في الإجابة على سؤال ما العمل؟ تصورات لبناء الثقة الاجتماعية بين السوريين
مقال تحليلي من إعداد وحدة التوافق والهوية المشتركة
مقدمة:
في كل مرحلة مفصلية تمرُّ بها القضية السورية يتجدد تساؤل: “ما العمل؟” الذي تؤرّق إجابته عموم السوريين وكتّابهم، ثم تُطرح عدة رؤى ومقترحات للخروج من الحالة المزرية التي وصلت إليها قضيتنا، ومع الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة السورية كُتِبت عدة مقالات في هذا المجال؛ حاولت جميعها تقديم تصورات لإنقاذ السوريين وقضيتهم.
لابد ابتداءً من التأكيد أنه من الطبيعي أن تتعدد الحلول والرؤى، كما يُفترض النظر إلى هذا التعدد من زاوية تخصصية تكاملية؛ فالحلول تكمّل بعضها بعضاً.
فقد ركّز فريقٌ في طرحه على المسار السياسي الأممي الذي يستند إلى قرار مجلس الأمن 2254، في حين خرج فريقٌ ثانٍ من صندوق الحل السياسي ليركز على الحلول الهيكلية التي ما فتئنا نسمع بها منذ انطلاق الثورة السورية؛ وعلى رأسها “إيجاد قيادة واعية من السوريين تتولى إدارة دفة المرحلة”، وذهب فريقٌ ثالثٌ إلى أنه لا فائدة من أي حلّ إذا لم يستند إلى رؤية توافقية لسورية المستقبل “الحلول الموضوعية”.
وعلى الرغم من أهمية الحلول المطروحة وإمكانية العمل عليها بالتوازي، لاسيما وأن كل واحد منها يغطي زاوية مهمة في صورة الحل الكامل لبناء دولة وطنية سورية قائمة على مبادئ الحرية والكرامة والحقوق والحريات؛ إلا أن الانخراط في أي منها يتطلب الرجوع خطوة إلى الوراء عبر السعي إلى تكريس الثقة بين السوريين.
ولكنْ هل تعزيز الثقة بين السوريين في ظل الظروف الحالية أمرٌ يمكن العمل عليه؟ وهل الثقة المقصودة هي الثقة بين المكونات أم الثقة بين الأفراد؟ وما هي الوسائل والعوامل التي يمكن أن تساعد في بناء الثقة بين السوريين؟
نعتقد أن هذه أسئلة مكمّلة وضرورية تحتاج إجابة، خصوصاً وأن الواقع السوري بتعقيداته والتطورات المتسارعة التي يمرُّ بها قد قلب المجتمع السوري رأساً على عقب؛ الأمر الذي يتطلب مواكبة هذه التغيرات وتحليلها وتقديم توصيات عملية يمكن العمل عليها.
قبل الحديث عن موضوع الثقة وأبعادها ومحدداتها في الحالة السورية نستعرض أبرز الحلول التي يطرحها السوريون للخروج من الواقع الحالي.
في التركيز على مسار الحل السياسي:
في نظرتها نحو مسار الحل السياسي ترى الشريحة الأكبر من قوى الثورة والمعارضة العسكرية منها والسياسية وكذلك من الشخصيات السورية أن الحل المتاح للقضية السورية هو: بالدرجة الأولى “حلّ سياسيّ” وفق القرارات الدولية وخصوصاً بيان جنيف1 لعام 2012؛ وذلك عبر هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، مع ضرورة توفر ضمانات دولية[1]، مثل أن يكون ثمّة بند رئيسي في المفاوضات حول تشكيل هذه الهيئة، وتحديد جدول زمني لعمل اللجنة الدستورية[2].
وفي هذا الإطار هناك مَن يركز على فكرة “العدالة الانتقالية”؛ بوصفها أحد المخارج التي يمكن للسوريين العبور منها بعد سنوات من الصراع عبر تطبيق مفاهيمها وتبنّي مؤسساتها[3]. وفي المقابل هنالك مَن يركز على “الملف الحقوقي والإنساني”؛ حيث يرى أن السوريين يمكن أن يستفيدوا تراكمياً من الأدلة والوثائق أمام المحاكم الدولية، شريطة تحول النشاط الحقوقي من فردي إلى جماعي، عبر العمل المؤطر والقائم على التنسيق بين الأفراد والمنظمات الحقوقية[4].
وفي سياق سيناريوهات تطبيق الحل السياسي ثمة رأي يتبنى تصوراً خاصاً لتحقيق ذلك؛ عبر مرحلة “قبل انتقالية” تتشكل فيها لجنة رئاسية تضم رأس نظام الأسد، وتطلق سراح المعتقلين وتعفو عن المطلوبين سياسياً، وتفتح الحدود لعودة اللاجئين، وتمهد لانتخابات محلية ثم برلمانية؛ يخرج في نهايتها بشار الأسد من الحكم[5].
يُضاف إلى ذلك مَن خرجوا عن فكرة هيئة الحكم الانتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية التي وردت في بيان جنيف1، ونادوا بتطبيق فكرة “المجلس العسكري”[6].
في التركيز على الحلول الهيكلية:
بعيداً عن فكرة المسار السياسي الحالي تذهب عدة شخصيات سورية إلى التركيز في أطروحاتها على الحلول الهيكلية؛ كتشكيل هيئات سياسية جديدة، أو إعادة بناء النخب السورية، أو حتى إصلاح مؤسسات المعارضة القائمة.
ينطلق البعض من فكرة إصلاح قوى الثورة والمعارضة لأنه يرى في تكريس مبادئ الحكم الرشيد في المجالات العسكرية والسياسية والخدمية فرصة يمكن أن تسهم في تحسين الواقع الحالي[7]. ولعل ذلك يتقاطع مع فكرة أخرى تنادي بالتركيز على إصلاح المؤسسات السياسية الحالية، بما يوحّد النخب السياسية والثقافية على أسس جامعة تحدّ من خلافاتها، ويدفعها إلى التعاون مع منظمات المجتمع المدني (خارج مناطق النظام) باعتبارها الحلقة الوسيطة مع القطاعات المجتمعية التي حملت الثورة، لتشكل بذلك جسداً سياسياً فاعلاً يسهم في خروجها من حالتها الحالية العبثية المبعثرة[8].
وثمّة أطروحات ترى أهمية العمل على بناء مؤسسة سياسية تعبّر عن الصوت الوطني وإرادة السوريين وتحقق أهداف الثورة، ويكون ذلك من خلال فريق يتكون من أفراد بصفتهم الشخصية، يتولون بناء كتلة وطنية تحدد رؤية العمل الوطني للمرحلة الراهنة والانتقالية، مع رسم صورة لمستقبل البلاد، بعيداً عن العقائد والأيديولوجيات، ولا يكون لها أية مآرب للتمثيل والمزاحمة[9].
وفي السياق ذاته ثمة مَن يفصّل في طبيعة مهام مثل هذه المؤسسة؛ فيرى ضرورة أن تتولى مهمة التنسيق في الأعمال، أي أن تقوم بدور المنسّق بين القوى الثوريّة والتنظيمات السياسيّة والمجتمعيّة[10] بما يحقق التكامل فيما بينها داخل سورية وخارجها، كلٌّ في مجاله واختصاصه، لتسهم نتائج عمل الجميع في تحقيق الأهداف التي قامت الثورة من أجلها[11].
وعلى جانب آخر هناك رأي يصبّ جلّ اهتمامه على إيجاد حلول طويلة الأمد؛ ففي ظل حالة انعدام الوزن والثقة والتنظيم المنتشرة في معسكر قوى الثورة والمعارضة، والتي قد تؤدي إلى حرمانها من المشاركة في عملية انتقالية محتملة وتقرير مصير سوريا؛ فإنه يجب السعي لبناء جيل من النشطاء السياسيين والمثقفين الشباب المتحررين من ثقافة الماضي وتقاليده، واستكمال ما لم يستطع الجيل السابق إنجازه، وبناء مؤسسات قوية، واستعادة ثقة السوريين؛ لأن السلطة مستقبلاً لن تسقط إلا في يد مَن لدية شبكة من الأطر الجامعة والفاعلة[12].
في التركيز على الحلول الموضوعية:
إلى جانب الآراء التي ركزت على الحلول الهيكلية ثمّة آراء أكدت على ضرورة الحلول الموضوعية، والتي ترى أن الخروج مما وصل إليه السوريين يحتاج إلى التركيز على الخطاب السياسي والاجتماعي.
إذ يرى بعض هؤلاء أننا -مع تفكك البلاد وتحولها إلى أشباه دويلات متصارعة- سنكون أمام سوريا محطَّمة وبعيدة عن أية فرص للتطور، وهذه الحالة ستؤدي إلى إلغاء الشعب السوري بالمعنى السياسي، وتحويله إلى طوائف وجماعات تتنازع في إثبات هويتها، وبالتالي فإن الشعور الأولي بحالة التحرر من الاضطهاد سيكون مؤقتاً، وستعود غالبية المشاكل المتعلقة بفقدان الشعور بالانتماء والهوية الوطنية، وستتحول المناطق السورية إلى قنابل موقوتة وحواضن للتطرف والعنف والإرهاب؛ والحل لكل ما سبق إعادة بناء دولة المواطنة وتعزيز روح الوطنية والعدالة وحكم القانون[13]، وهذا الحل الذي يبدو محل اتفاق لدى شريحة واسعة من السوريين[14].
وفي السياق ذاته تتوارد مصطلحات متعددة مثل “السلم الاجتماعي والعيش المشترك”[15]، و”تمتين النسيج المجتمعي الوطني السوري”[16]، و”الاصطفاف الوطني” و”تجديد الخطاب الوطني”[17]، و”السلم الأهلي السوري”[18]؛ إلى غير ذلك من المصطلحات التي تشير إلى ضرورة السعي لتجاوز الانقسامات التي تعمقت داخل المجتمع السوري، والسعي لإعادة اللحمة الوطنية بين مكوناته.
فثمّة تركيز من قبل البعض على معالجة الأوضاع السيئة التي وصلت إليها القوى والتيارات السياسية المعارضة؛ فنادوا بضرورة “التسوية الشاملة بين القوى السياسية السورية” بمختلف مشاربها، عبر الاستفادة من تضحيات الشعب في تسوية تمثيلها وترقية عملها السياسي لصالح الشأن العام والوطني والديمقراطي[19]. وهنا يذهب هذا الرأي إلى أن أساس هذه التسوية هو تحقيق التوافق بين التيارين “الإسلامي” و”الديمقراطي” السوريين، وهو ما يمكن أن يسهم في إيجاد أرضية مشتركة يقوم عليها البناء السياسي لسوريا المستقبل، عبر الحوار والتوافق والتخلي عن الذوات الحزبية والأيديولوجية الخاصة، مع التمسك –في الوقت ذاته- بمبدأي سيادة الشعب والمواطنة المتساوية[20].
ماذا قبل ذلك؟ تعزيز الثقة بين السوريين
ثمة اتفاق بين شريحة من الكتّاب السوريين على أن الانخراط في أي حل يتطلب وجود الثقة بين السوريين[21]، وأن هذه الخطوة ضرورية للنجاح في أي حل يمكن أن يُخرج السوريين من الحالة التي أوصلهم نظام الأسد إليها.
وهنا نعيد طرح الأسئلة السابقة: ما هي أنواع الثقة؟ وهل المطلوب في الحالة السورية تحقيقها كلها؟ وما هي محدداتها؟ وهل يمكن العمل على كل هذه المحددات؟ وهل لهذه المحددات الأثر نفسه في تحقيق الثقة، أم أن لبعضها أهمية وأولوية في السياق السوري؟
الثقة: أبعاد أربعة
تشير الدراسات الاجتماعية عادة إلى جوانب متعددة لمفهوم الثقة؛ الأول: يطلق عليه عادة مفهوم الثقة الاجتماعية (Social trust) أو الثقة الاجتماعية المتبادلة (Interpersonal trust)، ويقصد بها: “توقّع متفائل واطمئنان نحو كفاءة وإخلاص الآخرين أفراداً ومؤسسات”، وينشأ هذا التوقع وفقاً للخبرات المتراكمة خلال العلاقات الاجتماعية، وتعطي التزامات اجتماعية متبادلة؛ مما يضفي على الحياة الاجتماعية طابع التعاون والتضامن وتصبح أكثر تماسكاً”. الثاني: هو مفهوم الثقة السياسية (Political trust) الذي يشير إلى “توقعات المواطنين لنمط الحكومة التي ينبغي أن تكون عليه، وكيف ينبغي للحكومة أن تعمل وتتفاعل مع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، ومع مجموعة المواطنين وسلوك الموظفين المدنيين”، وثمّة مفهوم ثالث يشير إلى مدى ثقة الفرد بالعالم الخارجي؛ أي: اعتقاد الفرد أن المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما يجري في العالم من أحداث يتيح للناس إمكانية الحصول على ما يستحقونه[22].
تشير هذه المفاهيم للثقة إلى وجود أبعاد متعددة تشمل: الثقة بالأفراد “الطبيعة البشرية”، والثقة بالجماعات[23]، والثقة بالمؤسسات (الثقة السياسية)[24]، والثقة بعدالة العالم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي[25].
مخطط توضيحي رقم /1/ يبين أبعاد الثقة
لعل مفهوم الثقة بالدول والمؤسسات الدولية لا يدخل ضمن ما نقصده بالثقة هنا كأساس للحلول في سوريا؛ لأنه يرتبط بسلوك المؤسسات والدول الخارجية السياسية والاقتصادية أكثر من ارتباطه بالسوريين أنفسهم من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يكون هذا الجانب أقرب إلى النتيجة منه إلى أن يكون حلاً لما وصل إليه السوريون؛ أي أن تعزيز الثقة بين السوريين وقدرتهم على إيجاد حل عادل ومنصف لقضيتهم قد يؤدي إلى وجود نظرة إيجابية مع العالم الخارجي.
تبقى الأبعاد الثلاثة الأخرى للثقة الاجتماعية المتمثلة في: الثقة بالأشخاص “الطبيعة البشرية”، والثقة بالجماعات، والثقة بالمؤسسات[26]؛ وهي أبعاد الثقة الاجتماعية التي يكون فيها الفرد هو الأساس والمنطلق، ونعتقد أنها الثقة التي تمثل أساس أي حل في سوريا، ومن دونها تكون الأبعاد الأخرى للثقة كالثقة بين الكيانات والمؤسسات ثقة “نخبوية” -إن صح التعبير- تفتقد للأساس المجتمعي.
فما هي محددات الثقة الاجتماعية بأبعادها الثلاثة؟ وهل يمكن العمل على تحقيقها بشكل إيجابي في الحالة السورية؟
محددات الثقة الاجتماعية وحضورها في الحالة السورية:
هناك مدرستان أساسيتان حول محددات الثقة الاجتماعية: فالأولى يُشار إليها بـ “النظرية الموجهة للفرد”؛ وهي التي ترى أن الثقة الشخصية ملكية فردية مرتبطة بالفرد وسماته الشخصية (بما في ذلك الأخلاق) وخصائصه الاجتماعية والديموغرافية، مثل العمر والحالة الاجتماعية والجنس والتعليم والدخل والدين. والمدرسة الفكرية الثانية يُشار إليها بـ “النظرية القائمة على المجتمع”؛ وترى أن الثقة الشخصية ليست ملكية فردية ولا تحددها الخصائص الفردية، بل خاصية منهجية للمجتمع مرتبطة بخصائصه الوطنية، مثل التاريخ والثقافة والاقتصاد والمؤسسات والجغرافيا والسياسة العامة[27].
ودون الإطالة في هذا التصنيف نستعرض أهم محددات الثقة الاجتماعية، مع نظرة أولية لإمكانية التعامل معها في السياق السوري[28]:
ثقافة الثقة: مسؤولية الأسرة السورية
تتأثر الثقة الاجتماعية بالتربية والأخلاق، لاسيما في مرحلة الطفولة[29]؛ وهذا يحمّل السوريين المقيمين في المناطق المحررة وفي بلاد اللجوء، أفراداً ومؤسسات وجماعات، عبء تكريس ثقافة الثقة بغيرهم من السوريين، بما فيهم أولئك المقيمون في مناطق سيطرة نظام الأسد ممن لم يرتكبوا جرائم بحق السوريين، ومن باب أولى تجاه المقيمين في المناطق المحررة وبلاد اللجوء ومناطق النزوح، والابتعاد عن خطاب التخوين والعمالة في حياتهم ومعاشهم، بحيث ينشأ هذا الجيل حاملاً ثقافة الثقة، ويكون عماد المجتمع السوري المستقبلي في نشرها وتكريسها[30].
العاملان العرقي والديني: دور جزئي
تكون الثقة الاجتماعية عادة مرتفعة بين الأشخاص الذين يعودون لخلفية عرقية أو دينية واحدة، ولكن في المقابل يكون للعاملين آثار سلبية في حال تعدد المجموعات العرقية والدينية إن كان المجتمع غير متجانس؛ إذ تثق كل مجموعة بالأفراد الذين ينتمون إليها، بينما لا تثق بالآخرين؛ وهذا ما يعزز الانقسامات في حال التعدد الديني والعرقي[31].
ولهذين العاملين خصوصيتهما في الحالة السورية؛ إذ يمكن الاعتماد عليهما في تعزيز الثقة الاجتماعية داخل المكون الواحد بصورة أساسية؛ لأنه على سبيل المثال: في حالة العامل الديني هناك مؤسسات ومرجعيات دينية لها حضورها، يمكن أن تقدم خطابها للفئات المتأثرة به لتعزيز الثقة بين أفراد المكون ذاته وفي الوقت عينه، لتخفيف احتقانات هذا المكون تجاه المكونات الأخرى، ولكنْ من الصعوبة بمكان تخيُّل إمكان أن لهذه المرجعيات دوراً شاملاً على مستوى الثقة الاجتماعية السورية، خصوصاً وأن ثمّة شروخاً عميقةً جعلت كل مكون مع المرجعيات الفاعلة فيه منغلقاً على ذاته، وغير قادر على التأثير في غيره من المكونات[32].
أنظمة القانون والمؤسسات: خارج التأثير
تشكّل مؤسسات الدولة العادلة والفاعلة أساساً للثقة بالمؤسسات، لاسيما في تحقيق الأمن العام؛ وفي هذا الصدد ثمّة مَن يرى أن هنالك رابطاً بين ثقة الأفراد بمؤسسات الدولة والثقة الاجتماعية، فعدم المساواة بين الأفراد والظلم وغياب مبدأ سيادة القانون يسهم في انخفاض مستوى الثقة. وهذا المحدد يسهم بصورة فاعلة في ارتفاع مستويات الثقة الاجتماعية في الدول الديمقراطية، وعلى العكس في الدول المتسلطة؛ نظراً لتمتع المواطنين في الأولى بحرية التنظيم والمشاركة في النشاطات السياسية والاجتماعية وبحماية الحقوق والحريات العامة[33].
كذلك إذا كان الفساد منتشرًا بشكل كبير في المجتمع فإنه يؤدي إلى اختلال وظيفي في المجتمع يجعل من عدم الثقة قاعدة اجتماعية يصعب تغييرها، مما يترك آثارًا ضارّة طويلة الأمد على المجتمع، وكذلك على الثقة في المؤسسات[34].
وإذا كانت مؤسسات نظام الأسد خصوصاً العسكرية والأمنية منها بجرائمها، والخدمية منها بفسادها قد أفقدت المواطن السوري أية ثقة بها؛ فإنه على الجهة المقابلة -سواء في المناطق المحررة أو في مناطق سيطرة “قسد”- لم تستطع بعدُ المؤسسات الموجودة كالمجالس المحلية والفصائل العسكرية أن تحقق شروط اكتساب الثقة المؤسساتية[35] لأسباب متعددة، من أبرزها عدم قدرتها على ضبط الأمن وضعف فعاليتها[36].
في ظل الظروف الحالية فإن توصيات محقة موضوعياً، من قبيل: ضمان حق المشاركة والتشاركية في اتخاذ القرار، وتفعيل دور الإعلام لتعزيز مفهوم الشفافية وضمان حرية التعبير، وحفظ الأمن ومواجهة حالات الخطف والقتل والخطف وغيرها من الظواهر، وإنشاء مؤسسة قضائية مستقلة نزيهة، وفصل السلطات التشريعية عن التنفيذية[37]؛ تبدو أقرب إلى التوصيات النظرية سياقياً في ظل حالة الهشاشة التي تعاني منها مؤسسات الحكم والإدارة القائمة في مختلف المناطق السورية، وحالة التوتر وعدم الاستقرار التي يعاني منها المجتمع السوري.
العامل الاقتصادي: تأثير سلبي
يسهم التطور الاقتصادي في تعزيز الثقة بين الأشخاص؛ حيث تكون الثقة الاجتماعية مرتفعة في المجتمعات الأكثر رفاهية وتنخفض فيها نسب الفساد، فالأفراد الذين يتمتعون بوضع اقتصادي جيد يكون لديهم ميل أعلى للثقة بالآخرين، وعلى العكس؛ فالأشخاص الذين يعانون من الفقر والتمييز والاستغلال والبطالة والإقصاء الاجتماعي لديهم ميل أقل للثقة[38].
في ظل الدمار الذي لحق الاقتصاد السوري بمختلف جوانبه الزراعية والصناعية والتجارية[39]؛ نتيجة الحرب التي شنّها نظام الأسد على الشعب السوري، وتحول ما يقارب 80% من الشعب السوري إلى ما تحت خط الفقر[40]، من الطبيعي أن تكون مساهمة هذا العامل في بناء الثقة بين السوريين شبه معدومة؛ حيث لا تتوفر عوامل إيجابية في هذا المجال، كرفع مستوى الدخل وزيادة فرص العمل. بل على العكس قد يكون لهذا العامل دور سلبي نتيجة تدهور الواقع الاقتصادي لغالبية العائلات السورية التي ترزح تحت نير الفقر والبطالة.
العامل التاريخي: استرجاع الثقة الصعب
الشعب الذي يمرّ في مرحلة نزاع أو قتال يكون مستوى الثقة الاجتماعية لديه منخفضاً، وهذا ما حدث في ألمانيا أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبمجرد فقدان الثقة في المجتمع لأي سبب من الأسباب يكون من الصعب استعادتها؛ لأن الافتقار للثقة أو انعدام الثقة يصبح أقرب للتأصيل في عقول الناس، ويصبح جزءاً من ثقافتهم، والتي بطبيعتها لا تتغير بسهولة[41].
وهنا أيضاً لا يخدم العامل التاريخي الثقة الاجتماعية في الحالة السورية؛ فالشعب السوري لم يخرج بعد من حرب مدمرة شنّها عليه نظام الأسد وحاضنته، وأدت إلى أكبر كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين[42].
مخطط توضيحي رقم /2/ يبين محددات الثقة في الحالة السورية
العلاقة بين الثقة الاجتماعية وحلول القضية السورية:
بعد استعراضنا مفهوم الثقة الاجتماعية بأبعاده الثلاثة يثور السؤال عن العلاقة بين هذا المفهوم والحلول الخاصة بالقضية السورية؟ وهل بالفعل تمثل هذه الثقة أساساً لا يمكن تجاوزه لتحقيق الحلول المشار إليها؟
إذا نظرنا في الحلول المبنية على مسار الحل السياسي فإنه طالما أننا نتحدث عن حل تشاركي بين النظام وقوى الثورة والمعارضة فلا يمكن نجاح مثل هذا الحل دون وجود ثقة، سواء بين فئات المجتمع السوري المحسوبة على كلا الطرفين أو بين المكونات السورية. وفقدان الثقة يعني أساساً عدم وجود البيئة المناسبة التي يمكن من خلالها الانخراط في هذا المسار[43].
تقوم الحلول الهيكلية على وجود أجسام وهياكل تجمع السوريين أو على الأقل فئات منهم، ونجاح مثل هذه المؤسسات يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود الثقة يبن الجهات القائمة عليها من ناحية، والثقة بين هذه الجهات ومختلف شرائح السوريين من جهة ثانية “الثقة المؤسساتية”.
إذا كانت الثقة الاجتماعية ضرورية للحلول المرتبطة بمسار الحل السياسي وبالحلول الهيكلية فهي مطلوبة من باب أولى في الحلول الموضوعية؛ فأية رؤى وتصورات مشتركة يمكن بناؤها بين أفراد وشخصيات ومكونات لا يثق بعضها بالآخر؟!
خاتمة:
تمثل الثقة الاجتماعية أرضية أساسية لأي حل يمكن تصوره في الحالة السورية؛ فهي بمثابة القاعدة الواسعة للحلول التي يمكن بناؤها على مستوى النخب والمؤسسات، فهي “صمغ المجتمع”[44]، كما أن لكل العوامل والمحددات الشخصية منها والاجتماعية دوراً في تعزيزها وتقويتها.
غير أنه في الحالة السورية تدفع أغلب الوقائع إلى عدم الثقة أكثر مما تدفع إلى الثقة كما أشرنا أعلاه؛ حيث إن مختلف التوصيات التي يشير إليها الباحثون وفي مختلف الأصعدة، كالتطبيق السليم للقوانين، والابتعاد عن مسببات الظلم الاجتماعي، وزيادة نسب التوظيف والتنمية الاقتصادية وحرية الصحافة، وتحقيق مبادئ الحوكمة والشفافية …إلخ؛ نجد نقيضها في الواقع. ولا يعني ذلك استحالة تغيير الأخير؛ ولكن الظروف الاستثنائية والسياق الموضوعي التي مرّ ويمرّ به الشعب السوري جعلت من الصعوبة بمكان تنفيذ هذه التوصيات.
لكنّ هذا لا يمنع من وجود عدة محددات يمكن العمل عليها؛ لاسيما الشخصية منها كعامل الثقافة الذي يرتبط بالتربية داخل الأسرة والمدرسة، وكعاملَي الدِّين والعِرق اللذين يتطلبان من المؤسسات الدينية والمرجعيات المحلية جهوداً مباشرة في تعزيز الثقة بين السوريين. وفي هذا السياق لا نبالغ إن قلنا: إنّ العبء الأكبر في تنفيذ مثل هذه التوصيات يقع على عاتق السوريين في المناطق المحررة وبلاد اللجوء، جماعات ومؤسسات وأفراداً، عبر تكريس ثقافة الثقة، خصوصاً لدى الأطفال والأجيال الناشئة، بعيداً عن ثقافة التخوين التي يسهم نظام الأسد والميليشيات الانفصالية في تكريسها لدى شرائح السوريين المقيمين تحت سلطتهم.
ونشير هنا إلى أن أهمية العمل على المحددات الشخصية أعلاه تنبع من كونها الوسائل المتاحة حالياً لتعزيز الثقة بين السوريين، على عكس المحددات الاجتماعية الأخرى كعوامل التاريخ والقانون والمؤسسات والاقتصاد، التي يصعب تحقيقها بصورة كاملة في ظل الظروف الحالية، باستثناء إمكانية التحرك الجزئي في بعضها، كعامل المؤسسات الرسمية منها والأهلية، من قبيل إدخال تحسينات فيها على المدى القصير[45]، مع عدم التعويل كثيراً على مثل تلك الخطوات الجزئية في إحداث فارق نحو بناء الثقة؛ حيث يشير البعض إلى أن الثقة تعتمد على العوامل الاجتماعية بشكل رئيس كالمساواة والعدالة أمام تطبيق القانون[46]؛ وبالتالي يكون لعدم تطبيقها الأثر الأبرز في انخفاض هذه الثقة. يؤكد ذلك ما حدث في الولايات المتحدة على سبيل المثال؛ فقد أسهم تاريخ حديث من التجارب المؤلمة، والانتماء إلى مجموعة شعرت تاريخياً بالتمييز ضدها وعدم النجاح اقتصادياً[47] في تراجع الثقة الاجتماعية؛ ولعل ذلك هو السيناريو الأقرب للحالة السورية من حيث المقدمات والنتائج.
لمشاركة المقال: https://sydialogue.org/jnwg
Yul Kwon, Social Trust and Economic Development “The Case of South Korea”, 2019. Edward Elgar, p.21.
Yul Kwon, Op. Cit, p. 26.
3 تعليقات