الإصداراتالتقارير الموضوعيةاللجنة الدستورية وأفق الحل السياسيوحدة الهوية المشتركة والتوافق

هل نشهد مقاربة جديدة للتعاطي مع الملف السوري ؟

تقرير محتوى لندوة حوارية أقامها مركز الحوار السوري من إعداد وحدة التوافق والهوية المشتركة

مقدمة:

في نهاية شهر أيلول الماضي تقدمت الأردن بمبادرة تتضمن تصوراً أولياً لتطبيق الحل السياسي المتعثِّر في سوريا تحت مسمى “اللا ورقة الأردنية”[1]، في إطار جهود معلنة لإيجاد خارطة طريق تتضمن “مقاربة جديدة لتطبيق الحل السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015″؛ وتأتي هذه المقاربة من الأردن التي شاركت سابقاً في التوقيع على عدة وثائق “غير رسمية” في الموضوع ذاته، مثل “اللا ورقة الصادرة عن المجموعة المصغرة” وغيرها[2].

كان للتغيرات التي طرأت على الملف السوري أثرُها المباشر في تغيُّر مواقف الدول، لاسيما التي تُعد “مؤيدة” لقوى الثورة والمعارضة، ترافَقَ ذلك مع اختلاف التعاطي الدولي تجاه نظام الأسد؛ فقد شهدنا تصريحات رسمية أمريكية عن تغيير سلوك نظام الأسد، إلى جانب استمرار تطبيع العلاقات معه من قبل بعض الدول العربية، والتراخي الأمريكي في تطبيق قانون قيصر على نظام الأسد، الذي ظهر مع مشروع نقل الغاز والكهرباء إلى لبنان عبر الأراضي السورية.

وكان مركز الحوار السوري قد أصدر ورقة لرصد ملامح التوجهات الدولية في التعاطي مع الملف السوري، وتأثيرها في مسار الحل السياسي في سوريا، مع تقديم بعض التوصيات التي يمكن العمل عليها للتعاطي معها، بعنوان: “هل نشهد مقاربة جديدة للتعاطي مع الملف السوري؟ قراءة في المواقف الدولية والإقليمية”[3].

وسعياً لاستكمال النقاش حول الخلاصات التي خرجت بها هذه الورقة أقام مركز الحوار السوري يوم 2جمادى الأولى 1443هـ، الموافق لـ 6 كانون الأول/ديسمبر 2021م ندوةً بعنوان: “هل نشهد مقاربة جديدة للتعاطي مع الملف السوري؟”، بحضور عدد من الباحثين والخبراء والسياسيين والمهتمّين.

يأتي هذا التقرير ليضع القارئ في أجواء الندوة والنقاشات التي دارت فيها، مع إيضاح السياق العام الذي أُقيمت فيه الفعالية، وقد أُعدّ من خلال اتباع قاعدة “تشاتام هاوس”[4]، ومن دون التقيد بالترتيب الزمنيّ للعرض والمداخلات؛ فقد استخدم التقسيم الموضوعيّ بقصد ترتيب الأفكار بطريقة سلسة وموضوعيّة تساعد القارئ الكريم -قدر المستطاع- على متابعة الموضوع.

ينقسم التقرير ثماني فقرات: تناولت الأولى السياسة الأمريكية والانعطاف الإقليمي نحو التطبيع مع الأسد، بينما عرضت الثانية موقف الإدارة الأمريكية من “اللا ورقة الأردنية”، واحتوت الثالثة والرابعة الفروق بين المقاربات المحلية والإقليمية والدولية وكذلك السياسية والميدانية، فيما استعرضت بقية الفقرات الأربع الأخيرة الحلول والأدوات التي يمكن لقوى الثورة والمعارضة القيام بها، كترتيب البيت الداخلي وحوكمة المناطق المحررة والتمسك بورقة اللاجئين.

أولاً: السياسة الأمريكية في سوريا والانعطاف الإقليمي نحو التطبيع مع الأسد:

شدَّد أحد باحثي المراكز السورية على ضرورة الانتباه إلى أن السياسات الأمريكية تقوم على الفلسفة البراغماتية، التي ظهرت تجلياتها في الملف السوري حينما تحدث الرئيس باراك أوباما مع الروس حول قدرتهم على حل المشكلة السورية مع إبداء الرغبة في دعمهم. وعليه أشار الباحث إلى أن تقديم المبادرة الأردنية قد يخلق فرصة للحل أمام الأمريكيين، وهم بطبيعة الحال لن يقابلوها بالرفض؛ لكن النقطة المهمة أن تداوُل الأمريكيين فكرة تغيير سلوك النظام تندرج ضمن الدبلوماسية ليس أكثر، وبالتالي من المهم عدم الانخداع بمتغيرات المشهد الإقليمي والدولي والمحلي.

غير أن باحثاً في مركز دراسات سوري آخر أشار إلى أن التحول الأمريكي الأخير لم يظهر على مستوى التصريحات فحسب، وإنما برزت مجموعة من السلوكيات تؤكد حالة التراخي الأمريكي تجاه الملف السوري، ولعل أبرزها: تخفيف العقوبات الاقتصادية وعدم رفع فيتو أمام موجة التطبيع مع نظام الأسد. وقد وافقه في ذلك أحد أعضاء الهيئات السياسية في الداخل السوري، مضيفاً: أن ثمّة تهاوناً أمريكياً واضحاً مع نظام الأسد من الناحية الاقتصادية، بدليل أن “قسد” ترسل ما يقارب /200/ صهريج نفط إلى نظام الأسد بعلم الأمريكيين ودون ممانعة منهم، وأنها أعفت من العقوبات مؤخراً المنظمات غير الحكومية الدولية الراغبة في العمل في مناطق نظام سيطرة الأسد في بعض قطاعات العمل الإنساني وفي قطاع التعافي المبكر تحديداً.

بناءً على ذلك؛ أشار أحد الباحثين السوريين إلى أن الجميع بات يدرك أن الانعطاف الإقليمي نحو التطبيع تجاه نظام الأسد تزامن مع مجيء إدارة بايدن التي اتسمت بالهشاشة والليونة والمهادنة معه، بدليل تكرارها فكرة “تغيير سلوك النظام”، مذكراً أن الإدارة الأمريكية السابقة “إدارة ترامب” كان لها موقف واضح في إيقاف موجة التطبيع الأولى في عام 2018.

لكنّ أحد السياسيين السوريين ذكَّر بإضافة نقطتين مهمتين للاستراتيجية الأمريكية الخاصة بسورية بعد الحديث عن المبادرة الأردنية؛ وهما: الـمُساءلة والمحاسبة، ودعم العملية السياسية بموجب قرار 2254، إلى جانب النقاط السابقة المتمثلة في: عدم عودة داعش، ودعم المساعدات الإنسانية، ووقف إطلاق النار؛ موضحاً أن هناك حالة من الفرملة في العديد من الملفات المتعلقة بسوريا؛ كمشروع خط الغاز العربي، وإعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية.

وهنا أوضح أحد الأكاديميين أن الإدارة الأمريكية غير معنية حالياً باتخاذ موقف فعال تجاه تطبيق القرار 2254؛ لانشغالها بالقضايا الداخلية، وتعاملها مع وباء كورونا، والتركيز على الملفات الاقتصادية. وقد أيّده في ذلك باحثان سوريان رأيا أن الملف السوري أصبح جزءاً من ملفات إقليمية، ولم يعد أولوية لدى الإدارة الأمريكية؛ بل قد يكون ألصق بالملف الإيراني، مع نزوع الإدارة الحالية للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وما يقتضيه ذلك من مهادنة نظام الأسد.

وفي هذا السياق اعتبر الأكاديمي أن عدم أولوية الملف السوري لدى المسؤولين الأمريكيين فتح الباب أمام مقاربات إقليمية لدى دول تشعر بثقل الملف السوري عليها، خصوصاً فيما يتعلق بقضية اللاجئين، وهو ما قد يعطي نظام الأسد إشارة أنه يسيطر على الوضع في سوريا وأنه قادر على التفاوض.

ثانياً: موقف الإدارة الأمريكية من “اللاورقة الأردنية”:

خلال الحديث عن إمكانية أن تكون “اللا ورقة” الأردنية” تعبّر عن الرغبة الأمريكية رأى أحد الأكاديميين السوريين أن أمريكا لا تحتاج للتعبير عن نفسها أو سياساتها من خلال الأردن أو “اللا ورقة”، وأن استثناء الأردن من بعض العقوبات التي يفرضها قانون قيصر لا يعني قدرة الإدارة الأمريكية الحالية على تخفيف تطبيقه ببساطة؛ لأن الكونغرس صادَقَ على القانون، وبالتالي ليس بمقدور أية إدارة أمريكية إلغاؤه أو تجميد العمل به، مشيراً إلى أن موقف الكونغرس متقدم على موقف الإدارة الأمريكية.

في السياق ذاته استبعد أحد السياسيين أن تكون المبادرة الأردنية منسقة مع الجانب الأمريكي، أو حظيت بضوء أخضر منه؛ وهو ما أيده أحد الباحثين مشيراً إلى إمكانية أن يكون الحراك الأردني بالتنسيق مع الروس والإماراتيين والإسرائيليين، وليس حراكاً ذاتياً.

ثالثاً: بين المقاربات المحلية والإقليمية والمحلية:  

رأى أحد الأكاديميين أن الصراع في سوريا يندرج في ثلاثة مستويات؛ مستوى محلي: بين نظام الأسد والفصائل العسكرية، وإقليمي: بلغ ذروته بين عامي 2013 و2014 بين تركيا والسعودية وقطر من جهة وإيران من جهة أخرى، ودولي: يرتكز على الصراع الخفي – إن صح التعبير- بين الولايات المتحدة وروسيا، مضيفاً أنه عند طرح أية مبادرة تتعلق بالقضية السورية يفترض معرفة في أي مستوى تندرج.

تُعد المقاربة المحلية التي تتضمن مبادرة الفواعل المحلية -تحديداً نظام الأسد باعتباره المعني بها- إلى تطبيق الحل السياسي المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن 2254، بما يعني ضمنياً إنهاء نظام الأسد وتشكيل هيئة حكم انتقالية وإطلاق سراح المعتقلين…إلخ؛ أمراً مستحيلاً وغير ممكن، وبالتالي ليس هناك أي شكل من أشكال المقاربة المحلية للحل في سوريا.

ترتكز المبادرات الإقليمية حالياً -والكلام ما يزال للأكاديمي- إلى الأردن التي تُعد إحدى الدول الإقليمية المتأثرة بما يحدث في سوريا، وبالعودة إلى تاريخ المقاربات الإقليمية خلال “الأزمة السورية” نجد أنها غير مكللة بالنجاح حتى أكثرها زخماً كـ “مسار أستانا” الذي كان عبارة عن مزيج لمقاربتين إقليمية ودولية؛ إذ نجح بشكل طفيف في تجميد العنف وتثبيت الصراع لفترة من الفترات، قبل أن تسيطر روسيا على المناطق الرئيسة كحلب والغوطة وغيرها؛ لكنها انتهت بالفشل، دون القدرة للوصول إلى أي حل لـ “الأزمة السورية”.

بناءً عليه يرى الأكاديمي أن نسبة نجاح المبادرة الأردنية هي أقرب إلى “الصفر” لثلاثة أسباب؛ الأول: أن تاريخ المقاربات الإقليمية لحل “الأزمة السورية” لم يُكلَّل بالكثير من النجاح، وثانياً: أن مبدأ “خطوة مقابل خطوة” جُرب في سوريا وفي كل مرة يصل الجميع إلى قناعة أن نظام الأسد غير مستجيب، أو أن استجابته -في حال حدوثها- ليس لها أي تأثير في التغيير، سواءٌ في سلوكه أو في نظامه، وثالثاً: صدور المبادرة عن دولة ليست ذات ثقل إقليمي في الملف السوري بشكل أو آخر، بل هي دولة تعاني من الأزمة السورية، وإن كانت حليفة لواشنطن؛ إلا أنها لا تملك الكثير من الأوراق لتلعبها وتؤثر بها في الملف السوري، أو لتُقنع بها الفاعلين. ولذلك تنظر الأردن -بحسب الأكاديمي- إلى العوائد الاقتصادية من الانفتاح الجزئي مع نظام الأسد، بحيث تكون كافية نسبياً لتجاوز آثار “الأزمة” عليه، ولكن لا تستطيع في حال من الأحوال أن تقود إلى حل نهائي للقضية السورية.

إلى جانب هذه العوامل الموضوعية يرى الأكاديمي أن ثمة عاملاً متعلقاً بطبيعة نظام الأسد الذي وصل إلى قناعةٍ أن: “أي تغيير جزئي سوف يقود في النهاية إلى سقوطه بالكامل”؛ لذلك نجده أكثر شراسة وأكثر دموية. وهذا ما أيده أحد السياسيين مستبعداً أن يُقدم هذا النظام على أية خطوة تجاه الحل السياسي، عادّاً أن أي قرار لتغيير سلوك النظام يحتاج لإجماع دولي، كما حصل في جنوب إفريقيا عندما قرّر المجتمع الدولي تغيير نظام الفصل العنصري.

وإجابةً عن سؤالٍ طرحه أحد المشاركين في الندوة حول احتمالية نجاح هذه المبادرة الإقليمية على اعتبار أنها تركز أكثر على تغيير سلوك نظام الأسد فيما يتعلق بابتعاده عن إيران، خصوصاً أن ثمة رسائل وجهها الروس للإسرائيليين وتعهدوا فيها بإبعاد النظام عن إيران، وليس تغيير سلوكه في التعامل مع السوريين كالإفراج عن المعتقلين ووقف إطلاق النار وتحقيق الانتقال السياسي؛ أوضح الأكاديمي: أن مثل هذه المقاربة سبق أن جُربت في عام 2009، حين سعت الولايات المتحدة للانفتاح على نظام الأسد وعيّنت سفيراً لها في دمشق للمساهمة في إبعاده عن الحضن الإيراني، إلا أنه بمجرد أن حدثت الثورة السورية ألقى النظام مؤسساته في حضن إيران، وهذا ما حدا بالبعض للقول بسيطرة إيران سياسياً واقتصادياً مالياً وطائفياً وعقائدياً، بحيث من المستحيل الحديث حالياً عن فكّ الارتباط بين نظام الأسد وإيران.

أما بخصوص المقاربات الدولية الخاصة بالملف السوري فقد كانت آخر مقاربة بحسب الأكاديمي عام 2015 عند تأسيس إدارة أوباما السابقة ما سُمي آنذاك “المجموعة الدولية لدعم سوريا”، التي انبثق عنها المساران الإنساني والسياسي، والتي ترافقت بتوافق روسي-أمريكي تُوج بصدور قرار مجلس الأمن 2254/2015، والذي دعا إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي وانتخابات ودستور جديد خلال 18 شهراً.

وأشار الأكاديمي إلى أن هذه المبادرة لم يُكتب لها التنفيذ، لتدخل بعد ذلك الولايات المتحدة مع إدارة ترامب في مسار محلي وسياسة خارجية غير متوقعة، غيرَ آبهة لما يجري في سوريا، لافتاً في الوقت ذاته إلى أن صدور قانون قيصر ودوره الرئيسي في الملف السوري كان خطوة أحادية الجانب من الولايات المتحدة.

بناءً على ما سبق توقع الأكاديمي أنه لن يكون هناك أي شيء جديد مع إدارة بايدن؛ لأن الأخيرة لا تضع الملف السوري أولوية، وستتعامل مع الملف السوري بشكل فردي أكثر، مع تطبيق جزئي للعقوبات الاقتصادية على نظام الأسد، والتركيز على الملف الإنساني، وبالتالي لن تكون هناك مبادرة سياسية لتطبيق القرار 2254، خاصة بعد تبنّي الولايات المتحدة مبدأ رئيساً “أنه لا يوجد في سوريا أفضل مما كان”، بمعنى تثبيت الوضع القائم على ما هو عليه، وعدم تشجيع الأطراف على استخدام العنف ثانية، خصوصاً في إدلب، وعدم تغيير خطوط التماس المختلفة.

واختتم الأكاديمي مداخلته بالقول: إن الولايات المتحدة تخوض حالياً مفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، وبالتالي ليست في صدد قيادة جهود لصياغة مقاربة دولية حول سوريا، أما إقليمياً فيكاد يكون من المستحيل صياغة مقاربة ناجحة، وهذه قناعة لدى القوى الإقليمية الفاعلة في الملف السوري، خاصة لدى تركيا التي حاولت سابقا أن تفتح حواراً مع إيران بشأن سوريا وكانت دائماً تصل لطريق مسدود.

رابعاً: بين المقاربة السياسية والمقاربة الميدانية:

بعد أن ركّز الأكاديمي السوري على المقاربات الخاصة بالملف السوري وفق معيار جغرافي؛ فقد تحدّث أحد الباحثين السوريين عن المقاربات وفق معيار موضوعي، مميزاً بين المقاربات الميدانية والسياسية.

حيث أشار بداية إلى أن أي سيناريو للحل في سوريا يجب أن يكون قائماً على التوافق السياسي؛ أي على “مقاربة سياسية”، معتبراً أن الوضعَ الحالي في سوريا الذي يطغى عليه سيناريو “التجميد والسيولة” ناتجٌ عن تركيز الدول الفاعلة على التوافقات الأمنية التي لا يمكن البناء عليها سياسياً ولا حتى عسكرياً، مع وجود بعض النقاط الإشكالية كملف شرق الفرات وإدلب.

وفي تعليقه على “اللا ورقة الأردنية” أكد الباحث أنها أتت مقاربة ما دون سياسية تنطلق من معطيات الجغرافية العسكرية والجغرافية السياسية في سوريا التي عطّلت مصالح دول الإقليم بالمعنى الاقتصادي، وثاقلت من همومه، خصوصاً في ظل عدم وجود رغبة في حل سياسي أو تقدم سياسي، بمعنى آخر: ليس للمبادرة التي تضمنتها “اللا ورقة الأردنية” آثار سياسية واضحة. وتابع: إنها تستمد زخمها من سعي روسيا إلى تشكيل حلف مع العرب وتركيا، مذكراً في هذا السياق بالاجتماع الذي عُقد في الدوحة بين تركيا وقطر وروسيا، موضحاً أنه مهما كانت هذه المقاربة قوية فليس من الضروري أن تحقق نتائج كمسار أستانا الذي بلغت قدرته أنه أثّر في مسار جنيف “الذي أصبح يسير ببوصلة أستانا”، على الرغم من تمسُّك المنظومة الدولية -على الأقل نظرياً- بجنيف حتى الآن.

كما أوضح الباحث أن ثمة هوامش تتيح لبعض الدول الاستفادة منها للمضي في مقاربات خاصة بها، كما هو حال الموقف المصري الرسمي؛ الذي يقول بضرورة توافق الحل السياسي مع القرارات الدولية وتحت إشراف مباشر من الأمم المتحدة، في الوقت الذي يفتح فيه علاقات مع نظام الأسد، بل ويقدم له استشارات عسكرية ويدعم عودته للجامعة العربية.

وختم الباحث مداخلته بالإضاءة على سيناريوهَين محتملَين لمسار الحل السياسي في سوريا من وجهة نظره:

السيناريو الأول: الـمُراوحة في المكان دون أية تحولات سياسية حقيقية، مع بقاء جنيف مرجعاً سياسياً، ويدعم ذلك عدة نقاط:

  • مسار غير منتج للجنة الدستورية التي تعتمد مبدأ عقد الجولة دون الإلزام بالإنتاج.
  • عدم وجود الإرادة الدولية التي تترجم التفاهمات الأمنية المؤقتة إلى اتفاقيات سياسية مستدامة، مع الافتقاد إلى مؤشرات إمكانية تحقق التوافقات السياسية.
  • الجغرافية السورية أصبحت منصة لتحسين أوراق الدول المنخرطة في القضية السورية “روسيا وتركيا وإيران”.
  • الانزياحات التي يفرزها منطق التجميد نفسه، كالاستثناءات الأمريكية للعقوبات وتحسين التموضع السياسي لنظام الأسد من خلال مظلة عربية.

السيناريو الثاني: شبيهٌ بالأول؛ ولكن مع تفاصيل جديدة دون الوصول إلى تفاهمات ناجزة، بما يعني أن مسار اللجنة الدستورية سيبقى مستمراً، مع محاولة الروس الاستفادة منه وفق ما يلي:

  • أن ما يُقدَّم في اللجنة الدستورية هي مقترحات دستورية تُعالج ضمن أطر وقوانين الدولة “السورية”، وأن هذه النقاشات مهما دُفع بها لا تقترب من منظومة التأثير والحكم.
  • المحافظة على المركزية وربطها بدمشق، مع عدم تحديد جدول زمني لمسار اللجنة الدستورية، وبالتالي بقاء الإطار الزمني مفتوحاً، مع إمكانية وجود ضغوط إعلامية على مسار اللجنة الدستورية فقط.
  • إمكانية طرح مقاربات تؤخّر الحل السياسي لصالح ما دونه؛ وهذا ما يحدث الآن.

خامساً: في ضرورة ترتيب البيت الداخلي قبل مخاطبة العالم الخارجي:

اتفق أكثر من مشارك على ضرورة تنظيم البيت الداخلي للمعارضة السورية التي هي بالأصل لا تمتلك ثقلاً سياسياً ولا موارد من أجل تقديم مقاربة جديدة. وهنا دعا أحد الباحثين من أجل تجاوز ذلك إلى ضرورة دعم وحشد الطاقات بما يخدم الثورة السورية، مع توزيع المسؤوليات وعدم تهميش أو إلغاء أي صوت ناقد للمعارضة الرسمية، سواءٌ كان النقد متعلقا ببنيتها أو وظيفتها، معتبراً أن فكرة المسؤولية ليست متعلقة بالجهات الرسمية؛ إنما يجب أن تكون هاجساً لدى الجميع. وأضاف ضرورة فتح مسارات ودعم تيارات سياسية غير رسمية، لِـمَا تمتلكه من هامش أكبر في التحرك.

كما اقترح باحث آخر من أجل مخاطبة الأمريكيين والأوروبيين تشكيل كتلة سورية من النخب والكفاءات التي بإمكانها التأثير في سياسات الدول الإقليمية والدولية، وتوجيه رسائل طمأنة بأن سوريا المستقبل ستكون عامل استقرار وأمن في المنطقة، وسبيلاً لمحو سلبيات السنوات الماضية والتطرف الذي ظهر.

وتعقيباً على ذلك أكّد باحث سوري ضرورة تقديم السوريين مبادرةً تُقنع العالم -وفي مقدمته أمريكا- أن القضية السورية يجب أن تكون قضية مستقلة وذات أهمية، ويجب ألا تكون مقترنة بقضية أخرى، متسائلاً ما إذا كانت المعارضة السياسية قد فكرت في هذا الاتجاه أم أنها ترى في القضية السورية مجموعة من الأوراق تحملها بحقيبة للتسول بها أمام سفارات العالم.

في المقابل: أشار أحد العاملين في المجتمع المدني في الداخل السوري إلى خشيته من تحول “اللا ورقة الأردنية” إلى مرجعية للحل السوري في ظل ضعف المعارضة السياسية والتمثيل السياسي.

سادساً: كيفية استثمار الفرص المتاحة في الملف السوري:

في إطار النقاش حول الآليات المتاحة للتعامل مع التحولات الدولية المتعلقة بشكل مباشر أو غير مباشر بالقضية السورية؛ رأى أحد السياسيين أن حالة الجمود التي تمر بها القضية السورية أدت إلى نوع من الاستسلام والإحباط الذي عمَّ الشعب السوري، منبِّهاً بالمقابل أن المشهد العالمي حالياً متغير؛ فقد انقلب العالم مع بداية كورونا رأساً على عقب في بعض المجالات، إلى جانب التركيز الأمريكي على الصين، وبداية نشوء تحالفات جديدة على أنقاض تحالفات قديمة، إضافة إلى الخطر الروسي على حدود أوكرانيا وملف بيلاروسيا والوقوف على سور دول الاتحاد الأوروبي، وإضافة كذلك إلى الملف النووي الإيراني ومفاوضاته وآخر محطاته التي  كانت سلبية، وغيرها من الملفات الإقليمية والدولية؛ لذلك من المهم -والكلام ما يزال للسياسي- البحث عن نقاط يمكن أن تكون مفيدة لتحصيل مكاسب للقضية السورية، والتأثير فيها بما ينعكس إيجاباً على مصالح الشعب السوري.

في السياق ذاته تابع أحد أعضاء الائتلاف الحديث، مبيناً أنه في ظل ما آلت إليه الأوضاع في سوريا ومسار الحل السياسي بات من المهم الاستفادة من الفرص المتوفرة في الوقت الراهن، وهي:

  • دراسة الهوامش المتاحة للمبادرات السياسية، سواء حسب 2254 أو خارج هذا القرار الأممي؛ فنحن لدينا 3 قرارات محورية: بيان جنيف و2118 و2254؛ والقرار 2118 هو الأفضل مقارنة بالقرارات الثلاثة.
  • إعادة تشكيل جبهة حلفاء دوليين، بالاستفادة من المتغيرات المستمرة على الساحة الإقليمية، كالتقارب الخليجي – الخليجي، والخليجي- التركي، والخليجي- المصري، والمصري- التركي، إضافة لإعادة إحياء العلاقات مع دول أصدقاء سوريا.
  • المزيد من المناصرة لعودة الملف إلى المقدمة، كالحضور الدائم على جدول أعمال المجتمع الدولي، مثل: الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية، والدول الصديقة؛ فيجب السعي باتجاه الدول التي لا تتفاعل مع قوى الثورة والمعارضة في المحيط العربي والإسلامي والفضاء الدولي الأوسع.
  • الضغط باتجاه سلة الحكم عبر العودة إلى هيئة المفاوضات ومسار جنيف؛ إذ يجب أن يكون ثمّة جبهة ضغط للتحرر من قيد اللجنة الدستورية، والتمكن من إعادة طرح سلة الحكم عبر إعادة هيئة المفاوضات لمكانها الطبيعي.
  • الإبقاء على جميع المسارات السياسية لخلق فرصة ما، مع التمسك بكل اللقاءات الدولية والأممية، حتى لو كانت مبدئياً تحت مسمى اللجنة الدستورية. مع عدم الخروج من مسارها إلا بتوفر مسار آمن آخر يضمن العودة لمسار جنيف وهيئة المفاوضات السورية وحل مشكلة المستقلين، وعبر التقارب التركي السعودي الذي يمكن عبره إعادة تفعيل هيئة المفاوضات ووضعها على السكة؛ فاللجنة الدستورية لا يمكن أن تفتح سلة جديدة، وأما هيئة التفاوض فربما تضغط باتجاه سلة الحكم وبقية السلال.
  • محاولة إعادة السياقات للقرار 2118/2013 إضافة للقرار 2254/2015، لاسيما تلك التي فيها إمكانية العودة لمجلس الأمن في حال كرر النظام استخدامه الأسلحة الكيمائية، لبحث إمكانية العمل تحت الفصل السابع؛ وهذا الأمر يحتاج جهود مناصرة حقيقية اجتماعية وسياسية.
  • إثارة شرط “البيئة الآمنة والمحايدة” الذي تحول إلى “عودة طوعية” فقط، وجعله أساسياً للمضي بأي مسار انتخابي أو دستوري في إطار عملية الانتقال السياسي.
  • تشكيل “لوبي” ضاغط من الجالية السورية لإعادة الملف السوري إلى أولويات الإدارة الأمريكية؛ لأن المفتاح الأساسي لأي عملية سياسية في سوريا مرتبطة بسلّم أولويات الإدارة الأمريكية.
  • تشكيل أدوات وعناصر قوة إضافية في الداخل المحرر لدعم المفاوض، وتتمثل في نقطتين:
  • مزيد من النقاش مع الحليف التركي لجعل الداخل المحرر في الشمال عنصراً من عناصر الضغط والقوة على المجتمع الدولي.
  • إيجاد بديل عسكري أمني عن الجبهات المفتوحة في قلب العدو وضرب مصالحه.

سابعاً: أهمية حوكمة المناطق المحررة:

لطالما ركزت الدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث أو الباحثين على قضية الحوكمة في المناطق المحررة وضرورة تعزيزها، وهو ما أشار إليه عضو الائتلاف الوطني الذي شدد على ضرورة جعل الشمال المحرر أكثر حوكمة، وفرضه بوصفه أمراً واقعاً وإدارةً ذاتيةً لا يمكن تجاوزها.

وقد بنَى أحد الباحثين على الكلام السابق، وأشار إلى مساحات عمل حول الحوكمة في المناطق المحررة، لكنه رأى أن مقاربتها ليست عمودية؛ بمعنى أن تأتي من الائتلاف أو الحكومة المؤقتة، وإنما موضوعية عبر البحث عن مرجعية افتراضية قائمة على توحيد الأنظمة؛ فمساحات العمل في الداخل السوري متوفرة على الرغم من الصعوبات المعقدة. ويضيف: إذا ما نظرنا إلى بعض المبادرات الزراعية والصناعية والمدنية، كما في حالتَي لجنة طوارئ اعزاز التي تضمّ عسكريين ومدنيين والمجلس المحلي، ولجنة ردّ المظالم في عفرين، فإن جميعها نقاط يُبنى عليها. ولعل أسباب نجاحها النسبية تعود إلى كونها مبادرات ليست مركزية؛ لأنها لو كانت مركزية لَتعرضت إلى ضغوط أكبر نظراً لضيق هوامش المعارضة التي تمثل المركز ممثلة بالمعارضة الرسمية.

كما شدّد الباحث على ضرورة عدم الدفع باتجاه تحويل الانقسام الأمني وأنماط الحوكمة الأربعة في سوريا إلى انقسام اجتماعي؛ فلابد من العمل على خلق حوارات تلغي توصيفات كل طرف من الأطراف، وهذا الأمر لا تقع مسؤوليته على الأجسام الرسمية فحسب، وإنما يتحمله الجميع؛ بدءاً من الناشطين السياسيين والمدنيين وصولاً إلى العاملين في منظمات المجتمع المدني.

ثامناً: التمسك بورقة اللاجئين السوريين.

بدأت القرارات الدولية الخاصة بالحل السياسي في سوريا بالتركيز على قضية اللاجئين السوريين مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، الذي أكد ضرورة تهيئة الظروف المواتية للعودة “الآمنة والطوعية” للاجئين والنازحين داخلياً إلى مناطقهم الأصلية وتأهيل المناطق المتضررة.

في هذا السياق أكد أحد الباحثين السوريين أن ورقة اللاجئين والنازحين هي أقوى ورقة في الملف السوري، وبالتالي من المهم ربط هذا الملف بتحقيق بيئة آمنة ومحايدة دون التنازل عن مفردة “محايدة”؛ فالتركيز على هذه المفردة يعيدنا إلى هيئة الحكم الانتقالية من جهة، ويجنّبنا الحلول الظاهرية التي يدّعي النظام وحلفاؤه القيام بها لتكون بديلاً عن هذه البيئة من جهة ثانية.

واختتم الباحث حديثه بالتأكيد على ضرورة إبقاء ورقة اللاجئين بيد السوريين، وعدم تركها عرضة للمفاوض الرسمي، بل ربطها بالحوامل المجتمعية؛ مع ما يتطلبه ذلك من تنظيم المجتمع خاصة شريحة المهجرين والنازحين واللاجئين ليكون لديهم موقف ثابت أنْ لا عودة دون توفر بيئة آمنة ومحايدة. وهذا ما توافق عليه أحد الأكاديميين السوريين وعضو من الائتلاف الوطني، اللذان دعوا إلى إعادة إحياء شرط “البيئة الآمنة والمحايدة” الذي تحول إلى “عودة طوعية” فقط، وجعله أساسيا للمضي بأي مسار انتخابي أو دستوري في إطار عملية الانتقال السياسي المنصوص عليها في بيان جنيف وقرار 2118، والتي مُيعت في القرار 2254.

كذلك شدّد أحد السياسيين على أهمية الاستفادة من ملايين السوريين في الخارج، وبناء قوة معارضة مبنية على قوة السوريين، خاصة بعد أن أهدرت المعارضة الرسمية نقاط القوة المتمثلة بالشعب، وبقيت تتبع “فتات موائد المؤتمرات العالمية” التي هي بالحقيقة لم ولن تأتي بنتيجة.


[1] في 19/7/2021 التقى العاهل الأردني رئيسَ الولايات المتحدة جو بايدن، وعقب هذه الزيارة تسربت إلى الإعلام ورقة تقدم بها العاهل الأردني إلى رئيس الولايات المتحدة تحمل تصوراً لحل القضية السورية، اصطلح على تسميتها “اللاورقة الأردنية”؛ نظراً لأنها عُنونت بـ “Non paper”.
جاءت اللاورقة هذه في 5 صفحات، متضمنة أربعة عناوين رئيسة، هي: أين نحن؟ ماذا علينا أن نفعل؟ كيف؟ الخطوات القادمة، مع جدول يبين العروض والخطوات المطلوبة. وكانت الوثيقة قد سُربت عبر موقع العربي الجديد.
يُنظر: صبحي فرنجية، “العربي الجديد” ينشر مضمون “اللاورقة” الأردنية للحل في سورية، العربي الجديد، 12-10-2021، شوهد في: 22-12-2021.
[2] من أهم الأمثلة على هذه الوثائق تبرز كل من: وثيقة اللاورقة (ورقة تيلرسون) الصادرة عن مجموعة الدول الخمس (فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والأردن) متشابهة التفكير في 23/1/2018، ووثيقة إعلان المبادئ الصادرة عن المجموعة الدولية ذاتها بعد التوسعة “المجموعة المصغرة من أجل سوريا ” أو “مجموعة السبع”، وهي دول (فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والأردن وألمانيا ومصر)، عقب اجتماعها في مدينة جنيف السويسرية في 13 /9/2018.
يُنظر: إبراهيم حميدي، ورقة خماسية بقيادة أميركية: تقليص صلاحيات الرئيس، صالون سوريا، 16-1-2018، شوهد في: 22-12-2021، وعدنان أحمد، رؤية المجموعة المصغرة” للحل بسورية: تقليل صلاحيات الرئيس وإشراف مدني على الأمن، العربي الجديد، 14-9-2018، شوهد في: 22-12-2021.
[3] د. أحمد قربي، نورس العبد الله، هل نشهد مقاربة جديدة للتعاطي مع الملف السوري؟ قراءة في المواقف الدولية والإقليمية، مركز الحوار السوري، 22-11-2021، شوهد في: 22-12-2021.
[4] يُقصد بقاعدة “تشاتام هاوس” أنه: «حينما يُعقد اجتماع أو جزء منه في إطار قاعدة تشاتام هاوس فإن المشاركين يكونوا أحراراً في استخدام المعلومات التي يحصلون عليها، لكن من دون كشف هوية المتحدث أو انتماءه أو أي شخص آخر، ودفعاً للقارئ للتركيز على سياق الحوار ومضمونه بغضّ النظر عن أشخاصه”. يُنظر:
Chatham House Rule, Chatham House.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى