الصورة الذهنية للعمل الإنساني في سوريا بعد عام 2011: تحديات الاحتياج وقلة الموارد
ورقة بحثية
الملخص التنفيذي
مع انطلاق الثورة السورية ومواجهة النظام السوري لها بالقبضة الأمنية والعسكرية؛ برزت الحاجة لتقديم المساعدة للمتضررين والنازحين والمشردين في مجالات عدة (طبية، إغاثية .. إلخ)، ومع انحسار سيطرة النظام السوري عن بعض المناطق باتت الحاجة أوضح لسدّ الفراغ الذي خلَّفه غياب المؤسسات الحكومية؛ فظهرت الفرق التطوعية والتشكيلات المحلية التي اعتمدت على تبرعات الأفراد والمنظمات المحلية والإقليمية في محاولةٍ لسدّ الاحتياجات في السنوات الأولى من الثورة.
وقد كان لدخول الدعم الدولي عام 2014 على خط الاستجابة الإنسانية أثرٌ في دفع هذه الفرق التطوعية والمنظمات لتطوير عملها إدارياً وميدانياً، والتحول إلى منظمات تقدم نفسها كشريك تنفيذي قادر على المشاركة في منظومة العمل الإنساني الدولي داخل سوريا.
تبيّن الورقة أن مفهوم المجتمع المدني ما يزال ضبابياً عند عموم السوريين؛ إذ يركز على المنظمات التي تقدم مساعدات مادية ملموسة، سواء أكانت سلالاً غذائية أو مساعدات نقدية أو خدمات طبية أو تعليمية، في حين قد تغيب عن الصورة المنظمات والجهات التي تقدم بعض الخدمات العامة كإنارة المرافق العامة أو إصلاح البنية التحتية، فضلاً عن مجالات أخرى كالدعوة وغيرها.
وقد أظهرت نتائج الاستبانة غلبة الانطباع السلبي على الإيجابي، خاصة فيما يتعلق بمواضيع الشفافية المالية والإدارية وانتشار أحاديث عن الفساد الداخلي المالي والإداري، وهو ما قد يعود لأسباب مبررة ومفهومة؛ منها: أن الحاضنة لا تشعر بأن المنظمات تلبّي احتياجاتها الأساسية بشكل كافٍ، وقد يعود ذلك لأخطاء حقيقية وقعت بها تلك المنظمات، أو بسبب سوءِ فهمٍ لدى الحاضنة قد تتحمل المنظمات المسؤولية عنه لعدم التزامها بالشفافية وعدم وجود جلسات نقاشية مع الحاضنة، فيما ينحصر الانطباع الإيجابي لدى عينة الدراسة تجاه بعض جوانب العمل لدى المنظمات، لاسيما فيما يتعلق بتطور أداء المنظمات وخدماتها المقدمة في الأوقات الطارئة.
كما أظهرت النتائج وجود عدد من الشرائح الغاضبة والحانقة كوَّنت صورة ذهنية سلبية تجاه عمل المنظمات، لكل منها أسبابها الخاصة، ومن هذه الشرائح الشريحة العمرية الأكبر من 40 عاماً، وحمَلَة الإجازات الجامعية والشريحة التي تستفيد من المنظمات بشكل محدود.
ويبدو واضحاً غياب المعلومة الصحيحة عن شريحة واسعة من الحاضنة، كما يبدو للعامل النفسي دور كبير في تشكيل الانطباعات لدى هذه الحاضنة، التي تأثرت وفقدت الكثير وتعيش أوضاعاً إنسانية سيئة للغاية، وبالتالي تحتاج هذه الشريحة أن تشعر بتغيير واضح في أوضاعها المعيشية حتى تكون قادرة على تغيير انطباعاتها السلبية.
ومن جهة أخرى تبدو إجابات الموظفين في المنظمات السورية غير الحكومية غريبة عن السياق المتوقع؛ إذ يُفترض بالموظف أن يكون مطّلعاً على عمل منظمته وملمّاً بالظروف المرافقة لهذا العمل، إلا أن نسبة الحياد عند الموظفين كانت واضحة، وهو ما يشير إلى غيابٍ للمعلومة الدقيقة عند العاملين في تلك المنظمات، وغيابٍ للشفافية في عمل المؤسسة حتى عن الذين يُفترض بهم أن يدافعوا عن المنظمة تجاه أية إشاعات أو افتراءات.
وتبدو الصورة الذهنية تجاه العمل الإنساني الذي قامت به المنظمات السورية غير الحكومية مضطربة ومشوشة؛ ويعود ذلك إلى عدد من العوامل، منها: التغير الذي طرأ على المجتمع نتيجة الظروف غير الإنسانية التي عاشتها فئات واسعة من الناس، والتي انعكست على شكل سلوكيات تحاول استثمار المعاناة والاستسلام للظروف، وانعدام الرغبة في تحسين الأوضاع، كما أن تحول المجتمع السوري خلال سنوات الحرب من مجتمع منتج إلى مجتمع محتاج، وتصاعد حالة الحنق والسخط نتيجة الخسائر الكبيرة وخيبات الأمل التي تعرض لها السوريون، والتوجه نحو التعميم في الانطباعات على جميع العاملين في القطاعات الإنسانية دون التفريق بين الصالح وسواه له أثرٌ كبيرٌ في تشكيل هذه الصورة الذهنية بشكلها السلبي.
وإلى جانب ذلك يبدو واضحاً غياب وجود تصوُّر دقيق عند الحاضنة عن الآلية التي يتم فيها تقديم المساعدات وإدارتها؛ إذ ينتشر اعتقاد واسع أن نمط التعامل مع المنظمات والهيئات الدولية والأممية يشبه نمط التعامل مع المتبرعين الأفراد الذين يقدمون المال ويتركون للمنظمة هامشاً من الحرية في التنفيذ، أو أن هذه المنظمات والهيئات يمكن إقناعها بسهولة بتحويل دعم مخصص لقطاع ما إلى قطاع آخر، دون معرفة القواعد والآليات التي تسير بها عملية الاستجابة الإنسانية.
وقد أدت الفجوة بين الاحتياج الكبير والدعم المقنن إلى إطالة أمد المعاناة، خاصة مع الظروف الاستثنائية التي حولت الكثير من العائلات من عائلات محتاجة في قطاع واحد إلى محتاجة في عدد من القطاعات، فضلاً عن أن التبرعات والمنح الدولية لم تستطع حتى الآن أن تغطّي قطاعاً معيناً بشكل كامل؛ وهو ما دفع المانحين إلى توزيع الدعم لتغطية جميع القطاعات بشكل جزئي ومتفاوت.
ومن جهة أخرى لم تكن المساعدات التي تعلن عنها الدول المانحة تذهب وفقاً للاحتياجات ذات الأولوية، وإنما كانت توزع وفقاً لاعتبارات أخرى وعلى الدول المستضيفة للسوريين، كما تتوزع فيها حصة سوريا على المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام والمناطق الواقعة تحت سيطرة قوى المعارضة وتلك الواقعة تحت سيطرة المليشيات الانفصالية.
كما أن أولويات الجهات الداعمة تختلف عن أولويات المنظمات المنفذة والفئات المستفيدة؛ فالدول والمنظمات الداعمة ترى أن من أولوياتها في حالات الطوارئ تأمين ما يبقي الناس على قيد الحياة ولو في الحدود الدنيا، بينما ترى المنظمات الداعمة – الدولية أو الأممية – أن أولويتها تقديم الدعم في المجال الذي تخصصت به، وليس في مجال آخر؛ حتى وإن كانت درجة الاحتياج ودرجة الأهمية أكبر. بينما تتركز أولوية المنظمات المحلية في ضمان استمرار عملها والاستجابة لاحتياجات الناس وفقاً لتقييم تلك الاحتياجات ووفقاً لقدرتها على الوصول، في حين تختلف أولويات الشريحة المستفيدة نظراً لاتساع احتياجاتها وعدم كفاية أي منها.
وقد أدى غياب الجهة الرقابية المشرفة على العمل الإنساني إلى انتشار الكثير من الاتهامات الموجهة للمنظمات بالفساد أو بالهدر أو بسوء التنفيذ أو التلاعب، دون أن تستند إلى أدلة وبراهين جلية، كما أن ضعف أنشطة الشفافية المالية وغيابها في كثير من الأحيان دفع الكثير من الناس إلى التساؤل: أين ذهبت أموال التبرعات؟ وكيف صُرفت؟
وقد أسهم غياب الشفافية الإدارية وارتكاب الأخطاء في ترسيخ الصورة السلبية عن العمل الإنساني، خاصة فيما يتعلق بعملية التوظيف واختيار الكوادر؛ إذ يغيب عن المنظمات الإعلان عن الآلية التي ستتبعها في اختيار الموظفين، ومع كثرة المتقدمين لطلبات التوظيف يصبح من الصعب على المنظمة أن تتواصل مع جميع المتقدمين أو تردّ على إيميلاتهم، وهو ما يعطي انطباعاً سلبياً عن المنظمة بأنها لم تختر موظفيها بناءً على منظومة واضحة.
ويبرز هنا موضوع الشفافية المالية كأشد العوامل تأثيراً في الصورة الذهنية للعمل الإنساني؛ فرغم القيود المالية والرقابية التي تطالب بها الجهات الداعمة والحكومات التي تعمل المنظمات على أراضيها، ورغم لجوء العديد منها إلى شركات مختصة للتدقيق في حساباتها المالية؛ إلا أن هذه المنظمات مقصِّرة إلى حد كبير في عرض حركتها المالية للحاضنة التي تتابعها بشكل دوري ومبسط، وتكتفي بدل ذلك بالإعلان عن تقارير الإنجازات دون أي تفاصيل أو توضيحات.
وقد وقعت العديد من المنظمات بأخطاء خلال إدارتها للصورة الذهنية، وذلك من خلال المبالغة في التغطية الإعلامية على بعض المشاريع، وضعف مراعاة الجودة والإتقان اللازمين في التنفيذ على أرض الواقع، بالإضافة إلى ضعف الاعتراف بالأخطاء، مع اللجوء إلى تداركها بشكل سرّي ودون إثارة الضجة، كما أن التفاعل السلبي مع الانتقادات والتعليقات الواردة على صفحات المنظمة، وغياب وجود آلية واضحة عند الجمهور لمتابعة المشاكل أو لتلقي طلبات المساعدة أو للإجابة عن بعض الأسئلة والاقتراحات، مع الأخطاء في التوثيق؛ كل ذلك أسهم في تشكيل هذه الصورة السلبية وتعميمها على جميع العاملين في هذا المجال.
وعلى الرغم من وجود العديد من أصحاب الكفاءات الأكاديمية العاملة في المنظمات فإنه تقلّ فيها الكوادر المؤهلة الكافية التي تمتلك مهارات التعامل مع المستفيدين واستيعابهم وانتقاء الخطاب المناسب لهم، والقادرة أيضاً على فهم منظومة العمل الإنساني وتحدياته واحتياجاته والتفاعل معه.
وقد خلصت الدراسة إلى أن صورة العمل الإنساني في الشمال السوري لم تكوّنها المنظمات، وإنما تشكلت بطريقة عشوائية غلب عليها الطابع السلبي؛ إذ كان لنقص الخبرات وللظروف الاستثنائية التي تم فيها العمل الأثر الأكبر في إنشائها، إلا أن المنظمات تتحمل مسؤولية كبيرة في ذلك، بينما تتحمل الحاضنة جزءاً منها.
ومن جهة أخرى تأثرت الصورة الذهنية لأي منظمة بصورة العمل الإنساني بشكل عام؛ فلم يعد كافياً أن تقوم المنظمة بتطوير أدائها الإداري والمالي والتنفيذي، بل أصبح من الضروري أن تطور الأداء العام لقطاع العمل الإنساني؛ لأن الأخطاء التي يقع فيها البعض ستنعكس بشكل ما على بقية المنظمات وستؤثر في صورتها الذهنية.
وقد خلصت الدراسة إلى مجموعة من التوصيات التي وُجهت في معظمها إلى المنظمات، بهدف تصحيح بعض الأخطاء، وتخفيف الاحتقان مع الحاضنة الشعبية، وضبط منظومة العمل الإنساني والارتقاء بها؛ لتكون أكثر قدرة على تلبية الاحتياجات وأكثر التحاماً مع الحاضنة الشعبية، وأكثر قدرة على الاستمرارية في ظروف عمل استثنائية غير مستقرة.
مقدمة
على امتداد ثماني سنوات من الثورة السورية تأسست وانتشرت مئات المنظمات غير الحكومية في مختلف المجالات، سواء الطبية أو الإغاثية أو التعليمية أو الحقوقية، وأضحت في ظل غياب مؤسسات الدولة إحدى الجهات المعنية بتقديم الخدمات الأساسية للسكان في المناطق المحررة. ومع توسع أعمالها والخدمات التي تقدمها تباينت شعبيتها ضمن المجتمع السوري؛ فبين مَن يرى أنها تقدم أفضل ما لديها، ومَن يرى أن ثمة سلبيات رافقت عملها، مما خلقَ حالة من التوتر والاحتقان بين شرائح من المجتمع السوري وتلك المنظمات.
انطلاقاً من رسالته في تعزيز التوافق داخل المجتمع السوري؛ أعدَّ مركز الحوار السوري هذه الورقة التي تهدف إلى التعرف على الصورة الذهنية التي كونتها الحاضنة الشعبية تجاه المنظمات غير الحكومية السورية وأعمالها في الشمال السوري [1]، وتقدَّم بتوصيات إلى كلا الطرفَين بما يسهم في تقريب وجهات النظر، ويزيل الاحتقان وآثاره بينهما، لاسيما وأن العلاقة بينهما يفترض أن تكون تكاملية.
تبرز أهمية هذه الورقة البحثية في أن إطلاع المنظمات الإنسانية غير الحكومية على الصورة الذهنية التي تكونت عند الحاضنة تجاهها وتجاه الأعمال التي تقوم بها، سلبية كانت أم إيجابية، قد يساعد في تلافي النقاط السلبية وتعزيز تلك الإيجابية، بما يسهم في إيجاد جو من الشفافية والمساءَلة وتعزيز التلاحم بينهما. كما أن الاستماع لوجهة نظر العاملين في هذه المنظمات يضيء بعض الزوايا التي قد تخفى عن عامة الناس، وبالتالي تخفِّف من الاحتقان الذي قد يكون لدى الحاضنة تجاهها.
قُسمت الورقة إلى: تمهيد وأربعة مباحث رئيسَية؛ خُصص المبحث التمهيدي لتحديد الإطار المنهجي والنظري للبحث، ثم استعرض المبحث الأول تطور العمل الإنساني بعد عام 2011 ومفهوم منظمات المجتمع المدني من وجهة نظر الحاضنة، واستعرض المبحث الثاني الصورة الذهنية حول أداء المنظمات غير الحكومية العاملة في الشأن الإنساني، فيما بيَّن المبحث الثالث الأسباب التي كانت وراء تشكل هذه الصورة، ليختم البحث في قسمه الرابع بمجموعة من التوصيات الموجهة لكل من المنظمات والحاضنة الشعبية.
تمهيد:
يتضمن هذا المبحث الإطار المنهجي والنظري للدراسة والذي يضم تعريفاً بالمصطلحات التي استُعملت في الاستبيان والدراسة، وتوضيحاً لمنهجية الدراسة والأدوات التي استخدمتها.
تعاريف الدراسة ومصطلحاتها: لأغراض هذا البحث نقصد بالمصطلحات الآتية ما يلي:
- منظمات المجتمع المدني: هي مجموعة واسعة من المنظمات غير الربحية التي تتمتع باستقلالية في اتخاذ القرارات بعيداً عن سلطة الحكومة المباشرة، سواء في النواحي المالية أو الإدارية أو التنظيمية، ولديها قدرة على العمل بحرية. وتضم المنظمات غير الحكومية: النقابات العمالية، والمنظمات الخيرية والدينية، والجمعيات المهنية والنسوية والطلابية، والهيئات الحرفية، والمراكز البحثية ومراكز الدراسات غير الحكومية. إذ تتلخص مهمة هذه المنظمات في الحفاظ على حقوق المجتمع، وممارسة الضغوط على الحكومة والتأثير عليها، خاصة في مجال الحقوق والديمقراطيات وتعبئة المجتمع، والعمل على تحسين الصحة والتعليم ومستويات المعيشة في الدول المتقدمة والنامية[2].
- المنظمات غير الحكومية NGO: هي قطاع من منظمات المجتمع المدني غير الربحية المستقلة عن كل من الحكومة وقطاع الأعمال، وتتركز مهامها في تعزيز المصلحة العامة وخدمة الصالح العام، بدلاً من تحقيق الربح أو خدمة مصالح مجموعة ضيقة من الأفراد، كالمنظمات الحقوقية والتعليمية والإغاثية والإنسانية.. إلخ[3].
- الاحتكاك بالمنظمات غير الحكومية السورية: ويقصد به درجة الاستفادة المادية والمعنوية التي يحققها الناس من هذه المنظمات، وقد حددت استبانة الدراسة خمس درجات للاستفادة، وهي: أن يكون الشخص موظفاً، أو مستفيداً دائماً، وغالباً منها، أو لا يستفيد منها مطلقاً، أو بشكل متقطع.
- مبادئ الثورة: مبادئ الثورة الأساسية المتمثلة في الحرية والكرامة ومحاربة الاستبداد وإنشاء هوية وطنية جامعة بين مختلف مكونات الشعب السوري.
- الحاضنة الشعبية: ونقصد بها في هذه الدراسة مجموع الناس الذين يتابعون نشاطات المنظمات العاملة في المجال الإنساني، سواء أكانوا مستفيدين من مشاريعها وخدماتها أو مهتمين بعملها.
- الانطباعات: هو الصورة الذهنية التي تتشكل عن أمر أو شخص أو جهة ما بشكل سريع، ويتأثر تشكيلها بالعديد من العوامل الشخصية، سواء عند صاحب الانطباع أو عند الجهة التي يتم تكوين الانطباعات حولها، من خلال التجارب المباشرة وغير المباشرة، ومن هذه العوامل: العُمر، والعِرق، والثقافة، واللغة، والنوع، والمظهر الخارجي، واللهجة، ووضعية الجسد، والصوت، وآراء الأشخاص الحاضرين، والوقت الذي تم فيه الاحتكاك مع الطرف الذي تشكل عنه هذا الانطباع[4].
- الصورة الذهنية: هي مجموعة الانطباعات التي تتكون عند الأفراد إزاء شخص معين أو نظام، أو شعب، أو جنس بعينه، أو منشأة، أو مؤسسة، أو منظمة محلية أو دولية، أو مهنة معينة، أو أي شيء آخر؛ تتشكل من التجربة المباشرة أو غير المباشرة، وقد تكون عقلانية أو غير رشيدة، وقد تعتمد على الأدلة والوثائق أو على الإشاعات والأقوال غير الموثقة، ولكنها في نهاية الأمر تمثل واقعاً صادقاً لمن يحملونها في رؤوسهم، وقد ينتج عنها توجهات سلوكية في إطار معين[5].
- ميثاق اسفير: وهو دليل في مجال المعايير الإنسانية، تم اختباره ميدانياً على مدار 20 عاماً، يتم تحديثه بشكل دوري، ويقوم على أساس حقوق السكان في الحصول على المساعدة، والحق في العيش بكرامة، والحق في الحماية والأمن، والحق في المشاركة بشكل كامل في القرارات المتعلقة بتعافيهم، كما يضم الميثاق الإنساني الخلفية الأخلاقية والقانونية لمبادئ الحماية والمعيار الإنساني الأساسي والمعايير الدنيا؛ فقد بُني على مدونة قواعد السلوك للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر والمنظمات غير الحكومية أثناء الإغاثة في حالات الكوارث[6].
وتعتمد معظم المنظمات السورية غير الحكومية العاملة في القطاع الإنساني على هذه المعايير، خاصة تلك التي تعمل أو تنفذ مشاريع مع الوكالات الإنسانية الأممية أو الأجنبية.
- مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA): جزء من الأمانة العامة للأمم المتحدة، وهو مسؤول عن جمع الجهات الإنسانية الفاعلة لضمان استجابة متماسكة لحالات الطوارئ، ويهدف إلى حشد وتنسيق العمل الإنساني الفعال والقائم على مبدأ الشراكة مع جهات وطنية ودولية من أجل تخفيف المعاناة الإنسانية في حالات الكوارث والطوارئ، والدفاع عن حقوق الناس المحتاجين، بالإضافة إلى تعزيز الجاهزية والوقاية، وتسهيل الحلول المستدامة.
وللأوتشا 3 مكاتب رئيسية: الأول داخل دمشق، والثاني هو مكتب تركيا، والمكتب الرئيسي في الأردن[7].
- الحوكمة: وهي مجموعة القواعد والمبادئ والسياسات والإجراءات والبُنى الإدارية التي تنظم عمل المنظمة ودورها، وغالباً ما تتلخص مبادئ الحوكمة في الاستقلالية والشفافية والمشاركة والمحاسبة[8].
- الشفافية: ويُقصد بها التركيز على وضوح المعلومات والقوانين والتشريعات التي تعتمدها المنظمة في عملها، إضافة إلى التوازن في الإفصاح عن المعلومات التي تخص المنظمة بين المستوى المقبول لدى المنظمة والمستوى الذي ترغب به الأطراف المتعددة الأخرى ذات العلاقة بالمنظمة[9].
وتُقيَّم شفافية المنظمات بعدة معايير، أهمها:
- شفافية الهيكلية المؤسسية.
- شفافية السياسات المالية المتعلقة بالخدمات المقدمة ومصاريف المنظمة والعاملين عليها.
- الشفافية المتعلقة بالوضع القانوني وطرق المساءلة القانونية.
- الكفاءة الإدارية: وهي المؤهلات المهارات والمعلومات والقدرات التي تتناسب مع فرصة ما، أو تجعل شخصاً ما مؤهلاً لمرتبة أو وظيفة أو مركز أو مسؤولية أو حالة معينة. وترمز المؤهلات إلى استيفاء شروط معينة مثل بلوغ سن معينة، أو أداء قسم، أو إكمال الدراسة أو التدريب المطلوب، أو الحصول على درجة أو دبلوم[10].
بالاستناد إلى التعريف الوارد أعلاه يمكننا القول: إن اختيار الموظفين بناءً على الكفاءة يعني النظر إلى مؤهلاتهم العلمية والعملية والمهارات والقدرات التي يمتلكونها بشفافية ونزاهة.
منهجية الدراسة: اعتمدت الورقة البحثية منهجَين علميَّين، هما:
- المنهج الكمّي المسحي: وذلك عبر استبيان مصمَّم للتعرُّف على انطباعات الحاضنة الشعبية تجاه المنظمات غير الحكومية السورية وأعمالها في الشمال السوري بشكل أساسي[11].
الشكل 1: خصائص العينة المستطلعة آراؤها
- المنهج الوصفي التحليلي: لتفسير الظاهرة وتحليلها من مختلف جوانبها، بالاعتماد على المصادر الثانوية من أبحاث ومقالات متعلقة بالموضوع وعلى المصادر الأساسية، من خلال مجموعة مقابلات أُجريت مع عدد من العاملين في تلك المنظمات[12].
أولا: العمل الإنساني بعد عام 2011
لم يكن الحضور المؤسساتي للمجتمع المدني السوري واضحاً قبل عام 2011، خاصة المنظمات غير الحكومية، بل غلب على العمل المدني والإنساني المبادرات الفردية أو التطوعية أو الخيرية أو العائلية التي انطلقت في نطاق محدود.
ومع انطلاق الثورة السورية ومواجهتها بالقبضة الأمنية، ثم قصف النظام المدن واجتياحها؛ بدأت الحاجة تتزايد لتقديم المساعدة للمتضررين والنازحين والمشردين، سواء على النطاق الطبي أو الإغاثي والإنساني، واتسمت المساعدات في بداياتها بالشكل التطوعي العشوائي غير المنظم.
وبدأ بعض الناشطين المتطوعين بتنظيم هذا العمل من خلال تشكيل بعض الفرق التي تعمل على جمع التبرعات المحلية من قبل بعض الأفراد والتجار وتقديم المعونة لعائلات المعتقلين والمحتاجين والملاحقين ثم المتضررين، وبدأ يظهر ما عُرف بالمكاتب الإغاثية والطبية في كل منطقة أو مدينة، ذات الصلة بالتنسيقيات و/أو لاحقاً مجلس قيادة الثورة[13].
ومع انحسار سيطرة النظام السوري عن بعض المناطق برزت الحاجة بشكل أوضح لسدّ الفراغ التي خلَّفه غياب المؤسسات الحكومية، من أجل حماية المدنيين وتخفيف التكاليف المادية والمعنوية عنهم؛ وقد كان لتبرعات الأفراد من مغتربين سوريين وعرب ومنظمات عربية –خاصة الخليجية- الدور الأكبر في سد الاحتياجات في السنوات الأولى من الثورة، قبل أن يدخل الدعم الإنساني الدولي عام 2014، حيث كان لعدم قدرة المنظمات الدولية الإنسانية على الوصول إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري أثرٌ كبيرٌ في نشوء كيانات المجتمع المدني داخل سورية وخارجها، ثم انتقالها إلى شكل له طابع تنظيمي وإداري داخلي، لتتحول لاحقاً إلى منظمات محلية مرخصة في عدد من الدول أخذت دور الوسيط التنفيذي الذي يقوم بتلبية الاحتياجات المحليّة وفقاً لمشاريع ممولة من الداعمين[14].
وقد كان لدخول الدعم الدولي الذي توزع على مجموعة من المنظمات والجهات أثر في دفع هذه المنظمات المحلية لتطوير عملها إدارياً وميدانياً، لأن العمل مع هذه المنظمات يخضع لسياسات عمل تنضبط وفق مجموعة من القواعد المتعارف عليها عالمياً[15]، وبالتالي كانت المنظمات الإنسانية غير الحكومية -خاصة منها العاملة في القطاع الإغاثي والطبي والتعليمي- مضطرة إلى تطوير أدواتها حتى تقدم نفسها كشريك تنفيذي تنطبق عليه تلك المعايير.
ومن هذه القواعد المتعارف عليها: القواعد التي يتم على أساسها توزيع الدعم وتمويل المشاريع من الجهات المانحة، فبعد استعراض الاحتياجات في سوريا على سبيل المثال تقدم الجهات المانحة -حكومات أو منظمات عالمية أو أجنبية – منحاً تغطي جزءاً من الاحتياجات[16] إلى مجموعة من المنظمات[17]، والتي تقوم بدورها بتنفيذ أو تمويل مشاريع قامت منظمات أخرى أو محلية بتقديمها بما يتوافق مع تلك الاحتياجات[18].(الشكل 2).
الشكل 2:مخطط يوضح آلية تقديم التمويل وتنفيذ المشاريع وفق منظومة العمل الإنساني الدولي
فالمنظمات الأممية والعالمية تقوم بتقديم تمويل يسدّ جزءاً من الاحتياجات، ثم تقوم بعض المنظمات الإنسانية الأجنبية بسدّ جزء من الاحتياج الكبير الذي لم يُغطَ بالدعم السابق عبر تقديم تمويل لبعض المشاريع المقدمة من المنظمات المحلية، التي تقع ضمن نطاق عملها وتسدّ جزءاً من الاحتياجات الحالية، وقد يتكفل المتبرعون الأفراد والمنظمات العربية والإسلامية بسدّ جزء إضافي من تلك الاحتياجات.
وتنقسم المنظمات المحلية التي يتم دعمها من منظمات الأمم المتحدة [19]أو المنظمات الدولية والأجنبية قسمين:
- منظمات محلية مرخصة منفِّذة: تقوم بتنفيذ المشاريع عبر طواقمها وفقاً لمعايير الجهة المانحة للتمويل.
- منظمات محلية مرخصة داعمة: تقوم بأخذ التمويل الأممي أو الأجنبي وتقدمه لجهات منفذة محلية تحت إشرافها.
وتغطي منظومة العمل الإنساني عدة قطاعات [20](الشكل 3):
الشكل 3: قطاعات العمل الإنساني وفقاً لمنظومة العمل الدولي الإنساني
أما منظومة العمل مع المنظمات العربية أو الإسلامية أو تبرعات الأفراد أو رجال الأعمال فقد تختلف إلى حد ما؛ إذ غالباً ما تتقدم المنظمات المحلية بمشاريعها وفقاً للاحتياجات التقديرية بشكل مباشر للداعم، الذي قد يمول بعض المشاريع بناءً على اقتناعه بجدوى المشروع وبسمعة المؤسسة ودرجة ثقته بها، في حين يلاحظ أن عدداً من المنظمات العربية والإسلامية بدأت تعتمد معايير مستمدة أو متماهية مع المعايير الأممية.
مفهوم منظمات المجتمع المدني من وجهة نظر الحاضنة الشعبية:
يبدو مفهوم المجتمع المدني عند عموم السوريين ضبابياً إلى حدّ ما، وهو ما قد يعود إلى حداثة التجربة والظروف الاستثنائية التي نشأت بها، الأمر الذي بدا واضحاً من خلال إجابات الشريحة المستطلعة آراؤها؛ فقد أشارت الإجابات إلى أن مفهوم منظمات المجتمع المدني في أذهان الحاضنة يركز بشكل أكبر على المنظمات التي تقدم مساعدات مادية ملموسة، سواء أكانت سللاً غذائية أو مساعدات نقدية أو خدمات طبية أو تعليمية، والتي تندرج تحت مسمى المنظمات الإنسانية غير الحكومية NGO،في حين قد تغيب عن الصورة المنظمات والجهات التي تقدم بعض الخدمات العامة كإنارة المرافق العامة أو تصليح البنية التحتية أو محطات الضخ أو الخدمات الدعوية وغيرها، والتي قد تكون الشريحة المستفيدة منها أكبر؛ ولكن هذه الفائدة غير ملموسة بشكل مادي كالمساعدات العينية[21] (الشكل4).
الشكل 4: مفهوم المجتمع المدني من وجهة نظر الحاضنة الشعبية
ثانياً: الصورة الذهنية والانطباعات حول أداء المنظمات العاملة في المجال الإنساني
نظراً لحداثة تجربة العمل الإنساني في سوريا، وللظروف التي عملت في ظلها المنظمات السورية غير الحكومية وفرضت عليها الكثير من التحديات، ولعدم تمكنها من الوصول إلى حالة الاستقرار، إضافة لبعض الأخطاء التي وقعت فيها خلال بداية عملها وأثنائه؛ فقد تشكلت صورة ذهنية من مجموعة انطباعات لدى الحاضنة الشعبية عموماً وحاضنة المؤسسات خصوصاً تجاه هذه التجربة الوليدة، بعضها سلبي والآخر إيجابي.
ويمكن استعراض الصورة الذهنية التي تشكلت عند الحاضنة الشعبية وفق المحاور الآتية[22]:
2-1- التزام المنظمات بالرسالة والرؤية المعلنة[23]:
أشارت نصف إجابات الشريحة المستطلعة آراؤها تقريباً إلى أن عمل المنظمات على الأرض لا يتوافق مع الرسالة والرؤية المعلنة، ويمكن تفسير هذه النتيجة بأنها تعود إلى حالة عدم الثبات في أداء المنظمات نتيجة عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بالنظر إلى البعد الاستراتيجي للرؤية والرسالة، أو أن رؤية المنظمة ورسالتها غير واضحة للفئات المستفيدة[24]، إضافة إلى تشكل انطباع لدى الحاضنة بضآلة الإنجازات التي تقدمها هذه المنظمات بالمقارنة مع الرؤى الطموحة التي تضعها، والاحتياجات المتزايدة للسوريين، سواء داخل سوريا أو خارجها.
وتشير المقابلات مع عدد من الكوادر الإدارية في بعض المنظمات على مختلف مستوياتها الإدارية إلى أن معظم المنظمات السورية تسعى إلى الالتزام بما أعلنت عنه قدر الإمكان، إلا أن هذه المنظمات تواجه عوائق تمنعها من أن تضبط عملها بشكل كامل وفقاً للرؤية والرسالة؛ فقد تدفع بعض الظروف الطارئة التي يفرضها الواقع تلك المنظمات إلى تغيير نمط عملها وقبول بعض المشاريع التي لا تتناسب مع توجهها العام[25]، كما أن تسارُع الأحداث في الشأن السوري قد يحوّل سياسات بعض المنظمات إلى ردات الفعل والاستجابة السريعة بناء على تطورات الواقع[26].
2-2- التزام المنظمات بمعايير الشفافية المالية والإدارية:
تُعد قضايا الشفافية المالية والإدارية من أهم القضايا التي تؤثر في تشكيل الانطباعات ورسم الصورة الذهنية للمنظمات، وقد أظهرت نتائج الاستبانة أن ثلثي إجابات الشريحة المستطلعة آراؤها ترى أن المنظمات لم تلتزم بمعايير الشفافية.
ويمكن تفسير هذه النتائج بأن تلك الفئات قد تكون محكومة بالصورة الذهنية القديمة التي تسم العمل العام الحكومي وغير الحكومي بالفساد، أو أنها لم تطلع على التقارير التي تصدرها بعض المنظمات؛ نظراً لضعف الخبرة في التعامل مع الشبكة العنكبوتية والمواقع الإلكترونية التي أصبحت في كثير من الحالات المصدر الأساسي للمعلومات التي تنشرها بعض المنظمات عن أعمالها.
وفي محاولة لاستكشاف مفهوم الشفافية من وجهة نظر الحاضنة بشكل أعمق وجهت الاستبانة مجموعة من الأسئلة الفرعية التي تتعلق بالمفهوم ذاته، وقد أشارت غالبية الشريحة إلى أن معظم المنظمات الحالية تعاني من فساد مالي وإداري[27].
كما أن ثلثي إجابات الشريحة المستطلعة آراؤها أشارت إلى أن تلك المنظمات لا تختار موظفيها بناءً على معايير الكفاءة، وإنما وفق أولويات أخرى[28]، ويمكن تفسير هذه النتائج بأنه نتيجة لحالة البطالة المنتشرة، وحنق العديد من الكفاءات نتيجة عدم قدرتهم على الحصول على عمل ضمن هذه المنظمات[29]، خاصة وأن رواتب الموظفين في هذه المنظمات داخل سوريا يعتبر من الرواتب المرتفعة مقارنة بالرواتب التي يتيحها سوق العمل المحلي[30].
وفي محاولة للتحقق من صحة هذه الصورة الذهنية المتكونة لدى الحاضنة قمنا بدراسة صفات شريحة الموظفين في المنظمات الذين تم استطلاع آرائهم (الشكل 5)؛ فأشارت النتائج إلى أن أغلب الموظفين البالغ عددهم 92 شخصاً معظمهم من الفئة العمرية بين 27-40عاماً، وأن 79% منهم يعملون في مكاتب المنظمة خارج سوريا، و80% منهم حاصلون على شهادة جامعية على الأقل، وهو ما يشير إلى أن المنظمات راعت في توظيف موظفيها تشغيل الكفاءات العلمية قدر الإمكان، على عكس الانطباعات السابقة[31].
الشكل 5:خصائص شريحة الموظفين الذين شاركوا في الإجابة على الاستبانة
كما استطلعت الاستبانة رأي الحاضنة بسلم الرواتب داخل المنظمات، والذي يتعلق بشكل مباشر بالشفافية الإدارية والمالية، ويُعد عاملاً بالغ الحساسية [32] غالباً ما تدور الاتهامات حوله، وقد أشارت النتائج إلى أن نصف الشريحة المستطلعة آراؤها تقريباً ترى أن رواتب الموظفين في منظمات المجتمع المدني لا تتناسب مع متطلبات المعيشة[33].
2-3-التزام المنظمات بتطوير نظم العمل الخاصة بها:
يعد نشاط المنظمات غير الحكومية السورية حديث العهد نسبياً إذا ما قيس بتجارب بقية الدول في هذا المجال، مع الإشارة إلى أن هذه المنظمات اكتسبت خبرتها في أوضاع غير مستقرة وبيئة توصف بتسارع أحداثها وانتشار الفوضى فيها، وحققت نجاحات مشهود لها في هذا المجال.
وتشير النتائج إلى أن 43% من الشريحة المستطلع رأيها أقرت بوجود تحسن في أداء عمل المنظمات وتطور خبرتها، وهو ما أكدته أيضاً إجابات ثلثي شريحة الموظفين المستطلع رأيهم، الأمر الذي يدل على أن المنظمات أدركت وجود بعض الخلل والمشاكل في الأداء مع بداية تشكلها حين كان العمل أكثر ارتجالية، يفتقر للرؤية والخبرة الإدارية، وعملت على تطوير منظومتها الإدارية والاستفادة من الخبرات المتراكمة والأخطاء التي وقعت بها، وتدارك تلك المشاكل، وإن كانت لم تستطع أن تتجاوزها بشكل كامل.
2-4-استقلال قرار المنظمات عن الداعم:[34]
في الحالة السورية تدخل استقلالية المنظمات عن الجهات الداعمة في نطاق القضايا العامة التي غالباً ما تكون محل نقاش في الأوساط الشعبية المختلفة، وتظهر نتائج الاستبانة أن ثلثي الشريحة المستطلعة آراؤها كان لديها آراء سلبية حول استقلالية القرار عند المنظمات.
كما تشير النتائج إلى أن فكرة “تبعية المنظمات للداعم” منتشرة في أوساط الحاضنة الشعبية بمختلف شرائحها، ولعل أحد الأسباب الرئيسة لهذا الانطباع هو قيام بعض المنظمات بتقديم خدمات تُعد بنظر الناس هامشية وغير ضرورية، كبرامج التدريب وحماية الأطفال والنساء من العنف وبرامج تمكين المرأة … إلخ، في الوقت الذي تكون فيه الناس بحاجة ماسة للاحتياجات الأساسية من مأوى وغذاء وشراب وغيرها.
ومن جهة أخرى يتوجه الدعم في بعض الأحيان للقطاعات الخدمية التي تخدم شرائح واسعة بشكل غير مباشر وتتطلب ميزانيات كبيرة، مثل مشاريع إصلاح البنى التحتية، أو إقامة حدائق أو ملاعب وتُعرف باسم مساحات آمنة، أو حتى بناء مساجد قد يعتبرها البعض ترفاً كونها لا تلائم احتياجاتهم الآنية[35].
هذا وتؤثر عملية التمويل المتذبذبة على قرارات المنظمات السورية غير الحكومية، وتقلل من درجة استقلاليتها وفقاً لما أشار إليه بعض مديري تلك المنظمات، إلا أن ذلك لا يعني أنها مرتهنة القرار للداعم بالكلية؛ فاختيارها مشاريعها يتأثر بشكل كبير بالفجوة الكبيرة بين الاحتياج الحالي والدعم المقدم من جهة، والاختلاف في أولوية الداعم وأولويات الفئة المستفيدة من جهة أخرى[36].
وقد تواجه المنظمات السورية غير الحكومية في بعض الأحيان توجهات وسياسات المانحين التي قد تركز على نوع معين من المشاريع أو فئة من المستفيدين أو منطقة ما، وهذه التوجهات غير ملزمة للمنظمات التي لا ترغب في الدخول في مجالات غير مجالات عملها[37]؛ إلا أن هذا لا ينفي قيام بعض المنظمات بالدخول في مجالات تتماهى مع رؤية الداعم وتفضيلاته التي قد تكون بعيدة عن مجال اختصاصها، وذلك من أجل تأمين مورد مالي يؤمن استمرارية عملها؛ وهذا ما قد يُشاهد عند المنظمات الصغيرة أو المبتدئة وبعض المنظمات الكبيرة[38]، أو التي لم تطور بينتها الإدارية بما يتوافق مع رؤيتها ورسالتها[39].
2-5- آليات تحديد الفئات المستهدفة:
مع أن غالبية المنظمات الإنسانية السورية تعلن التزامها بالمبادئ الناظمة للعمل الإنساني[40]؛ إلا أن ثمة مَن يتّهمها بانتهاكه من جهة مراعاتها الجانب الأيديولوجي والمناطقي أو العائلي في الفئات المستهدفة بخدماتها، حيث إنها تقدم مساعداتها وخدماتها للفئات القريبة منها أيديولوجياً، أو تلك التي تتركز في المنطقة ذاتها التي ينحدر منها موظفوها الرئيسيون.
وتشير النتائج إلى أن ثلثي الشريحة المستطلعة آراؤها تقريباً يرَون أن المنظمات لا تقدم خدماتها بشكل عادل، وهو ما يمكن تفسيره بعدم اهتمام المنظمات بإيضاح معايير اختيار المستفيدين للعموم، وقد تكون قلة الدعم المقدم من المنظمات في ظل ازدياد احتياجات الحاضنة ولدّت شعوراً لدى الأخيرة بأن المعايير المتبعة غير عادلة، مع أن السبب في هذه الحالة قد يرجع أساساً إلى قلة الموارد، وليس فقدان المعايير أو عدم عدالتها.
ويشير بعض مديري المنظمات إلى أن الخطأ البشري في هذا السياق وارد عند التنفيذ، وتحاول المنظمات تداركه، ومن الطبيعي أن تقوم الفرق المعنية بالتنفيذ -التي تكون من أبناء المنطقة غالباً- بالتوزيع وفقاً لقوائم الاحتياج، وهذا ما يعني أن التوزيع قد يشمل بعض العائلات من أقارب العاملين الذين تم اختيارهم بناءً على الاحتياج، وليس على القرابة. وبالتالي لا يمكن اتهام المنظمة أنها تختار المستفيدين بناء على معايير مناطقية أو عائلية، إلا إن اقتصرت نشاطاتها واقتصر المستفيدون من مشاريعها على هذه الفئة فحسب، كما أن ازدياد موجات النزوح واتساع نطاق الفئات المتضررة جعلت من الصعوبة بمكان التمييز بين المتضررين على أساس أيديولوجي أو مناطقي، إذ غالباً ما يكون معيار “النزوح” هو الأساس.
2-6-الخطط والبرامج السنوية للمنظمات:
من المفترض أن تكون المنظمات السورية غير الحكومية مع تطور بنيتها الإدارية وتوسع رقعة أعمالها قد باتت أكثر احترافية في تحضير خططها السنوية ومشاريعها، التي من المفترض أن تقوم على دراسات وإحصائيات دورية تنبع من الاحتياجات التي تقوم بها كما تدّعي، وترتكز على رؤيتها ورسالتها وأهدافها المعلنة.
وتشير نتائج الاستبانة إلى أن نصف الشريحة المستطلعة آراؤها تقريباً تعتبر أن ما تقوم به المنظمات السورية غير الحكومية غير مبنيّ على دراسات وإحصائيات دقيقة، ويرى بعض موظفي المنظمات أن هذا الأمر نسبيّ يختلف باختلاف المنظمة، واختلاف درجة تطورها الإداري ومجال عملها وطبيعته، واختلاف بيئة العمل مستقرة كانت أم طارئة؛ فكلما كانت البيئة أكثر استقراراً كان التخطيط والتنظيم بناء على الإحصائيات والأرقام أكبر.
ومن جهة أخرى فإن جهة الدعم تؤثر بشكل واضح في خطط المنظمات ومشاريعها؛ فلا يمكن الحصول على تمويل لمشاريع من قبل جهات أجنبية أو أممية ما لم تستند على دراسات واضحة للاحتياجات، في حين قد تتساهل الكثير من المنظمات في تقديم دراسات للاحتياج عندما تكون جهة التمويل غير معنية بالتفاصيل، كبعض المنظمات الداعمة أو من الداعمين الأفراد؛ فتقدم مشاريعها لهذه الفئة بناءً على تقديرات، وليس على دراسات تمت وفق منهجية واضحة.
هذا وتدرك نصف الشريحة المستطلعة آراؤها أن الدعم المقدم للمنظمات لا يكفي لتلبية الاحتياجات الكبيرة، ويمكن تفسير الإجابات الأخرى التي رأت أن الدعم المقدم يكفي لتغطية الاحتياجات بأنها قد تكون انطلقت من ظنّها أن الدعم يُصرف في مشاريع ليست ذات أولوية، أو أنهم يعتقدون أن هناك هدراً حاصلاً في تنفيذ المشاريع، وبالتالي فإن المنظمات لم تستطع سدّ الاحتياجات نتيجة “سوء إدارتها أو فسادها “.
ومن جهتهم أشار بعض مديري المنظمات إلى أن منظماتهم تقوم بتحضير العديد من المشاريع وفقاً للاحتياجات وتعرضها على الدعمين؛ إلا أن ذلك لا ينفي وجود مشاريع يطلبها الداعم بشكل معين وفقاً لرؤيته وتصوره، ويمكن في بعض الأحيان مناقشة الداعمين وإقناعهم بإجراء تعديلات معينة وفقاً للاحتياج ولما تراه هذه المنظمة نتيجة خبرتها للوصول إلى نتيجة أفضل، وقد تضطر المنظمة في أحيان أخرى إلى قبول بعض المشاريع وفقاً لرؤية الداعم نتيجة شحّ التمويل، أو حتى تحافظ على علاقتها معه كونه يموّل مشاريع أخرى تعمل عليها، وهو ما قد يتسبب بإيقاعها في بعض المشاكل مع الفئات المستفيدة، ويؤثر في صورة العمل الإنساني لديهم[41].
وغالباً ما تُتهم المنظمات الإنسانية غير الحكومية بعدم الاستعداد للكوارث المتوقعة أو القيام بإجراءات استباقية، لاسيما في فصل الشتاء، إلا أن العديد من المنظمات أشارت إلى أنها قامت بالعديد من الحملات الاستباقية من أجل تأمين استجابة لبعض المشاكل المتوقعة، لكنَّ تلك الحملات لم تلقَ التجاوب المطلوب كحملات الشتاء -على سبيل المثال- إلا بعد وقوع المشكلة[42].
2-7-الاستجابة في الأوقات الطارئة:
من أهم واجبات المنظمات السورية غير الحكومية العاملة في المجال الإنساني تقديم الاستجابة الطارئة عند حدوث الأزمات، حيث يُفترض بها مساعدة المدنيين والتخفيف من معاناتهم حسب استطاعتها. وفي الحالة السورية أضحى هذا الواجب أكثر لزوماً في ظل استمرار الظروف الطارئة المرافقة لحالات التهجير والقصف المستمرة على مدى 9 سنوات[43].
وتشير النتائج الواردة إلى أن نصف الشريحة المستطلعة آراؤها ترى أن هذه المنظمات تبذل جهدها خلال الأزمات الطارئة في التخفيف عن المتضررين– خاصة خلال الحملات العسكرية -، ويمكن تفسير ذلك بأن الحاضنة تلاحظ الجهود الإعلامية التي تبذلها المنظمات السورية غير الحكومية خلال حالات الطوارئ وحملات المناصرة الفردية والمشتركة، بهدف تحريك الرأي العام من أجل الضغط لإيقاف الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمات الإنسانية. كل ذلك قد يعطي انطباعاً لدى المتابعين بأن المنظمات غير الحكومية السورية تفعل ما بوسعها، فضلاً عن وجود رأي عام أن هذه المنظمات هي مجرد وسيط، وأن الجهات الداعمة هي التي تتحمل المسؤولية في تغطية نفقات احتياجات المدنيين[44] .
2-8-التزام المنظمات بالمعايير الإنسانية ومعايير التوثيق:
ينص ميثاق مبادئ العمل الإنساني الذي أُقر في المؤتمر الدولي السادس والعشرين للصليب الأحمر والهلال الأحمر على: احترام كرامة المواطن وحقه في المعاملة الكريمة، وهي نقطة لطالما أثارت الانتقادات حول عمل المنظمات والآلية المطلوبة التي تحفظ كرامة المستفيد وتمكّن المنظمة من الحصول على التوثيقات المطلوبة، إذ تشير نتائج الاستبيان الواردة إلى أن نصف الشريحة المستطلعة آراؤها ترى أن المنظمات لا تراعي في عمليات التوثيق الحفاظ على كرامة المستفيد.
ويعتبر العديد من العاملين في المنظمات الإنسانية غير الحكومية أن المنظمات وقعت في مثل هذه الأخطاء في بداية عملها، إلا أن الكثير منها بدأت بتطوير أدوات التوثيق بما يتلاءم مع كرامة المستفيد، لكنّ ذلك لا يعني أن تلك الأخطاء لم تعد موجودة؛ فالعديد من المنظمات والفرق الجديدة قد تلجأ إلى طرق توثيقية تتعارض مع كرامة الإنسان، بينما قد تفرض الظروف في بعض الأحيان -خاصة عند حالات الطوارئ- إيصال المساعدة للفئة المستهدفة وتوثيقه، بغضّ النظر عن الأسلوب، نظراً لضغط العمل.
هذا؛ وقد لجأت بعض الجمعيات والمنظمات إلى استخدام أساليب حديثة في التوثيق والأرشفة، كالبصمة أو البطاقات الممغنطة التي يمكن من خلالها التأكد من وصول المساعدات لمستحقيها؛ إلا أن ذلك لا يمنع أن يفرض بعض الداعمين تصوير المستفيدين خلال عملية التوزيع، أو الطلب منهم توجيه شكر للجهة الداعمة.
2-9-الموقف السياسي للمنظمات:
مع أن الالتزام بمبادئ الثورة لا يدخل ضمن معايير الحوكمة التي يفترض أن تلتزم بها المنظمات، إلا أن الكثير من السوريين، لاسيما حاضنة المنظمات المقيمة في الداخل، يعتقدون أنه يجب أن يكون لهذه المنظمات انتماء واضح للثورة السورية ومبادئها؛ فهي وليدة البيئة التي أفرزتها الثورة وأعادت للمجتمع المدني حيويته، وقد أخذت لاحقاً دوراً سياسياً تمثيلياً في المسار السياسي[45] .
وتفترض تلك الحاضنة أنَّ على المنظمات غير الحكومية السورية أنْ تظهر موقفها الواضح والصريح في إدانة إجرام النظام والانتصار لمبادئ الثورة، خصوصاً في الحالات التي يرتكب فيها النظام جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وألا تختبئ وراء مبدأ ” الحياد”[46]، لاسيما فيما يتعلق بتحميل مسؤوليتها لـ “أحد أطراف النزاع”، فهو مساواة بين الضحية والجلاد[47].
وتشير النتائج الواردة في الاستبانة إلى أن نصف الشريحة المستطلعة آراؤها ترى أن المنظمات الإنسانية السورية ليس لها انتماء واضح للثورة؛ ما قد يعود إلى انتشار الخطاب “المحايد” في أوساط بعض المنظمات الذي يتبنى العمل الخدمي من غير تبيان لأي موقف سياسي، إضافة إلى غياب مشاركة المنظمات في الاحتجاجات الثورية أو رفعها علم الثورة.
وفي معرض تعليقهم على النتائج[48] يرى بعض الموظفين أن انفصال المنظمات في خطابها عن الواقع الثوري السوري يعود لأسباب متعددة، منها: اعتمادها على دعم خارجي يتحكم بخطابها الإعلامي ويوجه بعضها نحو تبنّي خطاب محايد لا يشير إلى المسؤول عن معاناة الناس بشكل واضح، بالإضافة إلى وجود مديرين وموظفين في هذه المنظمات ليسوا من أبناء الثورة ولم يؤمنوا بمبادئها، وإنما غادروا سوريا لأسباب أخرى واستطاعوا الحصول على وظائف نتيجة امتلاكهم بعض الخبرات، فلم يُؤخذ معيار “الانتماء للثورة” إلى جانب معيار “الكفاءة والمهنية” بالحسبان خلال توظيفهم.
بينما يرى بعض العاملين في المنظمات غير الحكومية أنه لابد من التمييز بين المنظمات التي يمكن أن يكون لها أجندات سياسية، مثل المنظمات الحقوقية ومنظمات التنمية السياسية.. إلخ، والتي بإمكانها أن تعلن موقفاً حاسماً من المتورطين بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية وتعمل على الضغط من أجل محاسبتهم، والمنظمات الخدمية التي تعمل لخدمة الناس بغضّ النظر عن انتمائهم السياسي أو الديني أو العرقي أو أي تفرقة أخرى أياً كان نوعها، وهذه يصعب عليها إبداء وجهات نظر سياسية؛ لأن ذلك سيكلفها خسارة عملها في بعض المناطق.
وقد أشار بعض مديري المنظمات السورية غير الحكومية إلى أن ثمة خلطاً في فهم مفهوم الحياد؛ فالحياد الذي يتوجب على المنظمات التمسك به هو تقديم الخدمة للمحتاجين إليها دون النظر إلى هويتهم، بينما لا يُلزم الحياد المنظمة ألا يكون لها موقف تجاه المتسبب بهذه الانتهاكات، ولذلك قامت العديد من المنظمات العاملة بإصدار عدد من البيانات الرسمية التي تتهم فيها النظام السوري باستهداف الكوادر الإنسانية أو قصف المشافي أو ارتكاب جرائم حرب، وعقدت لذلك العديد من المؤتمرات الصحفية، وقد انطلقت هذا البيانات من المجالات الإنسانية التي تخصصت هذه المنظمات بالعمل فيها[49].
كما رأى آخرون أن المنظمات مُلزَمة بتطبيق مبادئ العمل الإنساني التي تتوافق مع مبادئ الثورة في كثير من النقاط؛ لأنها تقوم على حقوق الانسان، وهو ما يوجب على المنظمات الإنسانية إدانة الاعتداءات والانتهاكات والاعتقالات التعسفية وحالات الاختفاء القسري، وأن ترفض سياسة التجويع أو استهداف المرافق الصحية أو التعليمية أو الخدمية أيّاً كانت الجهة التي تورطت بذلك[50].
وقفة مع النتائج:
وبالعودة إلى النتائج السابقة حول الصورة الذهنية للعمل الإنساني في ذهن الحاضنة تظهر مجموعة من الملاحظات، وهي:
- غلبة الجانب السلبي على الجانب الإيجابي، خاصة فيما يتعلق بمواضيع الشفافية المالية والإدارية وانتشار أفكار عن الفساد الداخلي، وهو ما قد يعود لأسباب مبررة ومفهومة؛ منها: أن الحاضنة لا تشعر بأن المنظمات تلبي احتياجاتها الأساسية بشكل كافٍ، وقد يعود ذلك لأخطاء حقيقة وقعت بها تلك المنظمات، أو بسبب سوءِ فهمٍ لدى الحاضنة قد تتحمل المنظمات المسؤولية عنه لعدم التزامها بالشفافية وعدم وجود جلسات نقاشية مع الحاضنة.
- ينحصر الانطباع الإيجابي لدى عينة الدراسة تجاه بعض جوانب العمل لدى المنظمات، ولاسيما فيما يتعلق بتطور أداء المنظمات وخدماتها المقدمة في الأوقات الطارئة.
- تُظهر النتائج وجود عدد من الشرائح الغاضبة والحانقة كوَّنت صورة ذهنية سلبية تجاه عمل المنظمات. ومن هذه الشرائح:
- الشريحة العمرية الأكبر من 40 عاماً؛ ويمكن تفسير إجاباتها الحانقة بأنها الشريحة التي فقدت حالة الاستقرار التي عاشت بها خلال سنوات، وتغيرت أوضاعها ولم تستطع التأقلم مع الظروف الجديدة الصعبة، كما قد يكون سقف توقعاتها مرتفعاً تجاه المنظمات كونها الجهة الخدمية الوحيدة الموجودة في أرض الواقع.
- تظهر شريحة حملة الإجازة الجامعية كإحدى الشرائح الحانقة على عمل المنظمات وعندها صورة ذهنية يغلب عليها الانطباعات السلبية في أكثر المجالات؛ ويمكن تفسير ذلك بأن هذه الشريحة تشكل شريحة الخبرات والكفاءات التي كانت تتوقع أن يتم الاستفادة منها في تطوير المنطقة وإدارتها وتقديم الخدمات لأهلها، وعندما لم تستطع المنظمات استيعاب كامل هذه الكفاءات ولد ذلك حالة احتقان وحنق، ومن جهة أخرى تمتلك هذه الشريحة من الوعي ما يمكّنها من إدراك مواضع الخطأ والتنبيه عليه أو اقتراح حلول بديلة، ويبدو أن المنظمات لم تفسح لهذه الشريحة المجال الكافي للمشاركة في التوجيه أو الاقتراح.
- تظهر الشريحة التي تستفيد من المنظمات بشكل قليل كإحدى الشرائح الحانقة، حيث إن هذه الشريحة ترى أن المنظمة على علم بوضعها وباحتياجاتها، إلا أنها تقاعست عن تقديم المساعدة والخدمات لها. إلا أن هذه الانطباعات قد لا تكون صحيحة؛ فقد يكون سبب عدم استفادتها من الخدمات بشكل دائم هو أن درجة الاحتياج لدى هذه الشريحة أقل من غيرها، أو أن موارد المنظمة محدودة، وهي غير قادرة على تغطية كامل الجهات التي تحتاج إلى مساعدة.
- تظهر الأرقام السابقة وجود نسبة غير قادرة على إعطاء قرار أو تقييم حول العمل الإنساني؛ فقد تراوحت نسبة الحياد بين 10 -30% من نسبة الإجابات، وهو ما يشير إلى غياب للمعلومة عند بعض الشريحة المستطلعة آراؤها، وهو ما يعود إلى ضعف في الأداء الإعلامي للمنظمات والخلل في حلقات التواصل مع المستفيدين.
- تبدو إجابات الموظفين في المنظمات السورية غير الحكومية غريبة عن السياق المتوقع؛ إذ يُفترض من الموظف أن يكون مطلعاً على عمل منظمته وملماً بالظروف المرافقة لهذا العمل، وتتراوح نسبة الحياد عند الموظفين بين 12-38%، وهو ما يشير إلى غياب للمعلومة الدقيقة عند العاملين في تلك المنظمات، وغياب للشفافية في عمل المؤسسة حتى عمن يفترض بهم أن يدافعوا عن المنظمة تجاه أي إشاعات أو افتراءات[51].
- تظهر الشريحة التي على احتكاك أكبر بالمنظمات من فئة المستفيدين انطباعات أكثر إيجابية من بقية الشرائح كونها أكثر الشرائح انتفاعاً بعمل المنظمة، إلا أن نِسب الانطباعات السلبية ليست قليلة، وهو ما يشير إلى حاجة المنظمات لوضع معايير أكثر دقة والالتزام بتطبيقها على أرض الواقع.
- يبدو العامل النفسي حاضراً في تشكيل الانطباعات لدى الشرائح المستطلعة آراؤها، والتي تأثرت وفقدت الكثير وتعيش أوضاعاً إنسانية سيئة للغاية، وبالتالي تحتاج هذه الشريحة أن تشعر بتغيير واضح في أوضاعها المعيشية حتى تكون قادرة على تغيير انطباعاتها السلبية.
ثالثا: أسباب اضطراب الصورة الذهنية
تشير النتائج الواردة في إجابات الشريحة المستهدفة إلى وجود حالة اضطراب في تشكيل الصورة الذهنية تجاه العمل الإنساني الذي قامت به المنظمات السورية غير الحكومية؛ فمن جهة تدرك الفئات المستهدفة شحّ الإمكانيات وقلة الدعم، وتلاحظ التطور في الأداء الإداري والتنفيذي للمنظمات، خاصة في وقت الأزمات؛ إلا أنها تحمل صورة سلبية عن عموم المنظمات دون تمييز بينها.
ويمكن أن نرجع أسباب اضطراب هذه الصورة الذهنية إلى عدد من العوامل، منها:
3-1- التغير المجتمعي
يشير عدد من الخبراء والمتابعين إلى أن الأوضاع التي يعيشها الشعب السوري -خاصة داخل سوريا- قد أثرت في قِيمه وسلوكه وأخلاقه، وأن تلك التغيرات طبيعية ومتوقعة نتيجة الظروف غير الإنسانية التي عاشتها فئات واسعة من الشعب السوري، وخسرت الكثير خلال السنوات الماضية؛ إلا أن تلك التغيرات لن تتضح بشكلها النهائي حتى يصل المجتمع إلى حالة من الاستقرار.
ويعتقد عدد من العاملين في القطاع الإنساني أنه يمكن ملاحظة مجموعة من السلوكيات التي باتت تنتشر بين فئات من الشريحة المستفيدة بالخدمات، ومنها:
- استثمار المعاناة وعدم الرغبة في تحسين الأوضاع: فعلى سبيل المثال هناك عدد من العائلات القادرة على إعالة نفسها أو تلك التي نزحت من بيوتها نتيجة احتمال هجوم وشيك؛ إلا أن تلك العائلات لم تعد إلى منازلها رغم أن الهجمات قد توقفت، ولا تزال قراها وبيوتها قائمة يمكن الرجوع إليها، وآثرت البقاء في المخيمات رغم سوء الأوضاع فيها، حتى لا تخسر ما تحصل عليه من مساعدات مجانية[52].
- تزايد حالات السرقة والتخريب التي تطال بعض الخدمات العامة التي تقدمها المنظمات، الأمر الذي دفع بعض المنظمات إلى تخفيض جودة بعض المواد المستخدمة في الخدمات العامة؛ لأنها تدرك أن مصير هذه المواد السرقة[53].
- تصاعد حالة الحنق والسخط نتيجة الخسائر الكبيرة وخيبات الأمل التي تعرض لها السوريون، وهو ما جعلهم يشعرون بالنقمة على أنفسهم وعلى الآخرين، ولا يرون في هذه الحياة إلا الجانب السلبي؛ لذا فإن من السهل إلقاء اللوم والهجوم على طرف وتحميله المسؤولية عن هذه المعاناة[54].
- تلجأ الفئات المستفيدة لتعميم انطباعاتها على جميع العاملين في القطاعات الإنسانية، دون تفريق بين المنظمات الجيدة والسيئة؛ وبالتالي فإن ارتكاب أي منظمة أو جهة أو فريق تطوعي خطأ ما سيجعل جميع العاملين في هذا القطاع في دائرة الاتهام.
- تحول المجتمع السوري خلال سنوات الحرب من مجتمع منتج إلى مجتمع محتاج، ودخوله في حلقة الضعف التي بات ينتقل فيها من حال إلى حال أسوأ، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الاعتماد على الآخرين -ولاسيما المنظمات- والاستسلام لليأس والتقاعس عن العمل[55].
- تُبدي الفئات المستفيدة من خدمات المنظمات درجة من الرضا ما دامت تقدم خدماتها، ولا يخطر ببال هذه الفئات أن هذه الخدمات سوف تتوقف في وقت ما، وعندما تتوقف هذه الخدمات أو تتراجع تتحول حالة الرضا إلى حالة نقمة أو غضب عارم[56].
- تُظهر الفئات المحتاجة في المناطق التي ينشط فيها العمل الإنساني درجة رضا أقل على خدمات المنظمات مهما كانت طبيعة هذه الخدمات وحجمها، مقارنة مع مناطق لا ينشط فيها العمل الإنساني بشكل كبير[57].
- يغيب عن الفئات المستفيدة أن كوادر المنظمات ما هم إلا أفراد من هذا الشعب، وأن ما يقعون فيه من أخطاء مقصودة أو غير مقصودة ما هو إلا انعكاس عن الطبيعة البشرية للأفراد وعن الأعراض الاجتماعية التي عانى منها السوريون نتيجة عقود من التخريب الاجتماعي، ونتيجة الأوضاع الطارئة التي تعرضوا لها.
- تغيب عن الفئات المحتاجة فكرة المسؤولية الذاتية أو المساهمة المجتمعية ودور تلك الفئات أو مساهمتها في تحسين الوضع؛ فهي تعدّ هذا الأمر من مسؤولية المنظمات فقط، وأنه ليس من واجبها أن تقدم أي جهد أو دعم في هذا الخصوص[58].
3-2- غياب الفهم الصحيح لمنظومة العمل الإنساني
تشير نتائج الاستبانة والتعليقات التي وردت فيها، إضافة إلى بعض التعليقات التي وردت على منصات بعض المنظمات السورية غير الحكومية على مواقع التواصل الاجتماعي إلى غياب وجود تصوُّر دقيق عن الآلية التي يتم فيها تقديم المساعدات وإدارتها؛ إذ ينتشر اعتقاد واسع أن نمط التعامل مع المنظمات والهيئات الدولية والأممية يشبه نمط التعامل مع المتبرعين الأفراد الذين يقدمون المال ويتركون للمنظمة هامشاً من الحرية في التنفيذ، أو أن هذه المنظمات والهيئات يمكن إقناعها بتحويل دعم مخصص لقطاع ما إلى قطاع آخر، إلا أن الواقع على الأرض يختلف عن هذه الصورة المتخيلة؛ فالمنظمات العالمية أو الدولية العاملة في المجال الإنساني تحتكم إلى نظام عمل وإجراءات إدارية صارمة لا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها، كما سبق وأوضحناها في القسم الأول من هذه الدراسة.
وبالعودة إلى تطور عملية الاستجابة الإنسانية في سوريا فقد قامت منصة الأوتشا OCHA[59] بإدارة هذه العملية منذ عام 2014 بعد قرار من مجلس الأمن الذي سمح بإدخال المساعدات الإنسانية عبر الحدود دون إذن الحكومة السورية[60] ؛ فأصبحت الأوتشا جهة مخولة دولياً بتنسيق ورسم السياسات وآلية الاستجابة الإنسانية في سوريا، بالإضافة لوضع خطة شاملة لمعرفة ما تحتاجه سوريا في السنوات القادمة.
وقد بدأت الأوتشا بتحديد مجموعة من القطاعات[61] تضم عدداً من المنظمات الفاعلة في هذا القطاع ضمن شروط معينة كعضو فعال أو كعضو مراقب، وتهدف هذه القطاعات للتنسيق بين عمل المنظمات الفاعلة وضمان تغطية أكبر شريحة من الفئات المحتاجة، كما أنه يساعد المنظمات على الحصول على دعم في هذا القطاع إذا حققت جملة من الشروط الدقيقة ويعطيها دوراً في صناعة القرار[62].
وقد مكنت هذه القطاعات المنظمات السورية غير الحكومية من التأثير في عملية الاستجابة وقيادتها في بعض الأحيان؛ إذ بدأت الأوتشا بتوظيف عدد من الموظفين السوريين الذين أصبحوا رأس حربة في هذا المجال، وتمكنوا لاحقاً من التأثير في صناعة القرارات والمشاركة في التخطيط وفي جهود المناصرة[63].
وقد تمكنت المنظمات السورية بشكل غير مباشر من التأثير والمشاركة في عملية صنع القرار عن طريق إقامة تقارير دورية حول الاحتياجات، وهو ما جعل شكل الاستجابة ينبع من الاحتياجات الموجودة، وليس من تقديرات لجهات غير موجودة على الأرض كما كان يتم في بداية تقديم الدعم الدولي الإنساني، وإن كانت هذه الاستجابة لا تغطي كل الاحتياجات أو قطاعات منها بشكل كامل (الشكل 23).
الشكل 6: تأثير المنظمات السورية غير الحكومية على منظومة العمل الإنساني الدولية
ومن جهة أخرى فإن وجود عدد من المنظمات والجهات التي تتلقى الدعم ثم تنقله إلى طرف آخر (مقاولة فرعية من الباطن) يعني أن الدعم المقدم من الجهات المانحة لا يصل إلى الفئات المستهدفة بشكل كامل، وإنما يتم اقتطاع النسب الإدارية الخاصة بكل جهة ومنظمة، وتختلف هذه النسب من منظمة إلى أخرى.
كما تعتمد المنظومة الدولية سياسة عامة في الصرف تقتضي بتخصيص نسبة من الدعم المقدم لإتمام عملية التوثيق وللتأكد من أن هذه المساعدات قد وصلت لمستحقِّيها، حتى لو وصلت كلفة هذه العملية إلى 25% من قيمة المساعدات، فذلك أجدى – من وجهة نظرها -من تقديم مساعدة كاملة لا يمكن التحقق منها.
في حين تنتهج بعض الجهات الداعمة الأصغر والمتبرعون الأفراد سياسة مختلفة لا تخصص لجانب التحقق والتوثيق الميزانية والمعايير ذاتها، فهي تريد أن يصل مبلغ الدعم لمستحقِّيه كما هو، وتعتمد على نزاهة الجهة المنفذة ودرجة الثقة بها.
أما منظومة العمل مع بعض المنظمات العربية والإسلامية وتبرعات الأفراد أو رجال الأعمال فتختلف إلى حد ما؛ فغالباً ما تتقدم المنظمات المحلية بمشاريعها وفقاً للاحتياجات التقديرية بشكل مباشر للداعم، الذي قد يموّل بعض المشاريع بناءً على اقتناعه بجدوى المشروع وبسمعة المؤسسة ودرجة ثقته بها؛ في حين أن عدداً من المنظمات العربية والإسلامية صارت تعتمد معايير مستمدة أو متماهية مع المعايير الأممية.
3-3- الفجوة بين الاحتياج والدعم المقدم والدعم الواصل
قدَّرت الأمم المتحدة والشركاء حجم المساعدات المطلوبة داخل سوريا فقط لعام 2020 بقيمة 3.3 مليار دولار لتلبية الاحتياجات الإنسانية داخل سوريا، في حين خصص مؤتمر المانحين مساعدات فعلية إجمالية قدرها 1.7 مليار دولار أمريكي، بينها 286 مليون دولار تُصرف داخل سوريا في مناطق النظام والمعارضة والأكراد، مع الإشارة إلى أن الأمم المتحدة لم تحصل عام 2019 سوى على 58% من التمويل اللازم لسدّ احتياجات السوريين داخل سوريا وفي بلاد اللجوء المجاورة لها[64].
الشكل 7:الفجوة بين حجم المساعدات المطلوبة والمقدمة والمخصصة لسوريا وفقاً لمؤتمرات بروكسل الأربعة[65]
وعند مقارنة حجم الدعم المتناقص عاماً بعد عام (الشكل 33) مع حجم الاحتياجات المتزايد (الشكل 34) تبدو الفجوة واضحة، لاسيما مع تزايد العمليات العسكرية وتزايد موجات النزوح التي حولت الكثير من العائلات من عائلات محتاجة في قطاع واحد إلى محتاجة في عدد من القطاعات، بالإضافة إلى أن التبرعات والمنح الدولية لم تستطع حتى الآن أن تغطي قطاعاً معيناً بشكل كامل؛ لذلك تم توزيع الدعم لتغطية جميع القطاعات بشكل جزئي ومتفاوت.
الشكل 8: عدد الأشخاص المحتاجين للمساعدة بين عامي 2012 وحتى نهاية عام 2019 [66]
ومن جهة أخرى، ومع أن أعداد السوريين في الشمال السوري تفوق أعداد السوريين اللاجئين في دول الجوار، ودرجة الاحتياج لديهم أكبر؛ إلا أن القسم الأكبر من المساعدات لا تذهب إلى الداخل السوري، وإنما يتم توزيعها وفقاً لاعتبارات أخرى[67]، وبالتالي فإن المساعدات التي تعلن عنها الدول المانحة تتوزع على الدول المستضيفة للسوريين، كما تتوزع فيها حصة سوريا على المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام والمناطق الواقعة تحت سيطرة قوى المعارضة، وتلك الواقعة تحت سيطرة المليشيات الانفصالية.
ولذا فإن المنظمات غير قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة في ظل الواقع الحالي؛ فالدعم الدولي غير كافٍ أساساً لتغطية الاحتياجات، كما أن هذا الدعم يمرّ بعدد من الجهات ليصل إلى جهة التنفيذ، وهو ما يعني اقتطاع أجزاء منه بنِسب إدارية عند انتقاله من جهة إلى جهة أخرى. إضافة إلى أن العمليات المالية التابعة لهذه الجهات -خاصة الجهات التنفيذية- يعترضها الكثير من التدقيق، لاسيما بعد وضع قيود على التحويلات المصرفية إلى سوريا أو البلدان المجاورة عبر شبكة البنوك المراسلة العالمية global correspondent bank network، وهو ما جعل وصول أموال الدعم -سواء كانت عن طريق المنظمات المانحة أو المتبرعين الأفراد- أمراً بالغ الصعوبة، وأدى إلى تجميد ثلث إجمالي المساعدات المخصصة لسوريا، وقد تزايدت هذه التعقيدات المالية بعد دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، والذي جعل البنوك تبالغ في الامتثال للعقوبات من خلال فرض إجراءات وشروط أكثر تعقيداً على الأفراد والمنظمات[68].
ونتيجة لهذه العراقيل البيروقراطية لم تصل العديد من المبالغ المخصصة للمساعدة إلى المنظمات المنفِّذة، وهو ما دفع بعضها إلى إلغاء أو تأجيل مشاريع كانت جاهزة للتنفيذ نتيجة عدم قدرتها على استيفاء المعاملات الورقية التي طالبَ المانحون بها، خاصة بعد التشديد الذي فرضته العديد من البنوك على عمليات تحويل الأموال الموجهة إلى سوريا، ما تسبب بتأخير أو إيقاف أو رفض عملية التحويل[69].
وتؤثر هذه الفجوة بين الاحتياج والدعم المقدم والدعم الحقيقي الذي وصل للمشاريع المنفذة على الصورة الذهنية للمنظمات الإنسانية؛ فالشريحة المستهدفة تغيب عنها هذه التفاصيل والمعلومات حول العراقيل الإدارية التي تعاني منها المنظمات، وتسمع الشريحة المتضررة عن مئات ملايين الدولارات التي خُصصت لدعم سوريا، بينما لا ترى -وفق تقديرها- على أرض الواقع ما يوازي قيمة هذه المبالغ التي تم الإعلان عنها، فتتوقع وجود عمليات فساد وسرقة قامت بها الجهات القائمة على هذه العملية على اختلافها.
3-4-اختلاف الأولويات
مع تفاقم الاحتياجات وتحوُّل العديد من العائلات من عائلات محتاجة في قطاع واحد إلى محتاجة في أغلب القطاعات، وتراجُع حجم الدعم المقدم وتقييده؛ بات من الضروري إعادة توزيع الموارد المتاحة وفق الأولويات، وإن كانت هذه الموارد لا تغطي الاحتياجات الحالية.
وتختلف أولويات الداعم عن أولويات المنظمات المنفذة والفئات المستفيدة؛ فالدول والمنظمات الداعمة ترى أن من أولوياتها في حالات الطوارئ تأمين ما يبقي الناس على قيد الحياة ولو في الحدود الدنيا، كما أن العديد من الجهات الداعمة لا ترى أن دعم بعض القطاعات يشكل أولوية عندها، كالتعليم أو مشاريع الإيواء، على اعتبار أن الوضع طارئ وغير مستقر و”مؤقت”[70].
وترى المنظمات الداعمة – الدولية أو الأممية – أن أولويتها تقديم الدعم في المجال الذي تخصصت به، وليس من أولويتها تقديم دعم في مجال آخر، وإن كانت درجة الاحتياج ودرجة الأهمية أكبر، كما تضع هذه الجهات في أولوياتها أن تصل المساعدات للمحتاجين، دون أن تستفيد منها الجماعات المصنفة[71] أو “أطراف النزاع”[72].
وتختلف أولويات المنظمات المحلية[73] عن أولويات الجهات الداعمة؛ كون المنظمات على احتكاك وثيق بالمستفيدين، وتدرك بشكل أكبر احتياجاتهم المتزايدة. إلا أن هذه المنظمات إلى جانب أولوياتها وحرصها على خدمة المستفيد وتحقيق رؤيتها ورسالتها فإن حصولها على تمويل لمشاريعها هو ما يضمن استمرارية عملها مع تراجُع الدعم بشكل كبير سنوياً[74]، كما أن أولويتها تنفيذ مشاريع ضمن المجالات التي تعمل بها التي بنت فيها خبرات متراكمة[75]، بالإضافة إلى ضمان سلامة كوادرها، والقدرة على تنفيذ المشاريع دون حدوث مضايقات من السلطات المحلية[76].
أما عن الفئات المستهدفة فتختلف هذه الفئات فيما بينها في تحديد أولوياتها؛ فضمن العائلة الواحدة تختلف الأولويات بين الأفراد[77]، وكذلك الأمر ضمن المخيم الواحد، فحينما تقدم المنظمة مشروعاً وفق أولوية معينة تجد أن الفئات التي لا ترى هذا المشروع من أولوياتها ليست راضية.
ومن جهة أخرى قد تحصل الفئات المستفيدة على ما تعدّه من أولوياتها الحالية؛ إلا أنها قد تقوم بالاستغناء عنه أو عن جزء منه لتأمين أمور ذات أولوية أيضاً بالنسبة لها، كأن تقوم ببيع جزء من المساعدات ولو بثمن بخس لتوفير سيولة تسمح لها بتأمين متطلبات أخرى، وبالتالي فإن قيام بعض العائلات بذلك يعطي انطباعاً بأن هذه المساعدة فائضة عن حاجتها[78].
ويرى البعض أن تقديم المساعدات بشكل نقدي سيوفر على الجمعيات مشكلة تحديد الأولويات؛ إلا أن هذا الأمر لا يمكن تنفيذه في كثير من الأحيان لأن الدعم قد يكون موجهاً لتغطية مجال معين، أو لأن الكثير من المساعدات المالية التي قُدمت في أوقات سابقة صُرفت في غير مكانها[79].
3-5- غياب الجهات الرقابية وضعف الشفافية
من المفترض في عمل المنظمات غير الحكومية أن تكون هناك جهة رقابية – وهي الحكومة – تدقق في عمل المنظمات وتستقبل الشكاوى بحقها إن وجدت؛ إلا أن الظروف التي نشأت فيها المنظمات السورية غير الحكومية، وتحوُّل أجهزة الدولة والحكومة إلى الخصم والمتسبب بهذه الأزمة الإنسانية جعل عمل تلك المنظمات يتوسع ويتطور دون وجود آلية رقابية أو وجود جهة للمحاسبة والمساءلة.
وبسبب غياب هذه الجهة الرقابية، ومع اتساع رقعة الاحتياج وشحّ الموارد تواجه المنظمات تهماً بالفساد أو الهدر أو سوء التنفيذ أو التلاعب لا يمكن التحقق منها بالأدلة والبراهين، وهو ما سمح بانتشار موجة واسعة من الإشاعات أثّرت على جميع المنظمات الإنسانية الجيدة والسيئة.
وعلى الرغم من كافة الإجراءات والتطورات التي حصلت في السياسات الإدارية والمالية[80] التي تنظم عمل منظمات المجتمع المدني المحلية فما زالت هذه السياسات الداخلية قاصرة، ولاسيما فيما يتعلق بموضوع الشفافية الإدارية والمالية التي من شأنها تصحيح الصورة الذهنية ودحض الإشاعات، خاصة مع وجود تاريخ حافل من انتشار الفساد والرشوة في سوريا[81].
ففي موضوع الشفافية الإدارية لا تزال العديد من المنظمات المحلية ترتكب الكثير من الأخطاء، خاصة في عملية التوظيف، فلا تعلن المنظمة عن الآلية التي ستتبعها في اختيار الموظفين، ونتيجة لكثرة المتقدمين لطلبات التوظيف يصبح من الصعب على المنظمة أن تتواصل مع جميع المتقدمين أو ترد على إيميلاتهم، وهو ما يعطي انطباعاً سلبياً عن المنظمة بأنها لم تختر موظفيها بناء على منظومة واضحة.
كما يبرز موضوع الشفافية المالية كأشد العوامل تأثيراً في الصورة الذهنية للعمل الإنساني؛ فرغم القيود المالية والرقابية التي تطالب بها الجهات الداعمة والحكومات التي تعمل المنظمات على أراضيها، ورغم لجوء العديد منها إلى شركات مختصة للتدقيق في حساباتها المالية؛ إلا أن هذه المنظمات مقصِّرة إلى حد كبير في عرض حركتها المالية للحاضنة التي تتابعها بشكل دوري ومكثف.
فغالباً ما تلجأ المنظمات إلى عرض تقارير الإنجازات السنوية[82] والأعمال بشكل تراكمي، دون تفصيلات لحجم الأعمال التي قامت بها كمياً ومالياً، ودون تحديد نطاق زمني أو توضيحات تفصيلية، في حين قد تقوم بعض المنظمات بنشر تقاريرها المالية السنوية[83] كنوع من الشفافية؛ إلا أن هذه التقارير غالباً ما تُنشر بالطريقة التي قدمت بها إلى الجهات المالية المختصة أو للداعمين، وبشكل معقد وأحياناً بلغات أخرى وبشكل غير دوري؛ إذ تفترض المنظمات مسبقاً أن الحاضنة لا تهتم بهذا النوع من التقارير، أو أنها غير قادرة على فهمه.
ومن جهة ثانية لجأت بعض المنظمات إلى إفراد صفحات خاصة على مواقعها تحت مسمى “ملفات الشفافية”، لتوضيح إجمالي التبرعات التي وصلت للمنظمة منذ بداية إنشائها (الشكل 9)، ولكن دون تحديد المدة الزمنية التي تم فيها جمع هذه التبرعات أو ميزانيات المشاريع التي قامت بها، وهي أرقام كبيرة تدفع المتابع للتساؤل: أين وكيف ومتى صُرفت هذه الأرقام؟
الشكل 9: نموذج عن معلومات التبرعات الذي عرضته إحدى المنظمات الإنسانية غير الحكومية
ومن جهة أخرى اتجهت بعض المنظمات لوضع تفصيلات تقدم للمتابع التبرعات الآنية الفردية التي تقدم لمشروع معين أو لحالة محددة[84]، والتي تهدف فيها تلك المنظمات إلى الوصول لمبلغ معين يكفي لسد حاجة الحالة أو المشروع؛ إلا أن هذه المنظمات لا تكلف نفسها عناء الإيضاح على معرّفاتها الرسمية ما يؤكد أو يوثق وصول هذه التبرعات لهذه الحالة، وكيف ساهمت هذه التبرعات في تغيير واقع المستفيد[85].
ولا بد من الإشارة إلى أن جميع المنظمات الإنسانية غير الحكومية المرخصة في دول أخرى تخضع لإجراءات مراقبة مالية من قبل الدول التي رُخصت فيها[86]، فعلى سبيل المثال: تخضع المنظمات المرخصة في تركيا لمتابعة مالية شديدة من الحكومة التركية ومن الداعم أيضاً؛ إذ إن هذه المنظمات مجبرة على إعداد تقرير مالي سنوي يقدم للحكومة التركية يعرف باسم “بيان نعمة”، يجهز باللغة التركية، كما أن العديد من المنظمات تتعاقد مع مدققين خارجيين من أجل التأكد من سلامة حركتها المالية وتقديم تقارير دورية لمجلس الإدارة أو للداعم.
وترتبط عملية الدعم الدولي كذلك بنظام تتبُّع مالي يمسح كل التبرعات المقدمة حول العالم، ويعطي معلومات عن كل دولة سواء كانت متبرعة أو متلقية للتبرعات، وعن الشركاء والمبالغ والمدة الزمنية ونوع الخدمات، وهو يعتبر من أفضل أنظمة التتبع المالي حول العالم[87]، بالإضافة إلى لجوء العديد من الجهات المانحة إلى شركات تدقيق مالي إضافي للتأكد من نزاهة المنظمات الشريكة خلال عمليات التنفيذ[88].
3-6- الإدارة الإعلامية السيئة لصورة المؤسسة الذهنية
تُعد عملية إدارة الصورة الذهنية مسألة مهمة جداً للمؤسسات، خاصة مع وجود موجة عامة للتشكيك في العمل الإنساني واتهامه، وتتسم الصورة الذهنية بعدة صفات، منها: عدم الدقة، وجنوحها للثبات، وصعوبة تغييرها أو تعديلها، وإمكانية التعميم، كما تساعد في التنبؤ بالسلوك والتصرفات المستقبلية للجمهور تجاه المواقف والقضايا والأزمات المختلفة، وبالتالي فإن سوء إدارة هذه الصورة الذهنية سيهدّد سُمعة المؤسسة وصورتها، والعكس بالعكس[89].
من أبرز الأخطاء التي وقعت فيها منظمات عديدة[90]:
- التركيز على التغطية الإعلامية للمشروع والمبالغة في إظهار حجمه، وعدم مراعاة الجودة والإتقان في التنفيذ على الواقع.
- عدم الاعتراف بالأخطاء الحاصلة أثناء التنفيذ والسعي لتصحيحها، والعمل على تداركها بشكل سرّي ودون إثارة الضجة.
- التفاعل السلبي مع الانتقادات والتعليقات الواردة على صفحات المنظمة، والقيام بحذفها أو الاستهزاء بها أو تكذيبها، والإبقاء فقط على التعليقات الإيجابية.
- عدم وجود آلية واضحة عند الجمهور لمتابعة المشاكل أو لتلقي طلبات المساعدة أو للإجابة عن بعض الأسئلة والاقتراحات.
- التحرك الفوري للحالات التي تلقى تغطية إعلامية والمبالغة في الاهتمام بها، مع وجود العديد من الحالات المشابهة[91].
- عدم التفريق بين الصور والتوثيقات المطلوبة للداعم والصور المجهزة للنشر، والقيام بنشر صور تمتهن كرامة المحتاج[92].
- ضعف الزيارات الميدانية للموظفين في دوائر اتخاذ القرار لمواقع التنفيذ، وهو ما يجعلهم بعيدين عن الواقع وعن الظروف التي يتم فيها العمل.
- ضعف الشفافية في إطلاع المستفيدين على التحسينات والتطويرات الإدارية التي قامت بها المنظمة.
- ضعف ربط المشاريع والإنجازات بأهداف المؤسسة القابلة للقياس وتبيان نسبة تحقيق هذه الأهداف.
- ضعف الاهتمام بتكوين صورة ذهنية إيجابية للمنظمة لدى طاقم عملها، وتزويدهم بالمعلومات الضرورية، وهو ما جعلهم يتأثرون بالشائعات وبالأخطاء أيضاً، كما أصبحوا غير قادرين على الدفاع عن المنظمة تجاه أي اتهامات تطالها.
- ضعف الاهتمام بتنمية مهارات الذكاء الاجتماعي التي تؤهل موظفي المنظمات على مخاطبة المستفيدين، وعلى التعامل معهم بالطريقة الأنسب واستخدام الخطاب واللغة التي يفهمونها.
3-7- ضعف تأهيل الكوادر على النحو المطلوب
رأى بعض مسؤولي المنظمات الإنسانية السورية غير الحكومية أن المشكلة الأبرز التي تواجههم خلال عملهم، وقد تزيد في بعض الأحيان على مشكلة تأمين الدعم هي غياب الكوادر المؤهلة التي تمتلك مهارات التعامل مع المستفيدين واستيعابهم وانتقاء الخطاب المناسب لهم، والقادرة أيضاً على فهم منظومة العمل الإنساني وتحدياته واحتياجاته والتفاعل معه.
فعلى الرغم من وجود العديد من أصحاب الكفاءات الأكاديمية إلا أن ميدان العمل في المنظمات ميدان حديث على ساحة العمل السورية، ويتطلب إلى جانب الخبرات الأكاديمية مهارات خاصة تتعلق بطبيعة العمل الإنساني، كمهارات الذكاء العاطفي والاجتماعي والتواصل والقدرة على تحمل الضغوط واستيعابها، الأمر الذي قد لا يتوفر عند جميع المعنيين بالدرجة الملائمة، وقد أثبتت التجربة أن الدورات والتدريبات يمكن أن تطور هذه المهارات عند البعض الأشخاص الذين يمتلكون الأرضية اللازمة لذلك.
كما أن العمل في المجال الإنساني يُعد مرهقاً للعاملين فيه، خاصة العاملين منهم على الأرض؛ فهو يستنزفهم من الناحية النفسية والجسدية، لاسيما في أوقات الطوارئ، وهو ما دفع بعض العاملين -على اختلاف اختصاصاتهم- إلى الانسحاب من هذا المجال لعدم قدرتهم على تحمل الضغط المتواصل.
وعلى الطرف الآخر تُوجَّه الكثير من الانتقادات للمنظمات العاملة التي تشتكي من نقص الكوادر بأنها لم تحسن الحفاظ على كوادرها، لاسيما مّن تم تهجيرهم إلى الشمال السوري، وأثبتوا نجاحات واضحة في مناطقهم، وهو ما دفع العديد من الكوادر إلى مغادرة الشمال السوري عندما لم يتمكنوا من الاستمرار في العمل الإنساني[93].
ويعتقد البعض أن هناك عراقيل إدارية كثيرة حرمت أصحاب خبرات ومؤهلات من الحصول على فرص عمل بعد التهجير، كاشتراط المنظمات تقديم الوثائق الثبوتية التي تثبت مجال التخصص الأكاديمي، وهو ما حرم العديد ممن فقدوا مثل هذه الوثائق، وأدى لاستبعاد العديد من الكفاءات التي اكتسبت خبرتها في ميدان العمل وحققت نجاحات سابقة[94].
ومن جهة أخرى يُتوقع من العاملين في المنظمات الإنسانية -سواء كانوا داخل سوريا أو خارجها- أن يكونوا أصحاب همّ وقضية، لا مجرد موظفين يعملون لتحصيل الراتب الشهري، أو متلقين للأوامر والتوجيهات من الداعم دون أن يكون لهم رأي أو تأثير في تنفيذ المشروع على أحسن وجه؛ وإنما يجب أن يكون منطلقهم هو تحقيق أثر حقيقي وتقديم مجهود من أجل تحسين وضع الناس والنهوض بهم، وهذا أمر يستدعي التفاني في العمل وبذل الجهد اللازم، لاسيما وأنهم يعملون في ظروف غير طبيعة[95].
3-8- الأخطاء خلال التنفيذ
تؤثر الأخطاء التي ترتكبها المنظمات العاملة في الشأن الإنساني بشكل كبير في صورتها الذهنية، ويمكن تقسيم هذه الأخطاء قسمَين:
- أخطاء غير مقصودة: وهي التي تحدث نتيجة نقص الخبرات[96]، أو لعدم امتلاك مهارات التواصل المطلوبة، أو نتيجة الظروف القاهرة والعمل تحت الضغط.
- أخطاء مقصودة: وهي التي تحدث نتيجة الإهمال[97]، أو الفساد المتعمد أو السرقة خلال التنفيذ[98].
وقد لجأت المنظمات لمواجهة الأخطاء غير المقصودة إلى تدريب كوادرها وإعدادهم وتطوير مهاراتهم، والتعلم من الأخطاء السابقة والحرص على عدم تكرارها، وهو ما أدى إلى تحسن واضح في أداء العديد من المنظمات، خاصة من ناحية التوثيق وتقييم الاحتياجات[99] والتجاوب مع الشكاوى[100].
كما بدأت بعض المنظمات بتخصيص أرقام وإيميلات خاصة لاستقبال الشكاوى حول تنفيذ بعض المشاريع والعمل على معالجتها، ولمتابعة حالات السرقة والاحتيال، كما بدأت منظمات أخرى بعقد اجتماعات مع المستفيدين بهدف الاطلاع على مشاكلهم وشكاويهم وإطلاعهم على جهود المنظمة لمتابعتها؛ إلا أن هذه الخطوات لا تزال محدودة، ولم يلتزم بها إلا عدد محدود من المنظمات[101].
ومن الواضح أن الأخطاء التي ترتكبها إحدى المنظمات تنعكس وتؤثر في صورة العمل الإنساني وجميع المنظمات العاملة، خاصة إن تم تسليط الضوء على هذا الخطأ؛ إذ غالباً ما يتم تعميم مشاكل الفساد أو سوء التنفيذ أو الأخطاء الإدارية والتجاوزات في موضوع التوظيف وتحديد المستفيدين على جميع العاملين في هذا القطاع[102]، وهو ما أثر في زعزعة صورة العمل الإنساني ككل، وتسبب في أزمة ثقة بين الفئة المستهدفة وتلك المنظمات.
ولابد من الإشارة إلى أن عمل المنظمات توسع وتنوع، وزاد معه عدد المستفيدين، كما أنه يتم في ظروف غير مستقرة، وهذا بالضرورة يعني أن حدوث الأخطاء أمر وارد جداً ولا يمكن منع حدوثه، وبالتالي لا ينبغي أن تُطالب المنظمات بعدم ارتكاب أخطاء، وإنما يجب أن تُطالَب بإيجاد آليات محاسبة ومتابعة وضبط للأخطاء والمخالفات، وبالتعامل معها وفق منظومة شفافة.
3-9- التفاوت في الرواتب
يمثّل موضوع الرواتب واحداً من أهم المواضيع التي أثّرت في صورة العمل الإنساني عند الحاضنة، وذلك نتيجة تفاوت قيمة الرواتب في المنظمة الواحدة بين العاملين خارج تركيا والعاملين داخل تركيا مثلاً، ولارتفاع قيمة الرواتب المقدمة في الداخل السوري للعاملين في المنظمات مقارنة بمتوسط الرواتب في سوق العمل.
ومن المتعارف عليه أن رواتب الموظفين والأكاديميين، وكذلك أجرة العمالة الماهرة في سوريا قبل الثورة كانت أدنى من مثيلاتها في الدول المجاورة، إلا أنها كانت تتناسب مع مستوى المعيشة في سوريا، ونتيجة للتدهور الاقتصادي الذي طال الاقتصاد السوري تأثر الوضع المعيشي ولم تعد الرواتب المقدمة في سوق العمل تتناسب مع احتياجات السكان؛ كونها لم ترتفع بما يتوافق مع حجم التضخم.
ومع دخول المنظمات الدولية ساحة العمل الإنساني في سوريا نقلت هذه المنظمات منظومتها كاملة، بما في ذلك سلم الرواتب، وقدمت في البداية رواتب مرتفعة لم يشهدها سوق العمل في سوريا[103]، إلا أن تلك الرواتب بدأت تنتظم لاحقاً وفق ما يحقق كفاية الموظف في الدول التي يعيش فيها، وبعد أن تدخلت المنظمات السورية غير الحكومية واستطاعت التأثير في هذا المجال بدأت المنظمات بإعادة تقييم الرواتب، وهو ما أصبح ضرورياً مع تراجع الدعم المقدم[104] .
ومن جهتها ترى المنظمات المحلية أن قلة الكوادر الخبيرة والمؤهلة يجعل المنافسة عليها مرتفعة في سوق العمل الإنساني، وبالتالي لا يمكن للمؤسسات أن تغامر بفقدان كوادرها الخبيرة، وأن عليها أن تقدم لهم ما يوازي الرواتب المتعارف عليها في هذا المجال لتضمن بقاءهم وعدم انتقالهم إلى منظمة أخرى، كما أن العمل الإنساني قد يتطلب في بعض الأحيان خبرات في مجالات محددة وفي منطقة معينة، وهو ما يجعلها مضطرة إلى رفع سقف الراتب المطروح من أجل الحصول على هذه الخبرات.
وهنا ظهرت المقارنات بين ما تقدمه المنظمات من رواتب أصبحت بمثابة عُرف بين المنظمات[105]، وما يقدمه سوق العمل المحلي[106]؛ فظهرت حساسية بالغة لدى المستفيدين شكلت عندهم انطباعات غير صحيحة بأن القائمين على المنظمات وجدوا في معاناة السوريين فرصة للحصول على رواتب خيالية، واعتبر بعضهم أن مصلحة هذه المنظمات استمرار المعاناة السورية لما فيه فائدتهم، مع العلم أن رواتب الموظفين داخل سوريا أو خارجها تكفي الموظف ليعيش حياة كريمة بالحدود المقبولة[107]، وهي ليست أعلى من الأجور المتعارف عليها، ولا هي رواتب خيالية كما يُشاع.
وقد يكون السبب وراء هذه الانطباعات السلبية المنتشرة تجاه رواتب العاملين في القطاع الإنساني وجود افتراضات ثقافية – غير منطقية- ترى أنه يتوجب على مَن يعمل في منظمات تطوعية أو خيرية أو قطاعات غير ربحية أن يعمل بالمجان، أو بمقابل بسيط جداً.
رابعاً خاتمة وتوصيات
من المعروف أن لكل شركة أو منظمة أو مشروع أو منجز صورة ذهنية ترتبط به وتنشأ معه، وأن هذه الصورة الذهنية تتشكل لتكوّن سمعة المؤسسة التي نفذت المشروع أو المنجز، وفي كثير من الأحيان تحاول الشركة أو المؤسسة رسم صورتها الذهنية وإدارتها بنفسها، فإن لم تفعل فقد تُبنى هذه الصورة من خلال الخصوم والمنافسين، أو أنها سوف تُبنى بطريقة عشوائية غير منظمة.
ومما سبق نجد أن صورة العمل الإنساني في الشمال السوري لم تكوّنها المنظمات، وإنما تشكلت بطريقة عشوائية يغلب عليها الطابع السلبي؛ إذ كان لنقص الخبرات وللظروف الاستثنائية التي تم فيها العمل الأثر الأكبر في إنشائها، كما أن كثيراً من العوامل أثرت في تشكيل هذه الصورة، وقد تتحمل المنظمات القسم الأكبر من المسؤولية في ذلك، بينما تتحمل الحاضنة جزءاً منها.
ومن جهة أخرى تأثرت الصورة الذهنية لأي منظمة بصورة العمل الإنساني بشكل عام؛ فلم يعد كافياً أن تقوم المنظمة بتطوير أدائها الإداري والمالي والتنفيذي، بل أصبح من الضروري أن تطور الأداء العام للعمل الإنساني؛ لأن الأخطاء التي يقع فيها البعض ستنعكس بشكل ما على بقية المنظمات وستؤثر في صورتها الذهنية.
قبل استعراض أبرز التوصيات التي يمكن أن تخرج بها هذه الورقة نشير إلى أننا طرحنا سؤالاً في الاستبانة على العينة المستهدفة عن أهم ثلاث توصيات لإصلاح واقع المنظمات من قائمة تضمنت عدة خيارات، فكانت النتائج كما يلي:
الشكل 10: رأي عينة الدراسة بأهم التوصيات لإصلاح واقع المنظمات غير الحكومية السورية
يشير (الشكل 10) أعلاه إلى تركيز عينة الدراسة على تعزيز الشفافية والحوكمة بشكل أساس، وتحديداً فيما يتعلق بتوظيف الخبرات وتفعيل الرقابة الخارجية والشفافية المالية. في المقابل نلحظ ضعف الاهتمام -من وجهة نظر العينة- بالقضايا التي تمثل شؤوناً داخلية للمنظمة، من قبيل التوصية بالبحث عن موارد جديدة أو محاولة التحول إلى نمط العمل التنموي الذي يمكن أن يؤمّن موارد مالية تسمح للمنظمات باستمرار العمل دون الحاجة للدعم الخارجي.
وفيما يتعلق بالتوصيات فهي:
توصيات للمنظمات السورية غير الحكومية:
- إنشاء هيئة رقابية محلية تضم أطرافاً من المنظمات الإنسانية غير الحكومية العاملة وأطرافاً مدنية من القيادات المجتمعية التي يتم انتخابها شعبياً، تقوم بمهمة الاطلاع على التقارير المالية وتقارير الرقابة والتقييم واستقبال الشكاوى والملاحظات حول عمليات التنفيذ، وتقديم تقييم لكل مشروع ولكل منظمة يوضح درجة الرضا والامتنان من هذا المشروع أو تلك المنظمة، وهو ما من شأنه التفريق بين المنظمات الجيدة والسيئة والضغط على المنظمات للسعي لتطوير عملها وكوادرها، كما ستقوم هذه الجهة الرقابية بمتابعة الإشاعات أو الاتهامات الموجهة للمنظمات ومعاقبة الجهات التي تصدرها في حال لم تكن تمتلك دليلاً يؤكد صحة ادعاءاتها.
- توجه بعض المنظمات الكبرى لتطبيق معايير الجودة مثل الأيزو، والسعي للحصول على شهادات معتمدة في ذلك، وهو أمر يتطلب التزامها بمعايير قد تكون أكثر من متطلبات الجهات الداعمة عادة.
- توافق المنظمات الإنسانية على وضع نموذج خاص – وفق معايير محددة- يمكن من خلاله تقييم درجة الاحتياج العامة ودرجة الاحتياج في قطاع معين كالقطاع الصحي مثلاً، والسعي في تلبية الاحتياجات وفقاً للأولوية[108].
- توجيه المنظمات إلى تعزيز مبدأ الشفافية، خاصة المالية، من خلال إعداد تقارير مالية موجهة للحاضنة بشكل مبسط على شكل إنفوغراف مثلاً، توضح المشاريع المنفذة وحجم الدعم المقدم وحجم الدعم الذي صُرف حتى الآن والمصاريف الإدارية وعدد الموظفين المشرفين والعاملين والمتطوعين في المشروع، مع تحديد الفترة الزمنية التي يشملها هذا التقرير، وإتاحة التقارير التخصصية كاملة على الموقع لمن أراد الاطلاع عليها.
- إعلان المنظمات عن خطتها السنوية أو المشاريع التي هي بصدد إنجازها وأماكنها وعدد المستفيدين المتوقعين من هذه المشاريع، وأن تضع في نهاية العام نسبة إنجاز هذه المشاريع ودرجة التزامها بخططها.
- إشراك المستفيدين في رسم الخطط السنوية للمنظمات من خلال إتاحة نماذج جاهزة يمكن من خلالها للمستفيدين تقديم اقتراحات للمشاريع وفقاً للاحتياجات بطريقة واضحة تتضمن جميع المعلومات المطلوبة، ومحاولة استجلاب دعم لهذا النوع من المشاريع.
- إيجاد آلية معتمدة لتقديم الشكاوى ومتابعتها، يمكن خلالها لصاحب الشكوى متابعة تطوراتها والاطلاع على آلية التصحيح التي اتبعت لتجنب الخطأ مرة أخرى.
- تعزيز التنسيق بين المؤسسات الإنسانية السورية غير الحكومية العاملة في الشمال السوري، والعمل على توحيد معايير العمل ما أمكن، والتشبيك مع المنظمات المحلية والفرق التطوعية لمعرفة أنشطة جميع المنظمات والعمل على ضبط عمليات الاستجابة.
- الاتفاق على معايير واضحة لعمليات التوثيق -سواء المخصصة منها للداعم أو المخصصة للإعلام- تضمن كرامة المحتاج، وإعلانها للمستفيدين، ومتابعة الجهات التي لا تلتزم بهذه المعايير ومحاسبتها، وتشجيع المستفيدين على رفض عمليات التوثيق التي تنتهك كرامتهم والتبليغ عنها.
- إنشاء موقع إلكتروني مشترك – بنك للخبرات وفرص العمل والتوظيف – تقوم فيها المنظمات بالإعلان عن فرص العمل، ويقوم أصحاب الخبرات والكفاءات الذين يبحثون عن فرص عمل بتسجيل خبراتهم الأكاديمية ومهاراتهم ومعرفة نقاط قوتهم وضعفهم، إذ يمكن لهذا الموقع أن يقوم بفلترة تلقائية للمتقدمين لإحدى الفرص المعلنة، ويوضح للمتقدم الأسباب التي تجعله غير مناسب للوظيفة، كما يقدم للمتقدمين إلى وظيفة معينة علامات تفاضل وفقاً للخبرات، وهو ما سيتيح للمتقدم إلى وظيفة ما الحصول على تقييم آلي يحدد احتمالية قبوله وعدد المتقدمين لهذه الوظيفة، قبل أن تبدأ المنظمة بالاطلاع على طلبات التوظيف، مما سيخفف الحرج والضغط على المنظمات في قبول المتقدمين للوظائف.
- التوجه في عمليات التوظيف الى إقامة تدريبات حول مهام المناصب الشاغرة تنتهي باختيار المنظمة المتدربين الأكثر كفاءة لشغل هذه المناصب، وإكساب بقية المتدربين خبرات قد تتيح لهم المجال للحصول على فرص عمل أخرى.
- إقامة الدورات والتدريبات الموجهة لكوادر المنظمات حول إدارة الصورة الذهنية والسمعة للمنظمة، وتطوير الآليات الإعلامية التي تتواصل بها المنظمة مع حاضنتها، وآلية التعامل مع التعليقات المسيئة أو الناقدة.
- التوجه نحو المشاريع التنموية والوقفية ذات المردود المالي الذي يمكن أن يؤمّن للمنظمات جزءاً من الدعم المستمر، مما يخفف احتياجها للجهات المانحة، ويفسح لها مجالاً لتوجيه الدعم نحو القطاعات الحرجة والأساسية.
- السعي لإيجاد برامج التعافي للمجتمع من التغيرات التي طرأت عليه وحولته من مجتمع منتج إلى مجتمع محتاج، وإعادة ثقته بنفسه وإيمانه بقدرته على الإنجاز والمساهمة وعلى تصحيح أوضاعه، دون الحاجة إلى مساعدة أي جهة.
توصيات خاصة بالحاضنة الشعبية[109]:
- متابعة التقارير والأخبار التي تنشرها المنظمات السورية غير الحكومية، وعدم بناء الانطباعات بناء على الإشاعات.
- تشكيل لجان اتصال بين الفعاليات المجتمعية والمنظمات العاملة في كل منطقة، وإقامة لقاءات كل ربع سنة مثلاً للاطلاع على واقع المنظمات وأعمالها، والإشادة بالمنظمات التي تعمل بشكل منضبط ومتقن[110].
- عدم الانجرار وراء الإشاعات والتعميم، والعمل على تحرّي الدقة والتأكد من الأخبار، خاصة فيما يتعلق بإطلاق اتهامات الفساد المالي أو الإداري.
لتحميل الورقة البحثية:
الورقة البحثية “الصورة الذهنية للعمل الإنساني في سوريا بعد عام 2011: تحديات الاحتياج وقلة الموارد”
لمشاركة الورقة:
- المنظمات الأممية: مثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، واليونيسيف، واليونيسكو.
- المنظمات الدولية العاملة في مجالات معينة: مثل منظمة العمل الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الغذاء العالمي.
- شركات ربحية مختصة بالأعمال الإنسانية: مثل شركة كومينكس Chemonics التي نفذت مشروع دعم التعليم، https://bit.ly/31fbfer
- منظمات أجنبية حكومية: مثل إدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد” (AFAD)
- منظمات أجنبية غير حكومية: من هذه المنظمات SAVE THE CHILDERN، وأطباء بلا حدود، وMercy Corps، وOxfam، وGIZ
- جهات محلية: مثل وحدة المجالس المحلية التابعة للحكومة المؤقتة، والتي كانت الحكومة الكندية إحدى الجهات الداعمة بشكل مباشر، https://bit.ly/3kiXanX. من مقابلة أجراها فريق البحث مع أحد موظفي الـ OCHA في أيلول 2020.
تعليق واحد