رأس المال الاجتماعي السوري في مواجهة آثار كارثة “زلزال القرن”
على الرغم من أهمية رأس المال الاجتماعي بأبعاده المتعددة كالتضامن والتواصل الأسري والثقة والمشاركة والشبكات والعضوية …إلخ، في حالات الاستقرار، إلا أن دوره يبرز بشكل مباشر وجلي في الأزمات والكوارث بوصفه بديلاً -يكاد يكون وحيداً- لأي مجتمع تتراجع فيه أدوار المؤسسات الرسمية وتضعف فيه آليات حمايتها، وتضعف فيه أدوار المؤسسات الرسمية، ومن المسلّم به على نطاق واسع أن المجتمعات البشرية تتمايز في مناعتها الذاتية لمواجهة تلك الحالات الاستثنائية، وبالتالي تختلف آثار هذه الكوارث وكيفية الاستجابة لها من مجتمع إلى آخر، وذلك بفعل مستوى الصمود الاجتماعي “Societal Resilience” الذي يمكن تعريفه بأنه: ” قدرة المجتمع المعرّض للمخاطر على المرونة في مقاومة المخاطر واستيعابها والتعافي من آثارها في وقت قياسي بطرق ومسالك فعالة، بما في ذلك حفظ البنى والوظائف الأساسية واستعادتها”.
سابقاً، كان التركيز على الآثار السلبية للجرائم التي ارتكبها نظام الأسد على رأس المال الاجتماعي السوري بأبعاده المختلفة كمدى تماسك الشبكات الاجتماعية والتضامن المجتمعي ومستوى الثقة بمختلف أشكاله وصولاً للرؤى والقيم المشتركة؛ حيث أكدت عدّة دراسات بغض النظر عن منهجياتها وطرق مقاربتها لرأس المال الاجتماعي السوري على تصدّعه وتراجعه خلال 12 عاماً الماضية. هذه النتائج قد تبدو منطقية ومتوافقة مع مظاهر ملموسة على أرض الواقع؛ كحالة شتات الأسر والعائلات وانهيار شبكات الأمان الاجتماعي ومظاهر الاستبداد والفساد وتراجع الثقة بين الأفراد.
غير أن كارثة “زلزال القرن” بما حملته من مآسٍ وآلام كبيرة لشريحة من السوريين، وهذه المرة بعيداً عن آلة الأسد وحلفائه العسكرية المباشرة، كانت مناسبة فعلية واستثنائية ثانية بعد أزمة وباء كورونا لاختبار مدى قوة رأس المال الاجتماعي السوري بمظاهره الإيجابية.
تجلى المظهر الأول في التضامن “التكافل” الاجتماعي بشكل واضح في الأيام الماضية من خلال مجمل أنواع المساندة المادية والمعنوية، الفردية والجماعية. ظهر التكافل الاجتماعي المعنوي في انتشار مشاعر التعاطف والحزن والدعاء والتمني بالسلامة والمواساة وتطييب الخواطر للجميع بعيداً -لدرجة كبيرة – عن استحضار الانقسامات السياسية السابقة أو حالة التشفي والتبرير المعهودة باستثناء بعض الأصوات من شبيحة نظام الأسد. أما التكافل المادي، وهو الأهم في مثل هذه الظروف، فقد تجلى في عمليات المساهمة من قبل أعداد كبيرة من الشباب في رفع الأنقاض والإجلاء واستضافة الأسر المنكوبة، وصولاً لتقديم التبرعات والمساعدات المادية -النقدية والعينية- داخل سوريا وخارجها، ولا أدل على ذلك من فقدان شركات الصرافة من اليوم الأول في الشمال السوري لمخزونها من السيولة النقدية خلال ساعات بفعل حجم التحويلات النقدية من الخارج السوري.
كذلك تبدّى المظهر الثاني في اندفاع فئة كبيرة من السوريين نحو العمل التطوعي والانخراط المجتمعي عبر تشكيل سكان المدن والبلدات الأقل تأثراً بكارثة الزلزال في سوريا مثل مدينة الباب وريفها وفي تركيا مثل إسطنبول وأنقرة فرقاً ومجموعات شبابية تطوعية للمساهمة في عمليات الإنقاذ والاستجابة في المناطق السورية والتركية على حد سواء، للمساهمة في رفع الأنقاض والبحث عن الناجين تحت الركام. إلى جانب ذلك، وفي شمال غرب سوريا، أكملت الفرق التطوعية الشبابية المُشكّلة حديثاً منها أو المنظمة مسبقاً، أعمالها عبر دعم جهود الإيواء المؤقت، وتقديم الغذاء والمحروقات والإسعافات الأولية والنقل للمتضررين من كارثة الزلزال.
إلى جانب ذلك، عملت المنظمات الإنسانية السورية الأكثر قدرة وبشكل سريع نسبياً على تقديم الدعم الطارئ للمتضررين، وتنسيق الجهود مع بقية المنظمات والمؤسسات الرسمية كالمجالس المحلية من أجل تلافي المظاهر السلبية في عمليات التوزيع والاستجابة وتنظيم الجهود التطوعية، في حين جاء نشاط الأفراد والجاليات السورية لافتاً في الخارج السوري عبر حشد القوى والدعم ومناصرة الحالة الإنسانية في شمال غرب سوريا، والضغط على المؤسسات الدولية لتقديم الاستجابة المطلوبة.
ظهر العامل الثالث في مسألة الثقة بشقّيها الاجتماعي والمؤسساتي، فعلى الرغم من شبه انهيار ثقة السوريين في شمال غرب سوريا بالمؤسسات الدولية نتيجة تأخرها في مساعدتهم في هذه الكارثة، وبيروقراطيتها المشينة التي حالت دون قيامها بالأدوار المنوطة بها في المساهمة والمساعدة في إنقاذ المدنيين تحت الأنقاض وإغاثة مناطق الزلزال، وبـ “المؤسسات الرسمية” التي وجهت لها انتقادات في طريقة تجاوبها وتعاطيها مع الكارثة، إلا أنه كان من الملاحظ وجود ملامح للثقة الاجتماعية (بين الأفراد السوريين) من ناحية، وللثقة المؤسساتية في بعض منظمات المجتمع المدني، وتحديداً المنظمات الإنسانية والطبية والدفاع المدني (الخوذ البيضاء) التي حازت على ثقة كبيرة بحكم رصيدها السابق وجهودها الحالية.
كل ما سبق يُظهِرُ أن رأس المال الاجتماعي السوري ما يزال مستنداً على أبعاد التواصل والتكافل والتعاون المرتبطة بصورة أساسية بروابط القرابة كالأسرة والعائلة، والصداقة والجيرة والعشيرة، إلى جانب رابطة الدين المتمثلة في مفهوم الإخوة الإسلامي، حيث إن هذه الأبعاد ساهمت في تدعيم أبعاد أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وهي نشوء شبكات المجتمع المدني والأهلي التي أدت إلى زيادة نطاق العمل الخيري والتطوعي، ولعله من الأمور التي أدت إلى سرعة استجابة هذه الشبكات في هذه الكارثة هو تراجع حضور الانقسامات السياسية والأيديولوجية بين السوريين بحكم أن المأساة الحاضرة لم تكن مرتبطة بنظام الأسد على عكس مآسي التهجير والقصف السابقة التي ارتبطت به.
كل ذلك لعب دوراً مهماً في إيجاد شبكة أمان سورية محلية رائدة ضمن السياق والظروف الحالية، ساهمت في التخفيف من آثار الكارثة في ظل تباطؤ المساعدات الخارجية، وهو ما يؤكد أن الشعب السوري بما يملكه من رصيد حضاري واجتماعي قادر على النهوض مجدداً فيما لو تخلّص من انقساماته السياسية والأيديولوجية التي كرسها نظام الاستبداد والإجرام الذي حمل وما يزال خطاب التفرقة والتمزيق بين السوريين.
باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية