
الحق في معرفة الحقيقة كأساس للعدالة في القانون الدولي والأسئلة الرئيسة في سوريا
تعتمد الأنظمة الاستبدادية والقمعية عادة على إخفاء الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق شعوبها، ولذلك تُركّز على طمس الحقائق أو التلاعب بها على أقل تقدير. بالتوازي؛ تهتم هذه النظم بإعادة كتابة التاريخ والأحداث بطريقة تجعل تصرُّفاتها مشروعة، ولذلك فإن الإخفاء والكتمان والضبابية بما يتصل بقضايا الإنسان والمال العام والسلطة العامة تعد حوامل رئيسة للأنظمة القمعية المستبدة، وهو ما يستمر حتى بعد التخلُّص منها، حيث تبقى الكثير من القضايا عالقة وتحتاج لمعرفة حقيقتها.
بناءً على ذلك، تحوّل مفهوم معرفة الحقيقة إلى أحد الحقوق الرئيسة التي يجب ضمانها في نطاق العدالة الانتقالية، حيث يُعرف بأنه قدرة ضحايا وذوي ضحايا الانتهاكات على معرفة حقيقة ما جرى، إضافة إلى مرتكبي الانتهاكات ومصير المختفين قسراً.
على مستوى القانون الدولي أصبح هذا الحق مفهوماً قانونياً وأخذ منحى تصاعدياً زمنياً وموضوعياً خلال العقود الماضية؛ ففي المرحلة الأولى ارتبط المفهوم بشكل رئيس بكشف مصير المفقودين والمختفين قسراً، ومع تجارب العدالة الانتقالية المختلفة توسّع مفهوم الحق ليشمل كافة الانتهاكات كالإعدامات والتعذيب، على سبيل المثال توجّهت لجنة حقوق الإنسان لحث الدول الأطراف في العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية على ضمان حق الضحايا في معرفة الحقيقة ومعرفة مرتكبي هذه الأفعال.
عملياً، فقد سعت المؤسسات الدولية لترسيخ مفهوم هذا الحق بطرق شتى؛ منها قرار الأمم المتحدة عام 2010 باعتماد يوم عالمي باسم الحق في معرفة الحقيقة بغية تكريم ذكرى الضحايا وتشجيع الحق في العدالة، كما اعتمد مجلس حقوق الإنسان قراراً اعتمد بموجبه تعيين مقرر خاص معني بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار.
وعلى الرغم من غياب اتفاقية دولية محدّدة ومخصّصة للحق في معرفة الحقيقة أصبح يعترف وعلى نطاق واسع في القانون الدولي سواء عبر الصكوك الدولية أو اجتهادات القضاء الدولي وقرارات الهيئات الدولية، وعلى المستويين العالمي والإقليمي بأن الحق في معرفة الحقيقة بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هو أحد حقوق الإنسان وأنه يمثل حقاً مستقلاً، وأنه حق غير قابل للتصرف، بمعنى أنه حقٌ جماعي لكـل شعب في معرفة الحقيقة عن الأحداث الماضية المتعلقة بارتكاب جرائم شنيعة وعن الظروف والأسباب التي أفضت إلى ارتكابها، وأنه أساس لما بات يُعرف بواجب عدم النسيان والذي يعني أن معرفة الشعب لتاريخ اضطهاده جزء من إرثه الذي يجب حفظه بتدابير عديدة كتدابير حفظ الذاكرة الوطنية.
في سوريا وبعد إسقاط نظام الأسد البائد يوم 8 كانون الأول 2024، وتطلُّع الشعب السوري لليوم الذي تتحقق فيه العدالة في حق كل من أجرم بحقه بوسائل عدة يأتي في مقدمتها الكشف عن الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد البائد ومرتكبيها، وبما يحقق استقراراً لسوريا الجديدة التي لا تتكرر فيها المآسي ويتحقق في ظلها استقرار مجتمعي، تبرز قضية إعمال الحق في معرفة الحقيقة كأحد القضايا الرئيسة التي تشكل أساساً للعدالة، وذلك لمجموعة من الأسباب يمكن إجمالها بخمس نقاط رئيسة؛ وهي:
- يتطلب الكشف عن الحقيقة في سوريا بخصوص المختفين قسراً على سبيل المثال، خطوات متعددة ومساراً طويلاً خصوصاً أن الأعداد الكلية ما تزال مجهولة، وكذلك تفاصيلهم المرتبطة بتحديد ظروف الوفاة وأماكن الدفن …إلخ.
- كذلك يتطلب التأسيس لجبر الضرر وسبل الإنصاف الأخرى قائمة نهائية للضحايا المباشرين وغير المباشرين لشتى أنواع الانتهاكات التي يتم تحديدها مثل القتل والتعذيب والاعتقال ونهب المال العام.. الخ؛ فمن دون هذه القوائم لا يمكن التخطيط لعمليات جبر الضرر وتحديد مستوياتها وفئاتها.
- متطلبات المساءلة القضائية وغير القضائية: فمع تحديد أسماء المتورطين بارتكاب الانتهاكات الجسيمة يمكن الشروع في إطلاق محاكمات قضائية، يكون إلى جانبها إجراءات غير قضائية مثل: العزل السياسي والطرد من الوظائف العامة، إلا أن هذه الإجراءات تحتاج أن تكون تحت رقابة القضاء، وهو ما يتطلب كشف الحقائق وإعداد الملفات حول الأسباب الموجبة للمساءلة غير القضائية، وهو ما يكفل تحصين هذه العملية.
- متطلّبات الإصلاح المؤسساتي والقانوني: إصلاح المؤسسات التي ارتكبت الانتهاكات بحق السوريين مثل المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية وحتى التعليمية والمالية ..إلخ، يتطلب خطوات سابقة تغوص في أسباب هذه الانتهاكات وجذورها، بما يعنيه ذلك من كشف للحقائق ومعرفة بجذور ومسبّبات هذه الانتهاكات.
- متطلّبات حسم الرواية الرسمية والتاريخية؛ حيث يتطلب التفكير في بناء سوريا جديدة فعلياً بحفظ ذاكرتها الوطنية ومنع التحريف والتزوير الذي رافق أصلاً سرديات الصراع بين الثورة ونظام الأسد البائد، حيث ما تزال هنالك جهود من قبل عدة لوبيات ومؤسسات وشخصيات إعلامية وفنية لتشويه الحقائق وتزويرها عبر التشكيك في جميع جرائم نظام الأسد التي ارتكبها بحق السوريين، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن دور سوريا في الحضارة الإنسانية يتطلب مشاركة واضحة للحقائق كاملة حتى تستفيد الشعوب الأخرى من الحالة السورية.
إذا كانت الأسباب السابقة تؤكد على أهمية إطلاق إعمال الحق في معرفة الحقيقة في سوريا، فإنه بالمقابل، هنالك أسئلة حول آليات إعمال هذا الحق وتوقيتها.
في الجانب الأول؛ تشير تجارب عشرات الدول من أوغندا والأرجنتين وتشيلي في الثمانينات وصولاً لهيئة الحقيقة في ساحل العاج والبرازيل وتونس في العقد الماضي إلى تشكيل هيئات الحقيقة التي تُعدّ المؤسسة المعنيّة بإعمال هذا الحق، وهي: هيئة رسمية غير قضائية ومؤقتة وتحوز على طبيعة قانونية خاصة وتقوم بتحريات موسعة في انتهاكات حقوق الإنسان والقضايا الوطنية الكبرى، وتُقدّم خلاصات عملها عادة في تقارير نهائية ضخمة لا تكتفي بتوصيف ما حدث فقط، بل تُقدّم مدخلات أساسية للبرامج الحكومية اللاحقة في شتى آليات العدالة الانتقالية، في حين يحتاج البحث في قواعد إنشاء الهيئة ونظامها واختصاصاتها وأنشطتها الرئيسة لتوسُّع خاص في الحالة السورية.
أما الجانب الثاني المرتبط بسؤال متى؟ فيمكن التأكيد بداية بأن الحالة السورية والتي شهدت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وملفات عالقة كبرى في ضمير السوريين والسوريات تحتاج للمسارعة في إعمال الحق في معرفة الحقيقة وخاصة بعد التأسيس الدستوري لهذا المسار. لكن في المقابل هنالك ربما معيقات مرتبطة بالسياق الموضوعي الحالي قد تؤخّر إنجاز هذه المهمة بأسرع وقت ممكن، مثل: انتظار استكمال بناء القوة العسكرية والأمنية، والاضطرابات العسكرية والسياسية التي تحدث بين الفينة والأخرى في مناطق شمال شرق سوريا وغربها وجنوبها. كل ذلك يجعل من تحسُّن الأوضاع الأمنية والعسكرية شرطاً لازماً للمضي بمسار العدالة الانتقالية عموماً وإعمال الحق في الحقيقة على وجه الخصوص؛ إلا أن ذلك لا يمنع بدء الأعمال التحضيرية، وتأكيد السلطة الانتقالية بوسائل متعدّدة على أن الحق في معرفة الحقيقة سيكون أساساً للعدالة والسلام المستدام في سوريا، مثل الإجراءات الاحترازية الإدارية والبدء بمشاورات موسّعة حول الرؤية الخاصة بهذا المسار.
باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية