الواقع الاقتصادي في الشمال السوري وتأثره بحالة التذبذب في الليرة التركية
تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
شهدت مناطق الشمال السوري المحرَّر[1] هزّة اقتصادية عنيفة تكررت للمرة الثانية خلال عامَين؛ فبعد الانهيار المتسارع لليرة السورية منتصف عام 2020 واعتماد التداول بالليرة التركية تعرضت هذه المناطق لهزّة اقتصادية جديدة عقب حالة عدم الاستقرار في قيمة الليرة التركية، الذي ظهر بشكل واضح في النصف الثاني من عام 2021، وتجلت بأوضح صورها في منتصف شهر كانون الأول منه قبل أن تعود الليرة التركية للتعافي النسبي بشكل سريع.
وعلى الرغم من عودة الليرة التركية إلى حاجز 12 ليرة مقابل الدولار في نهاية شهر كانون الأول 2021، بعد أن اقتربت من قيمة 18 ليرة مقابل الدولار في الـ 20 من الشهر نفسه؛ فإن ارتدادات هذا التذبذب كانت واضحة في مناطق الشمال السوري، إذ ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وانخفضت القيمة الشرائية للرواتب، وبدأت بوادر أزمة إنسانية كبيرة بالظهور في المنطقة، لاسيما وأن الأسعار لم تعاود الهبوط مع التعافي النسبي لليرة التركية.
وتُظهر هذه الحادثة مدى هشاشة الاقتصاد في هذه المنطقة؛ لذا يبدو ضرورياً دراسة ما حدث مؤخراً وأخذ الدروس والعِبر بهدف تطوير حلول من شأنها تخفيف المعاناة الإنسانية والآثار الاقتصادية إن عادت حالة عدم الاستقرار في قيمة الليرة التركية مجدداً كما يتوقع البعض، وإعادة النظر في الواقع الاقتصادي لهذه المناطق وتطويره بوصفه أحد وسائل دعم الاستقرار والتعافي المبكر.
وانطلاقاً مما سبق يحاول هذا التقرير التعريف الإجمالي بمستجدات واقع الحياة في الشمال السوري من الناحية الإنسانية والاقتصادية والخدمية، والتطرق إلى ما خلّفته حالة تذبذب الليرة التركية من المشاكل والانعكاسات الاقتصادية على المجتمع في تلك المناطق، واقتراح بعض الحلول العملية التي يمكن من خلالها التخفيف من الآثار السلبية ومنع تكرارها.
وقد اعتمد هذا التقرير في بياناته الأولية على مخرجات ورشة نقاش مركَّزة على مستوى الخبراء، أقامها مركز الحوار السوري، وشارك فيها مجموعة من الأكاديميين المتخصصين في الاقتصاد وعدد من قيادات المجتمع المدني والباحثين[2]، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات والدراسات والتقارير التي تساعد على الإحاطة بالواقع الاقتصادي الحالي.
ويناقش التقرير في قسمه الأول واقع الحياة في الشمال السوري بشكل مختصر، وذلك بالتطرق إلى الجوانب الإنسانية والاقتصادية والخدمية والاستثمارية، ثم سيحاول في قسمه الثاني تسليط الضوء على تأثير تذبذب الليرة التركية وانعكاساته على اقتصاد هذه المنطقة، بينما يستعرض في القسم الثالث أبرز الأسباب وراء المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها المنطقة، فيما يقدّم في قسمه الأخير مجموعة من الحلول والتصورات التي من شأنها التعامل مع المشاكل الآنية والمشاكل الاستراتيجية.
أولاً: واقع الحياة في الشمال السوري
يُقدَّر عدد سكان مناطق الشمال السوري المحرر ب 6.7 مليون نسمة بشكل تقريبي؛ يعيشون على مساحة قدرها 20.3 ألف كم2 تشكل 11% تقريباً من مساحة سوريا[3]، بكثافة تصل إلى 330 شخصاً في الكيلومتر المربع الواحد، ويتوزع السكان بين ثلاث مناطق رئيسة؛ 4.2 مليون شخص في مناطق إدلب وريف حلب الجنوبي الخاضعة لـهيئة تحرير الشام- “هتش” ً[4] بنسبة تصل إلى 63% من إجمالي القاطنين في مناطق سيطرة المعارضة، و2 مليون شخص في منطقة درع الفرات “جرابلس واعزاز والباب”[5] بنسبة تصل إلى 30%، ونصف مليون شخص في مناطق غصن الزيتون “منطقة عفرين وريفها” بنسبة تصل إلى 7 % وفق تقديرات تركية[6]، ويبلغ عدد سكان المخيمات قرابة 1.5 مليون نسمة[7]، يشكّلون 23% من إجمالي عدد السكان الكلي وفقاً للإحصائيات الأخيرة التي نشرها فريق الاستجابة العاجلة التابع لوحدة تنسيق الدعم[8].
وقد تعرضت المنطقة لتدمير ممنهج من قبل قوات نظام الأسد وحلفائه على مدى السنوات العشر الماضية؛ فخرجت عن الخدمة أكثر من 5487 منشأة حيوية تضم مشافٍ ومدارس نتيجة القصف والاستهداف المتكرر، ودُمّر ما يزيد عن 60% من الأحياء السكنية أو أصبحت غير قابلة للسكن[9].
الجانب الإنساني
يعيش قرابة 80% من سكان الشمال الغربي في سوريا على المساعدات الإنسانية، نصفهم من الأطفال، وقد زادت الاحتياجات الإنسانية في المنطقة بنسبة 21 % بين عامي 2020 و2021[10]، في وقتٍ تراجع فيه تمويل المساعدات الإنسانية بشكل واضح؛ مما يُنذر بحدوث مجاعة وشيكة في سوريا[11].
يشكّل عمل المنظمات الإنسانية السورية وما تنفذه من مشاريع الاستجابة الإنسانية ما يقارب ثلث الاقتصاد في الشمال السوري[12]؛ إلا أن هذه المشاريع – خاصة ما يتعلق بقطاع الأمن الغذائي – شهد تراجعاً واضحاً عام 2021، حيث تراوحت نسبة العجز في استجابة القطاع الغذائي لعام 2021 ما بين 52 – 59%[13]، كما أن هذه المنظمات ما تزال تواجه العديد من المشاكل الطارئة كموجات النزوح الطارئ وتداعيات جائحة كورونا، أو تأمين المتطلبات الإضافة للاستجابة في فصل الشتاء كتأمين الوقود والتجاوب مع حالات غرق المخيمات، أو تأمين الخبز وهي المشكلة التي ظهرت مؤخراً.
الجانب الاقتصادي
قدَّر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية “مارتن غريفيث” في شهر تشرين الأول لعام 2021 أعداد السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر بأكثر من 90% من إجمالي عدد سكان في سوريا[14]؛ إذ تشير تقديرات خبراء إلى أن البلاد متجهةٌ نحو مجاعةٍ بسبب ثلاثة عوامل: الجفافُ المستمر والمتفاقم بسبب سياسات إدارة المياه في المنطقة، بالإضافة إلى التدهور غير المسبوق للأمن الغذائي الذي تفاقم بسبب ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، وتراجع الدعم الإنساني من المانحين الدوليين[15].
ويُقدِّر بعض الخبراء ما تحتاجه العائلة المؤلفة من 5 أفراد بـ 200 دولار (2400 ليرة تركية) في الحد الأدنى كمصاريف شهرية لتؤمّن احتياجاتها الأساسية دون احتساب إبجار المنزل، وهو مبلغ لا يتوافر عند غالبية سكان هذه المنطقة الذين يعتمد معظمهم على المساعدات، وبالتالي انقسمت مناطق الشمال السوري إلى: طبقة ميسورة، وطبقة فقيرة، وطبقة ضمن وضع الفقر المدقع[16]، وهو تقسيم يختلف عن البلدان التي تعيش ظروفاً اعتيادية وتشكّل فيها الطبقة المتوسطة نسبة جيدة[17].
ومع ارتفاع معدلات البطالة في الشمال السوري تبدو أغلب فرص العمل المتوفرة بشكل محدود غير كافية لتأمين احتياجات المعيشة الأساسية؛ حيث تشير دراسة صادرة عن وحدة تنسيق الدعم في بداية عام 2021 إلى أن 73% من الأشخاص العاملين حالياً غير قادرين على الوصول إلى الحد الأدنى من المصاريف الشهرية الأساسية والمقدرة بـ 200$، بينهم 28% يقل وسطي دخلهم الشهري عن 100$[18].
وبالنظر إلى وضع اليد العاملة: يمتلك قرابة 10% أعمالاً تدرّ لهم دخلاً ثابتاً[19]، في حين يضطر البقية للعمل بأعمال يومية وبأجور زهيدة تتراوح بين 15-25 ليرة تركية يومياً، وتتراوح أجرة الساعة بين 1- 2.5 ليرة تركية؛ وبالتالي فإن العائلة التي ليس لديها عمل بدخل ثابت تستطيع – في أحسن حالاتها – تأمين ما يقارب 800 -1300 ليرة تركية، أي ما يقارب 30 -40% من الاحتياجات الأساسية للمعيشة، وهي نسبة تراجعت مؤخراً نتيجة جائحة كورونا وانخفاض حجم التحويلات الخارجية والمساعدات الفردية من المغتربين إلى أقاربهم في المنطقة[20].
ومن جهة أخرى تمتلك مناطق الشمال السوري بعض الإمكانيات الاقتصادية التي يمكن الاستفادة منها؛ فهناك ما يقارب 30 مليون شجرة زيتون، ومحصول جيد من القمح والحبوب والخضار والفواكه تكفي حاجة الأسواق المحلية، إلا هذه المناطق تواجه أيضاً تهديداً جدّياً يطال الثروة الحيوانية نتيجة غياب العلف، كما تواجه مشكلة في تأمين الخبز بسعر مدعوم يتناسب مع القدرة الشرائية للمواطنين[21].
الجانب الخدمي والاستثماري
تشير إحدى الدراسات الصادرة إلى ارتفاع طفيف في مؤشرات التعافي المبكر بنسبة 7% مقارنة بالنصف الثاني من العام السابق، وذلك من خلال رصد المشاريع التي قامت بها المنظمات السورية والمجالس المحلية لتأمين بعض الخدمات الاجتماعية والنقل والمواصلات وتوفير الكهرباء والمياه والصرف الصحي؛ غير أن حجم الأنشطة ما زال دون المأمول[22].
ومن جهة أخرى تنشط بعض المنظمات التركية – كوقف الديانة التركي[23] – في تقديم مشاريع خدمية في منطقتَي درع الفرات “جرابلس واعزاز والباب” وغصن الزيتون “منطقة عفرين وريفها”؛ فهي تقوم ببناء الجوامع ومعاهد لتحفيظ القرآن الكريم ودور إفتاء ومراكز ثقافية، كما تم افتتاح مبنى فرع كلية العلوم الإسلامية بجامعة غازي عنتاب التركية[24]، وفي بلدة الراعي تم افتتاح كلية الطب والمعهد العالي للخدمات الصحية التابعَين لجامعة “العلوم الصحية” الحكومية في إسطنبول، مع كليات ومعاهد تابعة لجامعات تركية حكومية أخرى في مناطق الإشراف التركي[25].
وتنشط العديد من الشركات التركية في بعض القطاعات الاستثمارية الحيوية كقطاع الكهرباء[26] والإنشاءات[27]، وإنشاء المدن الصناعية[28]، والتي يتم حالياً تشييد 6 منها بطاقة استيعابية تقديرية تتراوح بين 15-20 ألف عامل، وقد أشرفت بعض هذه المدن الصناعية في مدينتي اعزاز والباب على الانطلاق، بعد أن تم تزويدها بكامل البنية التحتية المطلوبة كالكهرباء الخاصة بهذه المنطقة والمياه والخدمات[29].
ويُلاحظ ارتفاع أعداد المستثمرين السوريين والأجانب في مناطق الشمال السوري – خاصة في المدن الصناعية[30] – مقارنة بالأعوام السابقة؛ نظراً للتسهيلات التي تقدمها غرف التجارة في فتح سجلات تجارية وتسهيلات جمركية وحتى أمنية. وعلى الرغم من أن الاستثمارات الحالية ما تزال صغيرة الحجم وناشئة إلا أنها مؤشر إيجابي على بداية التعافي المبكر[31].
ثانياً: تأثير تذبذب الليرة التركية في اقتصاد مناطق الشمال السوري
اعتُمدت الليرة التركية عملةً بديلةً للتداول بدلاً من الليرة السورية في حزيران 2020؛ وذلك إثر الانهيار الاقتصادي الذي أصاب الليرة السورية، والخوف من استمرار هذا الانهيار نتيجة العديد من العوامل، أهمها: الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان، وتداعيات تطبيق قانون قيصر، وتراجع الدعم الإيراني[32].
ومنذ بداية عام 2021 بدأت الليرة التركية تشهد حالة من التذبذب انعكست بشكل واضح على مناطق الشمال السوري؛ فقد تغيرت قيمة الليرة التركية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2021 من8.8 ليرة تركية مقابل الدولار، لتصل أقصى انخفاض لها مقابل الدولار في20 كانون الأول حيث تجاوزت 18 ليرة تركية مقابل الدولار، ثم ارتفعت لتصل إلى 13.2 ليرة مقابل الدولار في نهاية العام .
ونظراً لاعتماد الشمال السوري الليرة التركية فقد انعكست هذه التغيرات بشكل واضح وسريع على مناطق الشمال السوري؛ حيث برزت عدة مشاكل أساسية يمكن أن تُعد أبرز تداعيات هذا التذبذب في مناطق الشمال السوري، وهي:
2-1- فوضى الأسعار
انعكست حالة التذبذب بقيمة الليرة التركية بأوضح أشكالها على أسعار جميع السلع دون استثناء، سواء المحلية منها أو المستوردة، وخلّفت حالة من الفوضى في تسعير المواد الغذائية بين منطقة وأخرى، بل حتى في المدينة نفسها؛ فبعض التجار أبقوا على تسعير موادهم بالليرة التركية مع تعديل تلك الأسعار عند كل تغير يحصل، فيما قام تجار آخرون بتسعير بضائعهم بالدولار مع قبض ثمنها بالليرة التركية وفقاً لسعر الصرف في لحظة البيع.
الأسعار المواد الأساسية | الأسعار المتداولة بتاريخ 31/12/2021 [33] | 1/11/2021 | ||
درع الفرات (الباب) | عفرين | مناطق إدلب وريف حلب الجنوبي | الأسعار في بداية شهر تشرين2 في محافظة إدلب[34] | |
جرّة الغاز | 160-170 TL | 165TL 12$ | 163TL 12$ | 165 TL =12.69 $ |
ليتر البنزين الأوروبي | 10-14 TL | 12 TL 0.82$ | 11.5TL 0.86$ | 12.17 TL=0.92 $ |
ليتر المازوت الأوربي | 7TL | 10-12TL 0.8$ | 10.3TL 0.78$[35] | 11.72 TL =0.86 $ |
أجرة النقل بالسرفيس للشخص الواحد | 4 TL | 3 TL[36] | 5 TL[37] | |
كيلو الدجاج | 14.5 TL | 19TL | 19.24 TL =1.45 $ | |
الدجاجة النيئة كاملة | 40 TL | 30TL 2.3 -3 $ | ||
كيلو اللحم | 60-75 TL | 95 TL 9$ | 75-85TL | 69.06 TL =5.22 $ |
ربطة الخبز (1000 غرام) | 4-8 TL[38] | 10 TL | 5 TL | 3.77 TL= 0.28 $ |
كيلو البندورة | 5 | 5TL 0.4$ | 5-6TL | 4.43 TL = 0.34 $ |
البيض | 38TL | 35 TL | 33.61 =2.54 $ | |
لتر الحليب الطازج | 9-15 TL | 0.55-0.8 $ | 6-10.5 TL | 5.34 TL =0.4$ |
كيلو السكر | 12 TL | 0.7-0.9 $ | 9-13 TL | 9.85 TL= 2.54$ |
كيلو الأرز | 14-22 TL | 0.75-1.3$ | 9-12 TL | 10.55TL = 0.8$ |
جدول 1: مقارنة الأسعار المتداولة بين نهاية كانون الأول ونهاية تشرين الأول لعام 2021[39]
ويوضح الجدول السابق (الجدول 1) حالة الفوضى في الأسعار، واختلاف السعر في المدينة الواحدة للمنتج ذاته، حتى المنتجات المحلية، كما يبدو واضحاً أنه وعلى الرغم من التداول بالليرة التركية إلا أن الأسعار الحالية ترتبط بقيمة الدولار أكثر من ارتباطها بالليرة[40]، وهو ما جعل الفروق بين آخر شهرين متقاربة إلى حد ما في بعض السلع كالمحروقات وواضحة في سلع أخرى رغم بلوغ الليرة التركية ذروة الهبوط في منتصف شهر كانون الأول 2021 ثم عودتها للتعافي في نهاية الشهر؛ حيث إن الأسعار لم تعاود الهبوط مع هذا التعافي رغم أن أسعار السلع الغذائية انخفضت بعد التعافي (الجدول 1).
وتشير دراسة حديثة لوحدة تنسيق الدعم إلى أن بعض السلع الأساسية ارتفعت خلال العام الماضي بنسب تتراوح بين 13-55%، باستثناء مادة الخبز التي ارتفع سعرها بنسبة 5%[41]، ومادة اللحم الأحمر التي انخفض سعرها عن العام الماضي وفقاً للنشرة (الجدول 2)[42].
أسعار المواد الأساسية بالدولار | الأسعار في شهر 11/2021 | الأسعار في شهر 11/2020 | أعلى قيمة وصل إليها خلال العام | النسبة المئوية للزيادة خلال عام |
طحين | 0.51 | 0.37 | 38% | |
ربطة الخبز 8 أرغفة | 0.29 | 0.28 | 4% | |
كيلو الرز | 0.8 | 0.68 | 18% | |
كيلو السكر | 0.74 | 0.62 | 19% | |
كيلو الدجاج | 1.45 | 1.28 | 2.10 | 13% |
كيلو اللحم | 5.21 | 6.70 | 7.57 | -22% |
الزيت النباتي | 1.81 | 1.17 | 55% | |
البيض | 2.53 | 1.86 | 2.68 | 36% |
ليتر المازوت | 0.86 | 0.60 | 43% | |
ليتر البنزين | 0.92 | 0.62 | 48% | |
جرة الغاز | 12.67 | 9.11 | 39% |
جدول 2: تغير أسعار بعض المواد الأساسية خلال عام في محافظة إدلب وفقاً لنشرة وحدة تنسيق الدعم
وقد حذّر فريق “منسقو استجابة سوريا” في بيان صادر عنه من بوادر انهيار اقتصادي تشهده مناطق شمال غرب سوريا، بالتزامن مع ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية، وزيادة ملحوظة في معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية للمدنيين في المنطقة، معتبراً أن هذا الانهيار سيُلقي بظلاله على أغلب العائلات بشكل عام وعلى نازحي المخيمات بشكل خاص، ويجعلهم غير قادرين على تأمين المستلزمات الأساسية وفي مقدمتها مواد التغذية والتدفئة[43].
ومن جهة أخرى يشتكي العديد من التجار من تراجع القدرة الشرائية نتيجة ارتفاع الأسعار إلى النصف مقارنة بأشهر سابقة[44]؛ حيث أشار العديد منهم إلى توجه المواطنين لشراء الاحتياجات الأساسية فقط، مما أضرّ بالسوق المحلية، وأضرَّ كثيراً بالتجار الذين يبيعون بالدين[45]، وتسبب بخفض حجم الاستيراد، عدا عن كون الضرائب التي تُفرض على البضائع التي يتم توريدها تتزايد مع التغيرات في قيمة الليرة، وهو ما يجبر التاجر على تعديل أسعاره بشكل دائم والتسعير بالدولار وزيادة هوامش أمان[46].
2-2-تفاقم حالة الاحتياج
لُوحظت في الأشهر الأخيرة من عام 2021 حالة احتياج متزايد عند العائلات الفقيرة والأشد فقراً لم تكن ملاحظة في وقت سابق، وبدأت بعض المنظمات تشير إلى تكرار حالات الجوع اليومي نتيجة عدم قدرة تلك العائلات على تأمين وجبات الطعام التي تسدّ جوع العائلة بأدنى درجاته، وهو أمر لم تعهده المنطقة من قبل[47].
ويعود سبب تفاقم حالات الاحتياج ذلك للعديد من العوامل، منها: أن هذا التضخم المتسارع لم يترافق مع زيادة في أجور الموظفين أو العاملين، وهو ما أدى إلى تراجع القيمة الشرائية للرواتب التي يقبضها العاملون بشكل واضح بنسبة 45% خلال العام الماضي (الشكل1).
الشكل 1: تغير قيمة الأجرة الشهرية للعامل خلال عام (مقدراً بالدولار)
وتشير تقديراتٌ لفريق “منسقو الاستجابة الطارئة” التابع لوحدة تنسيق الدعم إلى أن الواقع الاقتصادي السيئ في مناطق الشمال أجبر 65% من العائلات على تخفيض عدد الوجبات الأساسية، في حين وصلت هذه النسبة إلى 89% في المخيمات، كما ارتفعت نسبة الأسر التي وصلت إلى حد الانهيار في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2021 من 52% إلى 59%، وانخفض مستوى الأجور في المنطقة من 900 ليرة تركية إلى 550 ليرة تركية مقارنة بأسعار الصرف والمواد، خاصة للعمال الذين يعملون بأجور يومية[48].
وبحسب دراسة أجرتها وزارة الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة فقد ارتفعت قيمة السلة الغذائية اللازمة لتأمين احتياجات عائلة متوسطة الحجم – من 5 أفراد – بالحد الأدنى شهرياً من 1600 ليرة تركية في شهر آب 2021، لتصل إلى 2200 ليرة تركية نهاية شهر تشرين الأول، وقد توقعت الدراسة أن ترتفع إلى ما يقارب 2500 ليرة نهاية شهر تشرين الثاني من العام نفسه[49] .
2-3-تفاقم أزمة الوقود
مع الانخفاض المتواصل لليرة التركية خلال الفترة الماضية وقدوم فصل الشتاء رفعت شركة “وتد” للمحروقات العاملة في مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام- هتش” أسعار المحروقات والغاز المنزلي خمس مرات خلال تشرين الثاني لعام 2021، قبل أن تعود لتخفيض الأسعار مع التحسّن الطفيف بالليرة جرى في آخر الشهر[50]، حيث يشير (الجدول 2) إلى أن نسبة الزيادة في المشتقات النفطية في مناطق سيطرة “هتش” تراوحت بين 43 – 48% خلال العام الماضي، فيما ارتفعت قيمة جرة الغاز بنسبة 39%.
الشكل 2: تغير أسعار الوقود خلال سنة في محافظة إدلب وفقاً لنشر الأسعار (وحدة تنسيق الدعم)
الشكل 3: تغير سعر جرة الغاز خلال سنة في محافظة إدلب وفقاً لنشر الأسعار (وحدة تنسيق الدعم)
وتبدو أسعار المحروقات والغاز في حالة تصاعد منذ بداية عام 2021، وهو ما يعود إلى الأزمة عالمية وارتفاع أسعار الطاقة إلى مستويات قياسية أعلى مما كانت عليه قبل جائحة كورونا[51]؛ إلا أن هذه الأزمة بدت بصورة أوضح في الشهرين الأخيرين مع قدوم فصل الشتاء وازدياد الطلب على المشتقات النفطية لتأمين التدفئة والذي ترافق بحالة تذبذب واضح في الليرة التركية (الشكل 2،3).
2-4-أزمة الخبز
تُعد مادة الخبز مادة أساسية لجميع العائلات في الشمال السوري على اختلاف مستوياتهم الاقتصادية، وتؤمّن هذه العائلات احتياجاها من المادة من خلال بعض المخابز التي تقدم الخبز بسعر مدعوم؛ حيث تقوم بعض المنظمات والمجالس المحلية والحكومة السورية المؤقتة وبعض الجهات المانحة بتقديم دعم لهذه المادة حتى يظل سعرها في متناول الجميع، كما توجد مخابز أخرى تقدم الخبز بالسعر الحرّ.
تختلف أسعار الخبز من منطقة إلى أخرى، وتختلف باختلاف نوع الخبز، سواء كان خبزاً عادياً أو مدعوماً[52]، وتطبق “حكومة الإنقاذ” الذراع المدني لـ”هتش” تسعيرة موحدة للخبز؛ فقد أعلنت في منتصف شهر تشرين الثاني الحالي أن سعر الربطة غير المدعومة التي تحتوي 5 أرغفة بوزن 450غ سيبلغ 2.5 ليرة تركية، فيما قدرت سعر الربطة المدعومة بوزن 600غ بـ 2.5 ليرة تركية[53].
ويعود تفاوت سعر الخبز بين منطقة وأخرى إلى وجود مناطق لا يتم فيها فرض رسوم على الوقود والمحروقات، إلى جانب تخفيض الرسوم الجمركية على المواد الغذائية لكيلا تتأثر أسعارها، وذلك ضمن سياسات الجهات الإدارية التي تهدف إلى فتح الاستيراد أمام جميع الناس لخلق منافسة تامة تُبقي الأسعار بحدها المقبول[54].
الشكل 4: تغير سعر ربطة الخبز خلال عام وفقاً لنشر الأسعار (وحدة تنسيق الدعم)
2-5-عرقلة في عمل المنظمات
ألقت حالة عدم الاستقرار في الليرة التركية بظلالها على عمل المنظمات السورية أيضاً؛ فقد تسببت بظهور الكثير من المشاكل، وتعطُّل العديد من المشاريع الشتوية والمناقصات نتيجة توقف مزوّدي الخدمات عن توزيع القسائم النقدية، وتغيُّر أسعار المواد في السوق والفروقات في سعر الصرف، وارتفاع مستلزمات تشغل المكاتب ورواتب الموظفين.
ويتوقع أحد الخبراء المطلعين على واقع العمل الإنساني وعلى توجهات الجهات الأوروبية المانحة تطبيق رقابة شديدة مستقبلاً على الأموال والمشاريع المنفذة في الداخل السوري، بالإضافة إلى سنّ قوانين جديدة؛ وهو ما يعني أن الإمكانيات المالية ستنخفض بما لا يقل عن 30%، كما سينخفض حجم المساعدات الواردة عبر المعابر التركية مقابل زيادة حجم المساعدات الواردة من المعبر الواصل مع مناطق سيطرة نظام الأسد[55].
ثالثاً: أسباب تفاقم المشاكل الاقتصادية في الشمال السوري نتيجة وضع الليرة التركية
تواجه مناطق الشمال السوري مشاكل اقتصادية جادة؛ فهي من أكثر المناطق كثافة سكانية، وجُلّ سكانها يعيشون دون خط الفقر، وفضلاً عن ذلك فهي منطقة دُمرت فيها البنية التحتية خلال السنوات الماضية، وتعاظمت فيها الاحتياجات في السنوات الأخيرة، كما أنها منطقة مغلقة لا تملك موارد ذاتية كافية وتعتمد بشكل كبير على الاستيراد.
وتعود أسباب تفاقم آثار حالة عدم الاستقرار في الليرة التركية على الواقع الاقتصادي في مناطق الشمال السوري وفقاً لآراء الخبراء والمطلعين إلى:
3-1- الاعتماد على عملة أجنبية
اعتمدت كل من حكومتَي “الإنقاذ” التابعة لـ”هتش” والحكومة المؤقتة العاملتَين في الشمال السوري الليرة التركية كعملة بديلة عن الليرة السورية في حزيران 2020، إلى جانب تداول الدولار الأمريكي في التعاملات التجارية الخارجية؛ وذلك لكونهما أكثر استقراراً من الليرة السورية، حيث جاءت هذه الخطوة بعد وصول سعر الصرف إلى حدود 3500 ليرة سورية للدولار الواحد في حزيران 2020، وسط مطالبات من سوريين بأن يكون الاستبدال حلاً مؤقتاً لحين الوصول إلى حل سياسي[56].
ويرى بعض الاقتصاديين أن هذه الخطوة كانت اضطرارية نتيجة انهيار الاقتصاد السوري ولعدم وجود بدائل، فكان الانتقال للتعامل بالليرة التركية الخيار الأفضل؛ وذلك لأن الاقتصاد التركي من أقوى الاقتصادات العالمية، مع وجود مصادر توريد للعملة من خلال مكاتب البريد[57].
بينما رأى خبراء آخرون أن هذه الخطوة جاءت متسرعة وغير مدروسة، ولم تكن بناءً على دراسات وأبحاث؛ فالانتقال للتداول بالليرة التركية لم يحمل معه تصوراً واضحاً حول آليات الاستيراد والتصدير، أو وجود مرجعية لإدارة النقد كالبنك المركزي، كما جاءت هذه الخطوة دون أن تترافق بعملية تصحيح لأجور العاملين بما يتناسب مع قيمة العملة الجديدة، بل على العكس ظلت الرواتب والأجور ضعيفة مقابل تضخم سعر البضائع والمنتجات التي أصبحت تُسعر وفق العملة التركية دون وجود رقابة حكومية عليها[58].
وعليه فإن هذا الارتباط مع الليرة التركية وفي ظل غياب التصورات اللازمة جعل مناطق الشمال السوري – وهي الحلقة الأضعف – رهينة لواقع تذبذب الليرة التركية، والذي تنعكس آثاره بشكل سيئ جداً خاصة مع غياب وجود حكومة نافذة تملك الإمكانيات والقدرة على اتخاذ القرارات التي من شأنها تخفيف آثار المشاكل الاقتصادية.
3-2-غياب الرؤية الاقتصادية
توافق عدد من المتخصصين في الاقتصاد على خطورة غياب وجود رؤية اقتصادية تحكم مناطق الشمال السوري الذي يعيش ظروفاً استثنائية في ظل غياب الموارد وغياب السلطة الحكومية وحالة عدم الاستقرار تسبب في مشاكل إضافية؛ حيث إن غياب النظرية التي يُفترض أن يتم بناء المنظومة الاقتصادية وفقها أدى إلى هشاشة هذا الاقتصاد والتخبط عند حدوث الأزمات الطارئة، مما زاد المعاناة وفاقم الخسائر[59].
فعلى سبيل المثال: ما تزال هناك الكثير من المشاكل التي تتعلق بعمليات الاستيراد، خاصة فيما يتعلق بالرسوم الجمركية، كما يغيب أي تصور يمكن أن ينظّم أو يسهّل عملية التصدير التي تكتنفها الكثير من العراقيل التي تمنع تصدير الكثير من المواد إلى تركيا[60].
ومن جهة أخرى أدى غياب الرؤية الاقتصادية المحلية إلى ارتباط التجار والمستثمرين بالرؤية الاقتصادية التركية، وبالتالي لم تخرج الاستثمارات السورية الجديدة وفق هوية محلية[61]، بالإضافة إلى تركيز أغلب مشاريع التعافي المبكر التي تم رصدها في الشمال السوري بين عامي 2018-2021 على قطاعات النقل والمواصلات والصناعة والاتصال، بينما لم يحظَ قطاع التمويل – وهو أحد القطاعات الحيوية – بالدعم المطلوب، خاصة دعم المشاريع المتوسطة والصغيرة[62].
3-3- غياب المنظومة المالية
نتيجة لغياب الرؤية الاقتصادية وغياب الجهة التي تطور هذه الرؤية فإنه تغيب المعلومات الضرورية عن واقع القطاع المالي في مناطق الشمال السوري والكتلة النقدية وحجم التداولات، سواء التداولات الداخلية أو الخارجية أو تلك التي تتم مع مناطق نظام الأسد، أو حتى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، كما أنه من غير الواضح من هم الفاعلون الرئيسيون في هذا المجال وما هي أدوار كل من الحكومة المؤقتة والمجالس المحلية، عدا عن غياب المصارف المحلية وفروعها وتحكم المكاتب الخاصة للحوالات والصرافة بهذا القطاع كاملاً[63].
ومن جهة أخرى تعاني المنظمات السورية -بدرجة أولى- والمستثمرون من مشكلة صعوبة تحقيق الشفافية المالية في التعاملات الاقتصادية في الداخل؛ حيث إن صعوبة استصدار فواتير معتمدة من السوق المحلية دفعت بأصحاب المشاريع –مستثمرين أو منظمات- إلى شراء المواد من المناطق التركية لسهولة التوثيق أمام الداعمين، بدل أن يتم شراؤها من السوق المحلية بأسعار أقل، وهو ما فوّت الكثير من الفرص الاقتصادية التي كان بإمكانها زيادة الطلب على المنتجات المحلية وتوفير أجور النقل ودعم المشاريع المحلية[64].
3-4- تعدُّد السلطات وتداخلُها
تُعد مشكلة تعدُّد السلطات من المشاكل الكبيرة التي تعيق أي نمو أو تخطيط اقتصادي؛ فبناء اقتصاد قوي يقتضي أن تتوفر سلطة موحدة تفرض نفوذها على كامل المناطق ذات الصلة، فعلى سبيل المثال: تكتسب المجالس المحلية في مناطق الإشراف التركي قوتها من الشريك التركي، وذلك بخلاف الحكومة المؤقتة ذات النفوذ الضعيف على الأرض رغم غطائها السياسي، فيما تنفرد “حكومة الإنقاذ” بسياسات دون التنسيق مع غيرها وفق سياسة الأمر الواقع[65].
لقد خلق هذا الوضع مشاكل عدة، وجعل عملية توحيد السياسات ورسم الخطط ووضع استراتيجيات وضبط التجار وتطوير الاقتصاد ومواجهة الأزمات أمراً بالغ الصعوبة، كما جعل من إمكانية حل المشاكل السابقة أو اللاحقة أمراً متعسراً، كما أسهم أيضاً بتشتت الدول المانحة وحتى المنظمات العاملة التي اتجهت للتعامل مع السلطات التركية بدل التعامل مع السلطات المحلية[66].
ومن جهة أخرى فقد أدى هذا التشتت إلى تداخل السلطات وتعارض القرارات[67]، عدا عن غياب الحوكمة الذي أدى إلى انتشار الفساد وغياب الجهات الرقابية الفعالة التي تراقب تنفيذ القرارات وتضبط الأسواق والأسعار وتراقب الأجور وتتفاعل مع الأزمات وتمنع الاحتكار[68]، كما أن تسلُّط بعض الجهات العسكرية وتدخلها في بعض المفاصل الاقتصادية تسبب في العديد من المشكلات، أهمها عزوف الداعمين والمانحين عن دعم مشاريع في قطاعات حيوية خوفاً من أن تذهب هذه المنح إلى “أطراف النزاع” بدل أن تذهب للمدنيين.
3-5-عقبات في وجه الاستثمارات
يواجه الاستثمار في مناطق الشمال الكثير من المشاكل مما يجعل مسيرته متعثرة، ولعل أهم المشاكل التي تدفع المستثمرين لتجنب الدخول في استثمارات متوسطة أو كبيرة هو غياب الأمن الذي يتجلى في شكلين؛ الأول: إمكانية تجدد العمليات العسكرية وخسارة بعض المناطق نتيجة عدم ثبات مناطق السيطرة، والثاني: غياب الأمن الداخلي نتيجة تكرار حوادث التفجير والاستهداف وفوضى السلاح[69].
ومع هذا الوضع نشطت مؤخراً بعض الاستثمارات في بعض القطاعات الناشئة بشكل سريع، خاصة في قطاع البناء والتعمير؛ إلا أن هذا الاستثمار لم يظهر في سياق مدروس، بل ظهرت حالة من العشوائية في إدارة هذا الملف، حيث يبدو أنه ليست هناك سياسة تحكم عملية البناء؛ فالعديد من الأبنية بُنيت بشكل سريع وعشوائي ودون وجود بنية تحتية تؤمّن المياه النظيفة أو الصرف الصحي.
كما لا تبدو بعض الاستثمارات في قطاع البناء – كالمطاعم والمقاهي وصالات الألعاب والمجمعات التجارية- ذات قيمة مضافة للاقتصاد المحلي، خاصة مع ضعف القوة الشرائية؛ فهي استثمارات من النمط الاستهلاكي الذي تستهلك القطع الأجنبي من خلال شراء مواد البناء المستوردة، وتعود أرباحه على التاجر بشكل أساسي، كما لا ينتج عن هذا النوع من الاستثمارات دخول أي قطع أجنبي خارجي؛ لأنه من أنماط الاستثمارات الخدمية الذي لا ينتج منه بضائع يمكن تصديرها[70].
ومن جهة أخرى فإنه على الرغم من تنشط مشاريع بناء المدن الصناعية وتقديم تسهيلات لدخول وخروج الصناعيين والتجار والبضائع من وإلى تركيا عن طريق المعابر الحدودية عبر شبكة طرق حديثة تصل بين المدن الصناعية والمنافذ الحدودية، وكذلك وجود ضمانات للصناعيين بخصوص الحماية الأمنية؛ فإن التجار والمستثمرين ما زالوا حذرين من المجازفة، خاصة مع وجود حالة من الغموض في السياسات الإدارية والاقتصادية[71].
كما يُلاحظ أن أغلب الاستثمارات – خاصة التركية منها – تتركز في بعض المدن ولا تتوزع بشكل عادل في جميع المناطق، وهو ما قد يعود إلى درجة الاستقرار الأمني والإداري التي تنعم بها بعض المدن والبلدات كبلدة الراعي، مقارنة بغيرها أو نتيجة اعتبارات أخرى[72].
ويرى بعض الخبراء أن البيئة الاستثمارية في الشمال السوري ليست بيئة صحيحة – بالشكل الحالي- لعدة أمور، أهمها: غياب مصادر التمويل، سواء مؤسسات التمويل أو حتى المصارف والجهات الداعمة، إلى جانب غياب الأرقام والإحصاءات، الأمر الذي يعيق عملية جذب الاستثمارات الكبيرة، ويؤدي للاقتصار على الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة التي تلبي السوق المحلية فقط؛ إذ إن جذب الاستثمارات الكبيرة يعني الحاجة إلى التصدير بشكل أساسي لكي ينمو، وبحاجة لجهات داعمة مادياً ولوجستياً إلى جانب الخبرة[73].
وتحاول وزارة الاقتصاد والموارد التابعة لـ “حكومة الإنقاذ” الذراع المدني لـ “هتش” في مدينة إدلب تطوير سياساتها الرامية لجذب الاستثمارات من خلال القيام بحزمة من المشاريع، مثل إنشاء البنية التحتية التي تخدم المستثمرين كتوسعة وتعبيد الطرقات، مثل طريق باب الهوى- إدلب وطريق سرمدا -الدانا اللذين يُعدان عصباً تجارياً مهماً في المحافظة[74].
فيما تحاول وزارة الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة تشجيع المستثمرين من خلال رفع الرسوم الجمركية على المنتجات التي تنافس المنتجات المحلية، ومحاولة سدّ الاحتياج في بعض المواد الأساسية كالبيض والدجاج؛ إلا أن الحكومة المؤقتة تواجه الكثير من العراقيل في إقناع الدول المانحة بتمويل استثمارات في بعض المناطق كعفرين وتل أبيض ورأس العين، وهو ما يجعل النمو الاقتصادي متفاوتاً بين منطقة وأخرى[75].
هذا وتواجه بعض المشاريع الاستثمارية التركية بعض الانتقادات – خاصة في القطاعات الحيوية كالكهرباء – نتيجة غياب الشفافية، لاسيما المتعلقة بطبيعة العقود المبرمة والمدة الزمنية المحددة لها، عدا عن كيفية تحصيل الرسوم ومقياسها؛ حيث إن أغلب هذه الاستثمارات تمت بشكل مباشر مع المجالس المحلية ومكاتبها الفنية والقانونية بوساطة من إحدى الولايات التركية، دون أن يكون للحكومة المؤقتة علم أو علاقة بها[76].
رابعاً: كيف يمكن التخفيف من الآثار الاقتصادية لتذبذب سعر الليرة التركية على المنطقة؟
عند الحديث عن المشاكل الاقتصادية في مناطق الشمال يرى عدد من الخبراء والباحثين أنه من الصعب تقديم حلول تستطيع تحقيق تغيير سريع على المستوى المنظور؛ فالمشاكل الحالية تتعلق بجملة من الأسباب الداخلية والخارجية السياسية والاقتصادية، نملك – نحن السوريين – التفاعل مع بعضها، فيما يقع البعض الآخر خارج حدود قدرتنا على التأثير، كما أن واقعنا الحالي يقتضي تصميم نموذجنا الاقتصادي الخاص الذي يتلاءم مع الواقع والإمكانيات ويستفيد من التجارب الشبيهة[77].
إلا أن ذلك لا يعني أن نستسلم للواقع ونقرّ بالعجز؛ فما زالت ثمّة هوامش يمكن التحرك بها ومن شأنها تحسين الواقع والتخفيف من آثاره السلبية، ويمكن أن تكون خطوة أولى باتجاه إعادة عجلة الاقتصاد نحو مسارها الصحيح مستقبلاً.
كما أن الوضع الإنساني الطارئ الذي تعيشه المنطقة يستدعي أن تتنوع الحلول؛ وذلك بتقديم حلول إسعافية تساعد على احتواء الآثار السلبية للأزمة الاقتصادية التي تعيشها المنطقة، وحلول استراتيجية طويلة المدى من شأنها أن تعيد هيكلة الاقتصاد الحالي على أسس متينة، ومن هذه الحلول:
4-1- حلول إسعافية
تتحمل المنظمات الإنسانية مسؤولية كبيرة في إيصال حجم المعاناة المتجدد الذي تولّد نتيجة التذبذب في سعر صرف الليرة التركية إلى الجهات المانحة، وتوضيح آثار هذه المعاناة على جميع الشرائح في المنطقة وكيف نقلت العديد منهم إلى دائرة الفقر أو الاحتياج.
وهنا يُتوقع أن تقوم هذه المنظمات تساندها مراكز الدراسات بإنتاج الأوراق والتقارير لتوضيح الواقع المستجد بداية، والتعريف بكافة جوانبه، ثم إطلاق حملة ضغط ومناصرة تتوجه إلى المجتمع الدولي وهيئاته الأممية، وتحثّها على تقديم دعم إسعافي لمساعدة العائلات للبقاء على قيد الحياة، كما يفترض أن تقوم الجهات الإعلامية السورية أيضاً بالتعريف بالواقع الإنساني الجديد بعدة لغات، وحثّ الناس على دعم أقاربهم ورفع وتيرة التحويلات التي يرسلونها لهم وزيادة حجمها، وضرورة إعطاء الأولوية للعائلات ممن هم في دائرة الفقر المدقع.
ويقترح قائمون على العمل الإنساني أن تتوجه المنظمات إلى الداعمين العرب والمسلمين ومجموعات السوريين المغتربين بمشاريع أخرى تسعى إلى إنقاذ الناس من دائرة الجوع المدقع، وذلك من خلال إنشاء مطابخ خيرية متنقلة، وتأمين استمرارية دعم الخبز الذي يُعد السلعة الأساسية التي يعتمد عليها سكان هذه المنطقة.
ومن جهة أخرى توافق معظم الخبراء على ضرورة أن تقوم الإدارات المحلية – سواء كانت مجالس محلية أو وزارات – بإنشاء هيئات رقابية جوالة تقوم بضبط الأسواق ومراقبة الأسعار ومنع الاحتكار تحت طائلة المحاسبة القانونية من جهة، وتمارس دوراً رقابياً على عمل المنظمات أيضاً من جهة أخرى[78].
وقد قُدِّم اقتراح أن تقوم الجهات الإدارية بإنشاء مؤسسات استهلاكية تبيع المواد الأساسية بأسعار مدعومة وهامش ربح بسيط؛ فهذا يقدم حلّاً بديلاً للمواطنين ويساعدهم على شراء احتياجاتهم بأسعار مدعومة تحميهم من سطوة التجار، وتخلق حالة من المنافسة الشريفة التي تُجبر التجار على تسعير منتجاتهم بشكل منطقي.
4-2- حلول بعيدة المدى
من أهم الاحتياجات ذات الأولوية التي يجب التعاطي معها في الملف الاقتصادي لمناطق الشمال السوري إنشاءُ رؤية استراتيجية بشراكة من الفاعلين المؤثرين في الاقتصاد، كالأكاديميين والباحثين والسياسيين والموظفين الإداريين والمنظمات الفاعلة، وقد توافق بعض الخبراء الاقتصاديين على أن وجود استراتيجية اقتصادية ومالية شاملة تركز على المدى القصير والمدى المتوسط والمدى البعيد قد يمكّن من تحريك عجلة الاقتصاد وتخفيض نسب البطالة وإيجاد حلول للمشاكل الآنية، حيث سيساعد وجود هذه الاستراتيجية والخطط المرافقة لها على تقديم مشاريع أكثر استدامة، سواء لمؤسسات الأمم المتحدة أو حتى لحكومات الدول الصديقة، وتشجعها على تقديم التمويل المطلوب لمشاريع تعالج مشكلة ضمن إطار خطة شاملة وواضحة، وستتعامل لاحقاً مع بقية المشاكل للتخفيف من آثارها.
ومن جهة أخرى توافق خبراء آخرون على أن خطة الإصلاح الاقتصادي يفترض أن تراعي الإمكانيات المتاحة والظروف الواقعة التي لا يمكن تغييرها، وأن تعتمد خلال التنفيذ سياسة التحرك خطوة بخطوة، والبناء المرحلي ومراكمة الجهود والإنجازات الصغيرة، والسعي إلى تجزئة المشاكل المركبة والمعقدة، وإيجاد حلول جزئية ومرحلية لها، ضمن منظور الحل الشامل المقترح الذي يرسم نموذجاً اقتصادياً خاصاً بنا يتناسب مع واقعنا.
ولابد لهذه الخطة الشاملة وتفصيلاتها الجزئية أن تركز على مجموعة محاور أساسية[79]؛ إذ يشير بعض الخبراء الاقتصاديين إلى أهمية إنشاء وحدة دراسات ورصد اقتصادية تتبع لجهة تخطيط تقوم بإجراء البحوث المطلوبة حول العديد من المواضيع الاقتصادية، مثل الحد الأدنى للأجور وكيفية ضبط العمل ومواجهة الأزمات الطارئة، وتقديم الإحصائيات اللازمة التي من شأنها توضيح الواقع بدقة وشفافية[80]، والمساعدة على اقتراح حلول ومشاريع بناءً على معطيات دقيقة.
كما يرى بعض القائمين على العمل الإنساني وبعض الخبراء الاقتصاديين ضرورة التركيز على ضمان استمرارية إنتاج الخبز – وهو المادة الغذائية الأساسية عند السكان في الشمال- بأقل تكلفة إنتاج ممكنة، وبقاء أسعاره متاحة أمام الجميع، ووضع خطة إستراتيجية لإدارة ملف إنتاج القمح وتخزينه ومن ثم تصديره.
فيما يشير أحد المطلعين على سياسات العمل الإنساني ومكاتب الأمم المتحدة ضرورة الاستفادة من توجه الدول المانحة الجديد الذي يهدف إلى دعم مشاريع التعافي المبكر، وتوجيهها فيما يهدف إلى بناء اقتصاد محلي على أسس قوية تعزز جانب الإنتاج المحلي[81].
هذا ويركز بعض الخبراء الاقتصاديين على ضرورة التفكير بآليات تسعى إلى خلق بيئة داعمة تشجّع على الاستثمار في القطاعات الحيوية في المنطقة، والتي تقع ضمن دائرة الاهتمام والأولوية الاستراتيجية وفق الخطة السابقة، كتشجيع الاستثمار في الزراعة وفي الثروة الحيوانية على سبيل المثال، وحمايتها من التراجع[82]، وتقديم التسهيلات الإدارية وتخفيض الضرائب والرسوم، وتوحيد سياسات المعابر والرسوم التي تتقاضاها على البضائع، خاصة البضائع الأساسية، وبما يتوافق مع الرؤية الاقتصادية الاستراتيجية الشاملة.
ويرى أكاديميون آخرون ضرورة تشجيع الداعمين على توجيه الدعم نحو مشاريع لها قيمة مضافة تستفيد من الإنتاج المحلي، وعلى توجيه مجموعات المغتربين السوريين[83] نحو تحويل مبالغ مشاريع الإغاثة لدعم مشاريع تنموية تشغيلية وقفية يعود ريعها على الفئات المحتاجة[84]، والعمل على توجيه الجهات الداعمة وتشجيعها على تحويل الدعم المقدم في مشاريع الإغاثة من الدعم العيني إلى الدعم النقدي؛ نظراً لأن ذلك يعطي المستفيد حرية التصرف بالدعم المقدم له ضمن أولوياته، وينشط القوة الشرائية[85].
وقد ركّز أحد الأكاديميين على ضرورة تشجيع البنوك التركية على افتتاح أفرع لها في الشمال السوري، أو الدعوة لتفعيل مراكز البريد PTT واستخدامها لتحويل الأموال، وتقديم تسهيلات للقطاع الخاص وتشجيعه على الاستثمارات، مثل تقديم إعفاءات ضريبية أو منح لدفع رواتب للشركات الناشئة أو للتطوير المؤسساتي في مجال معين، فيما رأى خبير آخر ضرورة تصميم سياسات مالية واقتصادية تسعى إلى تشجيع المنافسة بهدف القضاء على كافة أشكال الاحتكار، ورفع معدلات الأجور والتفكير بآليات واضحة مرحلية تهدف إلى تشجيع عملية التصدير وتصميمها بما يتناسب مع إمكانيات المنطقة ويدعم اقتصادها، وفقاً للرؤية الاستراتيجية العامة.
ورأى بعض الباحثين أنه من الضرورة بمكان دعم التجمعات المدنية، مثل غرف الصناعة والتجارة والنقابات؛ إذ يشكّل وجود مجتمع قوي حالة من الضغط على السلطات المعنية قد تساعد في زيادة التنسيق بين المناطق بالحد الأدنى حتى تتم إنشاء سلطة موحدة، وإمكانية إنشاء لجان مدنية – إدارية مشتركة تقوم بعقد اجتماعات دورية لمناقشة مشاكل المستثمرين ومشاكل المستهلكين، وإنشاء لجان لمتابعة الأمور الطارئة عند الضرورة.
مما سبق: يبدو إصلاح الواقع الاقتصادي لمناطق الشمال السوري أمراً مُلحّاً يجب أن تتجند له العقول والخبرات؛ يهدف إلى صياغة تصوُّر ينبع من أهداف ورؤية محلية استراتيجية، ويسعى إلى منع وقوع كارثة إنسانية، وإلى البدء بتحريك عجلة الاقتصاد وفق أسس سليمة، ووضع سياسات تشجّع على استقطاب المستثمرين في القطاعات الحيوية التي من شأنها خلق فرص عمل والاستفادة من الموارد المتاحة واستثمارها وتطويرها، بما يساعد على تعزيز جهود الاستقرار التي يُعد الجانب الاقتصادي من أهم أركانها.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة