عوامل تعزيز ثقـة الحاضنة الشعبية بالكيانات المسلحة: دراسة حالة حركتي حماس وطالبان
ورقة تحليلية من إعداد وحدة التوافق والهوية المشتركة
الملخص:
استعرض الإصدار الأول من هذه السلسلة الذي جاء بعنوان: “الثقة السياسية أم الحاضنة الشعبية: محاولة لتفسير تراجع حاضنة الثورة” مفاهيم الثقة السياسية والحاضنة الشعبية، وأوجه التشابه والاختلاف فيما يبنهما وسياق كل منهما، وبحث معايير قياس الرضى الشعبي في كلا المفهومَين، كما أوضح المراحل التي مرت بها مؤسسات قوى الثورة والمعارضة السورية في إطار سعيها لكسب الحاضنة الشعبية، وخلص إلى نتيجة مفادها: “ضرورة التركيز في بيئة الحاضنة الشعبية على أولوية المؤسسات السياسية القادرة على تمثيل الثورة وتعزيز شرعيتها، والفصائل العسكرية القادرة على الدفاع عن المدنيين؛ على أن يأتي في الدرجة الثانية المؤسسات التي يمكن أن تحوز الثقة السياسية، والتي يغلب عليها الطابع الاقتصادي والخدمي”.
ويأتي الإصدار الثاني هذا ليسلط الضوء على تجارب عملية للعلاقة بين الكيانات المسلحة والحاضنة الشعبية عبر دراسة حالتَي حركتَي “حماس” و”طالبان”، بهدف تحليل هذه التجارب واستخلاص أبرز العوامل التي تعزز ثقة الحاضنة الشعبية بها، مع إيراد إسقاطات من سياق فصائل الثورة السورية.
ناقشت الورقة سبعة عوامل رئيسة أسهمت في ثقة الحاضنة الشعبية في الكيانات المسلحة محل الدراسة، وهي: تقديم رؤية تتناسب وهوية المجتمع، والالتزام القطري، والتمسك بأهداف القضية، وتوظيف النجاحات العسكرية سياسياً، وبسط الاستقرار الأمني، وحسن إدارة المناطق، والانخراط في البيئة المهيِّئة للتعافي الاقتصادي.
وقد خرجت الورقة بنتائج عديدة، أبرزها:
- على الرغم من خصوصية كل تجربة وسياقها السياسي والعسكري والاجتماعي؛ إلا أن ثمة قواسم مشتركة فيما بينها من جهة العوامل المساهمة في كسب الحاضنة الشعبية.
- تقديمُ الرؤى والمواثيق التي تلتزم بالقضية الوطنية وتراعي هوية المجتمع شرطٌ لازمٌ؛ ولكنه غيرُ كافٍ، فلابد من سلوكيات وأعمال تؤكد التزام الكيانات المسلحة العملي.
- تركيز الكيانات المسلحة على جانب واحد سياسي أو عسكري أو خدمي قد يُضعف ثقة الحاضنة الشعبية؛ فلابد من التكامل بينها جميعاً.
- نجحت فصائل الثورة السورية نسبياً في الجوانب النظرية المتعلقة بالرؤى والمواثيق، في حين أنها فشلت -كذلك نسبياً- في الجوانب الأخرى العملية، خصوصاً على المستوى السياسي والأمني والإداري والحوكمي.
- مثَّل وجود قيادة سياسية وجناح عسكري في هيكلية واحدة أحد أهم العوامل التي أسهمت في توظيف العمل العسكري سياسياً في التجارب المقارنة.
- تشابه الكيانات العسكرية الدول من جهة أن السلوكيات والأعمال المشار إليها تسهم في كسب الحاضنة الشعبية، والعكس بالعكس؛ إلا أن قوة مؤسسة الدولة والشرعية التي تحوزها خارجياً قد يُضعف من تأثير تخلّيها عن هذه الأعمال.
مقدمة:
على الرغم من الظروف الاستثنائية التي ترافق نشوء الكيانات والتنظيمات المسلحة عادة، والتي تفرض عليها القيام بالحدّ الأدنى من الأعمال لضبط المناطق التي تديرها أو توجد فيها بما قد يسهم في كسبها الحاضنة الشعبية؛ إلا أن هذه الأهداف قد تكون عصيّة على التحقق في أرض الواقع لأسباب متعددة: ذاتية متعلقة بالتنظيمات نفسها، وموضوعية خاصة بالسياق الذي يحيط بها.
في الحالة السورية، ونظراً لتعدد الفصائل العسكرية التي أدارت[1] أو وُجدت في المناطق المحررة وما تزال[2] يثور التساؤل في معرض علاقتها مع الحاضنة: ما هي أهم السلوكيات والأعمال التي يفترض القيام بها -ولو بالحد الأدنى- من أجل كسبها؟
تعرضنا في الإصدار الأول من هذه السلسلة إلى دراسة أسباب تراجع الحاضنة الشعبية في الحالة السورية من مدخل “التمييز بين الثقة السياسية والحاضنة الشعبية”[3]، ونحاول في هذه الدراسة إكمال الصورة عبر دراسة نماذج مقارنة تقترب من الحالة الفصائلية السورية؛ نستعرض فيها تجربتَي “حماس”[4] و”طالبان”[5]، لنقف على سلوكيات هذه الكيانات مع حاضنتَيهما، وتحليل سلوكياتها التي أثّرت فيهما سلباً أو إيجاباً، وبما يساعد على الاستفادة منها في إطار الحالة السورية.
يهدف هذا الإصدار إلى الوقوف على الأعمال والسلوكيات التي يمكن للحركات والتنظيمات العسكرية القيام بها لتحسين علاقتها بالحاضنة الشعبية[6]، عبر التركيز على نموذجَي “حماس” و”طالبان”، ومقارنتهما بصورة أولية مع حالة الكيانات المسلحة السورية[7].
اتبعت الدراسة المنهج الوصفي: متمثلاً بالتحليلي الذي يهدف إلى تحليل سلوك وتصرفات التنظيمات محل الدراسة، والمقارن: الذي يبرز أوجه التشابه والاختلاف بين سلوك التنظيمات والكيانات المسلحة محل الدراسة في علاقاتها مع الحاضنة الشعبية ومقارنتها بالحالة السورية. وقد تم اختيار حركتَي “حماس” و”طالبان” لوجود أوجه تشابه متعددة مع حالة الفصائل السورية، منها: هذه الكيانات تنظيمات عسكرية ولها أذرع سياسية أو تسعى للعب دور سياسي، وجميعها وُجدت في حالة فراغ السلطة، مع حاضنة شعبية مرهقة[8].
تنقسم الورقة إلى سبع فقرات يمثل كل منها عاملاً من العوامل التي يمكن أن تعزز علاقة الكيانات العسكرية بحاضنتها: نبحث في الأولى تقديم رؤية تتناسب وهوية المجتمع، وفي الثانية الالتزام القطري، وفي الثالثة التمسك بأهداف القضية، وفي الرابعة توظيف النجاحات العسكرية سياسياً، في حين نتناول في الخامسة بسط الاستقرار الأمني، وفي السادسة حسن إدارة المناطق، وفي السابعة الانخراط في البيئة المهيِّئة للتعافي الاقتصادي.
1- تقديم رؤية تتناسب وهوية المجتمع: الكياناتُ بنتُ بيئتِها
تسعى غالبية الحركات والتنظيمات في زمن الثورات -والتحرر الوطني بشكل خاص- إلى تقديم رؤية تتوافق وتنسجم مع الهوية العامة للمجتمع الذي تنتمي إليه، والالتزام عملياً بها؛ بما يساعدها على حيازة نوع من الشرعية المنبثقة من انتمائها وحاضنتها للهوية ذاتها[9].
في الحالتَين الفلسطينية والأفغانية نجد أن حركتَي “حماس” و”طالبان” نجحتا من الناحية النظرية في تقديم رؤية تتناسب مع الهوية العامة للحاضنة الشعبية؛ فقد حرصت “حماس” في وثيقة المبادئ والسياسات الصادرة عام 2017 على تأكيد الهوية الوطنية الجمعية التحريرية بعمقها العربي والإسلامي[10]. وقدّمت “حركة طالبان” نفسها كذلك الأمر على أنها جزء من الشعب الأفغاني، وبقالب ديني وقبلي ينسجم مع طابعه[11].
لقد تعرضت هذه الرؤية النظرية الأيديولوجية في كلتا الحالتين لنكسات عملية -إن صح التعبير- عند شرائح من الحاضنة الشعبية التي يفترض أن تلتف حولها عندما تبنّت الحركتين بشكل أو بآخر سلوكيات تمس هوية سائدة في المجتمع إفراطاً أو تفريطاً.
يرى البعض أن “حركة حماس” سعت في بعض حراكها لفرض أنماط سلوكية معينة مما يدخل في مجال “الحريات الشخصية”، مثل فرض طريقة اللباس وقصة الشعر، فضلاً عن فرض الحجاب على المحاميات داخل قاعات المحاكم؛ الأمر الذي أثار الجدل والاعتراض ضمن أوساط شرائح من الحاضنة لما فيه من مساس بحريتهم وعدم احترام خصوصياتهم[12].
كذلك أثارت الممارسات المنسوبة لـ “حركة طالبان” خلال فترة حكمها في تطبيق أيديولوجيتها وإجبار الناس على تطبيق “فهمها للإسلام”؛ كتحديد مقدار طول معين للحية، وصولاً إلى تعطيل مدارس البنات ومنع خروج النساء دون مَحرم إلى الشوارع حفيظة شرائح من الحاضنة باعتبارها اعتداءً وتدخلاً في خصوصيات الأفراد، فضلاً عن إلزامهم “بتفسيرات متشددة” للشريعة الإسلامية قد لا توافق عليها شرائح واسعة من المجتمع الأفغاني[13].
مع بدايات الثورة السورية لم نشهد من “فصائل الجيش الحرّ” خطاباً بعيداً عن طبيعة المجتمع السوري المتسامح والمحافظ في الوقت ذاته[14]، ولعل بيانات تشكيلها كانت إحدى أهم المؤشرات في هذا الصدد[15]؛ غير أن عوامل متعددة منها دخول “الفصائل المتطرفة” التي تبنّت خطاباً وسلوكاً غريباً عن طبيعة المجتمع السوري دفع لاحقاً بعض الفصائل -تحت ضغط المزاودات- إلى تغيير هويتها الظاهرة من أجل مسايرة هذه الفصائل[16]، ودفعها للقيام ببعض السلوكيات التي تعدّ غير سائدة في المجتمع السوري[17]، وهو الأمر الذي سيتراجع لاحقاً مع تراجع نفوذ خطاب “التطرّف والغلوّ”.
2- الالتزام القطري: حوامل وطنية
من أهم العوامل التي تساعد الكيانات المسلحة على تثبيت حضورها لدى الحاضنة -من حيث المبدأ- شعور الأخيرة أن تلك الكيانات ملتزمة بقضاياها الداخلية، ولا ترتبط بأية مشاريع خارجية، لاسيما إن كانت تتعارض مع مصالح الحاضنة؛ إذ سيتشكل في الغالب انطباع عام أن التضحيات التي قد تُقدم لحماية هذه الكيانات تصبّ في صالح أجندات خارجية[18].
التزمت “حركة حماس” منذ نشأتها بهدفها القطري وهو تحرير الأراضي الفلسطينية من “إسرائيل”، وهذا ما أكدته في وثيقة المبادئ والسياسيات العامة للحركة في الأول من أيار/مايو 2017[19]؛ حيث تَعُدّ حماس أرض فلسطين ساحة صراعها العسكري ضد “إسرائيل”، وتحرص على عدم نقل هذا الصراع إلى أيّ ساحة أخرى. وتؤكد أنّه ليس للحركة معركة مع أيّ طرف دولي، ولا تتبنّى الحركة ضرب أو مهاجمة مصالح وممتلكات الدول الأخرى[20].
في الحالة الأفغانية تصرّ حركة طالبان في السنوات الأخيرة على أن نطاق تدخلها السياسي وعملها العسكري لا يتجاوز الأرض الأفغانية، وأنها لم ولن تقوم بأي عمل عسكري خارج حدود أفغانستان[21]، وأنها لن تسمح لأحدٍ باستخدام أراضيها لشنّ هجمات خارجية[22]؛ فلا يكاد يخلو خطاب أو بيان في الأهداف والمشروع السياسي لطالبان من مصطلحات المصالح والآمال والقيم “الوطنية” جنباً إلى جنب مع الشريعة والنظام والأصول “الإسلامية”[23].
في سياق الثورة السورية تنبّهت الكيانات العسكرية السورية إلى هذه النقطة في أواسط عام 2014 بعد أن جرَّت بعضَها الفصائلُ العابرةُ للحدود كتنظيمَي “داعش” و”جبهة النصرة سابقاً” إلى فخّ الخروج في خطابها عن نطاق القطرية ولو من الناحية النظرية[24]؛ فأصدرت الفصائل “ميثاق الشرف الثوري” الذي أكد على اقتصار العمل العسكري داخل الأراضي السورية، والاعتماد على العنصر السوري فقط[25]. وقد تكرس الخطاب الوطني مؤخراً عبر سلوكيات وتصرفات متعددة، منها: رفع علم الثورة، وأسماء الكيانات العسكرية “الجيش الوطني” و”الجبهة الوطنية للتحرير”، والاقتصار على العنصر السوري.
بالمقابل أسهمت الأنباء التي انتشرت عن مشاركة بعض عناصر الفصائل المحسوبة على الجيش الوطني في معارك خارجية في ليبيا[26] وأذربيجان[27] في الإيحاء بعدم التزام الكيانات السورية المسلحة بالعمل العسكري داخل الحدود السورية، مما تسبّب في توجيه الانتقاد لها من شرائح سورية متعددة[28].
3- التمسك بأهداف القضية[29]: ضرورة الخطوط الحمراء[30]
يُعد الثبات على المبادئ والالتزام بأهداف الثورة، وافتراض وجود قيادة تؤمن بالثورة وتسعى لنجاحها من أهم معايير كسب الحاضنة الشعبية[31].
في الحالة الفلسطينية نجد أن من أهم الأسباب التي جعلت شرائح من الشعب الفلسطيني تؤيد حركة حماس هو: تمسكها بالثوابت التي أعلنتها قبل 22 عاماً، كرفضها الاعتراف بـ “إسرائيل” أو التنازل عن قضية عودة اللاجئين أو قضية القدس، مما منحها الثقة لدى قطاع واسع من الشعب الفلسطيني، وكانت نتائج انتخابات 2006م أحد أهم الأدلة على ذلك[32].
كذلك استطاعت حركة طالبان لعوامل ذاتية متعلقة بها؛ كوجود قيادة واحدة للملف السياسي[33]، وعبر التكتيكات والاستراتيجيات التي اتبعتها؛ كالتصعيد أثناء المفاوضات والتمسك بملف تبادل الأسرى[34]، والثبات على مبادئ وضعتها والتي تركز على قضيتين، هما: انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، وإقامة النظام الإسلامي في أفغانستان[35].
إن طول أمد الصراع، وطول حالة عدم الاستقرار، وكثرة الضغوطات التي تُمارس على الحاضنة في سبيل التخلي عن مبادئها لا يعطي الحركات والتنظيمات فرصة التنازل عن الثوابت والمبادئ بحجة التخفيف عنها؛ بل على العكس تشير التجارب المقارنة إلى أن عدم تقديم التنازلات -مع تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار والابتعاد عن الفوضى- يؤدي إلى زيادة التفاف الحاضنة حول تلك الكيانات[36]. ولعل ما حصل مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة عقب قرار رئيسه بتشكيل “هيئة عليا للانتخابات”[37]، وما رافق ذلك من تخوُّف لدى الرأي العام في المناطق المحررة من أن يكون ذلك بداية شرعنة لما يسميه نظام الأسد “الانتخابات الرئاسية”[38] مؤشرٌ على صحة فرضية “التمسك بأهداف القضية يؤدي إلى التفاف الحاضنة حول الكيانات السياسية والعسكرية”، والعكس بالعكس.
4- توظيف النجاحات العسكرية سياسياً: السياسة إذ تكمل العسكرة
بعيداً عن الإطار الموضوعي لكيفية التوظيف السياسي للعمل العسكري، والذي يرتبط بالسياق الخاص لكل حالة؛ فإن الجانب الهيكلي “وجود قيادة سياسية وجناح عسكري في هيكلية واحدة” يمثّل أحد أهم العوامل التي تسهم في توظيف العمل العسكري سياسياً.
لقد مكّن وجود قيادة سياسية لحركة حماس “يخضع لها” -ولونظرياً- الجناح العسكري القدرة على توظيف انتصاراتها العسكرية سياسياً؛ فبحسب المتابعين نجحت حماس في اختراق الحصار السياسي المفروض على قطاع غزة، ووظفت ما حصل في حرب “حجارة السجيل”[39] لفتح قنوات دبلوماسية مع أطراف إقليمية ودولية مختلفة[40].
ينطبق الأمر ذاته على حركة طالبان التي وظفت سيطرتها على نصف الجغرافية الأفغانية وقوتها العسكرية بشكل ناجح نسبياً في مفاوضاتها الأخيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي الوقت الذي تمسكت فيه بسلاحها، ولم تخضع لفكرة إيقاف هجماتها أثناء المفاوضات[41] قدّمت مؤشرات على قبولها إيجاد حل سياسي لـ “النزاع الأفغاني”، وانخرطت جدّيّاً في المفاوضات السياسية[42].
في الحالة السورية سيطرت قوى الثورة والمعارضة في أواخر عام 2012 وأوائل عام 2013 على مناطق واسعة من الأراضي السورية[43]، ولكن لم يكن ثمّة مبادرة سياسية مرافقة توظّف هذا التقدم العسكري[44]، ومرّت الانتصارات العسكرية دون مكاسب على الصعيد السياسي الدولي[45]، وذلك لأسباب متعددة، أبرزها: حالة الفصام بين الكيانات العسكرية والهيئات السياسية، والتنازع والتنافر الحاصل بين الشخصيات والقوى السياسية المعارضة[46]، إلى جانب التدخلات الخارجية، وتعارض المصالح بين الدول المتدخلة.
5- بسط الاستقرار الأمني[47]: أولوية في مشهد الفوضى
مع انهيار الاستقرار والسلطة الحاكمة وانتشار الفوضى، وانطلاقاً من أنّ الحاجات الأمنية هي في مقدمة الأولويات بعد الحاجات الفسيولوجية[48]؛ فسيكون من الطبيعي بحث الناس عن الأمن وعن بديل قادر على فرض الحوكمة والنظام، وعلى الحد من أعمال السرقة والسلب التي تزداد في مثل هذه الظروف.
تشير التجارب إلى أنه في حال سقوط المؤسسات الحاكمة “مؤسسات الدولة الرسمية” يكون إيجاد الإدارة الموحدة للبلاد بداية، ومن ثم الحفاظ على الأمن -بعيداً عن تعدد المرجعيات- من أولى الأولويات للحفاظ على الحاضنة الشعبية، وضمان وقوفها جنباً إلى جنب مع الكيانات المسلحة. مع الأخذ بعين النظر أن تعددها وتنازعها على السيطرة الجغرافية ينعكس سلباً على الملف الأمني، والعكس بالعكس؛ بمعنى آخر: لا يمكن إيجاد أمن من غير إدارة موحدة؛ فإذا وُجدت الفصائلية فسيكون غالباً صراعٌ على النفوذ واقتتالٌ داخلي، وهذا بدوره يولّد الانفلات الأمني.
لقد كان للنزاعات التي نشبت بين فصائل المعارضة الأفغانية بسبب الصراع على السلطة دورٌ مهم في إقبال قطاعات كبيرة من الأفغان على حركة طالبان، التي رأوا فيها وسيلةً لتخليص أفغانستان من ويلات تلك الحروب وإعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد، ومشروعاً قادراً على بسط الأمن والتخلص من حالة التشتت الفصائلي[49].
كذلك نجحت حركة حماس نسبياً في توفير الأمن للحاضنة، ومثّلت بديلاً دفع الناس إلى الالتفاف حولها ودعمها في غزة؛ حيث استتب فيها الأمن بشكل ملحوظ، واستطاعت فرض النظام وضبط السلاح وخفض القيادات العشائرية والأنشطة الإجرامية والعدائية[50].
لا يُنكر في الحالة السورية قيام بعض المبادرات والمحاولات الأولية لإيجاد بدائل أو حلول لبسط الأمن[51]، ولكن بالنظر إلى الحالة العامة ككل فقد شهدت الحاضنة الشعبية خيبة أمل كبيرة في هذا الجانب؛ حيث تضررت من الانفلات الأمني[52] وما رافقه من انتشار لحالات الخطف والاغتيالات العشوائية والسيارات المفخخة[53]، إلى جانب حالات القتل عن طريق الخطأ[54]، والاعتقال خارج سلطة القضاء[55].
ولعل أسباباً متعددة أدت إلى هذا الضعف في إدارة “الملف الأمني” لدى فصائل الثورة؛ من أهمها: تعدُّد الكيانات العسكرية وتركيز بعضها على مفهوم الأمن ببعده العسكري الخاص بها “أمنها الخاص”، وإهمال الأبعاد الأمنية الأخرى والأمن الخاص بالحاضنة الشعبية، ونوع السلطة الذي قامت عليه غالبية الفصائل “السلطة المستبدة” في بدايات التشكيل[56]، وهي السلطة التي تدخل في صراع صفري مع أية فواعل أخرى تسعى للوصول إلى مكانها أو تمثل تهديداً لسلطتها؛ وأدّت هذه الأسباب مجتمعةً إلى إضعاف دور أية مؤسسة يمكن أن تسهم في ضبط الأمن الداخلي وقايةً وعلاجاً، كمنظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية[57]؛ فقوة أية سلطة -سواءٌ أكانت حكومية أو ما تحت دولة- هي من قوة المجتمع الذي تحكمه[58].
6- حسن إدارة المناطق: وللحوكمة أثر
إلى جانب ضبط الأمن تأتي أولوية حسن إدارة المناطق المحررة من النواحي الخدمية والإدارية عبر جهات محلية منتخبة كالمجالس المحلية، أو على الأقل إتاحة الفرصة لمنظمات المجتمع المدني القيام بذلك، وبما يساعدها بشكل مباشر على الصمود والوقوف إلى جانب القوى المسيطرة.
في أفغانستان تصارعت الفصائل المسلحة الأفغانية على كابول من أجل الاستئثار بأكبر سهم من السلطة والنفوذ دون التفكير بمصالح الناس ومعاناتهم، بالإضافة إلى فقدانها برنامجاً لإدارة الدولة. وهذا ما هيَّأ الظرف المناسب لطالبان لإحكام السيطرة على كابول، ولتكون بديلاً للحاضنة لإدارة شؤونها وتنظيمها وتقديم بديل “استئثاري” -إن صح التعبير- لإدارة الدولة، بدلاً من “الحالة الفصائلية”[59]. صحيح أن النموذج الاستئثاري الذي قدمته “طالبان” قد لا يكون النموذج المثالي الذي تحلم به الحاضنة وتطالب به، ولكنه في الظروف الاستثنائية يمثّل حلاً مقبولاً وأقل سوءاً من حالة فوضى الإدارة في ظل النموذج الفصائلي.
وفي السياق ذاته يرى البعض أن قطاع غزة في ظل حكم حماس شهد زيادة في المدارس والجامعات والمستشفيات والميادين والمنشآت الحكومية والسياحية، إلى جانب تحرك عملية الاقتصاد المحلي، وإيجاد آليات التجارة الخارجية، ووضع الإستراتيجية الزراعية[60]. ولعل هذا “الاستقرار النسبي الهشّ” يمثل عاملاً مطمئناً إلى حد ما للاستثمار، ودخول المساعدات الخارجية أكثر من “النموذج الفصائلي” الذي يُعد بيئة طاردة للاستثمار، وتخشى فيه الجهات الخارجية من توظيف ما ستقدمه من مساعدات لمصلحة الفصائل المتنازعة.
في سياق الحالة السورية كان لحسن إدارة المناطق الأولوية لدى الحاضنة التي أصبحت تبحث عن استقرار وعن بديل قادر على توفير مستلزمات الحياة الأساسية من الناحية الإدارية، كوجود نظام تعليمي وبنية تحتية لنظام صحي مقبول، ومخافر للشرطة، ودوائر الأحوال المدنية والنفوس[61]…إلخ، إلى جانب أن التنظيم الإداري يصبح في هذه الحالة حاجة ملحّة.
لقد تسبّب غياب المؤسساتية التي تشرف على القطاعات الخدمية وتوزع السلطات والصلاحيات في فشل الحالة الإدارية، كما أسهم غياب المؤسسة في توزيعٍ غيرِ عادلٍ للمهام والموارد والاختصاصيين؛ فتشتت الطاقات، وعمَّت الفوضى، ونشأت سلطات متعددة ومؤسسات متنوعة، تؤدي كل منها جزءاً من المطلوب بحسب إدارتها ومواردها الذاتية، مما أدى إلى استهلاك واستنزاف كبير ونتائج أقل، ولاسيما في المجالات الخدمية[62].
7- الانخراط في البيئة المهيئة للتعافي الاقتصادي[63]: أولويات ما قبل “إعادة الإعمار”
يُعد الملف الاقتصادي من أهم الملفات بالنسبة للحاضنة الشعبية، خصوصاً في البيئات غير المستقرة، والتي تكون النزاعات فيها قد أرهقت المواطنين؛ مما يدفع الأخيرين للبحث عن “روافع اقتصادية” لتجاوز هذا الواقع.
في الحالة الفلسطينية: على الرغم من نجاح حماس في الانتخابات وحصولها على أغلبية أصوات الناخبين؛ إلا أن انتقالها من مقعد “المعارضة” و”الكفاح المسلح” إلى حالة “الحكم والمؤسسات” فرض عليها السعي إلى تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين في غزة، وهنا كان الحصار معيقاً لها على المدى الطويل؛ فالأوضاع الاقتصادية ازدادت سوءاً وأضحت شرائح اجتماعية واسعة تحت خط الفقر، وتراجع الوضع الصحي والغذائي، وشهدت الأسواق في أوقات كثيرة حالة من الركود وغلاء المعيشة[64].
في الحالة الأفغانية: نجد أن حركة طالبان استفادت من تجربتها القاسية في الحكم 1996-2001[65]، وتسعى اليوم إلى تقديم نفسها على أنها حركة سياسية مشروعة قادرة على إدارة الخدمات وحكم البلد، ساعية إلى ملء الفراغ كمشروع حكومة[66].
في الحالة السورية: وفي مراحل الثورة أو الانتفاضة الأولية حيث “طور الهدم”[67] لم تتركز مطالب الحاضنة على الخدمات بقدر ما كان المطلوب هو التخلص من النظام البائد وهدم مرتكزاته[68]. ولكن مع مرور الوقت وتحقيق الانتصارات على الأرض -وإن لم تصل إلى مرحلة الانتصار الكامل- تشكّل شعور لدى الناس بأن الثورة انتقلت من “طور الفوضى” إلى “طور الوضع المنظم النسبي”[69]، مع ما يتطلبه ذلك من السعي إلى إعادة توفير الخدمات بحدها الأدنى[70]، ويسهم في ذلك بصورة مباشرة طول “فترة النزاع” التي لن تصبر عليها الحاضنة كثيراً في الغالب.
لقد وقع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ومعه معظم الفصائل العسكرية السورية في أحد أهم الأخطاء، وهو: سعيها لتقديم خدمات كالماء والكهرباء والمساعدات الإنسانية بنفسها، بقصد حيازة ثقة الحاضنة الشعبية؛ مع أن إمكانياتها والظروف المحيطة بها لا تعطيها القدرة على إدارة مثل هذه الملفات المكلفة[71]، حيث أسهم طول فترة الثورة وضخامة الاحتياجات وضعف الخبرات، إلى جانب استمرار الأعمال العسكرية، مع عدم وجود بوادر لحل سياسي في تأخر “إعادة البناء”.
وبالتالي فقد يناسب في ظل هذا الوضع الاستثنائي أن يقتصر دور التنظيمات والكيانات السورية على تحقيق الحوكمة[72] التي تيسر على منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية بشكل خاص تقديم خدماتها للمجتمع، ريثما يتم الدخول في مرحلة “الحل السياسي” والمرحلة الانتقالية التي يمكن في ظلها أن تنخرط هذه القوى في مؤسسات الدولة الجديدة، وتتولى هذه المؤسسات الإشراف على عملية “إعادة الإعمار”.
خاتمة ونتائج:
لعل العناصر والعوامل المشار إليها سابقاً تمثّل أمراً معروفاً لمتتبّعي مسار الفصائل العسكرية السورية، خصوصاً في الآونة الأخيرة؛ ولكنّ تقديم الإطار المقارن يؤكد فرضية أن ما حدث مع الفصائل السورية ليس أمراً حادثاً وطارئاً بقدر ما هو مسار سنني[73].
إذا كانت الكيانات العسكرية تشبه الدول من جهة أن السلوكيات والأعمال المشار إليها تسهم في كسب الحاضنة الشعبية، والعكس بالعكس؛ فإن قوة مؤسسة الدولة والشرعية التي تحوزها خارجياً قد يُضعف من تأثير تخلّيها عن هذه الأعمال[74]، على عكس التنظيمات والحركات التي مهما بلغت قوتها فإنها تبقى -ولو نظرياً- في موقف أضعف من الدولة، وبالتالي تكون في حاجة أكبر لتأييد الحاضنة[75].
النتيجة الأبرز التي وصلت إليها الورقة-في سياق تطوير الأداء لقوى الثورة والمعارضة السورية إلى ما تصبو اليه حاضنتها الشعبية-: أن ما نجحت فيه الحركات محل المقارنة “حماس وطالبان” -ولو نسبياً- فشلت فيه فصائل الثورة السورية كذلك نسبياً؛ فثمّة نجاح في السنوات الأخيرة على مستوى الرؤى والنصوص من جهة تقديم رؤية تتناسب وهوية المجتمع والالتزام بالإطار الوطني والتمسك بأهداف القضية السورية، غير أن الإشكالية كانت وما تزال في مستوى التطبيق العملي لهذه المبادئ، وفي تطبيق العوامل الأخرى “بسط الاستقرار الأمني وحسن إدارة المناطق والانخراط في البيئة المهيئة للتعافي الاقتصادي”؛ ولقد أوضح تحليل التجارب محل الدراسة “حماس وطالبان” أنه لابد من التكامل بين الرؤى والتنفيذ[76].
إذا كانت فصائل الثورة السورية قد نجحت نسبياً في الجوانب النظرية المتعلقة بالرؤى والمواثيق فإنها أخفقت -كذلك نسبياً- في الجوانب الأخرى العملية، خصوصاً على المستوى السياسي والأمني والإداري والحوكمي، وفي إيجاد نموذج قريب من الحالات المقارنة؛ إذ أسهمت عوامل متعددة -داخلية وخارجية- في هذا الفشل النسبي، منها: الافتقاد لعامل الاستقرار الناتج عن عدم الوصول إلى فترة “وقف إطلاق النار”، والعمليات العسكرية الروسية التي جعلت أفكاراً من قبيل تطبيق معايير الحوكمة وترميم الواقع الاقتصادي فكرة نظرية بعيدة عن الواقع، مع التأكيد هنا أن الأمر نسبيّ إلى حد ما، خصوصاً مع تفاوت “واقع الاستقرار” في المناطق المحررة بين إدلب ودرع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، وأحياناً داخل المنطقة الواحدة.
ومع ذلك تبقى هنالك هوامش لتحقيق هذه العوامل على مستوى واقع المناطق المحررة؛ إلا أن الأمر مرتبط بقدرة الفصائل العسكرية على تحقيق الشروط الذاتية لإنجازها، والتي يأتي في مقدمتها إيجاد حالة التشبيك بين العسكري-السياسي، وإيجاد حامل هيكلي قادر على استغلال الهوامش المتاحة للارتقاء أكثر بالواقع، وإلا فستبقى في دائرة مفرغة، وستستمر العلاقة بين الكيانات والحاضنة الشعبية في حالة أقرب للفصام.
لقد اتضح أن كسب ثقة الحاضنة الشعبية عملية تكاملية تتطلب جهوداً من الكيانات المسلحة في جوانب مختلفة سياسية واقتصادية وخدمية؛ غير أن ذلك لا يعني تصدّي الفصيل بنفسه لكل هذه المهام، بقدر وجود أجهزة تخصصية تتولى هذه المهام، سواء كانت في كيان أو مؤسسة واحدة كما هو الأمر في حالتَي “حماس” و”طالبان” أو في مؤسسات متعددة.
بذلك نكون قد انتهينا من الوقوف على أسباب تراجع الحاضنة الشعبية، سواء عبر دراسة حالة قوى الثورة والمعارضة أو عبر دراسة بعض الحالات المقارنة، لننتقل بعد ذلك في الإصدارات القادمة إلى تقديم ملخصات سياساتية لهذه القوى، تتضمن مجموعة من الحلول والتوصيات لتحسين علاقتها بالحاضنة الشعبية.
لتحميل الإصدار PDF:
عوامل تعزيز ثقـة الحاضنة الشعبية بالكيانات المسلحة: دراسة حالة حركتي حماس وطالبان
لتحميل الإصدار السابق:
“الثقة السياسية أم الحاضنة الشعبية؟ محاولة لتفسير تراجع حاضنة الثورة” ورقة تحليلية
يُنظر: أحمد أبا زيد، تحالف التطرّف والاستبداد ضد الثورة في سورية، العربي الجديد، 2017-08-06، 2021-04-08، وسلام السعدي، تحولات في صفوف المعارضة السورية المسلحة، مركز مالكوم كير- كارنيغي، 2015-12-11، شوهد في: 8-4-2021.
يُنظر: حمزة المصطفى، الثورة السورية 2013: تراجع وتنافر و”داعش”، العربي الجديد، 2014-03-16، شوهد في: 2021-01-30.
ويوسف غريبي، بلا هوية ولا توثيق.. مواطنون لا يراهم القانون في إدلب، جريدة عنب بلدي، 24-05-2020، شوهد في: 2021-01-30، وشو مشكلتك.. الأوراق الثبوتية في ريف حلب، جريدة عنب بلدي، 25-11-2019، شوهد في: 2021-01-30.
2019-04-12، 2021-03-22،
4 تعليقات