قراءة تحليلية في مدى تغيُّر مواقف الدول من نظام الأسد؛ مجرد ضوضاء أم زلزال سياسي؟
تقرير تحليلي صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
تمهيد
جاءت كارثة زلزال القرن الذي ضرب كلّاً من تركيا وسوريا، خاصة المناطق المحررة في شمال غرب سوريا بالإضافة إلى حلب والشريط الساحلي في مناطق سيطرة نظام الأسد، لِتُحدث آثاراً كبيرة في المنطقة تتجاوز في أبعادها الجانبَين الجيولوجي المرتبط بالصفائح والبشري والمادي المرتبط بالمأساة والخسائر؛ إذ رافق الاهتزازات الأرضية نشاطٌ غير مسبوق على الصعيد السياسي وتحركاتٌ لطائرات دبلوماسية فضلاً عن الإغاثية في سماء المنطقة، حيث يسود حديث في الأوساط المعنية عن تغيُّر جديد في المزاج الدولي العام تجاه القضية السورية عنوانه: تغيرات تجاه نظام الأسد، بما يشمل التواصل والتفاعل في مختلف المجالات. لذلك تبرز أسئلة مهمة لدى الشارع السوري عموماً وجمهور الثورة على وجه الخصوص: ما مدى التغيرات الحاصلة في مواقف الدول الفاعلة في الشأن السوري من نظام الأسد؟ وهل يمكن التسليم فعلاً بوجود مزاج عام أكثر انفتاحاً على نظام الأسد من ذي قبل؟
تبدو هذه الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها في غاية الأهمية والحساسية معاً؛ لارتباطها بمستقبل القضية السورية، ولأنها تؤسّس لفهم أفضل لكيفية تشكُّل المزاج العام القادم، وبالتالي المقاربات القادمة نحو هذه القضية، وهو ما نحاول الإجابة عنه في هذا التقرير التحليلي من خلال رصدٍ وتحليلٍ لمواقف أبرز الدول الإقليمية والدولية بعد كارثة الزلزال، وتحديد أوجه التغيير الحاصل فيها.
1- الحراك العربي بعد الزلزال؛ خطوات باتجاه الأسد تحت “غطاء إنساني”
على الرغم من سعي عدة دول عربية -خصوصاً بعد عام 2018- لإعادة إدماج نظام الأسد في المنظومة العربية وإعادته إلى مقعده في جامعة الدول العربية[1]؛ إلا أنها لم تنجح في ذلك كلياً حتى اللحظة لوجود مواقف عربية معارضة لذلك، وهو ما ظهر عبر الفشل المتكرر في إعادة مقعد سوريا في جامعة الدول العربية إلى نظام الأسد[2].
بغضّ النظر عن الدول المرتبطة بالمشروع الإيراني ” كالعراق ولبنان” فإنه يمكن تصنيف مواقف الدول العربية تجاه نظام الأسد قبيل كارثة الزلزال في ثلاث مجموعات[3]:
- الدول ذات العلاقات السياسية المستمرة مع نظام الأسد[4]، وأهمها: الإمارات والجزائر وسلطنة عُمان والأردن.
- الدول ذات العلاقات الودية[5] مع نظام الأسد، وأهمها: مصر والبحرين وتونس وموريتانيا.
- الدول غير المطبِّعة مع نظام الأسد، وهي: قطر، والسعودية، والكويت[6].
1- 1- نشاط سياسي مكثَّف للدول العربية المطبِّعة مع نظام الأسد:
بشكل عام جاءت مواقف الدول ذات العلاقات السياسية المستمرة مع نظام الأسد لتكون أكثر الدول نشاطاً وانفتاحاً في علاقاتها معه بعد الكارثة؛ إذ قدّمت جميعها حزمة واسعة من المساعدات، مترافقة مع نشاط سياسي لم يختلف بالنسبة إلى بعض الدول، كما هو الحال بالنسبة إلى دولة الإمارات العربية التي أوفدت وزير خارجيتها[7]، وغير مسبوق لبعضها الآخر كما هو حال الأردن التي اتصل عاهلها برأس نظام الأسد وزاره وزير خارجيتها[8]، وحال الجزائر التي بادر رئيسها للاتصال الهاتفي مع رأس النظام[9]، وكذلك حال سلطنة عُمان التي استقبلت للمرة الأولى رأس النظام في مسقط[10].
1- 2- خطوات أكثر جرأة من “الدول العربية ذات المواقف اللينة” تجاه نظام الأسد؛ توظيف “الإنساني” للهرولة سياسياً:
قدمت كارثة الزلزال فرصة للدول ذات المواقف اللينة من نظام الأسد للتقدم في علاقاتها معه؛ فلم تكتفِ هذه الدول بتقديم الدعم الإنساني[11]، وإنما ذهبت أبعد من ذلك باتجاه تفعيل علاقاتها السياسية مع هذا النظام؛ إذ اتصل الرئيس المصري للمرة الأولى برأس النظام[12]، فضلاً عن زيارة وزير الخارجية المصرية لدمشق[13]، وعلى النحو ذاته جاء الاتصال الهاتفي الأول لملك البحرين أيضاً بنظام الأسد فيما سبق أن عُقدت لقاءات على مستوى وزراء الخارجية[14].
كذلك تونس التي اتخذت خطوات متجددة نحو نظام الأسد؛ كلقاء قيس سعيد وزير خارجية الأسد في الجزائر، وإرساله التحيات والإعجاب بإنجازات النظام منتصف العام الماضي[15]، فوجدت الفرصة مناسبة لرفع مستوى تمثيلها الدبلوماسي[16].
وجاء التحرك الموريتاني في سياق مسار تطبيعها السابق مع نظام الأسد؛ فاتصل رئيسها ولد الغزواني برأس نظام الأسد[17]، وسبق إرساله برقيات تهنئة في عام 2020، ورفعه مستوى العلاقات الدبلوماسية عبر تعيين سفير له في دمشق عام 2021[18].
مؤخراً وعلى المستوى الجماعي لكل من مجموعة الدول العربية المطبعة أو الدول ذات المواقف اللينة جاءت عملية استعراضية ذات دلالة رمزية على التوجهات الجديدة؛ إذ تم تنظيم زيارة جماعية لوفد من الاتحاد البرلماني العربي إلى دمشق[19].
1- 3- مواقف الدول العربية “غير المطبِّعة” مع نظام الأسد؛ خطوات “إنسانية” محدودة:
من حيث المبدأ قد لا نجد اختلافاً كبيراً في تعاطي هذه المجموعة مع نظام الأسد؛ فعلى الصعيد الإنساني لم تقدّم كل من قطر والكويت أية مساعدات رسمية لنظام الأسد، حيث ذهبت كامل مساعدتها الإنسانية لمناطق المعارضة[20]، فيما أرسلت السعودية وللمرة الأولى منذ بداية الثورة مساعدات لمناطق سيطرة نظام الأسد، إلى جانب تلك التي وجهتها إلى مناطق سيطرة المعارضة[21].
وعلى الصعيد السياسي ما تزال مواقف قطر والكويت ثابتة في رفض خطوات التطبيع مع نظام الأسد؛ فجاءت تصريحات وزير الخارجية الكويتي لتؤكد أن بلاده ليس لديها أية خطط للتطبيع مع نظام الأسد في سوريا[22]، في حين جاء موقف قطر المعلن لتأكيد ثبات موقفها من نظام الأسد والذي كان قُبيل الزلزال بأيام يدعو عبر بيان لوزارة الخارجية لـ “ضمان تقديم مجرمي الحرب في سوريا إلى العدالة الدولية”[23].
ويبدو أن التغير الأهم في هذا السياق كان في موقف المملكة العربية السعودية التي فتحت تصريحات وزير خارجيتها الباب أمام إمكانية حدوث تحوُّل في طريقة تعاطيها مع نظام الأسد تحت عنوان عريض هو: “وجود توافق عربي على عدم استمرار الملف السوري كما هو عليه”[24]، لاسيما وأنها لم تنفِ الخبر الذي سرّبته وكالة سبوتنيك عن إمكانية زيارة وزير خارجيتها إلى دمشق[25].
خلاصة مواقف الدول العربية:
أتاحت الكارثة لغالبية الدول العربية التي كان موقفها أساساً يتراوح بين التطبيع الكامل مع نظام الأسد أو وجود مواقف لينة تجاهه المجالَ لتعميق تواصلاتها وعلاقاتها مع هذا نظام الأسد المجرم، وأعطتها مبرراً “أخلاقياً” لمساعدته “إنسانياً”، مع إتاحة الفرصة للمطالبة برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه؛ وهو ما يؤكد وجود تطوُّر عام في مزاج الدول العربية تجاه إعادة تعويم نظام الأسد، وما يعني أن العزلة السابقة لنظام الأسد تبدو من حيث المبدأ في طريقها لتشهد تغييرات غير مسبوقة.
حتى الدول التي لم تطبِّع مع نظام الأسد حتى الآن “السعودية وقطر والكويت” حدثَ تغيُّر في موقف إحداها “المملكة العربية السعودية” التي أرسلت مساعدات إنسانية لمناطق نظام الأسد، مع وجود مؤشرات على تراجع موقفها تجاه التطبيع السياسي معه. ومع ذلك فلا يمكن فصل ما حصل عقب الكارثة من مواقف سياسية و”إنسانية” عما كان قبلها، خصوصاً مع وجود محاولات من نظام الأسد لتليين موقف المملكة العربية السعودية على اعتبارها العقبة الأكبر أمام إعادة تعويمه عربياً[26]، وإعادته إلى مقعد سوريا في الجامعة العربية.
شكل رقم (1) يُظهر مدى التغير الحاصل في مواقف الدول العربية تجاه نظام الأسد
يبدو أن الحراك “السياسي والإنساني” الذي أعقب الزلزال إنما جاء من الدول العربية المطبِّعة أساساً مع نظام الأسد، أو من تلك التي لديها مواقف لينة منه، في حين أن التغيير الجوهري قد يأتي في معسكر الدول المتحفظة على التطبيع المباشر معه “السعودية والكويت وقطر”. وضمن هذا المعسكر يبدو أن الموقف السعودي سيكون بيضة القبّان في حدوث أي تغيير تجاه إعادة تعويم نظام الأسد عربياً[27]. وهو المرجح ضمن المعطيات الحالية؛ إذ يبدو أنها -السعودية- أكثر انفتاحاً على تحريك المياه الراكدة في الملف السوري من بوابة الحوار مع نظام الأسد بهدف اختبار إمكانية إجراء صفقة ما تحقق من خلالها مجموعة مكاسب، في مقدمتها الحدّ من التغلغل الإيراني، وتموضع نظام الأسد في منظومة الأمن الإقليمية، والحدّ من إنتاج المخدرات وتصديرها نحو دول الخليج العربي؛ غير أن محاولات التطبيع السابقة مع نظام الأسد -كما حصل مع الأردن والإمارات[28]– أظهرت أن نظام الأسد هو المستفيد الوحيد من محاولات التطبيع معه ويوظّفها لفكّ عزلته، من دون أن يقدم أي تنازل تجاه الدول الساعية للتطبيع معه[29].
2- مواقف أبرز الدول المؤثرة في الملف السوري؛ ثباتٌ “غربيّ” في ظلّ تراجُعٍ تركيّ:
يٌظهر استقراء مواقف الدول الفاعلة في الملف السوري باستثناء تلك الحليفة لنظام الأسد “روسيا وإيران” عدم وجود تغييرات جوهرية في المواقف، وعدم تأثرها سلباً أو إيجاباً بكارثة الزلزال.
2- 1- تطورات الموقف التركي من نظام الأسد؛ الكارثة تعزّز دوافع التقارب وغاياته:
قبل كارثة الزلزال كان هنالك توجُّه تركيّ واضح للانفتاح على نظام الأسد مدفوع بمجموعة من الأسباب، في مقدمتها السعي لإعادة اللاجئين السوريين تحت ضغط الاستحقاق الانتخابي والرأي العام وأحزاب المعارضة، ولتحقيق إحدى أبرز أولويات الأمن القومي التركي المتمثلة في محاربة “قسد”، إلى جانب سعيها لتصفير المشاكل مع دول الإقليم المختلفة[30].
يبدو أن كارثة الزلزال لم تؤثر في التوجه التركي السابق في الانفتاح على نظام الأسد؛ إذ يشير الحديث عن التحضير للقاء وزراء خارجية “روسيا وتركيا وإيران ونظام الأسد” إلى استمرار التوجه التركي السابق مدفوعاً بالعوامل المشار إليها أعلاه[31]. بل على العكس قد تكون الكارثة قد عزّزت العوامل الدافعة للانفتاح على نظام الأسد من وجهة نظر صانع القرار التركي؛ ففي ظل انشغال الحكومة التركية وانكفائها داخلياً لمعالجة الآثار الكارثية للزلزال أصبح ملف اللاجئين السوريين ضاغطاً بصورة أكبر، خصوصاً في ظل سعي أطراف من المعارضة التركية لتوظيف الكارثة لتجديد حملات عنصرية تحريضية ضد الوجود السوري[32]، وأضحى التنسيق مع روسيا ونظام الأسد للحدّ من نفوذ “قسد” البديل المتاح الوحيد غالباً في ظل انعدام فرص القيام بعملية عسكرية تركية؛ كلّ ذلك قد يرجح إمكانية تقديم تنازلات تركية لنظام الأسد من أجل التقدم في الملفين السابقين، وهو ما قد يكون من حساب دعم المعارضة السورية والوجود التركي في الشمال السوري.
2-2- أبرز التغيرات في مواقف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؛ التفاعل مع قوى الثورة والمعارضة:
قبيل حدوث الزلزال استمر الموقف الأمريكي الرافض لتعويم نظام الأسد، خاصة عبر التفاعل الرافض لمسار التقارب التركي في الأشهر الأخيرة وما تبعها من تحركات تشكل بمجموعها مؤشرات عديدة لزيادة النشاط الأمريكي في الملف السوري[33]، ولعلّ أقواها إضافة “قانون الكبتاغون” بوصفه أكثر صرامة من “قانون قيصر” إلى منظومة العقوبات[34]. وعلى النحو ذاته لم تشهد الفترة السابقة أي تغير في الموقف البريطاني من نظام الأسد؛ إذ صرّح مسؤولون بريطانيون بضرورة محاسبة نظام الأسد على جرائمه، كما أردفت ذلك بفرض عقوبات مطلع العام في معرض افتتاحها الأول لنظام العقوبات المستقل الخاص بها[35]، كما بدا المزاج السياسي المناهض لنظام الأسد وحلفائه واضحاً فيها من خلال التوجه نحو تصنيف الحرس الثوري الإيراني “منظمة إرهابية”[36].
بعد حدوث الزلزال لم تقم أي من الدولتين بتقديم مساعدات مباشرة لمناطق سيطرة نظام الأسد، لكنها في إطار سعيها لإظهار تفاعلها إنسانياً وإغاثياً قامتا بشكل متتابع بتعليق بعض العقوبات المفروضة لتحسين فرص وصول المساعدات الإنسانية[37]، على الرغم من تأكيدهما أنها مستثناة من العقوبات أصلاً[38]، وفي مقابل ذلك تركز النشاط السياسي لكلا الدولتَين نحو قوى الثورة والمعارضة عبر إجراء مسؤولي الخارجية لديهما لقاءات مباشرة مع الدفاع المدني السوري[39]، مع تقديم مساعدات لشمال غرب سوريا[40]، وموقف تضامني مع قوى مجتمعية مدنية سورية محسوبة على قوى الثورة والمعارضة من ملك المملكة المتحدة[41].
في مقابل ذلك استمرت المواقف السياسية لكلا البلدين الرافضة للتطبيع مع نظام الأسد تحت ذرائع إنسانية[42]، وأن يكون بوابة لإيصال المساعدات للسوريين[43]، والداعية -في الوقت نفسه- إلى منعه من توظيف الكارثة سياسياً لمصلحته، وهو ما ظهر من خلال التطور السريع في تحول دعوات نوّاب من داخل الكونغرس الأمريكي لإقرار قانون خاص لوقف أي استغلال ممكن للمساعدات الإنسانية ونهبها[44]، إلى إقرار مشروع القانون في مجلس النواب وتمريره لمجلس الشيوخ[45].
2- 3- أبرز التغيرات في مواقف أهم الدول الأوربية؛ المزاج المختلف بين أعضاء النادي:
بغضّ النظر عن الاختلافات البسيطة في سياسة دول الاتحاد الأوروبي تجاه نظام الأسد قبل كارثة الزلزال فإن التوجهات العامة المشتركة تشير إلى توافقها على رفع لاءات ثلاث، هي: لا للتطبيع، لا لإعادة الإعمار، لا لرفع العقوبات قبل الانخراط في حل سياسي جدّيّ وفق قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015[46]. بعد كارثة الزلزال لم يكن هنالك تغيُّر في الموقف السياسي لمختلف دول الاتحاد الأوروبي تجاه الملف السوري عموماً؛ إلا أن ذلك لم يحُلْ دون وجود توجهات “إنسانية” تجاه مناطق سيطرة نظام الأسد لدى بعض دول الاتحاد الأوروبي خارج هذا التوجه العام.
على سبيل المثال: ركزت السلطات الألمانية على إيصال المساعدات للمناطق المحررة شمال غرب سوريا، وطالبت في الوقت نفسه بممارسة الضغط على نظام الأسد لإدخال المساعدات الدولية لهذه المناطق[47]، وأبدت عزمها على إيصال المساعدات للمناطق المنكوبة في شمال غرب سوريا رغم أية عراقيل[48]، كذلك أعادت تأكيد موقفها السياسي في رفض التطبيع مع نظام الأسد وضرورة محاسبته على جرائمه[49]. ومع ذلك فقد قامت بإرسال مساعدات بشكل مباشر لمناطق سيطرة نظام الأسد عبر طائرة مقدمة من الصليب الأحمر الألماني يوم 23 شباط[50]. والأمر ذاته ينطبق على الموقف الفرنسي[51]، سوى أن الأخيرة لم ترسل مساعدات مباشرة لمناطق سيطرة نظام الأسد[52].
خلاصة حول مواقف القوى الدولية الفاعلة:
من خلال تتبع المواقف السابقة نلحظ أنه لا تغييرات جوهرية في مواقف الدول الفاعلة؛ فتلك التي كان لها موقف حاسم تجاه التطبيع مع نظام الأسد، كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتلك التي اتخذت خطوات باتجاه التطبيع معه مثل تركيا ما تزال ثابتة على سياساتها.
لعل التغير الذي حصل مؤخراً في مواقف الدول المتحفظة إنما كان في الجانب الإنساني، من ناحية إصدار بعضها استثناءات مؤقتة من العقوبات بما يسمح بتيسير تدفق المساعدات الإنسانية باتجاه مناطق نظام الأسد، ومن ناحية أخرى عبر اتجاه عدة دول لإرسال مساعدات بشكل مباشر لنظام الأسد، كما فعلت ألمانيا والنرويج والدنمارك وإيطاليا، لتشهد دمشق لأول مرة منذ عام 2012 وصول طائرات أوربية[53].
بشكل عام يمكن القول: إن المواقف الدولية الأساسية والرؤية العامة للتعاطي مع نظام الأسد لم تشهد تغيراً، بل على العكس من ذلك فإن ممارسات نظام الأسد على الأرض في سلب المساعدات المقدمة[54]، وعدم قيامه بأية خطوة تثبت حسن نيته مثل الإفراج عن المعتقلين أو كشف مصير المفقودين أو السماح بدخول المساعدات وتدفقها باتجاه المناطق المتضررة[55]، واستمراره في الانتهاكات المختلفة بما فيها استهداف المناطق المدنية عقب كارثة الزلزال في استهزاءٍ واضحٍ بمأساة السوريين من قبل نظام الأسد[56]، إلى جانب النشاط الإيراني المتزايد في سوريا؛ كل ذلك قد يدفع القوى الغربية المؤثرة في مراكز صنع القرار للتحرك بغية الرد على دعاية النظام وحلفائه، كما أن تفاعلات الحرب الأوكرانية المشتعلة تجعل من غير المرجح وجود تبدلات جوهرية في المواقف الغربية من الناحية الاستراتيجية. دون أن يلغي ذلك احتمال ذهاب بعض الدول مثل فرنسا التي تشير بعض التسريبات لوجود نقاش حول تموضعات جديدة لها بناء على التطورات الإقليمية[57]؛ إلا أن ذلك يبقى احتمالاً مرجوحاً في ظل استمرار الموقف الأمريكي تحديداً في تحفُّظه تجاه التطبيع مع نظام الأسد.
ثالثاً: فرص نجاح تعويم نظام الأسد: ثلاثة عوامل تميل للسلبية:
على الرغم من وجود مؤشرات باتجاه التطبيع مع نظام الأسد، خاصة مع انفتاح الموقف التركي، والتصريحات السعودية مع المساعدات المباشرة التي وجهتها إلى مناطق سيطرة نظام الأسد؛ إلا أن ذلك لا يعني أن المسار الجديد حتميّ، وذلك لعوامل عديدة، لعلّ أبرزها ما يلي:
- الموقف الأمريكي تجاه نظام الأسد: رغم تراجع الحضور الأمريكي في الملف السوري خلال السنوات الماضية[58]، وأن الولايات المتحدة لم تضغط على الدول من أجل عدم التطبيع؛ فإن وجودها العسكري في الشمال الشرقي، واستخدام سلاح العقوبات جعل عملية التطبيع حتى الآن غير مجدية من جهة إيقاف أية عملية تسهم في استقرار نظام الأسد، وما نلاحظه من تراجع الوضع الاقتصادي أكبر دليل.
على سبيل المثال: تستمر عرقلة مشروع خط الغاز العربي رغم غضّ النظر الأمريكي والحماس الإقليمي[59]؛ إذ ترددت مصر في تنفيذه حتى الآن بسبب الخشية من تقلُّب الموقف الأمريكي تجاهه[60]. - اختلاف مصالح الدول الإقليمية ومطالبها: على الرغم من ملامح موقف عام لدول الإقليم تجاه نظام الأسد إلا أن استشراف مآلات مسار التطبيع الإقليمي يتطلب التمييز بين الدوافع والمصالح المختلفة؛ إذ يمكن القول بشكل عام: إن المتطلبات التركية ترتبط بالانتخابات من جهة وبمتطلبات أمنية تجاه محاربة تنظيم “قسد” من جهة أخرى، فضلاً عن إعادة اللاجئين، وهما العاملان اللذان يرجحان فشل تجاوب نظام الأسد معها على فرض رغبته في ذلك[61]. مقابل ذلك تبدو مصالح معظم دول الخليج في مواجهة المشروع الإيراني واختبار تجاوب النظام مع ذلك، فيما لا تشكل “قسد” لهم أولوية تُذكر، وهو ما يتطابق مع توجُّه “إسرائيل” أيضاً التي تتبع الخيار العسكري عبر عمليات استهداف لا تنتهي، كان آخرها بعد حدوث الزلزال عبر قصف جوي مركَّز في قلب دمشق[62]، وتبدو فرص تلبية نظام الأسد للمصالح الخليجية في الحدّ من النفوذ الإيراني أو استعداد إيران لتخلّيها عن مشروعها في سوريا صفريّة الطابع بحكم كثافة المشروع وأبعاده وغاياته من جهة[63]، وطبيعة التحركات الإيرانية الأخيرة على الأرض من جهة أخرى، خاصة ما أُثير من أنباء عن مسؤولية مليشيا “فاطميون” بارتكاب مجزرتين مروعتين في البادية السورية بحق العشائر العربية رداً مباشراً على هكذا مقاربات[64].
- اختلاف معطيات التطبيع الإنساني عن السياسي:
عادة ما يبرز مصطلح ” دبلوماسية الكوارث أو النكبات” ليشير إلى قيام الدول بالتغاضي عن الخلافات السياسية “مؤقتاً” على حساب إعلاء بُعد إنساني يتم من خلاله تقديم مختلف أشكال المساعدات للدول المنكوبة، إلا أن آثار هذه الدبلوماسية ليست ذات دلالات حتمية في الجانب السياسي رغم أنها قد تكون في بعض الحالات بوابة لتحسين العلاقات أو تخفيف حدة التوتر[65].
على سبيل المثال: أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على تقديم المساعدات لإيران في أعقاب زلزال مدينة “بم” الواقعة شرق محافظة كرمان يوم 26 كانون الأول 2003، لتحطّ أول طائرة عسكرية أمريكية في إيران منذ 1980، ولم يتبع ذلك أية آثار سياسية جعلت العلاقات بين الطرفين ودية، وليتكرر الموقف بعد نحو عامين بطريقة معكوسة؛ حين عرضت إيران إرسال مساعدات إلى الولايات المتحدة للتخفيف من آثار إعصار كاترينا شريطة رفع العقوبات الأمريكية حتى تتمكن من إرسالها، ولم توافق الإدارة الأمريكية[66].
في الحالة السورية يبدو بوضوح ارتباط التطبيع السياسي بالمدخل الأمني، وهو ما يظهر في حالة تركيا والسعودية التي تمتلك خطوط تواصل أمنية تم من خلالها إجراء مشاورات عديدة في مراحل سابقة، دون أن تُنتج حتى الآن تطبيعاً سياسياً[67]، وتظهر تصريحات وزير الخارجية المصرية في تأكيده على بُعد الزيارة الإنساني بعيداً عن الجانب السياسي رغبة في الفصل بين الملفين، على الأقل في الوقت الراهن[68].
خاتمة وتوصيات
يُظهر النشاط السابق لمختلف الدول العربية وجود تغيرات في طبيعة العلاقة مع نظام الأسد تميل نحو الانفتاح نحوه؛ تمثلت في تقديم مساعدات إنسانية من جهة، والمضي قدماً بخطوات جديدة على المستوى السياسي، مع استمرار مواقف أبرز الدول الغربية المؤثرة في التمييز بين البُعدَين الإنساني والسياسي، وعدم وجود تغييرات جوهرية في الاستراتيجية الكلية من نظام الأسد.
رغم ذلك فإن كل ماسبق يطرح سؤالاً مهماً: ما الذي يمكن للسوريين القيام به بغية مواجهة التحديات الناجمة عن التحولات الحالية أو المتوقعة؟ ولعلّ الإجابة عن ذلك تحتاج تحليلاً أعمق وبحثاً في السبل المختلفة؛ إلا أن المعطيات الأولية وبحكم التجارب في الجولات السابقة من المعركة السياسية مع نظام الأسد وحلفائه تفيد بوجود مجموعة من الخيارات المتاحة، وتتمثل في كل من النقاط الآتية:
- التركيز على البُعد الحقوقي: وذلك من خلال تعزيز الجهود في مجال توثيق الانتهاكات المختلفة، بما فيها سلب ونهب المساعدات لفضح سلوكيات نظام الأسد وحلفائه؛ بما يستند إلى منهجيات إعداد الملفات الحقوقية المعيارية، مع تحرّي المصداقية والالتزام بمعايير ومبادئ مثلى.
- تكثيف حملات مخاطبة الرأي العام وبشكل رئيس الرأي العام الدولي عبر أدوات متعددة: مع التركيز على الدبلوماسية الرقمية والخطاب باللغات المختلفة، وفق فهم وتحليل مخصص لجمهور كل دولة فاعلة على حدة.
- العمل على فتح المناطق المحررة أمام الأفراد والصحفيين والمؤسسات المختلفة بغية نقل آراء السوريين ومعاناتهم وصناعة خطاب مضادّ لرواية نظام الأسد.
- استثمار طاقات القوى المجتمعية السورية خارج سوريا، والعمل على ربطها بالداخل السوري تزامناً مع استمرار جهود المجتمع المدني، مثل: المنظمات الإنسانية، والخوذ البيضاء والشبكة السورية لحقوق الإنسان التي أصبحت لها سمعة عالمية جيدة.
- إحياء خطاب ومبادئ الثورة السورية، والتركيز على قضايا ومبادئ ثابتة في قيم المجتمع الدولي، كالمواطنة والتعددية السياسية وإدارة التنوع وقضايا العدالة الانتقالية.
- تركيز الدراسات والأبحاث المختلفة حول القضايا الناتجة عن كارثة الزلزال، كقضايا إعادة الإعمار وانتهاكات الملكية.
- التركيز على الملف الأمني؛ سواءٌ عبر رصد وكشف تحركات المليشيات الإيرانية وتفاعلاتها في الأراضي السورية، أو ملف إنتاج واتجار المخدرات.
- ضرورة السعي للبحث عن بدائل متاحة لإعادة التمثيل السياسي للثورة في ظل الفشل الواضح للقوى السياسية الحالية.
جدول ملحق يُظهر التغيرات في مواقف الدول الإقليمية تجاه نظام الأسد بعد كارثة زلزال القرن
اسم الدولة | تقديم المساعدات | الانفتاح السياسي | ||
على المستوى الإقليمي | الدول ذات العلاقات المرتفعة | الإمارات | ||
سلطنة عمان | ||||
الأردن | ||||
الجزائر | ||||
الدول ذات العلاقات الودّية | مصر | |||
البحرين | ||||
موريتانيا | ||||
تونس | ||||
الدول غير المطبِّعة مع نظام الاسد | تركيا | |||
قطر | ||||
السعودية | ||||
الكويت | ||||
على المستوى الدولي | الولايات المتحدة الأمريكية | |||
بريطانيا | ||||
دول الاتحاد الأوربي | ألمانيا | |||
فرنسا |
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
تعليق واحد