مقالات الرأي

مشروعية العمل السياسي في المرحلة الانتقالية: بين النصوص الدستورية وضرورات الواقع

أثارت تصريحات السيد رئيس الجمهورية الأخيرة حول طبيعة العمل السياسي في المرحلة الانتقالية نقاشاً واسعاً في الأوساط السورية، فبين من يرى أن أيّ نشاط حزبي أو سياسي يجب أن يُعلَّق حتى صدور قانون جديد للأحزاب، ومن يعتبر أن الحقوق الدستورية نافذة بذاتها ولا تحتاج إلى انتظار، يبقى السؤال مُعلَّقاً: هل يمكن ممارسة السياسة في ظل فراغ تشريعي؟ أم إن شرعية الممارسة السياسية لا تكتمل إلا بوجود قانون ناظم؟

بين الواقع السوري والنصوص الدستورية والدولية الناظمة للعمل السياسي:

بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011 شهدت الساحة السورية تشكيل مئات المنتديات والأحزاب والتيارات السياسية، كما مارس السوريون في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد البائد غالبية صور العمل السياسي من تشكيل النقابات وتوقيع العرائض والانتخابات المحلية غير المباشرة. ليستمر مشهد حرية ممارسة العمل السياسي بعد سقوط نظام الأسد البائد من تشكيل للنقابات -ولو من خلال التعيين-   وتحالفات وشبكات مجتمع مدني، والدعوة لتوقيع العرائض والمشاركة في الفعاليات العامة و”الترشح غير المباشر” للمناصب السياسية والإدارية والوقفات الاحتجاجية على بعض القرارات. كل ذلك إلى جانب ما جاء في بيان النصر بتاريخ 29/1/2025 الذي نصّ على حل حزب البعث العربي الاشتراكي والأحزاب الأعضاء في الجبهة الوطنية التقدمية.

هذا المشهد لم يتغيّر مع صدور الإعلان الدستوري بتاريخ 13/3/2025، الذي أكّد في المادة (12) على أن جميع الحقوق الواردة في المواثيق الدولية التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية جزء لا يتجزأ من هذا الإعلان، وفي المادة (14) على صون الدولة حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية وفقاً لقانون جديد.

في السياق الدولي، أقرّ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في مادته الـ (25) حق كل مواطن في المشاركة في الشأن العام، والترشّح والانتخاب، وتقلُّد المناصب العامة دون قيود غير معقولة، كما نصّ الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في المادة (5) على منع أي دولة من فرض قيود إضافية على الحقوق الأساسية بحجة عدم وجود نص داخلي يُنظّمها.

يشير الواقع السوري الحالي إلى أن العمل والنشاط السياسي في سوريا لم يتوقّف بعد صدور الإعلان الدستوري، وإن كان الشكل القانوني الأهم والأبرز المتمثل في قانون الأحزاب لم يصدر بعد، الأمر الذي أعاد سؤال شرعية تشكيل الأحزاب وممارسة نشاطها إلى الواجهة في ظل النصوص السابقة.

الاتجاهات الفقهية والقضائية:

خلال النقاش الفقهي والقضائي حول مسألة تعليق الحقوق الدستورية على صدور قانون يُنظّمها، برزت ثلاثة اتجاهات رئيسة؛ الأول يرى أن النص الدستوري لا يكفي بذاته وأن ممارسة الحق مرهونة بصدور القانون، كما هو الحال في الانتخابات التي تحتاج لقانون يحدد الدوائر والإجراءات، وهو اتجاه يفضي إلى إبقاء الحق مُعلّقاً ريثما يصدر التشريع الذي يُنظّم إعماله.

 أما الاتجاه الثاني فيؤكد أن الحقوق الدستورية نافذة مباشرة، وأن عبارة “يُنظّمها القانون” أو “وفقاً لقانون جديد” تعني مجرد وضع التفاصيل الإجرائية، وبالتالي لا يجوز تعطيل الحق بسبب تأخّر المشرّع في إصدار التشريعات اللازمة لممارسة الحق.

 بينما الاتجاه التوفيقي يُميّز بين الحقوق القابلة للممارسة فوراً كالحق في حرية الرأي والتجمع، فهذه يمكن ممارستها من دون انتظار صدور تشريع يُنظّمها على اعتبار أن النص الدستوري بحدّ ذاته يُعدّ كافياً لتنظيمها، وبين تلك التي تستلزم تشريعاً لممارستها وتوضيح آثارها القانونية، مثل: قوانين الانتخاب وتشكيل الأحزاب، وفي هذه الحالة يُعدّ وجود القانون شرطاً لممارسة الحق.

ما الحل في سوريا؟

في السياق السوري، قد يكون من المفيد تبنّي مقاربة مزدوجة أو الاتجاه التوفيقي، فتكون ممارسة النشاط السياسي متاحة بضمانة المادة (12) من الإعلان الدستوري التي ألزمت الدولة بضمان ممارسة النشاط السياسي من حيث الأصل، فتكون إقامة الندوات وحضورها ومخاطبة الرأي العام والتوقيع على العرائض والترشيح للمناصب العامة، وخوض النقاشات العامة بين المهتمين بالشأن العام؛ سواء في الفضاء العام الافتراضي أو الفعلي  مضمونة، ولا تحتاج ممارستها لإصدار قانون جديد للأحزاب بحسبان أن ذلك هو بمثابة تهيئة الأرضية السياسية والاجتماعية لتشكيل الأحزاب والتيارات السياسية، أما تشكيل الأحزاب السياسية فهو يحتاج إلى إطار قانوني يُحدّد إجراءات التأسيس والتمويل والرقابة، ما يجعله عملياً معلّقاً حتى صدور القانون الجديد للأحزاب، وهذا حقّ حصرته المادة (12) بالمجلس التشريعي الذي تعود له السلطة التقديرية في تقدير الوقت الملائم لصدور هذا القانون أثناء المرحلة الانتقالية المحددة بمدة خمس سنوات.

 ونرى في هذا الإطار أن يضع مجلس الشعب القادم فترة مستهدفة أولية مدّتها سنة من تاريخ تشكيله لتقدير ملائمة صدور قانون الأحزاب الجديد، خصوصاً أنه خلال هذه الفترة يفترض أن يكون قد استكملت البيئة القانونية والهيكلية لمؤسسات الدولة، ويكون هنالك نقاش عام مفتوح وشفاف مع مختلف القوى السياسية حول ملائمة/عدم ملائمة صدور قانون الأحزاب، بحيث يكون الرأي العام هو الرقيب على مدى التزام مجلس الشعب القادم بمسؤولياته في هذا الإطار.

مع الإشارة إلى أن عدم إصدار قانون جديد للأحزاب من قبل مجلس الشعب القادم أو ما يُسمّيه الفقه القانوني حالة “الإغفال التشريعي الكلي” يُمثّل إخلالاً بواجب ألقاه الإعلان الدستوري على المجلس المرتقب، مع العلم أن هذه الحالة ليست محلاً لرقابة القضاء الدستوري في الكثير من النُّظم الدستورية العربية منها وحتى الأجنبية، وحتى تلك النُّظم التي تراقبه فإنها لا تصل في مداها إلى ما هو أكثر من المناشدة أو الدعوة إلى ملء الفراغ التشريعي باستثناء القلة النادرة التي أعطي فيها القضاء الدستوري سلطة إلزام السلطة التشريعية بملئه كما هو الحال في دستور جنوب إفريقيا.

قياساً على ذلك، لا نعتقد أن المحكمة الدستورية العليا في سوريا (التي لم تتشكّل حتى الآن) في صدد مد رقابتها على مدى دستورية امتناع مجلس الشعب عن القيام بهذا الواجب الدستوري نظراً لتغليب الفقه والقضاء الدستوريين العربيين عدم اختصاص القضاء الدستوري بممارسة هذا النوع من الرقابة على اعتبارها تُمثّل تعدّياً قضائياً على اختصاص السلطة التشريعية، مع التأكيد في الوقت نفسه على وجود الرقابة السياسية متمثلة بالرأي العام الذي يفترض أن يضغط بمختلف الوسائل المشروعة لإلزام المشرّع على القيام بواجب ألقاه عليه الإعلان الدستوري.

ختاماً، لا ينبغي أن يكون سياق المرحلة الانتقالية مبرراً لتعطيل الحقوق السياسية، بل فرصة لتأسيس تقاليد جديدة للانخراط في الشأن العام وتفعيل الفضاء العام السياسي. صحيح أن التشريعات مهمة لضبط الإطار المؤسسي، لكن السياسة أوسع من النصوص، وهي ممارسة يومية ووعي مجتمعي قبل أن تؤطر وفقاً لقواعد قانونية، لذلك فالمطلوب الآن المسارعة إلى اقتحام السياسة بمعناها الواسع، وتفعيل أدوات الرأي العام الذي يجب أن يمارس رقابته على مجلس الشعب القادم في ممارسة اختصاصه بإصدار قانون أحزاب جديد، يُكرّس التعددية ويمنع تكرار مآسي الماضي، عندها فقط يمكن القول إن سوريا تسير فعلاً نحو تعددية سياسية مكرّسة قانوناً ومحترمة تطبيقاً وراسخة في الوعي السياسي السوري، بما يُشكّل أحد الضمانات الحقيقية لعدم عودة “الحزب الواحد” التي دفع السوريون أثماناً باهظة من دمائهم وأموالهم لطيّها إلى غير رجعة.

مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وحائز على اعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل سابقاً مدرساً في كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة. يركز في أبحاثه الحالية على دراسة ديناميكيات العلاقة بين المجتمع السوري والنصوص القانونية والدستورية منها على وجه التحديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى