التقارير الموضوعيةوحدة تحليل السياسات

تجنيس المقاتلين والناشطين الأجانب وعائلاتهم في سوريا: ضرورة الموازنة الدقيقة لاعتبارات عديدة

تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري

ملخّص:

يتناول هذا التقرير أحد أعقد ملفات المرحلة الانتقالية في سوريا: تجنيس المقاتلين والناشطين الأجانب وعائلاتهم. ينطلق من عريضةٍ تطالب بالتجنيس، ويرصد التحدّيات في تقاطعات الأمن والسياسة والإنسان، مع قراءة لمواقف القوى الإقليمية والدولية، واستخلاص دروس من تجارب مقارنة (البوسنة وأوكرانيا).

يخلص التقرير إلى أن مسارات الحلول المطلقة، كالتجنيس الشامل الفوري أو الرفض المطلق مع الترحيل غير واقعية، وخطِرة سياسيًا ومجتمعيًا، ولا تتناسب مع ثقافة وسمعة المجتمع السوري، ويُرجّح التقرير تسوية تدمج بين التدرُّج للوصول إلى حلول مستدامة مع إيجاد حلول مؤقتة ناجعة، تقوم على إخراج الجميع من الفراغ القانوني عبر إقامات نظامية مؤقتة، يليها تقييم فردي شفّاف خلال مدى زمني بين عامين وخمسة أعوام، ومنح الجنسية على دفعات لمن يثبت استحقاقه أمنًا وسلوكًا واندماجًا.

يمنح المسار أولوية مطلقة لحقوق الأطفال ومنع انعدام الجنسية لهم، ويقترح تعديلًا دقيقًا لقانون الجنسية يتيح للأم السورية نقل جنسيتها في الحالات اللازمة، ويدعو التقرير إلى حوكمة رشيدة للمسار من خلال لجنة وطنية مستقلة، ومعايير منشورة، وإجراءات شفّافة عادلة تتضمن حق التظلّم والاستئناف، بالتوازي مع حوارات داخلية تبرز قصص النجاح وتنزع التوتر، ومع تنسيق خارجي يُراعي مصالح وأمن القوى الدولية والإقليمية.

مقدّمة:

قدّم الصحفي المقيم في سوريا بلال عبد الكريم في آب/أغسطس الماضي عريضة إلى وزارة الداخلية السورية تطالب بمنح المقاتلين الأجانب الجنسية السورية، باعتبار أنهم “استحقوها بعد مشاركتهم في تحرير البلاد”[1]، ويشمل ذلك آلاف الأجانب من أكثر من عشر جنسيات، منهم مصريون وسعوديون ولبنانيون وباكستانيون وإندونيسيون وشيشان وإيغور، إضافة إلى بريطانيين وألمان وفرنسيين وأميركيين وكنديين يفتقر الكثيرون منهم إلى وثائق سفر سارية بعد أن جرّدتهم دولهم الأصلية من جنسياتهم، ويخشون التعرُّض للسجن أو حتى الإعدام إذا عادوا إلى بلدانهم[2].

في المقابل، من المحتمل أن يثير موضوع تجنيسهم حساسيات داخل سوريا وخارجها، نظرًا لوجود اتهامات بمساهمة بعضهم في أحداث عنف طائفي خلال المرحلة الانتقالية، ولتخوّف بعض القطاعات الشعبية، فضلاً عن البعض القوى الإقليمية والدولية من ولائهم لمشاريع عابرة للحدود على حساب الهوية الوطنية[3].

بناء على ما سبق، يبرز ملف تجنيس المقاتلين الأجانب وعائلاتهم كأحد التحديات السياسية والقانونية والاجتماعية الملحة في سوريا الجديدة.

نطرح في هذا التقرير عدداً من الأسئلة: ما الأبعاد السياسية والأمنية والمجتمعية لدمج المقاتلين الأجانب داخل مؤسسات الدولة الجديدة؟ وكيف يمكن ضبط التجنيس بما يحفظ سيادة القانون ويمنع القرارات المتسرعة المرتجلة؟ وكيف تنعكس الخيارات المختلفة على شرعية الحكومة الانتقالية وثقة المجتمع بها؟ وما مواقف القوى الإقليمية والدولية من المسألة؟ وكيف يمكن إدارة المسألة دون انعكاسات سلبية على الاستقرار الداخلي والوحدة الوطنية والمجتمعية؟

وتنبثق عن هذه الأسئلة محاور فرعية: ما الحلول العاجلة لمنع انعدام الجنسية لدى الأطفال؟ وما الدروس المستفادة من تجارب مقارنة في دول أخرى؟

يكتسب تناول هذه المسألة أهمّيته باعتباره يحاول مقاربة مسألة شائكة تمس أمن المجتمع وشرعية الدولة والعلاقات الخارجية من جهة، وحماية حقوق الإنسان، خصوصًا حقوق الطفل، كما يوفّر إطارًا عمليًا لصنع سياسات قابلة للتنفيذ مع مؤشرات أداء وحوكمة واضحة.

بناء على ما سبق من أسئلة، يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء بحثياً على ملف تجنيس المقاتلين والناشطين الأجانب وعائلاتهم في سوريا، من خلال استعراض الخلفيات والظروف التي أحاطت به، وتحليل الوضع الحالي بأبعاده السياسية والقانونية والمجتمعية، وكذلك تبيان مواقف القوى الدولية والإقليمية الفاعلة حياله، كما يسعى التقرير للاستفادة من مقارنات دولية لا سيما تجارب البوسنة وأوكرانيا للخروج بدروس مستفادة، ويطرح التقرير سيناريوهات متعددة للتعامل مع الملف، مع تحليل مزايا ومخاطر كل منها، وصولًا إلى ترجيح السيناريو الأنسب لسوريا الجديدة في مرحلتها الانتقالية.

أولاً: الأبعاد السياسية والقانونية والمجتمعية لتجنيس المقاتلين الأجانب:

تمثّل المطالبة بتجنيس المقاتلين الأجانب قضية متشعّبة الأبعاد والانعكاسات؛ أبرزها السياسي والأمني، إذ قد يُنظر داخليًّا إلى التجنيس بوصفه تغييرًا ديموغرافيًّا مقصودًا أو استهدافًا لفئاتٍ وأقليّات بعينها، فضلاً عن تعقيداته مع القوى الإقليمية والدولية. ولا يقتصر الأمر على هذا البعد؛ فثمّة أبعاد قانونيّة ومؤسّسية تتعلّق بإطار التجنيس وشروطه وحوكمة قراراته، وأبعاد مجتمعيّة وإنسانيّة تزداد حساسيّة عندما يكون الحديث عن عائلاتٍ كاملة عاشت في سوريا لسنواتٍ طويلة وتحتاج إلى غطاءٍ قانوني يضمن استمرار حياتها بكرامة، غطاءٌ بات اليوم أقرب إلى ضرورة لا بدّ منها. في السطور التالية، نتناول هذه الأبعاد المختلفة ونحلّل تداعياتها ومسارات التعامل الممكنة معها.

البعد السياسي والأمني:

يشكل المقاتلون الأجانب قضية سياسية-أمنية شائكة في سوريا الجديدة. فمن جهة، تنظر الحكومة السورية الحالية إلى هؤلاء المقاتلين بوصفهم حلفاء شاركوا في إسقاط النظام البائد، وقد تم بالفعل تعيين بعضهم في مناصب عسكرية رفيعة، من بينهم مقاتلون من الأردن ومصر وتركيا[4]، بل وصرّح الرئيس السوري أحمد الشرع بأنه سيتم تكريم المقاتلين الأجانب وبحث منحهم الجنسية تقديرًا لدورهم[5]. وتقدّر التقارير وجود حوالي 10 آلاف مقاتل أجنبي في سوريا قدموا من الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا الوسطى، وكان لدعمهم العسكري دور كبير في إسقاط نظام الأسد. كثيرون منهم انخرطوا في تشكيلات بعض الفصائل السورية (مثل هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى) واكتسبوا سمعة بالانضباط والولاء، وأسهموا في المعارك ضد تنظيم داعش منذ عام 2016 [6].

غير أن وجود هؤلاء المقاتلين يثير مخاوف أمنية لدى شرائح معيّنة من السوريين، فقد شهدت الأشهر الأولى بعد سقوط نظام الأسد حوادث عنف طائفي دامية في بعض المناطق (خاصة في الساحل وجنوب سوريا)، واتُّهم مقاتلون أجانب بالضلوع في مجازر ضد مدنيين من الأقليات إلى جانب فصائل محلية[7].

من جهة أخرى، تواجه السلطات الجديدة ضغوطًا أمنية خارجية تتعلّق بهذا الملف، فتنظيم “داعش” ما يزال نشطًا في بعض الجيوب ويشكّل تهديدًا مشتركًا للمجتمع السوري، والسلطة السورية الوليدة، وحتى القوى الإقليمية والدولية[8]، والكثير من المقاتلين الأجانب شاركوا في قتال التنظيم إلى جانب فصائل المعارضة سابقاً.

وبالتالي، يرى البعض بأن استيعاب هؤلاء ضمن المنظومة الأمنية الجديدة قد يُفيد في الحرب المستمرة ضد فلول “داعش”.

وبصرف النظر عن مدى صحّة الاتهامات للمقاتلين الأجانب المشار لها أعلاه، أو حجم تورّط بعض المقاتلين فيها، فإن إبقاءهم خارج إطار الدولة ومنع تجنيسهم قد يُعقّد المشكلة بدل أن يُخفّفها؛ إذ قد يشعرون بأنهم منبوذون ومطرودون، ما قد يدفع بعضهم إلى أحضان تنظيمات متطرّفة ما تزال نشطة كـ”داعش”، وفي هذا السياق يصبح إدماجهم المنضبط ضمن منظومة قانونية ورقابية أداةً للحدّ من مخاطر العودة إلى العنف،  ويؤكد بعض المسؤولين أن دمج المقاتلين ضمن إطار الدولة سيجعلهم خاضعين للقانون والمحاسبة السورية بدل بقائهم خارج الإطار الشرعي، فيما يرى آخرون ضرورة وجود حوار مجتمعي واسع قبل اتخاذ قرار مصيري بشأنهم[9].

وقد أفادت تقارير أن الولايات المتحدة وافقت على خطة لدمج نحو 3,500 مقاتل أجنبي (غالبيتهم من الإثنية الإيغورية ومن جنسيات أخرى مجاورة) في وحدة عسكرية نظامية جديدة هي الفرقة 84 في الجيش السوري، شريطة الشفافية في الإجراءات، وقد علّل مسؤولون سوريون ذلك بأن إبقاء هؤلاء المقاتلين ضمن مشروع الدولة أسلم أمنيًا من تركهم معزولين عرضة للانضمام مجددًا إلى القاعدة أو “داعش” .[10]وبالفعل، شهدت السياسة الأمريكية تحولًا سريعًا من التشدد إلى القبول المشروط بهذا الدمج، إذ علّقت واشنطن معظم عقوباتها على سوريا بعدما لمست تجاوبًا مع خطوطها الحمراء[11].

البعد القانوني والمؤسسي:

لا يزال إطار التعامل القانوني مع المقاتلين الأجانب في سوريا الجديدة في طور التشكُّل، فعلى صعيد التشريع الوطني ينص قانون الجنسية السوري على إمكانية منح الجنسية للأجانب بمرسوم بناءً على اقتراح وزير الداخلية، وفق شروط محددة، ومن أبرز هذه الشروط الإقامة لخمس سنوات متتالية داخل البلاد، وحسن السلوك والسيرة، وخلو السجل من الجرائم الخطيرة، والتمتع بوسيلة عيش مشروعة أو مهنة نافعة للبلد، والإلمام باللغة العربية، كما تسمح المادة 6 من القانون بإسقاط بعض هذه الشروط بمرسوم خاص لمن قدّم خدمات استثنائية للدولة أو “الأمة العربية”[12]، وبالفعل فإن كثيرًا من المقاتلين الأجانب يستوفون شرط مدة الإقامة بحكم وجودهم في سوريا منذ سنوات طوال، بل إن بعضهم “بات يتحدث العربية أفضل منا” بحسب شهادات محلية[13]. وعليه، من حيث المبدأ تمتلك الحكومة سندًا قانونيًا لمنحهم الجنسية بشكل انتقائي أو جماعي، لكن القرار يخضع لتقدير سياسي وأمني دقيق نظرًا لحساسية الملف.

في المقابل، يبرز التحدي القانوني (والمجتمعي والإنساني) الأهم في وضع الأطفال المولودين في سوريا لآباء أجانب، فبحسب القانون السوري الحالي، لا تُمنح الجنسية تلقائيًا إلا عبر الأب، وبالتالي فإن آلاف الأطفال الذين ولدوا لأمهات سوريات أو أجنبيات وآباء مقاتلين أجانب لا جنسية واضحة لهم حاليًا، وبما أن القانون السوري يسمح بمنح جنسية الأم فقط في حال كان الأب مجهولًا، اضطرت بعض الأمهات لتسجيل مواليدهن بأسماء وهمية (مثل نسبتهن إلى جد الطفل من جهة الأم) لتفادي بقاء الطفل بلا جنسية. هذه الحلول المؤقتة عقّدت الوضع القانوني للأطفال، وستسبّب إشكالات هائلة في المستقبل إن لم تُحل جذريًا، فغياب الجنسية يحرم الطفل من أبسط الحقوق والخدمات كالتعليم والرعاية الصحية والسفر، ويضعه في خانة عديم الجنسية مدى الحياة بما يخالف المواثيق الدولية التي تؤكد حق كل طفل بجنسية وعليه، تبرز الحاجة إلى تعديل قانون الجنسية لمعالجة هذا الخلل؛ وقد اقترحت منظمات حقوقية في وقت سابق أن يتم السماح للأم السورية بمنح جنسيتها لأبنائها تلقائيًا، وتطبيق ذلك بأثر رجعي ليشمل كل مواليد الحرب من آباء أجانب، كما يلزم إنشاء آلية توثيق خاصة لتسجيل وقائع الولادة والزواج التي حدثت خارج سجلات الدولة خلال سنوات الثورة[14].

الإشكالية السابقة، هي إشكالية قانونية أساساً، لكن لها انعكاسات مجتمعية وإنسانية كبيرة على الأطفال ومحيطهم وأهاليهم، وهو ما يؤكد ضرورة معالجة هذه النقطة بما يضمن حقوقهم مع تقديم المصلحة الفضلى للأطفال.

البعد المجتمعي والإنساني:

إلى جانب ما ذكرناه سابقًا من معضلة فقدان الجنسية للأطفال المولودين لآباء أجانب، وما يؤدي إليه ذلك من ضياع لحقوقهم، يمكن أن يعاني العديد منهم من النبذ الاجتماعي أو نظرة الشك من قبل محيطهم لمجرّد أن آباءهم أجانب، وربما يُتهمون بالتطرف[15]، واستمرار هذا الوضع من شأنه دعم دورة التطرف من خلال إنشاء جيل يشعر بالاغتراب وفقدان الانتماء، ما قد يجعله عرضة لاستقطاب جماعات متطرفة جديدة في المستقبل إن لم يتم دمجه واحتواؤه بشكل صحيح. من هنا يشدّد الخبراء على ضرورة معاملة الأطفال كضحايا بالدرجة الأولى وليس كجناة مع توفير برامج دعم نفسي وتعليمي لهم لإعادة تأهيلهم ودمجهم في المدارس والمجتمع دون تمييز[16].

علاوة على ذلك، ثَمّة انقسام في نظرة السوريين إلى المقاتلين الأجانب. فمن جهة، هناك من يعتبرهم أبطالًا ومخلصين وقفوا مع الثورة وشاركوا السوريين الخبز والحزن والأمل بمستقبل حر، هذه الرواية تلقى صدىً لدى شريحة من السوريين (خاصة في أوساط البيئة الحاضنة للثورة) ممن يرون في المهاجرين امتدادًا لفكرة التضامن الإسلامي والأخوة في الدين، وبالتالي يستحقون الشكر وربما المواطنة تقديرًا لتضحياتهم. على الجانب الآخر، يتوجّس بعض السوريين من تجنيس هؤلاء المقاتلين باعتبار وجود اتهامات لهم بالمشاركة في أحداث عنف طائفي[17].  بشكل عام، تشير بعض الانطباعات إلى وجود توافق (مدعوم بالحقائق على الأرض والأمر الواقع) بين السوريين على صعوبة ترحيل جميع المقاتلين الأجانب قسرًا، فحتى المنتقدون لوجودهم يقرّون بأن محاولة إخراج آلاف المقاتلين وعوائلهم إلى دولهم الأصلية أو لدول ثالثة أمر شبه مستحيل عمليًا، فضلًا عن كونه غير إنساني بحق أسر لديها أطفال ولدوا ونشأوا هنا[18]. لذلك، من المفترض أن تتركز النقاشات المجتمعية حول كيفية تنظيم وجود هؤلاء بدلًا من فكرة إقصائهم بالكامل.

ثانياً: مواقف الفاعلين الدوليين والإقليميين من مسألة تجنيس المقاتلين الأجانب:

أثار ملف المقاتلين الأجانب وعائلاتهم في سوريا اهتمامًا وتحفظًا كبيرًا من قبل الفاعلين الدوليين والإقليميين؛ كلٌ حسب أولوياته الأمنية والسياسية. فيما يلي عرض لمواقف أبرز هذه القوى:

  • الولايات المتحدة الأمريكية: اتسم الموقف الأمريكي تجاه هذه القضية بالتطور السريع من الرفض المبدئي إلى القبول المشروط. فمع الأيام الأولى لقيام الحكومة الجديدة في دمشق، حذّرت واشنطن بلهجة صارمة من إشراك أي مقاتلين أجانب في الجيش أو مؤسسات الدولة السورية ونُقل عن المبعوث الأمريكي الخاص (تيم ليندركينغ) تصريحه بأن “على السلطات الانتقالية التأكد من أن المقاتلين الإرهابيين الأجانب لا دور لهم في الحكومة أو الجيش السوري”[19]. وقد وضعت إدارة الرئيس ترامب في آذار / مارس 2025 ثمانية شروط لرفع جزئي للعقوبات عن سوريا، كان أبرزها منع تولّي المقاتلين الأجانب مناصب قيادية[20]. كما حثّت واشنطن في أيار / مايو 2025 القيادة الجديدة على “إبلاغ جميع الإرهابيين الأجانب بالمغادرة”. لكن هذا الموقف المتشدد تراجع لاحقًا عندما تبنّت الإدارة الأمريكية نهجًا أكثر مرونة إثر زيارة ترامب للمنطقة ولقائه الرئيس الشرع في الرياض منتصف أيار/ مايو[21]. فعقب تلك اللقاءات أعلن عن تخفيف العقوبات الأمريكية عن سوريا، وأبدى المبعوث الأمريكي توماس باراك تفهمًا لفكرة دمج بعض المقاتلين الأجانب في الجيش السوري “إذا تم ذلك بشفافية”. وأكد باراك أن إبقاء المقاتلين المخلصين لسوريا الجديدة داخل إطار الدولة قد يكون أفضل من تهميشهم[22]. عمومًا يمكن القول إن الموقف الأمريكي الحالي بات براغماتيًا: فهو يقبل ضمنيًا بتجنيس أو دمج المقاتلين غير المصنفين إرهابيين عالميًا والذين أثبتوا ولاءهم للحكومة السورية، لكنه يشترط ضمانات صارمة بألا يتولوا مناصب أمنية حساسة قد تعرّض التعاون الاستخباراتي للخطر.
  • فرنسا والمملكة المتحدة: تنظر كلّ من باريس ولندن إلى ملف المقاتلين الأجانب في سوريا من زاوية مكافحة الإرهاب وحماية الأمن الداخلي، وقد أفادت تقارير إعلامية أن دبلوماسيين من فرنسا وبريطانيا انضموا إلى الولايات المتحدة في توجيه رسائل تحذير للقيادة السورية الجديدة من مغبة تعيين جهاديين أجانب في مواقع عسكرية أو منحهم مساحة مفرطة، باعتبار أن ذلك سيُقوّض جهود بناء الثقة مع المجتمع الدولي[23].
  • الصين: تأتي بكين في مقدمة المعترضين بشدة على دمج أو تجنيس المقاتلين الأجانب، وذلك لهواجس أمنية خاصة بها تتعلق تحديدًا بالمقاتلين الإيغور، فإقليم شينجيانغ الصيني شهد خلال العقد الماضي خروج مئات (وربما آلاف) المتطوعين الإيغور الذين قدموا إلى سوريا للقتال ضمن صفوف جماعات إسلامية (أبرزها الحزب الإسلامي التركستاني). وترى الصين في هؤلاء تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وقد برز صوت الصين عاليًا في المحافل الدولية بخصوص هذه القضية؛ حيث استغلّت عضويتها الدائمة في مجلس الأمن للتأكيد مرارًا على ضرورة أن تلتزم سوريا بـمكافحة الإرهاب وألا تسمح ببقاء “المقاتلين الإرهابيين الأجانب” ناشطين على أراضيها[24].
  • تركيا: تدعم تركيا الحكومة السورية الجديدة وتعتبر سقوط الأسد مكسبًا جيوسياسيًا لها، لذا فهي أكثر الدول الإقليمية تقبُّلًا لبقاء المقاتلين الأجانب الموالين للحكومة الجديدة، كذلك تولي تركيا اهتمامًا خاصًا بالمقاتلين الإيغور والآسيويين لاعتبارات تتعلق بعلاقتها مع الصين؛ فرغم تعاطف الشارع التركي مع قضية الإيغور، حرصت أنقرة مؤخرًا على تحسين العلاقات مع بكين ولم تعد تتبنّى موقفًا حادًا بشأنهم. لذا قد تطلب تركيا من الحكومة السورية التعامل بحذر مع الإيغور بما لا يثير غضب الصين، ربما عبر عدم تسليط الضوء إعلاميًا على وجودهم أو تأجيل تجنيسهم حتى تسوية الأمر مع بكين[25].

ثالثاً: نظرة على بعض التجارب في دول أخرى:

يمكن لسوريا الاستفادة من تجارب دول أخرى واجهت أوضاعًا مشابهة فيما يتعلق بمقاتلين أجانب وانخراطهم في المجتمع بعد الحرب. نُسلّط الضوء هنا على تجربتين: البوسنة والهرسك بعد حرب التسعينات، وأوكرانيا في سياق الحرب الحالية مع روسيا.

تُعدّ تجربة البوسنة والهرسك الأقرب سياقيًا إلى الحالة السورية؛ إذ شهدت في تسعينيات القرن الماضي تدفّق مقاتلين عرب ومسلمين بدوافع إسلامية للمؤازرة في حرب وُصِفت بأوصاف منها “أهلية معقّدة”، ثم واجهت الدولة لاحقًا تعقيدات ما بعد النزاع في ملفات الإقامة والتجنيس، وتعرّضت لضغوط دولية متصاعدة مع اندلاع «الحرب على الإرهاب» بعد 11 أيلول/سبتمبر، ما أفضى إلى مراجعات وسحب جنسيات وإشكالات قانونية وإنسانية طويلة الأمد. هذه السلسلة من الوقائع تمثّل تحذيرًا عمليًا لما قد يتكرر في سوريا إن لم تُبنَ السياسة منذ البداية على سيادة القانون والانتقائية المدروسة وإدارة المخاطر الخارجية.

في المقابل، تُقدّم أوكرانيا حالة مقارنة في سياق مختلف (حرب دولة ضد غزو خارجي، ومتطوّعون أجانب ضمن فيلق رسمي)، لكنّ كييف طوّرت إطارًا تشريعيًا واضح المعايير يربط بين الخدمة العسكرية، والإقامة المراقَبة، والاختبارات اللغوية/المعرفية ومسارٍ مُبسّط نحو الجنسية، مع قبول دولي نسبي لهذا النهج. لذلك، تُفيد أوكرانيا في تقوية الحجج القانونية والسياسية لسوريا: ليس باعتبارها صورة طبق الأصل، بل كنموذج يبرهن أن التجنيس المشروط القابل للقياس يمكن أن يُدار ضمن معايير علنية وحوكمة شفافة، خاصة مع وجود قبول غربي للممارسة الأوكرانية، ووجود مشتركات بين سوريا وحالة أوكرانيا، من خلال استهداف التوحش الروسي وأدواته.

حالة البوسنة والهرسك (بعد حرب 1992–1995):

خلال حرب البوسنة (1992–1995) وفد مئات المتطوّعين الأجانب لمؤازرة البوسنيين، وقد بقي بعضهم عبر الزواج من بوسنيات أو من خلال الإقامة الدائمة، وأتاحت القوانين لاحقًا لمن استوفى الشروط أن يُسوّي وضعه بالحصول على الجنسية. في عام 2007 شرعت الحكومة البوسنية في تجريد قرابة 380 شخصًا من الجنسية، ضمن مراجعةٍ شاملة لقرارات التجنيس الصادرة خلال الحرب، واستجابةً على ما يبدو لضغوط دولية تصاعدت بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001. وكانت واشنطن قد دعت منذ تسعينيات القرن الماضي إلى ترحيل جزءٍ من هؤلاء، وقد خلصت لجنةٌ حكوميةٌ مختصّة إلى أنّ منح الجنسية لعددٍ منهم تمّ على نحوٍ غير قانوني، فأوصت بسحبها[26].

وقد انتقدت منظمات حقوقية سرّية الإجراءات وما ترتّب عليها من احتجازٍ إداري وتمهيدٍ للترحيل، من دون تمكينٍ كافٍ للمتضررين من الاطلاع على الأدلة أو الطعن الفعّال[27]، كما شددت على ضرورة ألا يؤدّي سحب الجنسية لانتهاكات لاحقة، كالإبعاد إلى بلدان يُخشى فيها التعذيب، داعيةً إلى ضماناتٍ إجرائية وقضائية مُحكمة[28].

اجتماعيًا، حدثت بعض التوترات المجتمعية، ففي قرية بوچينيا دونيا (بلديّة مغلاي) نشأت توتّراتٌ عندما شرعت السلطات في استعادة المساكن لإعادتها إلى أصحابها الأصليين بعد الحرب، إذ أقام بعض المقاتلين السابقين وعائلاتهم في منازل نزح عنها أهلُها إبّان النزاع، فواجهت قرارات الإخلاء احتجاجاتٍ محليّة عكست حساسية التكيّف المجتمعي مع قضايا الملكيّة والسكن ما بعد الحرب[29].

تُبرز حالة البوسنة أن ملفّ “المقاتلين الأجانب” يظلّ عُرضةً للتسييس وتقلُّبات الرياح الدولية؛ لذا تقتضي الحالة السورية ترسيخ سيادة القانون واعتماد تجنيسٍ متدرّج يراعي اندماج المقاتلين في المجتمع، والضغوط الخارجية، وشرعية الحكومة الجديدة، فكلّما انتقلت الحكومة من طورٍ انتقالي إلى وضعٍ مؤسسيّ أكثر استقرارًا، ازدادت قدرتها على منح الجنسية وفق قواعد راسخة لا يُتراجع عنها لاحقًا.

لا شكّ أنّ القياس على الحالة البوسنيّة قياسٌ مع الفارق؛ فالتجربتان السوريّة والبوسنيّة تختلفان زمنًا وسياقًا وجغرافياً. لكن ثمّة مشتركات أساسيّة: في الحالتين وُجِدت دوافع دينيّة واضحة لدى الجزء الأكبر من المقاتلين الوافدين، وتشكّلت حولهم حملات إقليميّة ودوليّة متشدّدة باعتبارهم “جهاديين عابري الحدود” قد يهدّدون السِّلم الإقليمي والعالمي. ما يُفرِّق جوهريًّا بين الحالتين، أنّ الرياح الدوليّة تبدّلت: فالبوسنة جاءت في ذروة اللحظة الأحاديّة الأميركيّة بعد حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت) ولاحقاً تفاعلت قضية المقاتلين الأجانب بتداعيات “الحرب على الإرهاب” بعد 11 أيلول/سبتمبر[30]، بما أتاح لواشنطن هامشًا واسعًا لفرض مقاربات أمنية انتهت -بين أمور أخرى- إلى مراجعات وسحب جنسيات. أمّا اليوم، فعادت ديناميات التنافس بين القوى الكبرى لتطغى بوضوح (الولايات المتحدة في مواجهة الصين وروسيا)[31]، ما يجعل الحسابات أكثر تركيبًا ويُنتج براغماتيّة انتقائيّة لدى العواصم المعنيّة بملفّ المقاتلين الأجانب في سوريا.

حالة أوكرانيا أثناء الحرب مع روسيا: في سياق مختلف واجهت أوكرانيا منذ 2022 تدفق متطوعين أجانب (من أوروبا وأمريكا وغيرها) جاءوا للقتال ضد الغزو الروسي ضمن “الفيلق الدولي للدفاع عن أوكرانيا”. تعاطت كييف مع هؤلاء كمتطوعين حلفاء وقدمت لهم تسهيلات عدة، وفي آب/ أغسطس 2023 أقرّ البرلمان الأوكراني قانونًا يسمح بمنح الجنسية للأجانب الذين يخدمون في القوات المسلحة الأوكرانية بشكل مبسّط وسريع. نصّ القانون على منح إقامات مؤقتة وتصاريح هجرة فورًا للمقاتلين الأجانب، ومن ثم تمهيد الطريق لمنحهم الجنسية مع إعفاءات من بعض الشروط الشكلية (كالسماح بالاعتماد على وثائق سفر منتهية).

كما شمل التسهيل عائلات هؤلاء المقاتلين بمنح الزوج/الزوجة والأبناء إقامة مؤقتة اشترط القانون على المتقدمين اجتياز اختبارات في اللغة والتاريخ الأوكراني خلال فترة مُعيّنة بعد التجنيس، لضمان اندماجهم ثقافيًا. كذلك أوجب على الروس والبيلاروس تحديدًا التخلي عن جنسياتهم الأصلية خلال سنة من انتهاء الأحكام العرفية كشرط للاحتفاظ بالجنسية الأوكرانية[32]. يمكن لسوريا الاستفادة من النموذج الأوكراني للدفاع عن السياسات التي يمكن أن تتبناها لاحقاً، على اعتبار أن النموذج الأوكراني مرضيّ عنه غربياً ودولياً نسبياً[33]، خاصة أن روسيا بدورها اتخذت مساراً مشابهاً لتعادل الكفة ضد أوكرانيا.

رابعًا: أبرز السيناريوهات الممكنة لإدارة الملف (المزايا والمخاطر):

في ضوء المعطيات السابقة، يمكن تصوُّر عدة سيناريوهات للتعامل مع ملف المقاتلين والناشطين الأجانب وعائلاتهم في سوريا. فيما يلي عرض لأبرز السيناريوهات المطروحة وتحليل مزايا وعيوب كل منها:

السيناريو الأول: التجنيس الشامل الفوري:

وهو المسار الأكثر استجابة للعريضة المقدمة، ويقضي بمنح جميع المقاتلين الأجانب الذين شاركوا مع قوى الثورة والمعارضة وعائلاتهم الجنسية السورية فورًا بمرسوم عام، كمكافأة على مساهمتهم في تحرير البلاد. ومزايا هذا الخيار أنه يعالج مشكلة عديمي الجنسية بشكل جذري منذ البداية، ويمنح الأطفال المولودين لأجانب حقوق المواطنة الكاملة دون تأخير، مما يساعد في دمجهم بالمجتمع وتفادي نشأة جيل مغترب، كما سيكسب الحكومة دعمًا وتعاطفًا من المقاتلين أنفسهم باعتبارها قدرت تضحياتهم ومنحتهم الاستقرار، وسيشعر المقاتلون بأنهم ملزمون أمام القانون السوري كمواطنين وليسوا خارجين عليه. وسيبعث برسالة طيبة مفادها أن سوريا تحتضن كل من دافع عنها بغضّ النظر عن أصله. بالمقابل، ينطوي هذا السيناريو على مخاطر جدية؛ إذ سيُنظر إليه من قبل فئات من السوريين على أنه “تجنيس عشوائي” قد يشمل عناصر متطرفة لم تخضع للتمحيص، وقد يثير موجة سخط شعبي لدى أهالي الضحايا من جرائم يُتهم بارتكابها بعض المقاتلين الأجانب، إذ قد يبدو كعفو عام مقنّع عنهم دون محاسبة، ودوليًا، قد تعترض قوى دولية وإقليمية على الخطوة وتعتبرها متسرعة تتضمن إدماج عناصر تُشكّل تهديدات أمنية.

السيناريو الثاني: عدم التجنيس مع التركيز على الإعادة أو الترحيل:

وهو المسار المعاكس تماماً للمسار السابق، والمفرط في رفض الاستجابة للعريضة المطالبة بالتجنيس، من خلال الرفض المطلق لمنح الجنسية، والسعي لإعادة المقاتلين إلى بلدانهم أو دولٍ ثالثة، مع تدبيرٍ مؤقت لعائلاتهم، ويُبعد عبء الدمج عن الدولة الجديدة، لكنه من الناحية الواقعية شبه مستحيل تنفيذيًا، حيث يهدّد بتحوّل الملف إلى احتجازٍ مفتوح المدى وقنبلة اجتماعية/أمنية يُغذّي الاختباء والتمرّد ويُسيء لسمعة الحكومة والمجتمع السوريين؛ ويُفكّك الأسر ويُنتج مآسي قانونية، وهو في الغالب مرفوض من معظم شرائح المجتمع السوري، خاصة الحاضنة الثورية، فضلاً عن كونه مرفوضاً من الدول الأصلية لهم أيضاً غالباً.

السيناريو الثالث: التجنيس الانتقائي التدريجي:

ويعتمد فرز المقاتلين الأجانب إلى فئات، ومنح الجنسية بشكل انتقائي وعلى مراحل لمن تنطبق عليهم معايير محددة مع مرور الوقت، ويمكن تشكيل لجنة وطنية لفحص ملفات جميع المقاتلين الأجانب فردًا فردًا، وتقسيمهم مثلاً إلى شرائح أو فئات؛ الفئة الأولى يمكن أن تضم المؤهّلين للجنسية، وهؤلاء ممن ثبت اعتداله وعدم تورّطه بانتهاكات، ويُمنحون الجنسية خلال سنة مثلاً.  فئة أخرى ممن يشتبه بتطرفهم أو لديهم سوابق بسيطة، وهؤلاء يمنحون إقامة مع المراقَبة لعدة سنوات كفترة اختبار قبل النظر في تجنيسهم. وهنالك فئة أو فئات ممن هم متورطون بجرائم جسيمة، هؤلاء يُستثنون من التجنيس ويحاكمون أو يُرحَّلون إن أمكن. ويُحقّق هذا السيناريو توازنًا بين إدماج المستحقين واستبعاد الخطرين. فالفئة الأولى المجنّسة ستكون بمثابة “قصص نجاح” تبرهن للمجتمع أن منح الجنسية تم بمنتهى الحرص (حيث لم يشمل غير المؤهلين أو من ثبت تورطهم في انتهاكات)، مما قد يزيد تقبُّل الرأي العام تدريجيًا لاندماج هؤلاء. كذلك سيجد كثير من المقاتلين المعتدلين دافعًا لإثبات حسن سلوكهم وانضباطهم خلال فترة الاختبار طمعًا بالجنسية مستقبلاً، ما يساعد في ضبط الأمن. دوليًا، سيكون لدى الحكومة حجة قوية بأن عملية التجنيس “انتقائية ومدروسة” وليست عمياء، مما يُخفّف من الانتقادات.

السيناريو الرابع: الحلول الوسط المؤقتة:

 يقوم هذا السيناريو على تأجيل حسم موضوع الجنسية لبعض الوقت، والتركيز بدلًا من ذلك على منح المقاتلين الأجانب وضع إقامة قانوني مؤقت في سوريا (مثلاً إقامة لمدة 2-3 سنوات قابلة للتجديد) مع إخضاعهم لبرامج إعادة تأهيل ودمج مكثفة خلال تلك الفترة، وبعد انتهاء المدة ومراجعة سلوكهم واندماجهم يُبتّ في تجنيس المستحقين منهم بشكل انتقائي. يمنح هذا السيناريو مرونة زمنية للحكومة لاختبار ولاء المقاتلين وحسن اندماجهم قبل اتخاذ قرار نهائي بشأن الجنسية. وخلال فترة الإقامة المؤقتة يمكن ترتيب برامج تثقيفية للمقاتلين حول القوانين السورية وقيم التعايش واحترام التعددية، بل وإشراكهم في أعمال مدنية (كإعادة الإعمار أو خدمة المجتمع) لإثبات حسن نيتهم والمساهمة إيجابًا، وهذا سيُمكّن أيضًا من تهدئة المخاوف الشعبية مؤقتًا، إذ تستطيع الحكومة طمأنة الناس أنها لم تمنح الجنسية فورًا بل تنتظر لترى النتائج. كما أنه يتيح وقتًا لإجراء حوار وطني حول الموضوع، ربما عبر مؤتمر أو مشاورات مع الوجهاء أو أن يُطرح للنقاش في مختلف المؤسسات بعد الانتقال إلى وضع أكثر استقراراً، وحين يأتي وقت التجنيس يكون قد تم إقناع المجتمع بفوائده وتقليل حساسياته. كذلك سيمنح فرصة لمزيد من التفاوض مع الدول الأخرى؛ فقد تُقنع سوريا خلال تلك المدة بعض الدول باستعادة نسبة من مواطنيها أو تمويل برامج إعادة تأهيل داخل سوريا لهم.

ومن الناحية القانونية، توفير إقامة نظامية للمقاتلين وعائلاتهم سيحلّ كثيرًا من المشاكل العملية (كإصدار بطاقات هوية مؤقتة تُمكّنهم من العمل والتنقّل وعيش حياتهم بشكل شبه طبيعي بدل بقائهم في الظل). ولا يخلو هذا السيناريو من مخاطر، حيث قد يُفسر البعض هذا السيناريو بأنه مماطلة بدون حل، مما يترك حالة ضبابية قد تستغلها أطراف معارضة لاتهام الحكومة بعدم امتلاك خطة واضحة. كذلك هناك احتمال أن تتغير الظروف السياسية خلال فترة التأجيل (مثلاً تغير التحالفات الدولية أو وقوع أحداث أمنية جديدة) تجعل تجنيسهم لاحقًا أصعب مما هو الآن، وبالتالي يكون التأجيل قد أضاع فرصة سانحة أو فاقم المشكلة. أيضًا، في ظل إقامة مؤقتة قد يبقى الشعور لدى المقاتلين بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، مما قد يُولّد احتقانًا أو عدم استقرار نفسي لديهم، وهو ما يزيد من فرص تعرضهم لدعاية التطرف.

بعد تحليل المزايا والمخاطر، يتبين لنا أنه لا يوجد مسار مثالي بالكامل. يبقى الأرجح هو أحد الحلول الوسط – مزيج من الانتقائية والتدرج والتأهيل – وهو ما سنرجحه في القسم التالي.

ترجيح السيناريو الأفضل لسوريا الجديدة:

في ضوء الاعتبارات السابقة، يبدو السيناريو الأمثل لإدارة ملف المقاتلين الأجانب وعوائلهم هو مزيج من السيناريو الثاني (التجنيس الانتقائي التدريجي)، والسيناريو الرابع (الحلول الوسط المؤقتة). يمكن تسمية هذا السيناريو بـ“التسوية المتدرجة المشروطة”، قوامه منح إقامة قانونية مؤقتة لجميع المقاتلين الأجانب وعائلاتهم فورًا لإخراجهم من حالة الفراغ القانوني، ثم الشروع بعملية تقييم شاملة فردًا فردًا وفق معايير شفافة خلال فترة محددة (سنتين إلى 5 سنين)، ومن ثم منح الجنسية تباعًا لمن يثبت استحقاقه ويلبي الشروط المطلوبة، واستثناء أو تأجيل من توجد تحفُّظات أمنية خطيرة حوله.

هذا السيناريو المركّب يُحقّق عدة أغراض: فهو يحمي حقوق الإنسان الأساسية لجميع المعنيين منذ اللحظة الأولى، إذ يمنحهم أوراق إقامة تتيح لهم العيش بكرامة وتسجيل أطفالهم والالتحاق بالمدارس والعمل بشكل نظامي. وفي الوقت ذاته لا يمنح الجنسية السورية كحق مكتسب إلا لمن يثبت عبر الزمن إخلاصه وامتثاله للقانون. بمعنى آخر تتعامل الحكومة بدايةً مع الجميع كضيوف شرعيين لديهم فرصة أن يصبحوا أهل دار بالتدريج، لكن عليها أولًا التأكد من صفاء نواياهم وعدم تشكيلهم خطرًا.

يمكن صياغة شروط واضحة يتم بناءً عليها اتخاذ قرار التجنيس في نهاية الفترة الانتقالية (2 – 5 سنين) مثل عدم ارتكاب أي مخالفات قانونية خلال تلك الفترة، الالتزام ببرنامج إعادة التأهيل، إثبات توفر مصدر رزق أو قيامهم بعمل نافع (أو استمرارهم بالخدمة في الجيش لمن اختار ذلك)، تعلُّم قدر كاف من اللغة العربية، وربما تقديم رسالة تزكية من مجتمع محلي (كشيخ عشيرة أو لجنة حيّ يشهدون بأن هذا الشخص بات فردًا صالحًا في مجتمعهم). كذلك استثناء كل من يثبت عليه بالأدلة المشاركة في مجازر أو جرائم حرب خطيرة، وهؤلاء قد يُحوّلون إلى القضاء لينالوا عقابهم وفق القانون السوري أو الدولي قبل التفكير في أي عفو عنهم.

كما يتضمن السيناريو عدم ترك أي طفل بلا جنسية: فالأطفال دون سن 18 (خاصة المولودون في سوريا) يحصلون مباشرة على جنسية سورية أو ضمان حقهم بها متى بلغوا سن الرشد شريطة إقامتهم المستمرة في البلاد. هذا يستند إلى مبدأ مصلحة الطفل الفضلى الذي نصت عليه الاتفاقيات الدولية[62]. ويمكن طمأنة المجتمع بأن منح الجنسية لطفل لا يعني بالضرورة منحها لوالده إن كان عليه تحفُّظات أمنية؛ بل يمكن انتظار انتهاء محكوميته أو التأكد من توبته.

من جهة أخرى، يتيح السيناريو مرونة في التعاطي مع الضغوط الدولية. فمثلًا، الصين التي تعارض بشدة تجنيس الإيغور، يمكن إبلاغها أن أولئك الإيغور موجودون بإقامة مؤقتة حاليًا ولن يُمنحوا الجنسية إلا بعد تقييم دقيق وربما تفاوض مع بكين حول مصيرهم.

الخاتمة:

يمثّل ملف تجنيس المقاتلين والناشطين الأجانب وعوائلهم في سوريا أحد أكثر قضايا المرحلة الانتقالية تعقيدًا وتشابكًا، فهو يقف عند تقاطع الضرورات الأمنية والاعتبارات السياسية والمبادئ الإنسانية، ويتطلب حلاً يوازن بينها بحكمة وبعد نظر. حاولنا في هذا التقرير مقاربة جذور المسألة وظروفها إثر سقوط النظام البائد، وتحليل جوانبها المختلفة داخليًا وخارجيًا. ونخلص إلى أن تجاهل الملف أو معالجته بقرارات مرتجلة ينطويان على مخاطر جسيمة للاستقرار المجتمعي والسياسي في سوريا المستقبل.

من خلال المقارنة بتجارب دولية مشابهة، برزت دروس مهمة: منها أن منح الجنسيات في ظروف ثورية قد يستدعي مراجعات مؤلمة لاحقًا كما حدث في البوسنة، وأن صياغة سياسة تجنيس مدروسة بشروط اندماج واضحة تحقق فوائد عديدة.

كما يجب أن تراعي الحلول حساسيات القوى الإقليمية والدولية، بناءً على ذلك، نرجّح سيناريو الحل الوسط المتدرج بالتوازي مع إقامة توعية وحوار مجتمعي لتحقيق التوافق حول المسألة داخلياًَ، وتسويق الحل بما لا يتضارب مع مصالح الدول خارجياً، وبالشكل الذي يتناسب مع أصالة المجتمع السوري، ويحفظ للدولة هيبتها وسمعتها ويصون أمن المجتمع، دون أن يجور على حقوق من ساندوا الثورة وأصبحوا جزءًا من نسيجها الاجتماعي.

تُظهر المقارنات الدولية -ومنها تجربة البوسنة-أن التجنيس في ظروف السيولة الثورية قد يستدعي لاحقًا مراجعات مؤلمة وضغوطًا سياسية وقضائية. الدرس المباشر لسوريا أن تُثبّت سيادة القانون وتبتعد عن القرارات الكاسحة، وأن تعتمد مسارًا انتقائيًا متدرّجًا يراعي ثلاثة عوامل متلازمة: اندماج الأفراد اجتماعيًا واقتصاديًا، الاعتبارات الأمنية والخارجية، وشرعية الحكومة وهي تنتقل من طور انتقالي إلى مؤسسي. كلما ترسّخت المؤسسات ازدادت القدرة على منح الجنسية وفق قواعد راسخة لا تُنقَض لاحقًا.

عمليًا، يقدّم الحلّ المؤقت المتدرّج أرضيةً صلبة: تُمنَح للعائلات إقاماتٌ قانونيةٌ مؤقتة تضع حدًا للفراغ القانوني وتكفل حقّ التعليم والرعاية الصحية والعمل المشروع والتنقّل داخل البلاد، مع وثائق تعريفية معتمدة، على أن يُربط منح الجنسية لاحقًا بمدى الالتزام ببرامج الاندماج (اللغة، القانون، خدمة المجتمع) وبالتحقق القضائي والأمني الفردي. ويُعطى الأطفال الأولوية للحمايةً من انعدام الجنسية، تطبيقًا لمبدأ المصلحة الفضلى للطفل، بما في ذلك إصدار قيود مدنيّة فورية لهم، ومنحُ أمهاتهم إقاماتٍ مستقرة ريثما يُبتّ في وضع الآباء.

ولكي يكون المسار منسجمًا مع الكرامة والإنصاف، يلزم تعديلٌ محدّد لقانون الجنسية يُتيح للمرأة السورية نقل جنسيتها لأطفالها في الحالات التي يتعذّر فيها تثبيت نسبٍ قانوني للأب أو عندما يكون الأب أجنبيًا معوِّقًا لاكتساب الجنسية، أسوةً بالمعايير الدولية ومقتضيات العدالة. هذا التعديل إلى جانب آلية تقييم شفافة وحقّ تظلّم واستئناف يضمن ألّا يتحوّل الملف إلى مكافأة عشوائية أو إلى عقوبة جماعية، بل إلى سياسة عامة مسؤولة: تُحافظ على هيبة الدولة وسمعتها، وتصون أمن المجتمع، ولا تجور على من ساندوا الثورة وأصبحوا جزءًا من نسيجها الاجتماعي. بهذه الروح، يمكن تسويق الحل داخليًا عبر حوارٍ مجتمعي صريح يشرح المعايير والغايات، وخارجيًا بلغةٍ تطمئن الشركاء إلى أن سوريا الجديدة تُنجز تسويةً عادلة ومستدامة لا تُصدّر المشكلات ولا تُعيد إنتاجها.


[2] Timour Azhari, “Foreign Islamists petition Syrian state for citizenshipReuters, August 15, 2025.
[3] فريق التحرير، «تقرير: مصير المقاتلين الأجانب في سوريا يثير انقسامًا داخليًا وتحذيرات خارجية»، الترا سوريا | Ultra Syria، 1 أيار/مايو 2025.
[4] المرجع السابق.
[5] المرجع السابق.
[7] المراجع السابقة.
[8] ديفورا مارغولين، «منح الجنسية السورية للمقاتلين الأجانب: الخطوط الحمراء الأميركية والفروق الدقيقة»، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 27 آب/أغسطس 2025.
[9] المراجع السابقة.
[11] ديفورا مارغولين، «منح الجنسية السورية للمقاتلين الأجانب: الخطوط الحمراء الأميركية والفروق الدقيقة»، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 27 آب/أغسطس 2025، مرجع سابق.
[13] فريق التحرير، «تقرير: مصير المقاتلين الأجانب في سوريا يثير انقسامًا داخليًا وتحذيرات خارجية»، الترا سوريا | Ultra Syria، 1 أيار/مايو 2025، مرجع سابق.
[14]Legal Limbo: The Future of ISIS’s Children”, Syria Justice and Accountability Centre (SJAC),” SJAC, March 12, 2019.
[15] المرجع السابق.
[16] Stephanie Nebehay, “U.N. urges resolving fate of 2,500 foreign children at Syria camp,” Reuters, April 18, 2019.
[17] «تقرير: مصير المقاتلين الأجانب في سوريا يثير انقسامًا داخليًا وتحذيرات خارجية»، الترا سوريا، مرجع سابق.
[18] «تقرير: مصير المقاتلين الأجانب في سوريا يثير انقسامًا داخليًا وتحذيرات خارجية»، الترا سوريا، مرجع سابق.
[19] المرجع السابق.
[20] ديفورا مارغولين، «منح الجنسية السورية للمقاتلين الأجانب: الخطوط الحمراء الأميركية والفروق الدقيقة»، مرجع سابق.
[22] المرجع السابق.
[23] «مقاتلون أجانب يطالبون الحكومة بحق الحصول على الجنسية وجواز سفر سوري»، تلفزيون سوريا، مرجع سابق.
[25] تُعرب الصين عن ارتياحها لجهود حزب العدالة والتنمية الأخيرة لإبقاء قضية الأويغور بعيدة عن الأضواء مقارنةً بالسابق، إلا أنها لا تزال لا ترى في تركيا شريكًا موثوقًا به، ينظر:
Nilgün Eliküçük Yıldırım, “The Uyghur Issue in Turkey–China Relations,” Heinrich-Böll-Stiftung (Turkey), April 5, 2024.
[29] Mujahideen Resist Eviction, Institute for War & Peace Reporting, July 21, 2000.
[30] The Unipolar Moment Revisited, The National Interest, Winter 2002/03.
[31] Renewed Great Power Competition: Implications for Defense, U.S. Congressional Research Service, February 25, 2022.
[32] Visit Ukraine Today, “Foreigners fighting for Ukraine will be able to obtain Ukrainian citizenship: details,” VisitUkraine.Today, August 25, 2024.
[33] ولا يعني هذا بالضرورة سهولة المحاججة لمجرد الاستلهام من النموذج الأوكراني، فالدول الغربية معروفة باستخدام المعايير المزدوجة بحسب مصالحها، لكن يبقى هذا مفيداً ضمن مجموعة من الملفات والأوراق الأخرى.

باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى