دوافع الانفتاح التركي على نظام الأسد ومآلاته
ورقة تحليلية صادرة عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
الملخص:
تناقش الورقة من خلال المنهج الوصفي التحليلي الدوافع التي تقف خلف قرار أنقرة بالانفتاح على نظام الأسد، والسيناريوهات التي يمكن أن يؤول إليها قرار الانفتاح، وسبل التعاطي معها.
استعرض القسم الأول الجهود الإقليمية السابقة في التطبيع مع نظام الأسد؛ فأوضحت أنه في السياق العربي تحديداً كان لكل دولة ظروفها ودوافعها الخاصة وراء التطبيع، وإن كان لقوى الثورة والمعارضة دور ثانوي في هذا المجال، بسبب فشلها في التسويق لنفسها بوصفها بديلاً لنظام الأسد. أمّا من حيث المآل فقد أشارت الوقائع إلى أن غالبية الدول التي عمدت إلى التطبيع مع نظام الأسد لم تحقق أياً من أهدافها المرجوة بشكل كامل حتى الآن، وأما من حيث طبيعة التغيير فاتضح أن قرار التطبيع يمثل تغييراً إقليماً استراتيجياً من جهة رجحان كفة “القوى المضادة للربيع العربي” الرافضة لوجود نظام سياسي بناءً على خيار شعبي ديمقراطي في المنطقة، وأما خارج هذه النقطة فإن التغيير مرتبط بمصالح اقتصادية وأمنية عرضة للتقلبات.
جاء القسم الثاني ليقف على العوامل التي دفعت تركيا لتغيير موقفها من نظام الأسد، وفي مقدمتها دولياً: زيادة التنافر الغربي- التركي، مع تجاهل الولايات المتحدة مطالب تركيا الأمنية في سوريا عبر الاستمرار في دعم مشروع “قسد”، وإقليمياً: عودة تركيا إلى سياستها الإقليمية القديمة “صفر مشاكل” رغبةً من الحزب الحاكم في التركيز على الانتخابات القادمة، والسعي لتجاوز المشاكل الاقتصادية، وتحقيق اختراق في ملف عودة اللاجئين السوريين على الصعيد الداخلي.
رجّحت الورقة في القسم الثالث خيار زيادة التنسيق الأمني بين تركيا ونظام الأسد على الخيارين الآخرين (التطبيع الكامل والجزئي)، من دون الوصول إلى التطبيع السياسي؛ وذلك لعدم وجود توافقات بين الطرفين في الملفات العالقة تساعد على التطبيع السياسي، ولأن خيار زيادة التنسيق الأمني يبدو كافياً لكلا الطرفين حالياً من جهة تحقيقه مصالحهما؛ حيث إنه يعطي تركيا هامشاً لاختبار قدرة نظام الأسد ونواياه، ويسحب ورقة التطبيع جزئياً من يد المعارضة التركية، ويعطي ذلك في المقابل نظام الأسد بعض التنازلات من الطرف التركي على مستوى الاعتراف بشرعيته والانفتاح الاقتصادي غير المباشر عبر المعابر الواصلة بين المناطق المحررة ومناطق سيطرته.
تناول القسم الرابع الوسائل التي يمكن لقوى الثورة والمعارضة السورية اللجوء إليها لمواجهة جهود التطبيع؛ فأوصت الورقة بالاعتماد على الحراك الشعبي الذي يُفترض أن يوجه رسائل محددة للرأي العام الدولي، في مقدمتها: أن استمرار نظام الأسد يؤدي إلى مزيد من الهجرة والتوترات الأمنية في المنطقة والدعم للتنظيمات الإرهابية، إلى جانب ازدياد تجارة المخدرات، وانتشار العصابات الإجرامية، والمطالبة بتحقيق بيئة آمنة حقيقية وفق ما نصّت عليه القرارات الدولية ذات الصلة، وإبراز المصير البائس والمرعب لمئات العائدين إلى مناطق سيطرة نظام الأسد.
كذلك أوصت الورقة بالاستناد إلى الملف الحقوقي؛ لـِمَا له من دور في إعاقة جهود التطبيع، مع ضرورة تفعيل المجتمع المدني لأدواره في دعم الحراك الشعبي في الداخل وترشيده وتسويقه أمام المجتمع الدولي.
مقدمة:
تعرض الشارع السوري لصدمة جاءت هذه المرة من الجانب التركي بوصفه الحليف الإقليمي الأبرز للثورة السورية، وذلك إثر تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في 11 آب 2022 عن إجرائه محادثة قصيرة مع وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، على هامش اجتماع دول عدم الانحياز في العاصمة الصربية بلغراد في تشرين الأول 2021، وأعلن أوغلو أن الرؤية التركية للسلام في سوريا تمرّ عبر إجراء “مصالحة” بين المعارضة والنظام. وفي السياق ذاته جاءت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد أيام أن بلاده لا تهدف إلى هزيمة بشار الأسد في سوريا، وقال: “يتعين الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا من أجل إفساد مخططات ضد المنطقة”[1].
أثار هذا الموقف التركي المستجدّ ردود فعل كبيرة لدى السوريين في المناطق المحررة، جهات وأفراداً؛ حيث شهدت المناطق مظاهرات مندّدةً بفكرة المصالحة مع نظام الأسد مطالبةً بإسقاطه، ومؤكدةً ضرورة محاسبته على جرائمه التي ارتكبها بحق الشعب السوري[2]، كما أصدرت مختلف قوى الثورة والمعارضة بيانات تؤكد في مجملها التمسك بتطبيق القرارات الدولية وإسقاط نظام الأسد[3].
أثارت هذه التصريحات وما تلاها من مواقف وتطورات سياسية[4] حالة من القلق والاضطراب لدى الشارع السوري في المناطق المحررة، تحول لناقوس خطر في أعين الكثير من السوريين الذين راحوا يطالبون بإيجاد حلول جذرية للحالة السورية، مستحضرين إشكالية التمثيل والعلاقة مع تركيا والمسار السياسي وملف إدارة المناطق المحررة[5]، ومتسائلين في الوقت نفسه عن مآل هذه التطورات وتأثيرها المباشر في الملف السوري، وعن الأدوات والوسائل التي يمكن استخدامها لتعطيل مسار التطبيع مع نظام الأسد.
إزاء ذلك تثور الأسئلة الآتية:
- ما هي الدوافع الدولية والإقليمية والمحلية التي حدت بتركيا لتغيير موقفها من نظام الأسد؟
- وما هي حدود هذه التغيرات؟ وما هي سيناريوهاتها؟
- وما هي الأدوات والوسائل التي يمكن لقوى الثورة والمعارضة والشارع السوري استخدامها للحد من جهود التطبيع مع نظام الأسد بصورة عامة؟
تهدف هذه الورقة لاستقراء الجهود الإقليمية السابقة للانفتاح على نظام الأسد ومآلاتها، ثم تحليل دوافع تركيا الداخلية والإقليمية والدولية للاستدارة نحوه؛ من أجل الوقوف على السيناريوهات المحتملة لهذه التغيرات، وصولاً إلى تحديد أبرز الوسائل والأدوات التي يمكن للسوريين اللجوء إليها لإيقاف محاولات التطبيع مع نظام الأسد أو على الأقل الحد منها وتلافي آثارها السلبية.
اعتمدت الورقة المنهج الوصفي التحليلي الذي يهدف إلى تحليل التغييرات التي طرأت على السياسة التركية تجاه نظام الأسد والوقوف على دوافعها، وذلك بالاستناد إلى نوعين من المصادر؛ المصادر الأولية: وهي آراء مجموعة من الخبراء الذين جمعتهم مجموعة نقاش مركّزة أجراها مركز الحوار السوري لمناقشة هذا الموضوع وفق قاعدة “تشاتام هاوس”[6]، والمصادر الثانوية: عبر مجموعة الأوراق والمراجع والتقارير المفتوحة.
تنقسم الورقة التحليلية أربع فقرات رئيسة: نبحث في الأولى السوابق الإقليمية للتقارب مع نظام الأسد، في حين نقف في الثانية على الدوافع الدولية والإقليمية والمحلية لتغيير السياسة التركية تجاهه، لنناقش في الثالثة سيناريوهات هذه التغيرات، ونختم في الرابعة بمجموعة الأدوات والوسائل التي يمكن لقوى الثورة والمعارضة اللجوء إليها للحدّ من جهود التطبيع مع نظام الأسد.
أولاً: سوابق إقليمية في التقارب مع نظام الأسد:
شهدت العلاقات الإقليمية انفتاحاً متزايداً على نظام الأسد منذ عام 2018 عبر وسائل متعددة، مثل: فتح السفارات في دمشق، وتبادل الزيارات مع مسؤولي نظام الأسد[7]، وكانت لكل دولة ظروفها ودوافعها الخاصة لهذا التقارب، إلى جانب بعض الظروف الموضوعية التي من أهمها: رغبة هذه الدول بالانفتاح على روسيا في ظل تراجع التركيز الأمريكي على المنطقة، والجهود الروسية المستمرة لدفعها لهذا التطبيع، إلى جانب وجود ضوء أخضر “إسرائيلي” ناتج عن رغبة الأخيرة في منح مقابل لروسيا جرّاء التنسيق معها في سوريا[8].
كان العامل الاقتصادي إلى جانب العوامل الأمنية والديموغرافية من بين أهم العوامل التي دفعت الأردن للانفتاح على نظام الأسد؛ فقد ترسّخت قناعة لدى كثيرين في أوساط الطبقة السياسية الأردنية أن إعادة إحياء العلاقات معه ستفضي إلى نتائج إيجابية إلى حدّ كبير، خاصة على الصعيد الاقتصادي[9]، إلى جانب إمكانية إيجاد حلول – ولو جزئية- لملف اللاجئين السوريين في الأردن، من دون ربط الأمر بالحل السياسي الذي قد لا يحدث، فضلاً عن الرغبة بلعب دور سياسي في الملف السوري؛ لاسيما بعد تراجع الدور الأردني عقب اتفاقية 2018 التي أدت إلى حل غالبية فصائل الجبهة الجنوبية وتهجير قسم منها إلى الشمال السوري، والسعي لتحقيق الاستقرار في المنطقة الحدودية عبر التعويل على نظام الأسد في كبح جماح الميليشيات الإيرانية التي ازداد نشاطها في المنطقة. يُضاف إلى ذلك خيبة الأمل الكبيرة في الأردن تجاه دول الخليج؛ إذ بات الأردن يرى التوجهات الخليجية الجديدة ضارّة بمصالحه الاستراتيجية، مما جعله يطرق باب الطرف المقابل، في محاولةٍ للضغط على المملكة العربية السعودية تحديداً من خلال بناء علاقات مع نظام الأسد، في خطوةٍ تمهد لعلاقات أوسع مع إيران[10].
كانت الإمارات العربية المتحدة أول دولة عربية تعيد فتح سفارتها في دمشق كانون الأول 2018؛ ولُخصت دوافعها في موقفها السلبي تجاه ثورات الربيع العربي وما رافقه من صعود لبعض القوى الإسلامية، بما في ذلك في سوريا، فضلاً عن دعواها أن استعادة العلاقة مع نظام الأسد يسهم في تعزيز الوجود العربي في سوريا وكبح النفوذ الإيراني فيها[11].
بغضّ النظر عن الدوافع الخاصة بكل دولة إقليمية للتطبيع فثمّة عوامل ذاتية مرتبطة بقوى الثورة والمعارضة السورية التي فشلت في التسويق لقضيتها نتيجة الإشكاليات البنيوية التي عانت منها، والتي كان لتضارب مصالح الدولة الإقليمية دور في تأجيجها وتزايدها، إلى جانب العوامل الموضوعية المرتبطة بالتغيرات الدولية؛ إذ كان للتدخل العسكري الروسي في سوريا وفرضه دوراً روسياً مركزياً في المنطقة، وتوافق ذلك مع المصالح “الإسرائيلية”، في بيئة حضور أمريكي هشّ ومضطرب أثرٌ في تشجيع محاولات التطبيع الإقليمية مع نظام الأسد[12].
ثمّة تساؤلان أساسيان مرتبطان بقضية التطبيع الإقليمي مع نظام الأسد، الأول: ما مدى نجاح هذه الخطوات التطبيعية في تحقيق أهدافها بالنسبة إلى الدول المُطبِّعة؟ والثاني: هل تُعد هذه التغييرات في المواقف استراتيجية أو تكتيكية؟
تشير الوقائع حتى الآن إلى أن أياً من الدول التي عمدت للتطبيع مع نظام الأسد لم تحقق شيئاً من أهدافها المرجوة بشكل كامل؛ فمثلاً: على الرغم من تحسُّن الأوضاع الاقتصادية في المناطق الحدودية الأردنية مع سوريا مقارنة بالفترة التي كانت فيها الحدود مغلقة فإن الأوضاع الأمنية على الحدود ساءت في ظل المحاولات المتكررة لتهريب المخدرات من سوريا نحو الأردن، كذلك لم يشهد ملف اللاجئين أية انفراجة، إلى جانب الغموض والجمود الذي لفّ مبادرة “خطوة مقابل خطوة” التي طرحها ملك الأردن[13]. والأمر ذاته ينطبق كذلك على الإمارات العربية المتحدة؛ فلم يسعَ نظام الأسد إلى تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، بل على العكس يمكن استقراء ازدياد النفوذ الإيراني في سوريا نتيجة الانشغال الروسي في الحرب ضد أوكرانيا[14].
أما فيما يتعلق بطبيعة التغيير في مواقف الدول المطبعة فيمكن القول: إن هذا التغير في بعض الجوانب يمثل تغيراً إقليمياً استراتيجياً من جهة رجحان كفة “القوى المضادة للربيع العربي” الرافضة لوجود نظام سياسي بناءً على خيار شعبي ديمقراطي في المنطقة. أما خارج هذه النقطة فإن التغيير مرتبط بمصالح اقتصادية وأمنية عرضة للتقلبات[15]؛ مما يعني أن مسار التطبيع الإقليمي ليس مساراً حتمياً [16].
ثانياً: الدوافع التركية للتقارب مع نظام الأسد؛ التشابك ما بين الداخلي والإقليمي والدولي:
شهدت العلاقات التركية – السورية نزاعاً محتدماً منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى العقد الأول من الألفية الثالثة؛ إلا أن ذلك المنحى تغير تماماً مع وصول العدالة والتنمية للسلطة وتطبيق سياسته الإقليمية في إطار “صفر مشاكل”، إذ وصلت العلاقة بين سوريا وتركيا إلى مستوى متقدم. ولكن مع انطلاق ثورات “الربيع العربي” تدهورت العلاقات بين الطرفين مع تمادي نظام الأسد في القمع[17]، ومع رغبة تركيا في دعم ثورات الربيع العربي للحصول على موقعها في المنطقة بوصفها “دولة رائدة”[18] وقفت ضد نظام الأسد، ودعمت قوى الثورة والمعارضة في السنوات الأولى بناءً على تلك الرؤية؛ إلا أن الموقف التركي بعد عام 2015 بدأ بالتراجع عن فكرة إسقاط النظام السوري لصالح إدارة الأزمة[19].
تبدو السياسة التركية مؤخراً تخطو نحو تغيير كبير يتمثل بالتقارب مع نظام الأسد، وهو ما يرتبط بمجموعة من الدوافع التي يمكن أن نجملها بما يلي:
1- التكيُّف مع المتغيرات الدولية: تركيا في سوريا؛ الاندفاع نحو روسيا والابتعاد عن الولايات المتحدة:
خلال السنوات التي تلت الثورة السورية حصلت العديد من المتغيرات الدولية، وكان لها تأثير كبير في القضية السورية ككل وفي المواقف الإقليمية المختلفة – بما فيها تركيا- من القضية السورية، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره طبيعياً تبعاً لعامل الزمن؛ إذ إن أحد عشر عاماً منذ انطلاق الثورة فترة طويلة تحتمل بطبيعتها تغيراً في المشهد الدولي، وبطبيعة الحال فإن العلاقات الخارجية للدول ترتبط بالمصالح، وهذه المصالح متغيرة.
أولى هذا التغييرات الكبرى جاءت مع التدخل الروسي العسكري في سوريا، فقد مثّل تدخلاً لقوة عسكرية عالمية لمساندة نظام الأسد ومنع سقوطه[20]، وهو التدخل الذي نجح من حيث النتيجة في حسم المعادلات القائمة على الأرض، وأوجد قواسم مشتركة مع الموقف الأمريكي في سوريا من جهة منع وصول الإسلاميين إلى السلطة، ومنع انهيار نظام الأسد، واحتواء التدخل الإيراني العسكري في سوريا[21]؛ مما أدّى إلى تسليم أمريكي بالدور الروسي في سوريا[22].
ترافق هذا التسليم الأمريكي مع تغيُّر كبير في المزاج العام الدولي تجاه نظام الأسد، وذلك بفعل وجود “فزّاعة” تنظيمات إرهابية في مقدمتها “داعش”؛ حيث تتجه الكثير من الدول للقبول بنظام الأسد نتيجة “وجود الإرهاب وعدم وجود بديل مقبول عنه”، وبذلك أصبح المزاج الدولي رافضاً لفكرة سقوط النظام[23].
مع التراجعات العسكرية بفعل العوامل السابقة، ومع غضّ النظر الدولي عن إسقاط مدينة حلب تهيأت الظروف أمام تركيا لجعلها تسهم في إطلاق مسار أستانا وما تلاه من سلسلة نتائج عسكرية وسياسية[24]، أسهمت فيها سياسة “إدارة الأزمة” التي انتهجتها الإدارة الأمريكية، والتي ركزت عملياً على مكافحة “داعش”، وبالتالي دعم “قسد” شريكاً أساسياً لها في الحرب على الإرهاب، من دون الانخراط بشكل فعلي للضغط على الأطراف لتطبيق الحل السياسي المنصوص عليه في بيان جنيف1 ثم قرار مجلس الأمن 2254، والاكتفاء بسياسة “العقوبات الاقتصادية” من أجل الضغط على نظام الأسد وحلفائه لتغيير سلوكهم[25]. في هذه الأثناء بدأت التغييرات الكبيرة في المشهد التركي عموماً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز عام 2016، والتي أدت لزيادة تقارب تركيا مع كل من روسيا وإيران، في مقابل التوتر مع الغرب عموماً، لاسيما مع دعم الأخير لمشروع “قسد” الذي يمثل تهديداً لأمن تركيا القومي[26]، وللمصالح الاقتصادية الكبيرة لتركيا مع كل من روسيا وإيران[27].
من جانب آخر جاءت أزمة فايروس كورونا والأزمة الاقتصادية المرافقة؛ فانعكست بشكل مباشر على مستوى الاهتمام الإعلامي والشعبي بالتطورات في سوريا، فهي مما أسهم في انخفاض مستوى مساهمة الدول والمنظمات الدولية في تقديم مختلف أوجه الدعم للشعب السوري، وانكفائها نحو ملفاتها الداخلية.
كذلك جاءت الحرب الأوكرانية[28] لتصبح الأولوية على مختلف المستويات، وفي مقدمتها الإنسانية[29] والسياسية[30]، لتجد تركيا في ذلك فرصة مناسبة لإعادة التموضع في الشمال السوري، بما يحقق لها مكاسب إضافية في محاصرة مشروع “قسد”، عبر عملية عسكرية لم تستطع حتى الآن أخذ ضوء أخضر للقيام بها[31]؛ مما دفعها للبحث عن بدائل.
في ظل هذا السياق الدولي، ومع زيادة التنافر الغربي التركي عموماً[32]، ومع تجاهل الولايات المتحدة لمطالب تركيا الأمنية في سوريا[33]؛ فإن تركيا تقترب على ما يبدو بخطوات أكثر جدية من المحور الروسي الصيني، وهو ما تطلب منها مراعاة السياسات الخاصة بالقطبين في سوريا -وهما الحليفان الدوليان لنظام الأسد- للحصول على امتيازات أخرى وتعزيز العلاقات[34].
2- التموضع مجدداً في النظام الإقليمي؛ العودة لسياسة “صفر مشاكل”:
بعد سنوات من المشاكل الإقليمية التي عاشتها تركيا على خلفية مواقفها من “الربيع العربي”، ومن ملفات عديدة في مصر وسوريا وليبيا والأزمة الخليجية والقضية الفلسطينية؛ فإننا نشهد مؤخراً توجُّهاً تركياً للعودة نحو سياستها المعلنة السابقة تحت مسمّى “صفر مشاكل”، فقامت بالتقارب مع مصر ثم مع السعودية والإمارات ومؤخراً مع “إسرائيل”[35].
وقد فرضت المتغيرات في السياق الإقليمي نفسها بقوة على السياسات التركية؛ فتلاشي الأنظمة التي أتى بها الربيع العربي، وازدياد الضغوط الاقتصادية على تركيا، وظهور مؤشرات لإعادة اصطفاف إقليمي مترافق مع تراجع الحضور الأمريكي في المنطقة[36]؛ كل ذلك أسهم في اتخاذ تركيا خطوات لإعادة تموضعها في الإقليم لتحقيق مصالح متعددة، خصوصاً في الجانب الاقتصادية؛ كون الأسواق العربية المـُستـَهـلـِكة تـُعد البديل الأفضل لتصريف المنتجات التركية، لحاجتها إليها أولاً، ولقربها منها جغرافياً ثانياً، ووفرة الأموال العربية التي من الممكن أن تجد المكان المناسب لها للاستثمار في البنوك التركية[37].
3- التقدم في ملف إعادة اللاجئين السوريين في تركيا:
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية في تركيا نجحت أحزاب المعارضة في إدراج ملف اللاجئين السوريين ضمن ملفات الاستقطاب السياسي؛ مما كان له الأثر الأكبر في تحويل هذا الملف من بُعده الإنساني إلى مادة للصراع السياسي بين الأحزاب التركية والرأي العام التركي.
وبذلك استطاعت الأحزاب المعارضة التركية تحريض الشارع التركي على اللاجئين وسياسات العدالة والتنمية اتجاههم، وجعلت من المزاج العام معادياً لهم[38]، وترافق ذلك مع دعم بعض الأحزاب فكرة المصالحة مع نظام الأسد بوصفها وسيلة لحل هذا الملف، مع استخدام وسائل حشد عديدة للرأي العام التركي لاستثمار الملف لحسابات انتخابية بكل الطرق المتاحة[39].
4- مواجهة التحديات الاقتصادية وضرورة فتح آفاق جديدة:
يتقدم العامل الاقتصادي أيضاً عاملاً مهماً ومؤثراً في السياسات التركية؛ فقد تعرّض الاقتصاد التركي لأزمة كبيرة منذ عام 2018 ترتب عليها تراجعٌ في سعر الليرة التركية[40]، وارتفاع أرقام التضخم لمستويات قياسية[41]، وهو ما تعزز بفعل آثار أزمة كورونا، إذ كانت تركيا من أكثر دول العالم تأثراً بها، خاصة مع تضرُّر القطاع السياحي، وهو أحد مصادر الدخل القومي الرئيسة في البلاد[42]، ليستمر الضغط الاقتصادي التركي بعد زوال الأزمة عبر موجة التضخم العالمية الحالية.
5- التحضير لخوض الانتخابات التركية القادمة:
فرضت خريطة تحالفات الحزب الحاكم “حزب العدالة والتنمية” التي بدأت بالتحالف الرسمي مع حزب “الحركة القومية”، والتحالف غير الرسمي مع حزب “الوطن” المؤيد لنظام الأسد، والذي يلعب دور الوساطة على المستوى السياسي في عدة ملفات إقليمية أبرزها سوريا ومصر؛ قد جعلته شيئاً فشيئاً يعتمد أكثر على كوادر مختلفة في صياغة السياسة الخارجية، الأمر الذي سينعكس على صيرورة هذه العملية بحكم التوجهات الحادة لدى بعض أعضاء هذه الأحزاب ضد اللاجئين السوريين[43].
من جانب آخر فإن بعض قوى المعارضة تبنّت خطاب التقارب مع نظام الأسد، ودعت للتطبيع معه[44] وسيلةً للضغط على الحزب الحاكم، في الوقت الذي وقف فيه حزب المستقبل موقفاً مختلفاً، مؤكداً أن الشروط المطلوب توفرها كحد أدنى للتطبيع غير موجودة[45].
ثالثاً: سيناريوهات السياسة التركية تجاه التطبيع مع نظام الأسد:
على الرغم من العوامل السابقة فإن المصالح التركية الرئيسة في الملف السوري تبدو واضحة، وهي مصالح يصعب تجاوزها بالنسبة إلى تركيا، في مقدمتها: إجهاض مشروع “قسد” على حدود تركيا الجنوبية بشتى الوسائل -بما فيها العسكرية- كأحد متطلبات الأمن القومي التركي[46]، ومنع تدفق مجموعات جديدة من اللاجئين، وبالتالي تجميد “الصراع في سوريا” حالياً، إلى جانب تحقيق خطوات تساعد على عودة اللاجئين السوريين.
من هذا المنطلق يبدو أن الخطوات التركية الأخيرة تجاه التطبيع مع نظام الأسد تسعى نحو مقاربات جديدة لتحقيق الأهداف المذكورة أعلاه، خصوصاً في ضوء المستجدات الإقليمية والدولية المشار إليها أعلاه، ومعه يمكن الوقف على السيناريوهات التالية لمستقبل هذه الخطوات:
1- التطبيع الكامل مع نظام الأسد: السيناريو المستبعد
يتطلب هذا السيناريو تضافر مجموعة من العوامل، أهمها أن تحقق تركيا مصالحها الأساسية في سوريا، وفي مقدمتها مشروعية الوجود العسكري والتعاون الكامل لإنهاء “قسد” ومشروعها، ومن ثم تسهيل مشروع إعادة اللاجئين، وهي مطالب استراتيجية لا تخصّ العدالة والتنمية فحسب، إذ هي حاجات للدولة التركية[47].
في المقابل يتطلب التطبيع الكامل من نظام الأسد تحقيق مجموعة من المصالح الرئيسة، وهي معاكسة تماماً للرؤية التركية؛ إذ إن انسحاب تركيا العسكري من سوريا أو على الأقل تسليم مواقع مهمة -مثل معبر باب الهوى وطريق M4- يُعد مطلباً أساسياً لنظام الأسد، مما يعني إبعاد أية شرعية عن الوجود التركي في شمال سوريا، إلى جانب مطالبته بدعم تركي اقتصادي مباشر؛ سواءٌ للالتفاف على العقوبات الغربية أو لدعم ملف إعادة الإعمار، وهو ما لا تستطيع تركيا تقديمه بسهولة نظراً لمخاطر العقوبات الغربية التي تعاني تركيا منها في الأصل[48] .
لذلك يبدو نظام الأسد غير متحمس حتى الآن للتطبيع مع تركيا خشيةً من تكاليف التطبيع، وعلى رأسها الاشتباك مع “قسد”، واستيعاب ملف اللاجئين السوريين في ظل الأزمة التي يمرّ بها[49]، فضلاً عن أن أية خطوات تقاربية مع حزب العدالة والتنمية قبيل الانتخابات التركية قد تُستثمر لمصلحة الأخير، مما يسهم في نجاحه فيها على حساب أحزاب المعارضة التي يعتقد نظام الأسد أن التعامل معها سيكون مجدياً له أكثر[50].
من جانب آخر يحتاج تحقّق هذا السيناريو وجود عوامل إقليمية ودولية مقنعة لتركيا للمضي في هذه الخطوة، منها: أن تكون الدول العربية أصلاً قد انتقلت الى مرحلة جديدة من التطبيع مع نظام الأسد، وهو ما يبدو مستبعداً حالياً[51]، فضلاً عن تسامح أمريكي- أوروبي مع محاولات تعويم نظام الأسد، وهو أيضاً أمر غير متحقق حالياً نتيجة تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا، والجهود الأمريكية المستمرة لحرمان روسيا من أي مكسب خارجي يمكن أن يخفف الضغوط الدولية عنها[52]. في هذا السياق لا يمكن إغفال عامل مهم وهو قدرة روسيا الحليف الأهم لنظام الأسد، ورغبتها في إقناعه بالتجاوب لتحقيق المصالح التركية أو خفض سقف مطالبه من تركيا، حيث يبدو أن هذا العامل ما زال مفقوداً؛ إذ أثبتت السنوات الماضية وجود هوامش لنظام الأسد للمناورة مع الروس، في مقدمتها الوجود الإيراني، إلى جانب عامل آخر مستجد هو انشغال الروس أنفسهم بالملف الأوكراني[53].
2- التطبيع الجزئي مع نظام الأسد: السيناريو المحتمل
يتوافق السلوك التركي الحالي مع ما تقوم به الأخيرة عادة قبيل إعادة تطبيع علاقاتها الخارجية، وهي التواصل الاستخباراتي الثنائي الذي تعقبه لقاءات دبلوماسية؛ كما فعلت تركيا مع الإمارات والسعودية[54]. وهذا يرفع احتمالية الاستمرار في خطوات التطبيع مع نظام الأسد، خصوصاً في ظل وجود توجهات تركية باتخاذ خطوات باتجاه التطبيع، كتصريحات كبار المسؤولين الأتراك بمَن فيهم رئيس الجمهورية[55]، وتغير السياسة الإعلامية لنظام الأسد تجاه تركيا[56]، إلى جانب التصريحات الروسية الداعية لذلك[57].
في هذا السياق ثمّة عوامل تجعل هذا السيناريو محتملاً، منها: نجاح الوساطة الروسية المستمرة منذ سنوات في تحقيق تقارب بين تركيا ونظام الأسد، في مقدمتها: أن متطلبات التطبيع الجزئي بين الطرفين أقل تكلفة عليهما من التطبيع الكامل؛ إذ يكفي في هذه الحالة أن يسهم نظام الأسد عملياً في تلبية احتياجات تركيا الأمنية عبر الضغط على “قسد” في منبج وتل رفعت، من دون الوصول إلى درجة الاشتباك المباشر، وأن يستجيب جزئياً لمطالب تسهيل عودة بعض اللاجئين عبر إجراءات تبدو تصالحية ومتوافقة مع القانون الدولي[58]، بغضّ النظر عن مدى فعاليتها والتزام نظام الأسد بتطبيقها، وجزئياً عبر إعادة بعضهم إلى مناطق محددة كنموذج تجريبي[59]. إلى جانب تقديم تجاوب محدود مع العملية السياسية، كالتقدم في مسار اللجنة الدستورية، وإطلاق سراح بعض المعتقلين، وتيسير دخول المساعدات الإنسانية إلى بعض المناطق الخارجة عن سيطرته.
في مقابل ذلك يكون المطلوب من تركيا تنشيط العلاقات الاقتصادية مع نظام الأسد، مثل فتح بعض المعابر؛ سواءٌ مع المناطق المحررة أو مع تركيا “معبر كسب”، إلى جانب عقد لقاءات سياسية منخفضة، والاتفاق على تخفيف الوجود العسكري التركي في بعض مناطق شمال سوريا، والضغط على قوى الثورة والمعارضة للقبول ببعض الخطوات الشكلية التي يقوم بها نظام الأسد في مسار الحل السياسي المشار إليها آنفاً.
قد يبدو هذا السيناريو مناسباً لكلا الطرفين في الوقت الحالي؛ حيث إنه يعطي هامشاً جيداً للحزب الحاكم لتنفيذ بعض الخطوات في ملف اللاجئين السوريين، والتضييق على “قسد” في مناطق غرب الفرات، وسحب ورقة الانفتاح على نظام الأسد من يد أحزاب المعارضة، وهي بالمجمل تصبّ في مصلحته في الانتخابات المقبلة، فضلاً عن العوامل الذاتية المرتبطة بالحزب الحاكم نفسه والمتمثلة في برغماتيته العالية التي تمكنه من القيام بمثل هذه الاستدارة الإقليمية[60]، إلى جانب السياق الداخلي في تركيا؛ فقد أصبح الرأي العام التركي متقبلاً لهذه الخطوة[61]، في مقابل إعطاء نظام الأسد انتصاراً معنوياً وسياسياً واقتصادياً جزئياً عبر الترويج بأن الدولة الإقليمية الأهم الداعمة لقوى الثورة والمعارضة قد تراجعت عن ذلك لحساب التنسيق والتطبيع معه.
مع ذلك تبقى عوائق التطبيع الكامل نفسها موجودة في التطبيع الجزئي، وفي مقدمتها: فشل جهود تطبيع بعض الدول العربية سابقاً، وعدم الدعم الأمريكي لجهود للتطبيع مع نظام الأسد وإعطاء مكسب سياسي لروسيا في الوقت الحالي، وطبيعة نظام الأسد نفسه في ضعف قدرته بنيوياً على تقديم أية تنازلات سياسية أو أمنية لتركيا، سواءٌ في ملف اللاجئين أو ملف الحل السياسي أو مواجهة “قسد”، فضلاً عن عدم رغبته في تقديم خدمة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة، والخلافات العميقة والمواقف المتناقضة بين الطرفين فيما يتعلق بما يريده كلٌّ منهما من الآخر[62]، إلى جانب خشية الطرف التركي من أن فتح قناة اتصال على مستوى سياسي رفيع مع نظام الأسد قد ينعكس سلباً عليها، فتخسر أصدقاءها دون أن تضمن كسباً ضد أعدائها[63].
3- زيادة التنسيق مع نظام الأسد: توسيع هوامش ما قبل التطبيع
يتمثل هذا السيناريو بما هو واقع حالياً من تنسيق استخباراتي بين تركيا ونظام الأسد، مع توسيع دائرته، ولكنْ دون الوصول إلى التطبيع السياسي؛ ويبدو أن هذا السيناريو هو المرجح على المدى القريب في ضوء عدم وجود توافقات بين الطرفين في الملفات العالقة، كما أشرنا في السيناريوهين السابقين. ولكن هذا لن يحول دون الاستمرار في توسيع العلاقات والتفاهمات الجزئية بين الطرفين، وإن كان دون الوصول إلى التطبيع السياسي، لِـمَا في هذا الأمر من تحقيق لمصالح كلا الطرفين في الوقت الحالي؛ فبالنسبة إلى تركيا يعطيها هامشاً في اختبار قدرة نظام الأسد ونواياه، ويمهد لسحب ورقة التطبيع من يد المعارضة التي تتمسك بها في مواجهة سياسات حزب العدالة والتنمية في التعاطي مع الملف السوري، وفي المقابل يعطي ذلك نظام الأسد بعض التنازلات من الطرف التركي على مستوى الاعتراف بشرعيته، والانفتاح الاقتصادي غير المباشر عبر المعابر الواصلة بين المناطق المحررة ومناطق سيطرته.
قد لا يختلف هذا السيناريو عن سابقه سوى في قضية تأجيل اللقاءات السياسية بين تركيا ومسؤولي نظام الأسد، وإزاحة ملف الحل السياسي، ومناقشة الوجود العسكري، والانفتاح الاقتصادي المباشر بين البلدين من الطاولة. وما سوى ذلك فثمّة تطابق بين هذا السيناريو وسابقه في إمكانية زيادة التنسيق حول الملفات الميدانية الحالية وملف “مكافحة الإرهاب”.
في هذا السيناريو قد تحصل تركيا على عدم معارضة نظام الأسد لعمليات عسكرية محدودة جديدة ضد “قسد”، وقد يتم فتح المعابر الداخلية بين خطوط التماس بهدف التخفيف عن النظام اقتصادياً[64]، وهو ما يدعم الرغبة الروسية في إنجاح إجراءات إدخال المساعدات عبر الخطوط، ثم تكون ذريعة لإنهاء الآلية الدولية الاستثنائية لإدخال المساعدات الأممية عبر الحدود[65]. كما يتضمن هذا التنسيق وقفاً لعمليات الاستهداف في النقاط الساخنة كجبل الزاوية وجبهة تادف؛ بمعنى آخر يعني هذا السيناريو أن العداء السياسي بين الجانبين سيستمر، ولكنْ مع تكثيف التنسيق أمنياً، والانفتاح غير المباشر اقتصادياً.
رابعاً: خيارات قوى الثورة والمعارضة لمواجهة التطبيع مع نظام الأسد:
لابد من تأكيد ضرورة عدم القَبول بسردية توهم أن نظام الأسد بات مقبولاً إقليمياً ودولياً، أو التسليم بحتمية مسار التطبيع معه؛ إذ ما تزال مجموعة عوامل موضوعية تعيق ذلك، منها: قانون قيصر، واستمرار رفض الدول الغربية ومعها بعض الدول العربية لمسار التطبيع[66]. إلى جانب العوامل الذاتية المرتبطة بقوى الثورة والمعارضة التي ترفض التطبيع مع نظام الأسد مبدئياً[67]؛ إلا أن التطورات السابقة تتطلب من قوى الثورة والمعارضة الاستعداد لجميع السيناريوهات المحتملة، وذلك عبر الاستفادة من نقاط القوة التي تملكها الثورة؛ إما لوقف مسار التطبيع، وإما لإبطائه أو الحدّ من آثاره السلبية.
في هذا الصدد يمكن العمل على عدة مسارات، من أبرزها: تفعيل ورقة الحراك الشعبي والتأثير في السياسة التركية، واستعادة التعاطف العربي والدولي بما يمثل مجموعة خطوات تخفف من المخاطر المحتملة وتسهم في دعم القضية السورية.
1- الحراك الشعبي قوة يمكن المراهنة عليها لإعادة البناء الداخلي:
لم يكن التعاطف الكبير على المستوى العربي أو العالمي في بداية انطلاق الثورة السورية تعاطفاً ناجماً عن وجود عواطف وضغط أخلاقي فحسب؛ إنما ارتبط بعامل موضوعي ومصلحي هو قوة الحراك السوري الذي بدا قوة صاعدة ذات مستقبل؛ بمعنى آخر: لم يرتبط التعاطف مع الثورة السورية بالأخلاق فحسب، بل بالمصالح؛ فالدول وهي تسعى لضمان وتحقيق مصالحها تعوّل على قوى فاعلة، فكان التعويل على الثورة السورية التي كانت في مرحلة صعود، غير أن فواصل مهمة وقعت، مثل: سقوط حلب، والتطورات العسكرية والسياسية التي نتجت عن مسار أستانا، بما في ذلك الانقضاض على مناطق خفض التصعيد، وتمكين نظام الأسد من السيطرة على كل المناطق باستثناء جيب الشمال، وتحييد مسار جنيف، وإفراغ العملية السياسية من جوهرها عبر مسار اللجنة الدستورية؛ فهذه السيرورة من الانهيارات أحدثت تغييرات في تعاطي الدول مع الملف السوري[68].
وبما أن الحراك الثوري عاد جزئياً على أثر الصدمة التي أثارتها التصريحات التركية؛ فهذا أعطى مؤشراً على حيوية السوريين واستعدادهم للحراك مجدداً، لكن لا يمكن لهذا الحراك الإسهام في استعادة التعاطف بمفرده؛ إذ لابد من تحويله إلى مكسب سياسي، وهو ما يتطلب وجود قوى سياسية مرتبطة بالحراك عضوياً، وهو ما لم يتحقق حتى الآن؛ فالمؤسسات الراهنة تعيش حالة عطالة، في ظل وجود نخب متعالية تتهرب أو غير قادرة على مواجهة الاستحقاقات الراهنة[69]. لذلك لابد من التعويل على الحراك الشعبي في تصحيح الوضع الداخلي للانطلاق نحو الخارج، وهو ما يقودنا إلى حتمية استعادة الثقة بين الحاضنة الشعبية والمؤسسات[70].
2- استثمار الحراك الشعبي للحدِّ من جهود التطبيع وآثاره:
يمكن للحراك الشعبي السوري أن يشكّل عاملاً مهما في وقف مسار التطبيع أو في عرقلته على الأقل؛ لكن ذلك يتطلب مجموعة من الخطوات التي تسهم في تضخيم آثار هذا الحراك وتأثيره. من هذه الخطوات[71]:
- توجيه رسائل للدول تفيد بأن استمرار نظام الأسد سيؤدي إلى مزيد من الهجرة والتوترات الأمنية في المنطقة ودعم التنظيمات الإرهابية، إلى جانب ازدياد تجارة المخدرات، وانتشار العصابات الإجرامية؛ حيث ستشكل هذه البيئة عامل هدم للاستقرار الإقليمي، وقد لحظنا بوادره مع ما يحصل حالياً في الأردن[72].
- كتابة الشعارات في المظاهرات دائماً بكل اللغات؛ حتى تكون الرسالة قادرة على الانتشار الأوسع، وأن تشكل أداة دبلوماسية موازية.
- إلى جانب تأكيد مطالب إسقاط النظام ورفض التطبيع معه يجب المطالبة بتحقيق بيئة آمنة حقيقية وفق ما نصت عليه القرارات الدولية ذات الصلة، وإبراز المصير البائس والمرعب لمئات العائدين إلى مناطق سيطرة نظام الأسد.
- تجاوز أية أخطاء قد تشوه الوجه الحضاري للحراك السلمي في المناطق المحررة، مثل: الابتعاد عن تكسير المنشآت والمرافق العامة أو حرق الأعلام.
- توسيع الحراك تجاه أنشطة أخرى غير المظاهرات، مثل: تفعيل المحاضرات واللقاءات الجماهيرية، وإشراك أشخاص ومسؤولين غربيين وعرب مناصرين للقضية السورية؛ حتى يكون للحملة أبعاد خارجية.
- تحرُّك السوريين في بلاد اللجوء للوقوف مع إخوانهم السوريين في الشمال عبر التظاهر والاحتجاج، والتشبيك بين الحراكَين بما يسهم في توحيد المطالب والرسائل إلى الخارج.
- زيادة كفاءة قادة الحراك وقدراتهم من خلال التدريب والتأهيل.
- المطالبة بقيادة سياسية جديدة تعبر عن مطالب الشارع وتنقله وتدافع عنه بأمانة أمام المجتمع الدولي.
3- الاستناد للملف الحقوقي وتفعيله:
يُعد الملف الحقوقي أقوى الملفات التي يمكن للمعارضة الاستناد إليها؛ إذ يمكن المراهنة عليه جدياً في عرقلة عملية التطبيع الإقليمي والدولي مع نظام الأسد[73]. فقد بلغت انتهاكات نظام الأسد للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان من الجسامة مستوى غير قابل للإنكار أو التجاهل، أضحى معها نظام الأسد مجرم حرب بحسب مئات التقارير والوثائق الحقوقية. يُضاف إلى ذلك حجم التضامن الشعبي والإعلامي في كل دول العالم مع هذا الملف، إلى جانب اهتمام الحركات والمنظمات والقوى المدنية في العالم به؛ ولذا فإن تحريكه إعلامياً وشعبياً بشكل مستمر كفيل بإحراج الحكومات التي تسعى للتطبيع، فعلى سبيل المثال: أظهر تحقيق “مجزرة التضامن” والفيديو الذي كشف تفاصيل المجزرة المروعة عالمياً مستوى التأييد الذي يمكن أن يحققه الملف للشعب السوري وقضاياه[74].
بناءً على ما سبق: يمكن تحريك هذا الملف عبر تكثيف حملات المناصرة القانونية، ورفع الدعاوى في المحاكم الأجنبية لتسليط الضوء على جرائم نظام الأسد، وتكثيف جهود التنظيم بين القوى المدنية وذوي الضحايا، والتشبيك العالمي مع القوى المناصرة لتطبيق العدالة؛ لجعل ذاكرة العالم حية باستمرار حول الجرائم المرتكبة في سوريا[75].
4- السعي للتأثير في السياسة التركية من بوابتَي الأمن القومي التركي والرأي العام التركي:
أسهم الحراك الشعبي الأخير في الضغط على الجانب التركي الذي سعى للتخفيف من حدة الاحتجاجات عبر إصدار بيان توضيحي[76]، إلى جانب لقاء قوى الثورة والمعارضة مع وزير الخارجية يوم 24-8-2022[77]، الذي يُرجَّح أنه طلب فيه من المؤسسات أن تقوم بمزيد من الجهود لتهدئة الشارع السوري[78]، الأمر الذي يُظهر حرص تركيا على عدم تجدد المظاهرات في الشمال السوري ضد سياساتها[79].
بالانتقال إلى الجانب المؤسساتي فإننا نجد حالياً أن القوى الرسمية غير قادرة في شكلها الحالي، ومع انعزالها عن العمق الشعبي على التأثير في السياسة التركية، كما أنها ارتكبت أخطاء سابقة عديدة، أبرزها: الاصطفاف الحصري مع حزب العدالة والتنمية والابتعاد عن القوى التركية الأخرى، علماً أن القضية السورية مهمة للدولة التركية، وليس لحزب العدالة والتنمية فقط[80].
حالياً يمكن لقوى الثورة والمعارضة السعي نحو التأثير في السياسة التركية من خلال عاملين رئيسَين: الأول الأمن القومي التركي؛ بحيث تُظهر أنها هي الطرف السوري الوحيد الذي يحقق ذلك، وبالتالي تدخل في علاقة شراكة مع الدولة التركية للعب دور مؤثر في هذا المجال. والثاني: الرأي العام التركي الذي يخشى من توسع المشروع الإيراني والروسي في سوريا، وبالتالي يمكن استثمار هذه النقطة لبيان مدى ارتباط مصالح الأتراك مع قوى الثورة والمعارضة وتضاربها مع نظام الأسد الذي استجلب الروس والإيرانيين ومكّنهم في سوريا[81].
5- تفعيل دور المجتمع المدني واستثمار قدراته:
بعد أن أتاحت الثورة السورية للمجتمع المدني السوري الذي تشكل حديثاً هامشاً من العمل والنشاط، سواءٌ داخل سوريا في المناطق المحررة أو في بلاد اللجوء، فإنه يُفترض بهذا المجتمع أن يأخذ دوره في دعم الحراك الشعبي في الداخل وترشيده وتسويقه أمام المجتمع الدولي، فعلى سبيل المثال: بعد أن اتفق المبعوث الأممي غير بيدرسون مع لافروف مؤخراً على استكمال الحوار السياسي السوري اجتمعت 170 منظمة في عنتاب وقدمت ورقة لدفع العملية السياسية للمندوب الأممي؛ مما يؤكد قدرة المجتمع المدني السوري الناشئ على تمثيل تطلعات السوريين بما يخدم مصالحهم[82].
كذلك يمكن للمجتمع المدني بمختلف كياناته ومؤسساته التأثير في الداخل والخارج عبر الحشد والمناصرة، خاصة للملف الحقوقي؛ للتذكير بإجرام نظام الأسد وضرورة محاسبته، وفي هذا الإطار يجب التركيز على إيجاد الوسائل المناسبة لجلب الأسد أمام المحاكم الدولية، بدلاً من السعي لتعويمه وجلبه إلى المحافل الدولية[83].
خاتمة:
يبدو أن خطوات التطبيع مع نظام الأسد لن تتوقف؛ فالقاطرة التي انطلقت منذ عام 2018 حتى الآن يُرجح أنها لن تتوقف، بغضّ النظر عن النتائج المترتبة عن التطبيع، لاسيما وأن التطبيع تحول إلى مصلحة بحد ذاته، بعيداً عن نتائجه لدى بعض الدول.
في المقابل، وكما أشرنا في الورقة فإن قرار التطبيع ليس قدَراً محتوماً، بقدْر ما هو قرار سياسي خاضع لموازنات السياسة ومصالحها، وما يبدو الآن أنه مصلحة قد تتحول إلى عكس ذلك لاحقاً. بل هذا ما حصل مع بعض الدول التي قد تصرّ على التطبيع، لتتكشف لها لاحقاً حقيقة نظام الأسد وأنه أدنى من أن يحقق مصالحها[84]؛ ففرصة قوى الثورة والمعارضة ليست في منع التطبيع فحسب، بل في عدم استمراره وتوسعه.
دولياً: تمنح الحرب الروسية على أوكرانيا فرصة مناسبة لمحاصرة نظام الأسد، عبر توظيف المناخ الدولي العام الناقم على روسيا وحلفائها، بما فيهم نظام الأسد؛ ولعل الخطوات التي اتخذت من بعض الدول لتحريك الملف الحقوقي[85] يمثل مصلحة مشتركة بين قوى الثورة والمعارضة وهذه الدول، فلابد من تشجيع هذا المسار وتقويته في المستقبل.
إقليمياً: بيّنت تجارب التطبيع الإقليمية السابقة مع نظام الأسد أن ما ترتب عليها من مفاسد فاق مصالحها؛ فنظام الأسد لم يعد بالمركزية التي كان عليها في عام 2010، وتسيطر الميلشيات على قراره العسكري والسياسي وحتى الاقتصادي، ليصبح بواقعه الحالي مصدراً للمخدرات والتهديدات الأمنية واللاجئين، بدلاً من أن يكون عامل استقرار في المنطقة.
بالمجمل: يجب ألا يغيب عن أذهاننا أنه إن كانت ثمّة خطوات نحو التطبيع مع نظام الأسد فهنالك في المقابل خطوات معاكسة تسعى لمحاسبته على جرائمه؛ لعل آخرها التشريع الذي أقرّه الكونغرس مؤخراً فيما يتعلق بمعاقبة نظام الأسد بخصوص تجارة المخدرات التي يرعاها[86].
إلى جانب ما جاء في الورقة من أدوات للوقوف في وجه محاولات التطبيع تبقى الورقة الأخلاقية من أهم الملفات التي يمكن الاستناد إليها للتشويش على تلك المحاولات[87]. فصحيح أن السياسة تتحرك في إطار المصالح أكثر من الأخلاق؛ ولكنْ لا ننسى أن ثمّة قيماً ما تزال موجودة في الضمير العالمي “الرأي العام العالمي” تأبى القبول بالتطبيع مع مجرم قاتل وسفاح ارتكب إحدى أسوأ مجازر الإبادة الجماعية بحق شعبه خلال القرن الحادي والعشرين، ما يحرج الحكومات المتجهة للتطبيع أمام شعوبها والرأي العام العالمي.
لمشاركة الورقة: https://sydialogue.org/cc3w
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
3 تعليقات