛ وهذا يُنذر بزيادة الاستقطاب في السنوات المقبلة[15].
مؤخراً زاد عدد الحوادث التي أذكت نار الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين الكماليين، لاسيما في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الماضية، والانتخابات البلدية التي ستُقام أواخر شهر مارس/آذار 2024، ولم يكن مسعّرو هذه النار من طرف واحد، بل كان في الطرفين شخصيات بارزة زادت بتصريحاتها ومواقفها حجم التوتر بين الفريقين.
من أبرز الأمثلة على ذلك مسألة عدم ذكر أتاتورك والترحم عليه في خطب الجمعة؛ إذ سعت الكثير من الشخصيات البارزة، من أشهرها أوميت أوزداغ رئيس حزب الظفر المشهور بخطابه المعادي للاجئين، بالتحريض ضد رئاسة الشؤون الدينية بسبب تجنّبها ذكر اسم أتاتورك في خطب الجمعة، بالأخص في الأيام التي توافق أعياداً وطنية، ووصل به الأمر إلى محاولته مقاطعة خطبة الجمعة في إحدى المرات من أجل إجبار الإمام على ذكر اسم أتاتورك[16].
ظهر في الطرف المقابل أشخاص انتقدوا الدعاء لأتاتورك ولو تلميحاً دون ذكر اسمه، وانتشرت أيضاً في وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع لأتراك يسيؤون لصورة أتاتورك ويحرقونها أو يمزقونها، وجرى اعتقال هؤلاء بشكل سريع تجنباً لأية توترات قد تحدث بسبب هذه التصرفات[17].
كما انتشرت بعض الأخبار عن وجود محاولات لهدم تماثيل أتاتورك، وكان من أبرزها محاولة شخص هدم التمثال في مدينة سامسون؛ مما أدى إلى تجمّع الكماليين في المدينة حول التمثال لحمايته، وبدؤوا بالمناوبة حوله لبضعة أيام وسط أجواء احتجاجية ضد كارهي أتاتورك[18].
ومن القضايا التي تثير الشحن بين الفريقين قضية المنتخب التركي النسائي لكرة الطائرة؛ إذ بدأ هذا المنتخب في السنوات الأخيرة بتحقيق نتائج جيدة على المستوى القارّي والعالمي، وحظي بإعجاب فئات كثيرة من الشعب التركي بسبب نجاحاته، خاصة بين الشباب. ومع اشتهار المنتخب ولاعباته ظهر عدد من المشايخ والدعاة ينتقدون المنتخب بسبب عدم التزام لاعباته ارتداء ملابس “تليق بالمرأة المسلمة”[19]، بالإضافة إلى انتقاد بعض لاعباته بسبب توجهاتهن المثلية جنسياً، وأنه يجب ألا يكون للشباب قدوات مثلهن [20]. وأدت هذه التصريحات إلى توجّه العلمانيين الكماليين إلى دعم هذا المنتخب بشكل أكبر، ونشر نجاحاته وانتصاراته على نطاق أوسع، وتصوير هذه الانتصارات على أنها انتصارات لأتاتورك وجيله الجديد ضد “الرجعية”[21]، كما أن لاعبات المنتخب يصرحّن دائماً بتوجهاتهن الكمالية، وينتقدن علناً المتدينين الذين ينتقدونهن[22].
مؤخراً عاد التوتر ليتصاعد من جديد بعد مباراة كأس السوبر التي كانت ستُنظَّم في السعودية أواخر عام 2023؛ وذلك بسبب رفض ناديي فنار بهتشه وغلطة سراي لعب المباراة إذا لم يسمح منظّموها بارتدائهم قمصاناً عليها صورة أتاتورك، وجرى استغلال هذه الحادثة بقيام بعض الكماليين بنشر صور ومنشورات مسيئة للإسلام ورموزه، وتدخلت الحكومة بسرعة لمنع تفاقم هذه التوترات[23].
وبسبب الشحن المتزايد وقعت أيضاً حادثة اعتداء على رجل يحمل علم التوحيد[24] في إسطنبول، واتهمه العلمانيون بأنه يريد إعادة الخلافة وهدم الجمهورية التركية، وأشار المعتدي في إفادته إلى أنه قام بهذا الفعل بسبب مشاعره القومية وبسبب الشحن الذي حدث في مباراة كأس السوبر في السعودية[25]، فيما انتشر مقطع لأستاذة في جامعة “قدير هاس” بإسطنبول اتهمها طلاب إسلاميون بأنها دخلت مسجد الجامعة بحذائها وأزعجت المصلّين، وظهرت أخبار تشير إلى فصلها من الجامعة بسبب ذلك[26]؛ مما أدى إلى ردة فعل عكسية من العلمانيين ضد الإسلاميين، ونفت الجامعة ذلك فيما بعد[27].
واشتعل الخلاف بشكل أكبر بعد انتشار تغريدة للمحامية فايزة ألتون، المعروفة بتوجهاتها الكمالية المتطرفة، التي أساءت فيها للشريعة الإسلامية، وأثارت غضب الإسلاميين والمحافظين الأتراك. وتحرك الأمن التركي وقبض عليها في اليوم التالي، إلا أن انتشار لحظة القبض عليها في الإعلام جعل الإعلام المقرب من التيار الكمالي يصوّرها بمظهر “البطلة” المدافعة عن قيَم الجمهورية التركية. وجرى إطلاق سراحها بعد فترة بسيطة مع استمرار محاكمتها[28].
كما تسبب انتشار مقطع لرئيس بلدية ريزة الأسبق من حزب الرفاه (الذي أُغلِق في التسعينيات)، شوقي يلماز، وهو يدعو على “يهود الدونمة السيلانيكيين” ويصفهم بـ”عديمي الأصل”، بعودة التوتر بين الإسلاميين والكماليين، إذ رأى العديد من الأشخاص أنه يقصد الإساءة إلى أتاتورك. ولاقى هذه المقطع ردة فعل شديدة من الأحزاب السياسية أيضًا، ومن بينهم حزب العدالة والتنمية الذي قال متحدثه الرسمي إن الحزب يرفض التصريحات المثيرة للجدل التي تستهدف القيم المشتركة للشعب التركي وتحرّك الصدوع المجتمعية، وإن الحزب سيكافح التصرفات والتصريحات بكل قوة[29].
خلاف الأتراك والأكراد:
شهدت أواخر الدولة العثمانية عدداً من الثورات القائمة على أساس قومي، مثل ثورات دول البلقان والثورة العربية الكبرى التي أدت لاستقلال تلك الدول عن الدولة العثمانية. وكانت منها ثورات قامت بها عشائر كردية في جنوب شرق الأناضول والمناطق التي يشكّل الأكراد فيها أغلبية سكانية، واستمرت تلك الثورات والاحتجاجات المسلحة في السنوات الأولى من الجمهورية التركية، وكان من أشهرها الثورة التي قادها الشيخ سعيد بيران (الذي كانت من دوافعه محاربة العلمانية وإعادة الشريعة أيضاً)، و “تمرد درسيم”، اللذان قُمِعا بالقوة[30].
استمرت مشكلة الأكراد في تركيا بعد هذه السنوات وإلى اليوم، ودخلت هذه المشكلة مرحلة جديدة مع تأسيس تنظيم “حزب العمال الكردستاني”، الذي نشط منذ الثمانينات حتى اليوم ضد الدولة التركية، ويطالب التنظيم بتأسيس دولة كردية في جنوب شرق تركيا، ونفّذ على هذا الأساس العديد من العمليات المسلحة التي استهدفت القوات المسلحة وموظفي الدولة والمدنيين.
مع قدوم حزب العدالة والتنمية للحكم بدأت الدولة التركية تتخذ موقفاً مختلفاً تجاه هذه القضية، وبعد محاولات حثيثة بدأت ما تُسمى بـ”فترة الحل” بين الدولة وتنظيم حزب العمال الكردستاني والمنظمات والأجسام الكردية الأخرى؛ بهدف حل الخلاف بشكل نهائي. وخلال هذه المرحلة اعتذر رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان باسم الدولة لسكان درسيم عن المجازر التي ارتُكبَت بحقهم[31]، واتخذت الحكومة الكثير من الخطوات بهدف استرضاء المواطنين ذوي الأصول الكردية[32].
لكنّ هذه المحاولات لم تنجح لعدد من الأسباب، منها: تعثُّر المفاوضات وعودة التنظيم لتنفيذ عمليات إرهابية للضغط على الحكومة التركية، وهذا ما جعل الدولة تعود إلى تطبيق سياسة المواجهة المسلحة، فشهدت مدن جنوب شرق تركيا في منتصف العقد الماضي مواجهات كبيرة وحرب شوارع بسبب تحصُّن عناصر التنظيم فيها وحفرهم خنادق داخل المدن، وما تزال المواجهات مستمرة حتى اليوم دون وجود بوادر حل أو نهاية لهذا الصراع في المستقبل القريب[33].
تعرض الأكراد – سواءٌ أيدوا توجهات حزب العمال الكردستاني أم لم يؤيدوه – في تركيا لخطاب كراهية وتحريض من بعض الأطراف ووجهت إليهم التهمة دائماً بأنهم انفصاليون يؤيدون الأعمال الإرهابية ويكرهون الأتراك[34]، وتسببت هذه التوترات -خاصة بعد فشل فترة الحل وعودة المواجهات المسلحة بين الدولة والتنظيم- بزيادة الشرخ بين الطرفين وارتفاع حدة الاستقطاب المجتمعي داخل تركيا.
ومع كل خبر عن مقتل جنود أتراك مؤخراً، أو قصف تركي يستهدف مدناً كردية في العراق وسوريا يعود هذا الجدل للظهور من جديد، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: مطالبة حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية -الذي يعدّ نفسه ممثلاً للأكراد في تركيا- دائماً بإنهاء شروط الحبس الانفرادي المفروضة على عبدالله أوجلان مؤسس تنظيم حزب العمال الكردستاني، وإطلاق فترة حلّ جديدة يكون هو من الأطراف الفاعلة فيها[35]؛ وهذا يجعل الأحزاب القومية تهاجمهم، وتتهمهم بأنهم ذراع الإرهاب في السياسة التركية، ويطالبون بإغلاق حزبهم وحبس نوابهم، أو إيقاف دعم الخزينة للحزب وقطع معاشات نوابه[36].
وإلى جانب الخلاف السياسي انتقلت آثار هذه التوترات إلى الشارع التركي، وتجلت في العديد من الحوادث، من بينها: أحداث شغب وقعت في مباراة كرة قدم في بورصة جمعت فريق بورصة سبور بفريق آمد سبور، وبدأت بسبب هتاف جمهور بورصة هتافات عنصرية ضد الأكراد، ورفع صورة عبدالله تشاتلي، أحد رجال المافيا الذي يُتَّهم بارتكابه جرائم اغتيال ضد الأكراد في التسعينيات[37].
ومن القضايا التي يُثار حولها الجدل أيضاً “تعريف المواطَنة التركية”؛ إذ يعرّفها الدستور التركي الحالي بأن كل مواطن في الدولة هو Türk، وهو مصطلح يوحي بوجود رابطة عرقية لا رابطة وطنية، فيما تطالب الأحزاب اليسارية والليبرالية وحزب الديمقراطية والمساواة الشعبية باستعمال كلمة Türkiyeli بدلاً منه؛ إذ يرى المطالبون باستعمالها أنها تشمل جميع الشعوب والأعراق الموجودة في تركيا دون أية إيحاءات عرقية[38].
ويطالب الأكراد أيضاً بأن تسمح لهم الدولة بتعليم أبنائهم بلغتهم الأم “الكردية”، وهو الطلب الذي يلاقي اعتراضاً شديداً من الحزب الحاكم والأحزاب القومية التركية؛ إذ يرون أن هذه الخطوة ستؤدي إلى تقسيم الشعب، وتفتح الباب أمام تقسيم البلاد[39]، فيما يرى الطرف الآخر أن هذا حق أساس من حقوق الإنسان، وأن مستوى الأطفال الأكراد يضعف كثيراً إذا تلقوا تعليمهم باللغة التركية[40].
كما تسبّب حبس الرئيس المشارك السابق لحزب الشعوب الديمقراطية[41] صلاح الدين دميرطاش، الذي يملك شعبية كبيرة جداً بين الأكراد بزيادة هذا الانقسام، وبلغت هذه المسألة ذروتها في الانتخابات الماضية؛ إذ وعد رئيس حزب الشعب الجمهوري السابق كمال كلتشدار أوغلو بإطلاق سراحه إذا فاز بحجة أنه سُجِن بشكل غير قانوني[42]، فيما هتفت الحشود التي احتفلت بفوز أردوغان بالمطالبة بإعدامه متهمين إياه بالإرهاب[43].
ومؤخراً دعا قادة حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية إلى تنظيم مسيرات وإضرابات عن الطعام في شهر شباط/فبراير للمطالبة بإنهاء الحبس الانفرادي المفروض على أوجلان، وردّ بعض الأكراد منتقدين هذه الخطوة بأنها ستؤدي إلى المزيد من الاستقطاب والعنصرية ضد الأكراد كلهم، وأن الأحزاب القومية ستستغل هذه الدعوات للمزيد من التحريض ضدهم بحجة دعمهم للإرهاب[44].
ومن الأمور التي تثير الشقاق بين الأتراك والأكراد إبراز بعض وسائل الإعلام جرائم يرتكبها أكراد بشكلٍ يستغله بعض القوميون الأتراك لتأكيد موقفهم ضد الأكراد، واتهامهم بأنهم سبب لانتشار الجرائم وتجارة المخدرات وغير ذلك، مثلما حدث في مطلع عام 2024 في جريمة قُتِل فيها سائق تكسي في إزمير، ادّعت صفحات إخبارية في وسائل التواصل الاجتماعي أن القاتل كرديّ؛ مما أدى إلى انطلاق حملة عنصرية ضد الأكراد شارك فيها العديد من الشخصيات المشهورة في وسائل التواصل الاجتماعي[45].
ومع دخول تركيا مرحلة الانتخابات البلدية، عادت مشكلة الاستقطاب بين الأكراد والأتراك للظهور بقوة. وكان من أبرز مظاهر هذا الاستقطاب تصريح مرشحة حزب الشعب الجمهوري لبلدية أفيون كاراحصار، بورجو كوكسال، التي قالت إنها إن فازت بالبلدية ستفتح أبوابها للجميع، ما عدا أعضاء حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية (الداعم للأكراد والأقليات) وحزب الدعوة الحرة (الإسلامي الكردي)[46]. ورد عليها رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، قائلًا إن حزب الشعب الجمهوري يفتح أبوابه للجميع، وإن الذي لا يقبل هذا عليه إما أن يجد عملًا آخر أو حزبًا آخر[47]. وأدى هذا الرد من إمام أوغلو إلى تخفيف موجة الغضب عند الأكراد تجاه حزب الشعب الجمهوري.
الاستقطاب الداخلي تجاه الأقليات:
تضم الأناضول تشكيلة واسعة من القوميات والأقليات والإثنيات التي استوطنت هذه المنطقة من آلاف السنين؛ إذ سكن فيها إلى جانب الأتراك والأكراد قوميات وأقليات وإثنيات أخرى مثل العرب والروم والأرمن والشركس والسريانيين واللاز (الجورجيين) واليهود وغيرهم[48]، وعاشت هذه الإثنيات إلى جانب بعضها لقرون عديدة دون وجود مشكلات كبرى تعكّر الصفو المجتمعي فيها؛ إلا أنه خلال القرنين الماضيين مع ارتفاع التيارات القومية ظهرت العديد من القلاقل التي استهدفت الأقليات بشكل أساسي.
الاستقطاب ضد الأتراك من أصول عربية:
تعرض العرب بعد تأسيس الجمهورية لحملة تشويه كبيرة، كان أساسها اتهامهم بخيانة الدولة العثمانية بسبب ثورة الشريف حسين في الحجاز، ولم تقف هذه الحملة عند هذا الحد؛ إذ اتُّهِم العرب بأنهم شعب “جاهلي متخلف”، حاول فرض حضارته البدائية على الحضارة التركية الأعلى، وأن الأتراك تأخّروا حضارياً بسبب اتباعهم دين العرب عدداً من القرون. ويُوصف العرب في بعض الكتب والإعلام التركي منذ تأسيس الجمهورية بأنهم كسالى، متحرّشون بالنساء، متخلّفون، غدّارون، سود البشرة، وغير ذلك من الصور النمطية العنصرية التي ما تزال راسخة عند كثير من الأتراك حتى اليوم[49].
وفعلياً غيّرت الجمهورية التركية أسماء العديد من المدن والقرى العربية، مثل تغيير اسم مدينة عين تاب إلى “عنتاب”، والسويدية في هاتاي إلى “سمانداغ”، ومعمورة العزيز إلى “إلازيغ”، وشمل هذا التغيير أيضًا المدن الكردية والأرمنية والرومية أيضاً، وأُجبرت جميع الشعوب غير التركية على تسجيل أسمائهم وأسماء عوائلهم باللغة التركية، ومنعت تسجيل أي أسماء غير تركية[50]. بالإضافة إلى منع تدريس اللغة العربية في المدارس، بعكس ما كان مطبقاً أيام الدولة العثمانية، وصدرت عدد من القرارات بمنع التحدث بالعربية وعرض الأفلام العربية في دور السينما في مرسين وأضنة وماردين، التي كانت مدناً ذات أغلبية عربية[51].
تقدّر بعض الجمعيات العربية في تركيا عدد المواطنين الأتراك ذوي الأصول العربية حالياً بـ10-12 مليوناً[52]، وجهات أخرى بـ7 ملايين[53]، وتُظهر بعض التقديرات أن العدد الحقيقي يتراوح بين 2.5-3 ملايين[54]؛ مما يجعلهم القومية الثالثة من حيث العدد بعد الأتراك والأكراد. يتوزع العرب في مناطق جنوب وجنوب شرق تركيا، وينقسمون إلى قسمين: عرب الشام؛ ويتوزعون في هاتاي وأضنة ومرسين، ومعظمهم من العلوية (النصيرية[55])، مع وجود جزء من السنّة ومن النصارى. والقسم الثاني من عرب الرافدين؛ ويتوزعون في شانلي أورفة وماردين وسيرت وباتمان، ومعظمهم سنّة على المذهب الشافعي[56].
مالَ كثيرٌ من عرب الرافدين في تركيا إلى الاندماج مع الأتراك إلى درجة وصلت إلى نسيان أجيالهم الجديدة لغتهم، ويميلون في الانتخابات إلى دعم حزب العدالة والتنمية والحركة القومية، ويعلَّل ذلك بأنهم يحاولون موازنة قوتهم إلى قوة الأكراد الذين يشكلون الأغلبية في مناطقهم[57]، ومن أشهر الشخصيات التي برزت منهم: العالِم عزيز سنجار الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء، وابن عمّه الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطية مدحت سنجار[58]، ووزير المالية السابق نور الدين نباتي، الذي ينتمي لعشيرة النعيمي الممتدة في سوريا والعراق والجزيرة العربية[59]، وزوجة الرئيس أردوغان أمينة أردوغان، التي تنتمي لعائلة عربية من مدينة سيرت[60].
فيما يميل عرب الشام -خاصة المنتسبين للطائفة العلويّة (النصيريين) منهم- إلى دعم الأحزاب اليسارية والكمالية، مثل حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية أو حزب الشعب الجمهوري، ويعلَّل ذلك بعدم رغبتهم بالذوبان في وسطهم التركي السّنّيّ[61]. ومن أبرز الشخصيات منهم: الرئيسة المشاركة لحزب الديمقراطية والمساواة الشعبية تولاي حاتم أوغلاري[62]، ورئيسا بلديتَي مرسين وأضنة وهّاب سيتشر وزيدان كارالار[63].
وبالنظر إلى وضع العرب الأتراك اليوم ثمّة مُطالبات تتصاعد يوماً بعد يوم بالسماح لهم بتدريس أبنائهم بلغتهم الأم العربية، ومنح اللغة العربية مزيداً من الاهتمام؛ كي لا ينساها أبناؤها مثلما حدث في العقود الماضية[64]، وبالتخلي عن سياسة فرض الهوية التركية على الأقليات، وعدم السماح بانتشار الخطاب العنصري الذي يستهدف العرب[65].
مع قدوم اللاجئين السوريين في السنوات الأخيرة بدأت الأحزاب القومية والكمالية بالتحريض المباشر على اللاجئين وبشكل عنصري، وبدؤوا باستخدام الصور النمطية نفسها التي كانت تستخدم في ثلاثينيات القرن الماضي، بشكلٍ استهدف حتى المواطنين الأتراك ذوي الأصول العربية، وإن لم يقصد أولئك الساسة هؤلاء المواطنين بشكل مباشر. وظهرت في وسائل التواصل الاجتماعي العديد من التغريدات التي تبثّ العنصرية ضد العرب الأصليين في تركيا، مثل التغريدات التي جاءت تعليقاً على مظاهرة قام بها سكان سمانداغ (السويدية) في هاتاي بعد الزلزال وهتفوا فيها باللغة العربية؛ إذ ظهرت تغريدات تسخر منهم ومن اللغة التي يهتفون بها[66].
الاستقطاب ضد الأتراك من أصول شركسية:
تعرض الشركس في القرن التاسع عشر إلى مجازر كبيرة نفّذتها الإمبراطورية الروسية، وهجّرت جزءاً كبيراً منهم خارج أراضيهم الواقعة في القوقاز، ولجأ جزءٌ كبيرٌ من الشركس إلى الأناضول وبلاد الشام. وتختلف الإحصائيات بشأن عدد المواطنين الأتراك ذوي الأصول الشركسية، ولكن تتراوح التقديرات بين 1-3 ملايين شخص[67].
كان الشركس من العناصر المشاركة في حرب الاستقلال التركية، وكان من أبرز قادتهم “أدهم الشركسي”، الذي قاد فرقة المشاة في قوات المقاومة الوطنية عام 1919، وحقّق انتصارات ضد قوات الاحتلال اليوناني ومعارضي حكومة البرلمان التركي. ولكن في عام 1935 اتُّهِم بالتخطيط لاغتيال أتاتورك، وفرّ بعدها لاجئاً إلى اليونان؛ مما جعل أتاتورك والإعلام الحكومي في ذلك الوقت يتهمه بالخيانة. فيما يرى المواطنون الأتراك ذوو الأصول الشركسية أن أدهم الشركسي لم يخطط لاغتيال أتاتورك، وأنه تعرض لحملة تشويه ممنهجة ليجري إعدامه بتهمة التخطيط لهذه الجريمة، وهو الذي اضطره للهروب من تركيا إلى اليونان مكرهاً، ومن ثم انتقل إلى الأردن وعاش فيها حتى وفاته[68].
يتعرض المواطنون ذوو الأصول الشركسية في تركيا اليوم إلى بعض الحملات العنصرية من القوميين الأتراك في وسائل التواصل الاجتماعي[69]، ولم تقف الحملات ضدهم على التحريض في الواقع الافتراضي وحسب؛ إذ وقعت حوادث في الواقع، كان من أبرزها اعتداء أحد الأشخاص لفظياً على شخص تحدث باللغة الشركسية في حافلة نقل عام في مدينة قيصري في شهر يوليو/تموز 2022[70].
الأتراك البيض والأتراك السود:
لا تنحصر هذه الانقسامات بين الأتراك والقوميات الأخرى وحسب؛ بل ثمّة داخل المجتمع التركي نفسه انقسامات على أساس مناطقي وطبقي، ويعود أصل هذه الانقسامات إلى حوادث تاريخية وقعت في أواخر الدولة العثمانية وبداية الجمهورية التركية.
بدأت الهجرات من البلقان إلى الأناضول في أواخر الدولة العثمانية بعد خسارتها الكثير من الأراضي في البلقان، وعاش هؤلاء المهاجرون أوضاعاً بالغة الصعوبة خلال سنواتهم الأولى، وكانت سياسة الدولة في التعامل معهم سيئة بشكل فاقم معاناتهم. وحاولوا بعد مدة من هذه المعاناة تنفيذ انقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني بهدف السيطرة على الحكم واستعادة أراضيهم التي خسروها في البلقان ليعودوا إليها، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل[71].
بعد سنوات استطاع حزب الاتحاد والترقي الصعود للحكم كما سبق ذكره، وكانت حكومة الاتحاد والترقي يقودها شخصيات معظمهم من أتراك البلقان، مثل طلعت باشا الذي وُلد في إدرنة، وأنور باشا الذي وُلد لعائلة أصلها من مدينة ماناستر الواقعة حالياً في مقدونيا، وجمال باشا “السفاح” الذي وُلد في جزيرة ميديلّي الواقعة حالياً في اليونان، كما كان مصطفى كمال أتاتورك الذي أسّس الجمهورية التركية من مواليد سيلانيك الواقعة حالياً في اليونان[72].
انتشر وصفٌ داخل المجتمع التركي للتقسيم الطبقي في البلاد وهو “الأتراك البيض” الذي يصف الطبقة الحاكمة، و”الأتراك السود” الذي يصف أتراك الأناضول الفلاحين والفقراء، وكان جزءٌ لا بأس به من منسوبي الطبقة الحاكمة والغنية والمتعلمة في معظم أوقات الجمهورية التركية من أتراك البلقان، ولهذا تكونت عند أتراك الأناضول ردة فعل عكسية تجاه “الأتراك البيض”، ووصل الحال عند البعض لاتخاذ موقف من أتراك البلقان بشكل عام، لاسيما بعد تعرُّض “الأتراك السود” للتهميش والاضطهاد بناءً على توجهاتهم الدينية أو السياسية، كما ذُكر في فقرات سابقة[73].
يُعد هذا الانقسام -إضافة إلى كونه مناطقيًا بين أتراك البلقان وأتراك الأناضول- انقسامًا طبقيًا بين الأغنياء والفقراء (تضاءلت هذه الفجوة في العقدين الأخيرين بعد ظهور طبقة غنية من أتراك الأناضول المحافظين)، وانقساماً ثقافيًا دينيًا بين رؤوس التيار العلماني الذين ينتمي معظمهم لأتراك البلقان، ورؤوس التيارين المحافظ والقومي الذي ينتمي معظمهم لأتراك الأناضول، وبالأخص لأتراك منطقة البحر الأسود ووسط الأناضول، وقد سبق الحديث عن الخلاف بين المحافظين والعلمانيين، ولكن الحديث هنا عن هذا الخلاف من جانب مناطقي.
تنتشر بين بعض الأتراك صورة نمطية عن أتراك الأناضول؛ إذ يرون أنهم “رجعيّون” غير متعلمين وغير متحضرين، ويحاولون الانتقام من الجمهورية ومؤسسيها والقيم التي تمثلها ردّاً على هدم الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية. ويستشهدون بأحداث تاريخية في حرب الاستقلال وأوائل سنوات الجمهورية يدّعون فيها أن هناك مَن تعاون مع قوات الاحتلال، أو مَن قام بثورات ضد الجمهورية من بين أتراك الأناضول، ويصل الأمر ببعضهم لاتهام أتراك الأناضول -خاصة أتراك البحر الأسود- بأنهم من أحفاد الروم الذين تظاهروا بالإسلام خوفاً من الجزية ومن ثم التهجير[74].
فيما تنتشر بين أتراك الأناضول صورة نمطية عن أتراك البلقان أنهم منسلخون عن هويتهم، ويحاولون تقليد الغرب في كل شيء، ويتهم بعضهم أتراك البلقان بأنهم من يهود الدونمة الذين تظاهروا بالإسلام، وأنهم هم الذين هدموا الخلافة وعملوا على إنهاء مظاهر الإسلام في البلاد[75].
يمكن رصد هذه النقاشات العنصرية المناطقية بسهولة في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أوضح من وسائل الإعلام العادية؛ وذلك بسبب عدم وجود قيود، ومشاركة جميع أنواع الناس، وعدم التزامهم بقواعد محددة في الحديث مثل الصحافة المكتوبة والحوارات المتلفزة. ولكن يمكن أيضاً العثور على بعض المواد الصحفية أو المواقف التي حدثت على أرض الواقع وتحتوي خطاباً عنصرياً كهذا، كما صار يستخدم بعض الساسة مصطلح “الأتراك البيض” على سبيل الانتقاد والتهكم، بشكلٍ يُحيي هذه الصورة النمطية داخل المجتمع[76].
خلاف السّنّة والعلويين:
ينقسم العلويون في تركيا إلى 3 أقسام، هي: العلويون العرب؛ وينتشرون في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ويُسمّون “النصيريين”. والعلويون الأتراك؛ ويتوزعون في وسط الأناضول، في ولايات أرزنجان وتشوروم وأماسيا وغيرها. والعلويون الأكراد؛ الذين يتوزعون في مناطق وسط وشرق الأناضول، ومن أبرزها شرق ولاية سيواس وولاية تونجيلي وأجزاء من ولايتَي كهرمان مرعش وملاطية، ويُسمّى هؤلاء “البكتاشيين”. ويقدّر مجموع العلويين في تركيا -بحسب مصادر العلويين التي قد تكون تبالغ في تقديراتها- بأنهم بين 4.5 – 6 ملايين شخص، ومنهم جزء كبير هاجرَ إلى المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة[77].
بدأ التوتر بين السنّة والعلويين في الأناضول في عهد السلطان العثماني سليم الأول؛ إذ يدّعي العلويون أن السلطان سليماً الأول ارتكب مجازر بحقهم بنية إبادتهم بشكل كامل من الأناضول، وقُتل وقتها بحسب ادعاءاتهم أكثر من 40 ألف علوي[78]. فيما يرى الأتراك السنّة أن السلطان سليماً الأول لم تكن نيته إبادة العلويين، وأن ما حدث كان جزءاً من الحرب مع الدولة الصفوية التي كانت ترى العلويين جزءاً من شعبها، وأن الدولة الصفوية أيضاً في ذلك الوقت كانت تقتل السنّة في تبريز[79].
وفي العصر الحديث شهدت بداية الجمهورية عمليات عدة ضد العلويين الأكراد في مدينة درسيم كما ذُكِر في فقرة سابقة، وشمل منع الحكومة المظاهر الدينية منع أي مظهر أو صفة دينية للعلويين، مثل لقب “الجد” الذي يُمنح لرجال الدين عندهم، وأُغلقت الزوايا التابعة لهم، كما لم يجرِ تصنيف “بيوت الجمع” التي تُعد دور العبادة عندهم في منزلة دور العبادة، ولم تشمل إدارة الشؤون الدينية الحكومية سوى المذهب السّنّيّ، وأُجبرت القرى العلوية على بناء جوامع فيها رغماً عن إرادة سكانها[80].
شهدت تركيا أيضاً في سبعينيات القرن الماضي مواجهات كثيرة بين اليمين الإسلامي واليمين القومي، واليسار الشيوعي (الذي كان يضم في صفوفه نسبة لا بأس بها من العلويين). اشتعلت هذه المواجهات في مدن تشوروم ومرعش وسيواس التي فيها نسبة من العلويين بعد حوادث مريبة وتحريض من أشخاص يتبعون التيار القومي ضد العلويين والشيوعيين، وجرى خلالها قتل قرابة 200 علوي في مدينتَي تشوروم ومرعش، بالإضافة إلى قتلى آخرين في هذه المواجهات[81].
وفي تسعينيات القرن الماضي شهدت مدينة سيواس توتراً كبيراً آخر بين العلويين والسنّة؛ إذ هاجمت مجموعة من الإسلاميين والقوميين فندق مادماك الذي كان يقام فيه ورشة عمل لجمعيات علوية، حضرها الكاتب العلوي عزيز نيسين الذي كانت له تصريحات استفزازية، وخلال الهجوم أشعل المحتجون النار في الفندق، وتُوفي بسبب الحريق 37 شخصاً، معظمهم من العلويين[82].
مع قدوم حزب العدالة والتنمية للحكم بدأ أعوامه الأولى بسياسة انفتاحية على الجميع، وقدّم أردوغان اعتذاراً لسكان درسيم عن المجازر التي ارتكبت بحقهم، كما سبق، ومنحهم المزيد من الحريات والحقوق. إلا أن هذه السياسة بدأت بالتغير تدريجياً في الأعوام اللاحقة بحسب ادعاءات العلويين؛ إذ يرون أن الدولة ما زالت ترفض الاعتراف ببيوت الجمع على أنها دور للعبادة، بالإضافة إلى أنهم يرون الدولة تفرض على أبنائهم دروس الدين التي تدرّس المذهب السّنّيّ فقط وتتجاهل مذهبهم، كما أنهم يشتكون من عدم تمثيلهم بالشكل الكافي في الحكومة والمناصب العليا في الدولة[83].
ومن القضايا التي أثارت غضب العلويين من الحزب الحاكم في الفترة الأخيرة كانت تسمية أردوغان الجسر الثالث في إسطنبول بـ”جسر السلطان ياووز سليم”؛ إذ يرونها إحياء لذكرى شخصية ارتكبت بحقهم مجازر في الماضي، بالإضافة إلى موقف الحكومة التركية من الثورة السورية؛ إذ يرى كثيرون منهم أنها تدعم “ميليشيات جهادية” ترتكب جرائم بحق العلويين في سوريا[84].
ومؤخراً عاد النقاش بين السنّة والعلويين إلى الواجهة مع ترشُّح كمال كلتشدار أوغلو لانتخابات الرئاسة، وهو من العلويين الأكراد من مدينة درسيم (تونجيلي)؛ إذ خرج عددٌ من أعضاء الحزب الجيد ذي التوجهات القومية معترضين على ترشحه عن تحالفهم بحجة أنه علويّ، وأن جزءاً من الشعب لا يرضى أن يحكمه علويّ، وظهرت تسريبات لحوار أجرته ميرال أكشنار رئيسة الحزب بعد الانتخابات قالت فيه: إنها لم تكن لتسمح أبداً بانتخاب رئيس علويّ كرديّ لتركيا[85].
كما شهدت تركيا مطلع عام 2024 جريمة أثارت الرأي العام؛ إذ اتُّهِم طالب ذو توجهات قومية في جامعة كوتش بتعذيب زميله في السكن بسبب انتمائه للعلويين الأكراد، ونُشرت تسجيلات له يهدّده فيها بإبادة جميع الأكراد والعلويين، ولاقت هذه الجريمة ردود فعل غاضبة من انتشار الخطاب العنصري والطائفي وتعدّيه مسألة العداء للاجئين لتصل إلى العداء داخل فئات الشعب التركي المختلفة[86].
خلاف الصوفيين و”السلفيين”:
يغلب على التيار الإسلامي في تركيا التيار الصوفي الذي يتبع عدداً من الطرق الصوفية الكبيرة، من بينها: جماعة إسماعيل آغا، وجماعة منزل، وجماعة السليمانيين، وغيرها. ومؤخراً بدأ يظهر في تركيا عدد من الدعاة يُنسَبون إلى التوجه السلفي، من بينهم خالص بايانجوك الملقب بـ”أبي حنظلة”، ورئيس وقف الفرقان ألب أرسلان كويتول، وكلاهما جرى اعتقاله بسبب شبهات حول دعمه للإرهاب[87].
تُتَّهم الطرق الصوفية في تركيا بأنها تحاول التغلغل في مفاصل الدولة وتسيير الدولة لمصلحة الطريقة، ويستدل أعداء الطرق الصوفية بجماعة فتح الله غولن التي تحالفت مع حزب العدالة والتنمية في سنوات حكمه الأولى، واختلفت معه فيما بعد وحاولت ترتيب انقلاب عسكري في 2016، وتتوارد العديد من الأخبار والشائعات حول صعود طرق صوفية أخرى وتغلغلها في الدولة خلال الآونة الأخيرة[88].
في الجانب الآخر ينتشر مَن يُنسبون للتيار السلفي بشكل أكبر في جنوب وجنوب شرق تركيا، وتشكل ولاية أضنة معقلاً لجماعة وقف الفرقان التي يرأسها ألب أرسلان كويتول، ويتعرضون لحملات أمنية من الدولة بين الفينة والأخرى، وصلت في بعض الأحيان لاقتحام مساجدهم وإلقاء قنابل الغاز فيها من أجل إخراجهم واعتقالهم[89]. فيما يقيم “أبو حنظلة” في ولاية بينغول، وسُجن لبضعة سنوات بسبب اتهامه بتأييد تنظيم “داعش”، وخرج مؤخراً من السجن وظهرت بوادر تغيير في خطابه وتفكيره[90].
يتهم الصوفيون السلفيين بأنهم “وهّابيون تكفيريون” أصحاب بدع، وخرج الشيخ “جبّلي أحمد” في كثير من المرات وحذّر من انتشار السلفية وفكر محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية، وحذّر أيضاً من انتشار كتب الشيخ الكويتي عثمان الخميس المترجمة للغة التركية، وقال: إنه يُبلّغ الدولة باستمرار حول أنشطة السلفيين من أجل قطع الطريق أمام انتشار فكرهم في تركيا[91]. بينما يتهم مَن ينسب للسلفين الصوفيين بأنهم أصحاب بدع وشركيات، وأنهم يتاجرون بالدين، ويستغلون قربهم من السلطة في تحقيق مكاسبهم الدنيوية[92].
مؤخراً اشتهر داعية كردي في جامع ديار بكر الكبير اسمه رمضان بيشكين، وهو شخص فقير يصفه بعضهم بأنه “درويش” كان يلقي مواعظ ودروساً دينية في الجامع، وانتقل بعدها إلى إسطنبول، ومع زيادة شهرته اتهمه بعض المشايخ الصوفيين بأنه “وهّابي” صاحب بدعة، وأنه يفتي بعدم جواز طلب المدد من الأموات وأنه لا يصلي خلف أئمة الدولة؛ وخرج بيشكين في الأسابيع الماضية وقال: إنه يتلقى تهديدات من أصحاب الطرق بسبب اتهامه إياهم بأنهم أصحاب خرافات يتاجرون في الدين. وتعرّض بيشكين في 31 يناير/كانون الثاني للطعن في مكان عمله في إسطنبول مما أدى إلى وفاته؛ ويشير بعض الأشخاص إلى احتمال وقوف الطرق الصوفية خلف هذه الجريمة بناءً على تصريحات بيشكين الأخيرة[93].
الاستقطاب حول قضايا النساء:
بدأ تيار الدفاع عن حقوق المرأة بالظهور في تركيا مع بداية ظهور التيارات العلمانية في أواخر الدولة العثمانية، والتي سلف ذكرها في فقرات سابقة، ويندرج هذا النشاط لدعم حقوق المرأة ضمن تيار شهدته المنطقة بأسرها طالبَ بتحسين واقع النساء، خاصة في مجال التعليم والمساواة في الأجور وبعض الحقوق السياسية. وتأسست أولى الجمعيات المعنية بالنساء في تركيا باسم “جمعية طلائع النساء ” و”جمعية المدافعة عن حقوق النساء العثمانيات” و”جمعية تشغيل النساء العثمانيات”؛ وكانت تلقى دعماً من مفكرين وقادة بارزين داعمين لاتجاه حزب الاتحاد والترقي، مثل ضياء غوك آلب وأنور باشا وغيرهم. ومع تأسيس الجمهورية تم منح النساء العديد مما كانت تلك الجمعيات تطالب به، مثل اعتماد القانون المدني بدلاً من أحكام الشريعة، ومنح المرأة حق الانتخاب والترشح[94].
في السنوات الأولى من الجمهورية حاولت نزيهة محيي الدين إحدى أكبر الناشطات في عصرها تأسيس حزب النساء الشعبي، وذلك قبل تأسيس حزب الشعب الجمهوري؛ لكنّ الدولة رفضت طلب التأسيس بحجة عدم السماح وقتها للنساء بدخولهن السياسة، وكان ذلك قبل إصدار قوانين السماح للمرأة بالترشح والانتخاب؛ لذا قرّرت نزيهة محيي الدين تحويلها إلى جمعية مدنية تحت اسم “اتحاد النساء التركيات”[95].
كان توجه الناشطات خلال تلك السنوات أقرب للقومية العلمانية الكمالية، وذلك بحكم طبيعة نشوئها والجهات التي دعمتها؛ إلا أن هذا الحراك النسائي تطور وتبنّى العديد من أفكار الحركة النسوية العالمية، خاصة بعد انقلاب كنعان إفرين عام 1980، فظهرت حركة نسوية في تركيا ذات اتجاه يساري اشتراكي، وتبنّت هذه الحركة اتجاهاً معارضاً للدولة وسياساتها، ومطالبة بالمزيد من الحريات للمرأة[96]، وكان روّاد هذه الحركة من الداعمين لمظاهرات طالبات الجامعات المحجبات ضد قرار منع الحجاب عام 1997[97].
اتخذت حكومة حزب العدالة والتنمية في سنواتها الأولى عدداً من الخطوات تجاوباً مع ازدياد حالات العنف الأسري، وقد توافقت هذه الخطوات مع مطالب الحركة النسوية، مثل التوقيع على اتفاقية إسطنبول لحماية المرأة [98]، وإزالة العقبات أمام دراسة الطالبات وعمل الموظفات بناءً على لباسهن، والمزيد من التسهيلات في قوانين الأسرة[99]. إلا أن الحزب بدأ يتخذ اتجاهاً جديداً لكسب أصوات التيار المحافظ؛ فألغى العمل باتفاقية إسطنبول قبل عامين، وبدأ يرفع من حدة خطابه الذي تعدّه الحركات النسوية التركية المعاصرة “ذكورياً” بحسب وصفها[100].
تبرز على الساحة التركية حالياً قضايا العنف ضد المرأة، وباتت تؤرّق الجميع في ظل تصاعد حوادث قتل النساء على أيدي أزواجهن أو شركائهن أو أقاربهن، أو حتى على أيدي الغرباء[101]، ومع كل جريمة جديدة يعود الجدل بين الحركات النسوية والنسائية الذين يطالبون بالعودة إلى اتفاقية إسطنبول لرفع مستوى حماية المرأة وتغليظ العقوبات على مرتكبي هذه الجرائم، وبين الطرف الآخر الذين يرون أن هذه الاتفاقية تفتح الباب أمام حركات الشذوذ الجنسي وأمام تمرد النساء على أزواجهن بشكل يهدم الأسرة، ويصل بعضهم ليبرر الجرائم المرتكبة ضد النساء بوضع الذنب عليهن[102].
وفي السياق نفسه بدأت الأحزاب الإسلامية في تركيا، مثل حزبي الرفاه الجديد والدعوة الحرّة، بالمطالبة بإلغاء القانون رقم 6284 الذي يضع الإطار القانوني لمكافحة جرائم العنف ضد المرأة؛ إذ يرون أنه من بقايا اتفاقية إسطنبول، وأنه يفتح الباب أمام تمزيق الأسر وانتشار الشذوذ في المجتمع. فيما ترى الأحزاب اليسارية والحركات النسوية وحتى بعض أعضاء الحزب الحاكم -مثل وزير الأسرة والخدمات الاجتماعية السابقة- أن هذا القانون لا يُمسّ، بل يجب تعزيزه بشكل يحمي المرأة أكثر مما هو عليه الحال الآن[103].
ومن القضايا الأخرى التي تثير الاستقطاب موضوع النفقة؛ إذ ينصّ القانون التركي على ضرورة منح المطلقة النفقة بشكل دائم إن كانت مصنّفة على أنها فقيرة، وذلك حتى تتزوج مرة أخرى أو تخرج من تصنيف الفقر. ويشتكي العديد من الرجال من هذا القانون؛ إذ يرون أنه ظالم لهم، وأن النساء يستغلونهم بغير وجه حق، ويدعم هذا الاتجاهَ الحزبُ الحاكمُ وعددٌ من الأحزاب الإسلامية الأخرى التي تحاول تعديل قانون النفقة. فيما تعارض الأحزاب اليسارية والحركات النسوية هذه الادعاءات، ويقولون: إن النفقة حق للنساء، وإنهن سيُمتن من الفقر والجوع إذا سُلبَت منهنّ النفقة إلى جانب المظالم التي يتعرضن لها في سوق العمل وفي الحياة بشكل عام، بحسب وصفهم[104].
مؤخراً باتت مظاهرات يوم المرأة العالمي (8 مارس/آذار من كل عام) حدثاً يحيي هذا الاستقطاب ويشعل ناره؛ إذ دائماً ما تشهد هذه المظاهرات مواجهات مع الشرطة، ورفع لافتات فيها عبارات لا أخلاقية تتسبب بردود فعل غاضبة من الحكومة والطبقة المحافظة[105]. فيما تقوم الجمعيات النسوية في هذه المظاهرات بالتذكير بحوادث العنف ضد المرأة، وبتساهُل القضاء مع الجناة، وبانتقاد انعدام المساواة بين الجنسين في البلاد، وبالمطالبة بإعادة تفعيل اتفاقية إسطنبول[106].
الخلافات الرياضية:
لا تنفصل الرياضة التركية عن الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد؛ إذ تمتد تلك الشروخ المجتمعية إلى الملاعب، وتصل في بعض الأحيان إلى حافة الانفجار لأسباب رياضية أو خارجية. ويبرز في المنافسات الرياضية الطابع المناطقي والعرقي في بعض الأحيان، كما سلف ذكره حول مباراة آمد سبور وبورصة سبور، التي تحولت إلى صراع بين الأتراك والأكراد، أو مثل مباراة كأس السوبر التركي التي كانت ستُقام في مدينة الرياض وتحولت إلى شرارة أعادت إشعال نار الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين الكماليين.
ومن أبرز المنافسات الشرسة في الرياضة التركية: منافسة ناديي طرابزون سبور وفنار بهتشه، التي كانت بدايتها في الثمانينيات بسبب احتدام المنافسة الرياضية بينهما على لقب الدوري لعدة مواسم، ولم تكن هذه المنافسة تتسم بالروح الرياضية في جميع الأوقات؛ إذ لم تخلُ بعض المباريات من شجارات جماهيرية[107]، أو شجارات بين اللاعبين[108].
كما أن قضية شيكات كرة القدم التي هزّت الرياضة التركية موسم 2010-2011 كانت سبباً في ترسيخ العداوة بين جمهور الناديين؛ إذ اتُّهم نادي فنار بهتشه، الذي حقق الدوري ذاك الموسم بفارق نقطة عن طرابزون سبور، بأنه تلاعب في المباريات، وطالب طرابزون سبور بمنحه البطولة بدلاً من فنار بهتشه[109]، ولا تزال هذه القضية محل جدل بين إدارتي الناديين وجماهيرهما لحد اليوم[110].
ومن المعروف أيضاً في أوساط الجماهير التركية أن أي مشجع يرتدي قميص فنار بهتشه في مدينة طرابزون، أو أي مشجع يرتدي قميص طرابزون سبور في شارع بغداد بإسطنبول (معقل نادي فنار بهتشه) قد يتعرض للاعتداء بالضرب بسبب الحساسية البالغة بين الجمهورين؛ وقد وقعت فعلاً حالات اعتداء وشجار لهذه الأسباب[111].
كما يحمل خلاف الناديين إرثاً اجتماعياً في ذاكرة الشعب التركي؛ إذ يُعد نادي فنار بهتشه من أندية النخبة (الأتراك البيض)، ويرأسه علي كوتش ابن إحدى أغنى العائلات في تاريخ الجمهورية التركية. فيما يُعد نادي طرابزون سبور من أندية الأناضول (الأتراك السود). ويُعد جمهور فنار بهتشه من الجماهير المتعصبة للفكر الكمالي، ويهتفون في كثير من المرات دعماً للعلمانية ولأتاتورك[112]، حتى إنهم يهتفون ضد اللاجئين في بعض المناسبات[113]. فيما يُعد جمهور طرابزون سبور ممثلاً لشعب طرابزون القومي المحافظ الذي يحمل بعض الحساسيات تجاه هذه الأفكار، كما ذُكِر في فقرات سابقة؛ علماً أن هذه الصفات لا يمكن تعميمها بشكل كامل على جميع مشجّعي الناديين، لكنها من الصفات البارزة عند جزء كبير منهم[114].
أثر هذه الاستقطابات على السوريين في تركيا:
منذ قدوم السوريين إلى تركيا بأعداد كبيرة خلال العقد الماضي صاروا جزءاً أساسياً من قضايا المجتمع والسياسة التركية، وبات العديد من أطراف المجتمع التركي يأخذون موقفاً من السوريين بناءً على مواقف الطرف الآخر المقابل لهم في المجتمع، ولهذا باتت مسألة وجود السوريين جزءاً من أدوات الاستقطاب الداخلية لا يمكن التغافل عنه.
بالنظر إلى محور الإسلاميين – العلمانيين الكماليين يمكن بسهولة رؤية أن الإسلاميين في الغالب يتعاطفون مع اللاجئين السوريين[115]، وأن جزءاً لا بأس به من الكماليين -خصوصاً ذوي التوجه القومي منهم- يقفون ضد اللاجئين السوريين ويحرضون عليهم، وهذا واضح بمجرد النظر إلى طريقة الخطاب الإعلامي الذي يتناول أخبار السوريين في الصحف الإسلامية وفي الصحف الكمالية. وقد يعود سبب هذا الاستقطاب إلى أن معظم اللاجئين القادمين هم من السنّة المحافظين نسبياً مقارنة بالمجتمع التركي، وإلى أن حكومة حزب العدالة والتنمية تدخلت بشكل مباشر في القضية السورية وفتحت الباب على مصراعيه أمام اللاجئين في السنوات الأولى من الثورة، وتلومها الأحزاب الكمالية على أن سياساتها “الخاطئة” في سوريا كانت السبب بأزمة اللاجئين هذه[116].
أما عند النظر إلى محور الأتراك – (الأكراد + الأقليات) فيُرى أن الأكراد ومنسوبي الأقليات العرقية الأخرى في معظمهم يقفون إلى جانب اللاجئين السوريين، ويقوم ساستهم بنشر الانتهاكات التي تحدث ضد السوريين بشكل مستمر[117]، فيما يكون جزء كبير من الأتراك (ذوي التوجه القومي) معارضين لقدوم اللاجئين ويحرّضون ضدهم. وقد يكون سبب هذه المواقف أن الأكراد تعرضوا سابقاً لعنصرية وتهميش من قبل الساسة القوميين الأتراك؛ لذا يعرفون المشكلات التي يعاني منها السوريون جيداً، ويعملون على حلّها بشكل يساعد في حل قضاياهم الداخلية أيضاً. بينما تتهم الأحزاب القومية الأكراد بأنهم يعملون على إبقاء اللاجئين في تركيا لتسهيل عمل التغيير الديمغرافي في سوريا وإنشاء دولة كردية في شرقها، ولإحداث القلاقل ضد الدولة التركية[118].
وعند النظر من محور السنّة – العلويين نجد أن السنّة في معظمهم يميلون لدعم اللاجئين والتعاطف معهم، فيما يبرز من بين العلويين أشخاص عُرِفوا بتحريضهم الدائم والمستمر ضد اللاجئين، ويعود السبب الرئيس لهذه المواقف إلى أن معظم اللاجئين السوريين سنّة، ويقيم بعضهم في مناطق يشكّل العلويون نسبة كبيرة من سكانها، مثل ولاية هاتاي. إضافة إلى وقوف جزء من أتباع الطائفة العلوية في تركيا مع نظام الأسد “العلوي” ضد الثورة السورية، في الوقت الذي يشكل المعارضون لنظام الأسد الأغلبية بين السوريين الموجودين في تركيا[119].
وبالنظر إلى الاستقطاب حول قضايا النساء نرى أن العديد من الجمعيات النسوية ذات التوجه اليساري تقف مع اللاجئين وقضاياهم بقوة[120] أسوة بموقف الحركة النسوية عالمياً، التي تسعى إلى بناء التحالفات والشراكات مع مختلف الشرائح ذات القضايا الحقوقية أو الاجتماعية أو السياسية، وفي المقابل تقف بعض الأحزاب المحافظة أو لنقل “المعادية للفكر للنسوي”، مثل حزب الرفاه الجديد، موقفاً سلبياً تجاه اللاجئين وقضاياهم[121].
ودخلت قضية السوريين أيضاً في الساحة الرياضية؛ إذ هتفت جماهير فنار بهتشه وبشكتاش وغلطة سراي هتافات معادية للاجئين في عدد من المباريات والمسيرات[122]، كما انتشرت أيضًا مقاطع لأعضاء في ألتراس بشكتاش (تشارشي) المعروف بتوجهاته القومية العلمانية وهم يهتفون ضد السوريين في مناطق الزلزال أثناء أعمال البحث والإنقاذ[123].
خاتمة:
ليست قضايا اللاجئين والتحريض ضدهم مجرد حدث عابر غير مرتبط بطبيعة المجتمع التركي وفئاته المختلفة، ولا يمكن فصل هذه المسألة عن المسائل الأخرى التي تشكّل أزمة داخل المجتمع التركي؛ فمن الطبيعي أن يدخل اللاجئون السوريون ضمن الاستقطاب الداخلي الذي يتفاقم عند حدوث استحقاقات سياسية أو مع الأزمات الاقتصادية.
ومن الواضح أن حالة التنوّع العرقي والثقافي والديني والاتجاهات السياسية المختلفة تفرض تحديات جدّيّة على الحكومات التركية لإدارة هذا التنوع واحتوائه، وتصبح هذه التحديات أصعب في حال وجود جهات خارجية تسعى إلى إذكاء الخلاف وتأجيجه.
وإضافة إلى ذلك، لا يمكن التعامل مع مشكلات السوريين في تركيا بشكل منفصل عن هذه الاستقطابات، ولا يمكن حلها بشكل جذريّ دون إيجاد حلّ لها في تركيا، حيث يعود تاريخها إلى مئة سنة أو أكثر؛ لذا فمن المهم أن يسهم السوريون في مجتمعهم الجديد في تركيا بتخفيف هذه الاستقطابات، وأن يتعاونوا مع أقرانهم داخل المجتمع التركي بمختلف فئاتهم على إيجاد حلول لهذه المشكلات المزمنة، لاسيما تلك المتعلقة بوجودهم، بشكل يساعد في النهاية على حل مشكلاتهم بشكل أفضل.
كما يبدو من الضروري التفاعل مع الحالة التركية واستخلاص الدروس منها والتعلم من التجربة الحية؛ فهذه الاستقطابات الداخلية والتجاذبات الفكرية والمناطقية معروفة في العديد من المجتمعات، خاصة المجتمعات العربية، ومن الضروري وضع رؤية وتصورات لكيفية التعاطي معها مستقبلاً، وتحويلها من حالة توترات داخلية تهدّد السلم الأهلي إلى حالة من التوافق والتفاعل الثقافي والحضاري الذي تشارك فيه كل المكونات وكل الأطياف.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري