
بعد تفجير حمص واحتجاجات الساحل.. من يقف خلف محاولات إشعال الفتنة في سوريا؟
ملخص:
جاء التفجير في جامع علي بن أبي طالب بحمص في مساعي تصعيد التوترات في سوريا، وتبنّته جماعة غامضة تُدعى “سرايا أنصار السنة”. يطرح التقرير ثلاث فرضيات رئيسية حول هوية التنظيم:
1. أنه تنظيم حقيقي تشكّل حديثاً نتيجة انشقاق عن هيئة تحرير الشام بسبب خلافات أيديولوجية، ويقوده مغالون رفضوا مسار الانفتاح الذي تبنّته الحكومة الانتقالية. هذا التيار تبنّى سابقًا تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق، ويمتلك بنية إعلامية ونزعة تكفيرية واضحة.
2. أنه تنظيم ورقي وهمي يُرجَّح أنه واجهة دعائية يديرها فلول النظام البائد بهدف تعزيز وتأجيج المخاوف الطائفية لضرب شرعية سوريا الجديدة وإفشال انتقالها السياسي. يشير إلى ذلك ضعف صياغة بياناته، وسوابق موثقة في توظيف تنظيمات صورية لزعزعة الأمن.
3. أنه غطاء ميداني لتنظيم داعش، يستخدمه التنظيم لتبنّي هجمات طائفية دون الظهور باسمه المباشر، ضمن استراتيجية جديدة لاستعادة الحاضنة الشعبية، ويظهر ذلك في التشابه الأيديولوجي والبنية الإعلامية.
ورغم تباين السيناريوهات، إلا أن الهدف النهائي واحد: ضرب النسيج الاجتماعي السوري في محاولة لإفشال تجربة سوريا الجديدة، وهذا ما يظهر عملياً بموجة الاحتجاجات الجديدة في مناطق عدة بحمص والساحل، حيث تم استثمار حادثة تفجير حمص من قبل رئيس ما يُسمّى “المجلس السوري العلوي في المهجر” غزال غزال لتأجيج الشارع طائفياً، الأمر الذي يتطلّب وعيًا مجتمعيًا يقظًا وتنسيقًا أمنيًا فاعلًا لحماية الوحدة الوطنية ومنع سيناريوهات الاقتتال الأهلي.
مقدمة:
شهدت مدينة حمص وعدة مناطق في الساحل السوري احتجاجات حملت شعارات طائفية، وظهر فيها فلول من النظام البائد وآخرون يطالبون بالفيدرالية والحكم الذاتي[1]، وذلك بعد وقوع تفجير في مسجد بحي وادي الذهب الذي تقطنه غالبية علويّة بمدينة حمص يوم 26 كانون الأول 2025، وأسفر عن مقتل 8 أشخاص وإصابة 18 آخرين بجروح، وفق بيانات وزارة الصحة السورية، وأظهرت التحقيقات الأولية أن عبوات ناسفة زُرعت داخل المسجد، فيما انتشرت قوات الأمن الداخلي في الموقع وفرضت طوقًا أمنيًا عقب الحادث[2].
في أعقاب التفجير، برز اسم جماعة غامضة تُطلق على نفسها “سرايا أنصار السنة” بعد أن أعلنت عبر تلغرام ووسائل التواصل مسؤوليتها عن الهجوم، وزعمت الجماعة في بيانها أن مقاتليها “بالتعاون مع مجاهدين من جماعة أخرى”، فجّروا عبوات داخل ما وصفته بـ“معبد لعلي بن أبي طالب تابع للنصيرية (العلويين)”، وتبنّى البيان لهجة طائفية حادة، نافيًا أن يكون المستهدف مسجدًا للسنة، ومتوعّدًا بـ“ازدياد الهجمات التي ستطال جميع الكفار والمرتدين.
الجدير بالذكر أن نفس المجموعة كانت قد ادّعت في حزيران / يونيو الماضي مسؤوليتها عن تفجير انتحاري استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق، والذي قُتل فيه ما لا يقل عن 25 مدنياً.
هذا التكرار في استهداف دور العبادة الخاص بالأقليات الدينية أثار تساؤلات مُلحّة حول هوية هذه الجماعة ودوافعها الحقيقية: هل نحن أمام تنظيم حقيقي مستقل ظهر في مرحلة ما بعد الأسد؟ أم أنها مجرد واجهة إعلامية لـ”داعش” تحاول إعادة خلط الأوراق؟ أم أنّ “أنصار السنة” ليست إلا لعبة استخباراتية تديرها فلول النظام السابق لضرب النسيج الاجتماعي وبث الفتنة الطائفية؟ وخاصة بعدما تم استثمار التفجير لرفع مطالب سياسية في احتجاجات طائفية لم تخلُ من أعمال العنف في محاولة لإثارة الفوضى وزرع الانقسام بين السوريين وجرّ الحكومة السورية إلى ساحة المواجهة[3]، في حالةٍ مشابهة لما حصل بعد جريمة زيدل في حمص مطلع الشهر الجاري، والتي أعقبتها كذلك احتجاجات طائفية حرّكها غزال غزال، رغم أن التحقيقات أظهرت لاحقاً أن الجريمة جنائية لا طائفية، ولكن تم استثمار الحدث لرفع مطالب الفيدرالية وشيطنة الحكومة السورية[4].
سرايا أنصار السنة: غطاء لـ “داعش” أم لفلول النظام أم تنظيم مستقل؟
رغم صعوبة تحديد طبيعة جماعة “سرايا أنصار السنة” نظرًا لتشابك الفرضيات حولها وشُحّ المعلومات الموثوقة، يمكن بلورة ثلاث فرضيات رئيسية تسعى لتفسير منشأ وهوية هذا الفاعل الجديد في المشهد الأمني السوري:
انشقاق متشدد عن هيئة تحرير الشام:
أولى الفرضيات تذهب إلى أنّ “سرايا أنصار السنة” تُمثّل تيارًا انشقّ عن هيئة تحرير الشام بسبب خلافات أيديولوجية بعد سقوط حكم الأسد، وبحسب معلومات وتقارير غير مؤكدة يقود الجماعة شخص يُدعى أبو عائشة الشامي الذي كان سابقًا عنصرًا في هيئة تحرير الشام. يُقال إن أبو عائشة انفصل عن الهيئة مطلع عام 2025 بعدما اعتبرها “متساهلة” مع الشيعة والعلويين[5]، حيث رفض هذا التيار المتشدد سياسات العفو والتسويات التي قدّمتها الحكومة الانتقالية لعناصر النظام البائد، وهو ما أظهره البيان التأسيسي لـ“أنصار السنة” في فبراير 2025؛ إذ ندّد بما اعتبره “فسادًا وتسامحًا مبالغًا فيه مع “النصيرية والروافض” من قِبل الإدارة الجديدة”، وأعلن نيته مهاجمة كل مكان لهم.
بناءً على التصوّر المسرود أعلاه، برزت “سرايا أنصار السنة” ككيان مستقل في أواخر كانون الثاني / يناير 2025، مع ادّعائها تنفيذ عمليات اغتيال طالت شخصيات أمنية ومخبرين تابعين للنظام السابق في مناطق مختلفة، فقد تبنّت الجماعة مثلاً عملية في قرية أرزة في حماة مطلع فبراير، والتي قتل فيها أكثر من عشرة مدنيين علويين، كما هاجم مقاتلوها مناطق في سهل الحولة بحمص وريف حماة خلال تلك الفترة، واستهدفوا عناصر أمنيين تابعة للنظام البائد، ومن هذا المنطلق يمكن فهم استهداف “أنصار السنة” للعلويين باعتباره ردة فعل ضدّ السياسات الحكومية تجاه التعامل مع عناصر النظام البائد[6].
واجهة وهمية تديرها فلول النظام البائد:
على النقيض من الفرضية الأولى، يذهب رأي ثانٍ إلى أن “سرايا أنصار السنة” ليست تنظيمًا حقيقيًا متماسكًا على الأرض، بل مجرد واجهة إعلامية مفتعلة تُستخدم كأداة تضليلية من قبل أطراف أخرى – وعلى رأسها عناصر من النظام البائد أو أجهزة مخابراتية تسعى لخلط الأوراق. يستند هذا الطرح إلى جملة من الشواهد والمؤشرات التي تدعو للارتياب في حقيقة وجود الجماعة، منها:
- غياب الدليل المادي: فمنذ ظهرت قناتها على تلغرام في يناير 2025، وتبنّت “أنصار السنة” اغتيالات وهجمات عدة في حمص وحماة والساحل وريف دمشق لم تُبرز أي أدلة مرئية على تنفيذها. البيانات تنهمر تباعًا عبر قنوات مجهولة، لكن لا صور أو مقاطع تثبت قدرة عملياتية حقيقية. هذا النمط يثير “شكوكًا حول الوجود الفعلي” للتنظيم، حيث قد يكون كيانًا افتراضيًا يقتصر نشاطه على الإنترنت واستغلال الحوادث الأمنية التي تقع لتبنيها دعائيًا[7].
- لغة البيانات الركيكة: لاحظ باحثون أن البيانات الصادرة باسم “أنصار السنة” تُعاني من ضعف التنسيق اللغوي والأخطاء التعبيرية، على خلاف البلاغة المعتادة في أدبيات التنظيمات “السلفية الجهادية”[8]، وهو ما لاحظناه سابقاً في بيانات جماعات مرتبطة بالفلول[9].
- إعلان وزارة الداخلية السورية: الوزارة أعلنت أن مُنفّذ تفجير كنيسة مار إلياس انتحاري يتبع تنظيم “داعش”[10]، وقد كشفت في التحقيقات لاحقاً عن الخلية، وبحسب المتحدث باسم الداخلية فإن الانتحاري قدم من مخيم الهول الواقع تحت سيطرة “قسد”[11].
- ضلوع فلول أمنية في إثارة الفتنة: هناك سوابق تاريخية في سوريا ولبنان لاستغلال جماعات وهمية لتمرير أجندات دموية. في هذا السياق، يُستحضر ما عُرف إعلاميًا بـ قضية “أبو عدس” بوصفها مثالًا تقليديًا على توظيف واجهات جهادية مزيفة لتضليل التحقيقات والرأي العام، فبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، ظهر تسجيل مصوّر لشخص يُدعى أحمد أبو عدس يعلن فيه، باسم جماعة جهادية غير معروفة، مسؤوليته عن العملية. لاحقًا تبيّن أن “أبو عدس” كان مجرد واجهة إعلامية، وأن الجماعة المزعومة لم يكن لها وجود فعلي أو قدرة تنظيمية، ما عزّز فرضية استخدامه كأداة تضليل لإبعاد الأنظار عن الجهة الحقيقية المنفذة[12].
غطاء تكتيكي لتنظيم “داعش”:
الفرضية الثالثة تعتبر “سرايا أنصار السنة” واجهة جديدة يتحرك من خلالها تنظيم “داعش” للقيام بنشاطه في سوريا باتباع تكتيكات مختلفة بهدف تجنُّب نقمة المدنيين ومحاولة كسب حاضنة له، ما يعني بأن “داعش” اختار عدم تبنّي العمليات الطائفية الصرفة باسمه الصريح، وفضّل بدلاً من ذلك إطلاق تشكيل جديد يحمل خطابًا أكثر محلية وتخصُّصًا في استهداف الأقليات، تفاديًا لإثارة ردود فعل شعبية معادية كما حدث في تجاربه السابقة في العراق تحديداً، وهناك عدة شواهد داعمة لهذه الفرضية:
- التقاطع الفكري والسلوكي: خطاب “سرايا أنصار السنة” تكفيري صارخ ضد الشيعة والعلويين، وهو مشابه تمامًا لخطاب “داعش” المعلن، والجماعة تتوعّد بمحاربة “الروافض والنصيرية”، ونفّذت بالفعل – أو ادّعت تنفيذ – مجازر وعمليات اغتيال ممنهجة ضد أبناء الأقليات في حمص وحماة وريف اللاذقية. هذه النزعة الإبادية تُعيد للأذهان خطاب الزرقاوي، زعيم تنظيم “القاعدة” في العراق (2006-2007) بالتوازي مع تفجير المزارات الشيعية لإذكاء الفتنة[13]، ويبدو أن “أنصار السنة” تتبع النهج ذاته لكن تحت اسم مختلف. الجدير بالذكر أن الحكومة السورية اتهمت خلية لتنظيم “داعش” بالتخطيط أيضًا لضرب مرقد شيعي قرب العاصمة، حيث أعلنت الأجهزة الأمنية اعتقال عناصر تلك الخلية ومصادرة أحزمة ناسفة ودراجة مفخخة كانت مهيأة لاستهداف مقام السيدة زينب[14]. هذا السيناريو يشير إلى أن “داعش” ربما كان هو الفاعل ميدانيًا، لكنه ترك “سرايا أنصار السنة” تتصدر المشهد الإعلامي.
- البصمات التقنية وشبكات التجنيد: كشفت تقارير بحثية تتبّعت نشاط “أنصار السنة” على الإنترنت أن الجماعة استخدمت بنية إعلامية شبيهة بداعش، فقد أنشأت مؤسسة دعوية (العاديات) وقنوات متعددة، بعضها حمل أسماء مرتبطة بأدبيات “داعش” مثل “دابق”[15]. كما أن إحدى بياناتها أشارت إلى أن فريق النشر الإلكتروني موزّع خارج سوريا في بلدان عدة (منها ليبيا وتركيا والإمارات وحتى بولندا)، وأن التنسيق يتم عبر تطبيقات خاصة. هذا النمط – إن صح – يدل على شبكة لا مركزية عابرة للحدود[16]، وهو ما يتلاءم مع أسلوب “داعش” في التواصل مع الخلايا البعيدة عبر “الأنصار” الإلكترونيين.
بطبيعة الحال، تبقى هذه المعطيات قرائن ظرفية لا أدلة محكمة، لكن إذا صحت فرضية الغطاء “الداعشي”، فإننا أمام تحوّر جديد لـ”داعش” يحاول فيه التكيُّف مع البيئة السورية، وربما يرى قادته أن الأجدى إثارة الفوضى الطائفية عبر جماعات محلّية مبايعة ضمنيًا بدل الظهور المباشر، وبهذا يجني “داعش” مكاسب عدة: يُزعزع الاستقرار ويؤجج العنف الطائفي ضد الحكومة الجديدة من جهة، ويتفادى تحمُّل المسؤولية المباشرة إعلاميًا من جهة أخرى.
خاتمة:
سواء كان الفاعل هو تنظيم “داعش”، أو كان هناك تنظيم فعلي يحمل اسم “سرايا أنصار السنة”، أو كانت هذه الجماعة واجهة مصطنعة تُدار من قِبل فلول النظام البائد لأغراض تضليلية، فإن النتيجة واحدة: استهداف النسيج الاجتماعي السوري ومحاولة تغذية الفتنة الطائفية على نحو مباشر بهدف ضرب مشروع سوريا الناشئة، مثلما حصل في احتجاجات الساحل التي تم استثمارها سياسياً وحاولت نشر الفوضى في الشارع السوري.
ومن اللافت أن تقارير سابقة كانت قد رصدت مؤشرات تُظهر أن أطرافًا إقليمية فاعلة، وفي مقدمتها إيران، استثمرت تاريخيًا في شبكات الغلو والتطرف، بما في ذلك صلاتها المعقّدة بتنظيمي القاعدة و”داعش” في مراحل مختلفة[17]، وعليه فإن ما يجري، سواء عبر أدوات محسوبة على “داعش” أو جماعات موجَّهة من بقايا الأجهزة الأمنية، يخدم في النهاية أهدافًا متداخلة تلتقي عند نقطة واحدة: زعزعة الاستقرار ومنع ولادة سوريا متماسكة وعادلة، وهذا يضع على عاتق السوريين جميعًا مسؤولية كبرى في التحلّي بالوعي والحذر، والتكاتف لقطع الطريق على مشاريع الفتنة التي تسعى إلى إنتاج الانقسام الأهلي والاحتراب الطائفي، والتي تبدو وكأنها تُنسِّق مع بعضها باستخدام أدوات مختلفة[18].
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،




