نظرة على تطورات القضية الكردية في تركيا وتداعياتها المحتملة على المشهد السوري
مقدمة:
تُعد القضية الكردية من أكثر القضايا تعقيداً في المنطقة، بأبعادها الممتدة وتأثيراتها العابرة للحدود؛ فهي وإن كان مركزها في تركيا، حيث اعتُبرت لفترات طويلة مشكلة داخلية نتيجة الصراع لعقود بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي يدعي أنه يسعى للحصول على حقوق قومية للأكراد في تركيا؛ فإن هذا الصراع لم يبقَ حبيس الحدود التركية، وإنما امتد إلى دول الجوار، مما أضاف أبعاداً جديدة للمسألة الكردية في الساحة الإقليمية.
مع اندلاع الثورة السورية وتصاعد الصراع وتعقُّد المشهد برزت القضية الكردية في سوريا بأبعاد جديدة؛ إذ أصبح حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) -الذي يُعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني- لاعباً محلياً رئيسياً، إذ تمكن الحزب من فرض سيطرته على مناطق واسعة في شمال شرق سوريا تحت غطاء مسمى جديد “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، ويضم تحالفاً فضفاضاً يشكّل الحزب نواته الصلبة، وتلك المناطق غنية بالثروات النفطية والزراعية، مما عزّز من نفوذه الاستراتيجي. وقد حظي هذا التوسع بدعم دولي قوي؛ فقدّمت الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف الدولي دعماً عسكرياً ولوجستياً للحزب تحت غطاء “قسد” في الحرب ضد تنظيم “داعش”[1].
منح هذا الدعم حزب الاتحاد الديمقراطي ثقلاً إضافياً في الساحة السورية؛ مما أضاف تعقيدات جديدة على العلاقة بين الأكراد والدولة التركية، التي ترى في الحزب تهديداً لأمنها القومي بسبب علاقاته الوثيقة بحزب العمال الكردستاني المصنَّف في تركيا منظمة إرهابية.
وبما أن المسألة تتعلق بسوريا أيضاً فمن المفيد إلقاء نظرة على تطورات هذه القضية وتأثيراتها المحتملة في المشهد السوري، لاسيما عند حدوث تطورات لافتة، مثل التغيرات في موقف حزب الحركة القومية التركي ومبادرة زعيمه دولت بهجلي.
مبادرة زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي:
تصاعد الحديث في الآونة الأخيرة حول مبادرة لافتة من زعيم حزب الحركة القومية في تركيا “دولت بهجلي”؛ دعا فيها إلى إتاحة الفرصة لزعيم حزب العمال الكردستاني “عبد الله أوجلان” لإلقاء خطاب أمام البرلمان التركي لإعلان إنهاء العنف وحل الحزب، وهو ما وصفه البعض بمبادرة تاريخية. وتأتي دعوة بهجلي بعد أن صافحَ نواب حزب الشعوب الديمقراطي -وهو الحزب المحسوب على الأكراد- على غير عادته. وتكتسب هذه المبادرة أهمية خاصة؛ لأنها تصدر عن شخصية بارزة ورمزية ضمن التيار القومي التركي، عُرف بمواقفه المتشددة، إذ كان يعدّ الأحزاب والشخصيات الكردية الممثلة في البرلمان التركي “إرهابية”[2].
يجدر بالذكر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أيّد هذه الدعوة؛ مما قد يشير إلى وجود تنسيق مسبق داخل “تحالف الجمهور”، الذي يضم الحزب الحاكم (حزب العدالة والتنمية) وحزب الحركة القومية، إضافة إلى أحزاباً صغيرة كحزب الدعوة وحزب تركيا الكبير.
الدوافع المحتملة للمبادرة:
مع استمرار الإدارة الأمريكية في دعم “قسد” وزيادة هذا الدعم مؤخراً[3] يتزايد لدى تركيا الشعور بتصاعد خطر انفصال جزء من سوريا، لاسيما إذا زاد الدعم واستمر لفترة طويلة، وهو احتمال يترجح باحتمال قدوم إدارة ديمقراطية أمريكية جديدة.[4] يترافق هذا الشعور مع تكريس “الأمر الواقع” الذي يفرضه نفوذ “قسد” في شمال شرق سوريا.
إضافة إلى ذلك فإن توسع الضربات “الإسرائيلية” ضد “حزب الله” ومليشيات إيران في المنطقة وتوغُّل الجيش “الإسرائيلي” في منطقة القنيطرة يشكّل مصدر قلق إضافي لدى تركيا، وقد برز هذا القلق في تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لاسيما مع وجود تقارير تشير إلى علاقات وثيقة بين “قسد” و”إسرائيل”؛ مما يرفع درجة التنبيه الأمني لدى تركيا.
هذه المعطيات الأمنية والعسكرية قد تكون الدافع الرئيس وراء المبادرة التركية، بهدف مواجهة التهديدات المحتملة وتأمين مصالح تركيا في المنطقة[5].
جدوى المبادرة وتأثيراتها المحتملة:
يمكن محاولة استشراف مآلات هذا التغير من خلال متابعة تسلسل الأحداث بعده؛ ففي اليوم التالي لتصريح دولت بهجلي تم ترتيب لقاء بين “عبد الله أوجلان” المحتجز في سجن إيمرالي وابن أخيه النائب في حزب الشعوب الديمقراطي “عمر أوجلان”، وخلال اللقاء أرسل أوجلان عبر ابن أخيه عن ردّه على اقتراح بهجلي قائلاً: “العزلة ما زالت قائمة؛ لكن إذا توفرت الظروف فإنني أملك القدرة النظرية والعملية لنقل هذا المسار من أرضية الصراع والعنف إلى أرضية قانونية وسياسية”؛ فأضافت هذه التطورات المفاجئة زخماً جديداً للتصريحات التي أدلى بها بهجلي[6].
وبحسب بعض المحللين فإن بعض الأعضاء في حزب العمال الكردستاني أشاروا إلى أنهم “سيقبلون بالمبادرة إذا وافق عليها عبد الله أوجلان”. أما حزب الشعوب الديمقراطي الحزب الكردي الممثل في البرلمان التركي فقد أعلن دعمه لاقتراح بهجلي، لكنه تراجع فيما بعد ببيان معقد يعارضه؛ مما يعكس حالة التردد التي يعيشها الحزب، فبدا وكأنه يحاول إمساك العصا من منتصفها؛ فالرفض يعني معارضة توجُّه أوجلان واستمرار عزله، بينما يعني القَبول التصعيد مع حزب العمال وقيادته في قنديل[7].
يمتلك عبد الله أوجلان تأثيراً كبيراً نابعاً من شخصيته الرمزية؛ إلا أن مدى تأثيره في الجناح الأمني والعسكري المتمثل بقيادة قنديل يبقى موضع تساؤل وشك، وبشكلٍ موازٍ قد يكون تأثيره في “قسد” محدوداً.[8]
يمكن قراءة العملية الإرهابية في أنقرة[9] نوعاً من الرد غير المباشر من قبل الأجنحة العسكرية لحزب العمال الكردستاني[10]، خاصة جناح قنديل الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع إيران[11]؛ وقد تكون لإيران يد خفية أو تأثير في حدوث هذه العملية[12]، وهو ما يشير إلى وجود تأثيرات خارجية محتملة عديدة يمكن أن تلعب دوراً سلبياً في الاستجابة للمبادرة.
يُضاف إلى ذلك أنّ المبادرة ما زالت في مراحلها الأولى، ولم تتضح معالمها بالكامل بعد، وهي بحاجة إلى بناء تدريجي؛ ولكن يمكن اعتبارها بداية لمحطة تحوُّل قابل للتطوير على المدى الطويل.
عموماً يمكن القول إن تأثير مليشيا حزب العمال الكردستاني في “قسد” قد يشكل عاملاً جوهرياً في تشكيل سياساتها وتحركاتها المقبلة في ظل التطورات الأخيرة، فرغم أن “قسد” التي تتكون من تحالف واسع يضم مكونات متعددة، إلا أن البنية التنظيمية للحزب التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي، تظل مستوحاة من حزب العمال الكردستاني وتدور في فلكه إلى حد كبير.
مع ذلك، قد يكون لدى “قسد” بعض الهوامش التي تتيح لها المناورة في حال قرر عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، الانخراط في مسار الحل وفق مبادرة الدولة التركية التي تشمل دعوته إلى إعلان التخلي عن العنف، ففي حال تم تفعيل هذا الخيار، فمن المحتمل أن تستخدم “قسد” هذا الهامش لاتباع استراتيجيات تحاول إبقاء دورها فاعلاً في المنطقة خاصة في ظل الدعم الأمريكي المبرر بالحرب المستمرة ضد داعش، وهو سبب يعطي “قسد” وقتاً أطول للبقاء في ظل عدم القدرة على إنهاء فلول التنظيم ضمن البادية والمخاوف الغربية من عودته مجدداً.
خاتمة:
بعد اندلاع الثورة السورية تسارعت التطورات المتعلقة بالقضية الكردية؛ فقد أدى صعود حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا إلى شعوره بالقوة، مما انعكس على شكل العودة إلى العمل المسلح لحزب العمال الكردستاني في تركيا عام [13]2015، وقد أدى ذلك إلى تدخل حاسم للجيش التركي في المدن ذات الأغلبية الكردية في جنوب شرق تركيا، وأسهم ذلك في صعود التيار القومي التركي. ويمكن ملاحظة تأثير “الدومينو” أو “العدوى” هنا؛ إذ أدى ذلك بدوره إلى تصاعد الخطاب القومي الكردي في العراق، مما شجّع إقليم كردستان على المطالبة بالاستقلال، وهو ما أثار توتراً في العلاقات بين إقليم كردستان وتركيا، التي كانت تُعرف عادةً بعلاقات جيدة ومستقرة.[14]
تمتلك مبادرة بهجلي هنا أهمية خاصة بالتأكيد؛ إذ قد تشكل نقطة بداية لإحداث تأثير معاكس للمسار السابق، حيث يمكن لحل القضية الكردية في تركيا أن يسهم في تعزيز السلم المجتمعي في عموم المنطقة[15]، بما في ذلك سوريا. وفي هذا السياق من المهم الإشارة إلى ضرورة العمل على تحسين السياسات المتعلقة بهذا الشأن في مناطق النفوذ التركي في سوريا، مثل منطقة عفرين، والاستجابة لدعوات المصلحين الذين يطالبون برفع المظالم ومنع بعض الفصائل من تجاوزاتها ضد أي مكوّن -خاصة المكون الكردي- بحجة الانتماء لحزب العمال الكردستاني. وتمتد هذه الدعوات لتشمل التحالف الدولي، وهو المسؤول بدرجة كبيرة عن انتهاكات “قسد” في مناطق سيطرتها بحق مختلف المكونات -خاصة المكوّن العربي- التي زادت وتيرتها في الفترة الأخيرة.
- ماذا تعني تصريحات بهجلي بشأن أوجلان؟ بيراك جونغور وكايهان أيهان، دويتشه فيله التركية، 22/10/2024، الرابط.
- ردود الأفعال الأولى على دعوة بهجلي لأوجلان، دويتشه فيله التركية، 22/10/2024، الرابط.
- تصريحات بهجلي: “على أوجلان إعلان نهاية الإرهاب وحل التنظيم”، خبر ترك، 22/10/2024، الرابط.
- كيف كانت ردود الأفعال السياسية على دعوة بهجلي لأوجلان؟ بي بي سي التركية، 22/10/2024، الرابط.
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،