إلى جانب الإغاثة والإيواء؛ عشرة تحديات ملحّة يجب التحضير لها عقب الزلزال – دروس مستفادة من زلزال هايتي 2010
تقرير تحليلي صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
تُعد الكوارث الطبيعية تحدياً كبيراً للحكومات والمنظمات العاملة في الشأن الإنساني والإغاثي والتنموي؛ لأنها تسبّب دماراً كبيراً يخلّف احتياجات هائلة تستهلك الجهود والموارد في فترة زمنية قصيرة، وغالباً لا تتناسب الموارد المتاحة مع حجم الاحتياج الموجود، مما يؤثّر في سرعة الاستجابة المقدَّمة وجودتها وشموليتها.
في السادس من شباط عام 2023 ضربَ زلزال قوي مناطق واسعة في جنوب تركيا وشمال سوريا، مخلِّفاً دماراً هائلاً لم يتضح حجمه الكامل بعد، وخسائر بشرية هائلة تتزايد أرقامها ساعة بعد ساعة، وقد سارعت الحكومة التركية عقب الزلزال مباشرة فأطلقت خطة طوارئ من أجل التفاعل مع الأزمة الإنسانية وإغاثة المنكوبين، معتمدة على خبرتها السابقة ومؤسساتها المتنوعة، في حين اختلف نمط الاستجابة الإنسانية في سوريا؛ سواءٌ في مناطق سيطرة نظام الأسد أو مناطق سيطرة المعارضة السورية، حيث لا تبدو هناك خطة واضحة لإدارة الكارثة.
تشترك المناطق الثلاث؛ سواءٌ الجنوب التركي أو الشمال السوري أو مناطق نظام الأسد في وجود أعداد كبيرة من السوريين المتضررين من الزلزال، ممن يُعدون من الفئات الهشّة والضعيفة، لاسيما في مناطق سيطرة المعارضة السورية بشكل أساسي ثم في تركيا، وفي مناطق سيطرة نظام الأسد بشكل ثانوي. وقد هرعت المنظمات الإنسانية والإغاثية العاملة في شمال سوريا لترتيب استجابة إنسانية عاجلة بما تيسر من الموارد المحلية بهدف إنقاذ العالقين تحت الأنقاض ودعم الناجين، ومحاولة إيجاد مأوى وغذاء يساعدهم على التماسك ريثما يتم الانتهاء من مرحلة الاستجابة العاجلة.
كما أطلقت هذه المنظمات على الفور حملات التبرع والدعم في مختلف المناطق المنكوبة، من أجل تأمين الموارد المالية الكافية لتغطية الاحتياجات الهائلة، لاسيما في مناطق سيطرة المعارضة التي لم تحظَ باهتمام دولي أو أممي رغم كونها من أشد المناطق المنكوبة، بل كانت استجابة الأمم المتحدة التي أَنشأت قبل سنوات مكتباً لتنسيق الشؤون الإنسانية في الجنوب التركي بطيئة وغير مفهومة، تأثّرت بالعديد من العوامل السياسية والبيروقراطية.
ومع عزم الاتحاد الأوروبي استضافة مؤتمر للمانحين مطلع آذار في بروكسل لجمع مساعدات دولية لسوريا وتركيا بعد الزلزال المدمّر الذي ضربهما يوم الاثنين[1] تشير الأخبار والتصريحات إلى أن هذا المؤتمر سيشهد حضوراً واضحاً للحكومة التركية وممثلين عن نظام الأسد، ولم يتضح حتى الآن إذا ما سيكون لمؤسسات المعارضة السورية أو المؤسسات الإنسانية العاملة في مناطقها أي حضور أو تأثير.
وبالنظر إلى انشغال الجميع باحتياجات الاستجابة الإنسانية الطارئة، وانصراف جميع الكوادر للعمل الدؤوب في هذا السياق تظهر لمتابع الشأن الإنساني حالة واضحة من الارتجال والفوضى وغياب الاستراتيجية الناظمة لإدارة الكارثة، وهو أمرٌ قد يكون مفهوماً في ظل غياب التجارب السابقة، وغياب السلطة والإدارة الموحدة على الأرض؛ ولذا فإنّ من الضروري مساعدة المعنيين في تصوُّر حجم الأزمة والكارثة والاستعداد المبكر لها، وذلك من خلال دراسة التجارب الشبيهة وتتبعها وتعلُّم الدروس منها.
وانطلاقاً مما سبق: يسعى هذا التقرير إلى تقديم صورة بانورامية عابرة للزمن حول آثار الزلزال الإنسانية والاحتياجات والتحديات المتوقعة؛ وذلك من خلال استخدام المنهج المقارن مع حالة شبيهة بالكارثة الحالية وهي زلزال هايتي عام 2010، بما يساعد القائمين على العمل الإنساني والمنظمات المعنية في صياغة مشاريعهم وسياساتهم بشكل استراتيجي، وتصميم تدخلات مبكرة تساعد في احتواء الأزمات المتوقعة والحدّ منها.
وتأتي أهمية هذا التقرير من كونه محاولة لاستشراف الواقع الذي سيعيشه السوريون في المستقبل القريب داخل سوريا وفي تركيا، واستحضار التحديات التي ستواجههم؛ في محاولةٍ للتنبيه على جوانب مهمة يُفترض الأخذ بها، مع تأكيد ضرورة تصميم استجابات استراتيجية متوسطة المدى تسعى إلى الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة لتحقيق حجم أكبر من التأثير الإيجابي للمتضررين من الزلزال.
زلزال شباط 2023؛ زلزالٌ سياسيّ إنسانيّ اجتماعيّ بيئيّ:
خلال أقل من 10 أيام بلغت حصيلة الخسائر البشرية نتيجة الزلزال بين السوريين ما يقارب 6319 سورياً، بينهم 2157 قضَوا في المناطق خارج سيطرة نظام الأسد، و321 في المناطق الخاضعة لسيطرته، و3841 لاجئاً في تركيا، وفقاً لبيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان[2] ، وما زال المئات من المفقودين تحت الأنقاض لا يُعرف مصيرهم بعد.
وإلى جانب الخسائر البشرية تسبب الزلزال بخسائر مادية كبيرة؛ إذ فقدَ غالبية السوريين ممتلكاتهم تحت الأنقاض، واضطروا للفرار نجاة بأرواحهم، فافترشوا الطرقات والبساتين على عجل، وبدأت المنظمات بإنشاء مراكز إيواء جماعية بهدف امتصاص صدمة النزوح الأولى.
وقد تأخر دخول المساعدات الأممية لليوم الرابع بعد الزلزال، فدخلت شاحنات تحمل شحنات إنسانية مجدولة سابقاً لم تكن ضمن خطة الاستجابة الطارئة للزلزال، وبلغ مجموع الشاحنات المقدمة خلال الأيام العشرة الأولى من قبل المنظمات الدولية 95 شاحنة[3].
إلا أن تأخر وصول المساعدات الأممية ترك المنظمات المدنية المحلية وحيدة تواجه أهوال الزلزال بمفردها وبمواردها المحدودة، مما تسبب في زيادة عدد الضحايا؛ حيث كان بإمكان الأمم المتحدة تفعيل العديد من الآليات المتاحة لمواجهة الكوارث، كتحريك فريق الأمم المتحدة لتقييم الكوارث والتنسيق UNDAC والمجموعة الاستشارية للبحث والإنقاذ INSARAG، وتفعيل صندوق الأمم المتحدة المركزي لحالات الطوارئ الخاص باحتياجات شمال غرب سوريا، بالإضافة إلى تفعيل دور منسق الأمم المتحدة للإغاثة الطارئة ERC الذي تأخرت زيارته لمكان الحدث قرابة أسبوع، وتفعيل دور المنظمة الدولية للهجرة IOM التي كانت استجابتها الأسرع وأدخلت مساعدات بعد ثلاثة أيام[4].
تذرّعت الأمم المتحدة بوجود العديد من القيود اللوجستية وقيود الوصول إلى مناطق معينة وبظروف الشتاء وتفشي الكوليرا المستمر لتبرير حالة التباطؤ في سياسة الاستجابة الإنسانية، والتي أثرت في حدّة الاحتياجات الإنسانية وأدى إلى تفاقمها، بالإضافة إلى الاحتياجات الإنسانية الموجودة على نطاقٍ واسعٍ قبل الزلزال، وتشير تقييمات ما قبل الزلزال إلى احتياج 15.3 مليون شخص في سوريا إلى المساعدة الإنسانية، وهو أعلى مستوى على الإطلاق للبلاد التي تدخل عامها الثاني عشر منذ بدء حرب نظام الأسد على شعبه؛ إذ فشلت 85% من العائلات في تلبية احتياجاتها الأساسية عام 2022، وتراجعت قدرة المرافق الطبية على تقديم الخدمات الأساسية في كامل الأرض السورية[5].
بينما أحصى ناشطون متابعون 24 دولة أوصلت المساعدات لمناطق نظام الأسد جواً من خلال 111 طائرة هبطت في مطارات دمشق الدولي وحلب وحميميم وبيروت، وعلى رأس تلك الدول الإمارات العربية المتحدة، ومن بينها 3 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، كما وصلت 8 فرق إنقاذ و3 فرق طبية مع معداتهم، وحملت بشكل تقديري ما يقارب 5000 طن من المساعدات، كما أوصلت منظمة الصحة العالمية شحنتَين جويتَين إلى مناطق النظام[6].
أطلقت الأمم المتحدة والشركاء في المجال الإنساني دعوة للتبرع السريع تمكنت من جمع 397.6 مليون دولار للطوارئ المساعدة لتوفير الإغاثة لـ 4.9 مليون شخص هم الأكثر تضرراً[7]، في حين خصّص منسق الإغاثة في حالات الطوارئ 40 مليون دولار للاستجابة لسوريا[8].
سياسياً: وجّه العديد من السوريين والعاملين في المجال الإنساني تهماً للأمم المتحدة ولمنظمات المجتمع الدولي بتسييس المساعدات الإنسانية؛ وذلك من خلال تجاهُل الاهتمام بمناطق سيطرة المعارضة السورية رغم أن فيها ما لا يقل عن 5 مليون إنسان يُعدون من الفئات الأكثر هشاشة بين السوريين، وأنها الأشد تضرراً في الجغرافية السورية نظراً إلى قربها من بؤرة الزلزال، مع تركُّز الاهتمام السياسي والإنساني بكلٍّ من الحكومة التركية وحكومة نظام الأسد، وتجاهُل المعنيين التقارير التي تشير إلى تورُّط حكومة الأسد في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والتحقيقات التي أكدت قيامها بنهب العديد من المساعدات السابقة وعدم إيصالها للمستفيدين[9]؛ حيث تبدو الجهود السياسية التي يبذلها نظام الأسد لاستثمار الكارثة واضحة وتَلقى تجاوباً عاماً من المجتمع الدولي ومن الدول العربية.
وفور حدوث الزلزال انتهج نظام الأسد سياسة قائمة على ما يُعرف بـ “ديبلوماسية الكوارث”؛ في محاولةٍ لاستثمار الأزمة الإنسانية وتحويلها إلى مكاسب سياسية، فقد نشطت مجموعات داعمة لنظام الأسد على مواقع التواصل الاجتماعي تُطالب برفع العقوبات عن سوريا بحجة إعاقتها وصول المساعدات الإنسانية، وضغطَ نظام الأسد بشكل كبير من أجل ضمان دخول جميع المساعدات المقدَّمة للمنكوبين من مناطق سيطرته بشكل حصريّ، وتحركت المياه الراكدة سياسياً عربياً وإقليمياً لمحاولة إعادة تعويم نظام الأسد من باب الدعم الإنساني.
ويعتقد البعض أن استثمار نظام الأسد الكارثة الإنسانية سيدفع باتجاه عملية تطبيع واسعة معه، وأن العملية ستسير قدماً وبسرعة أكبر ودون ضغوط جدّية من الإدارة الأميركية التي أعلنت وقف العمل مؤقتاً بعقوبات قانون قيصر لمدة ستة أشهر؛ وهو ما شجّع العديد من الأنظمة العربية على التواصل مع نظام الأسد، أو إرسال الوفود السياسية، أو رفع مستوى التمثيل معه[10].
اجتماعياً: ضربَ السوريون مثالاً حيّاً للتكافل الاجتماعي والدعم رغم ضيق الحال والأزمات الاقتصادية، ونشطت الشبكات الاجتماعية ومجموعات المتطوعين الذين تفاعلوا مع الحدث مباشرة، فبدؤوا بجمع المساعدات العينية والنقدية وإرسال الفرق التطوعية للمساعدة في عمليات الإنقاذ، سواءٌ إلى مناطق الجنوب التركي أو الشمال السوري.
وتحرّكت بعض الفرق العربية من مصر والسعودية وقطر والبحرين والكويت وكردستان العراق وغيرها، فأرسلت متطوعين ومساعدات، كما سارع العديد من المغتربين السوريين -خاصة الأطباء- ومن المنظمات الإنسانية للتحرك السريع بهدف تقديم الدعم المطلوب، لاسيما في القطاع الطبي؛ إلا أن القافلة التي دخلت الشمال السوري قادمة من عشائر دير الزور والرقة فاقت بحجمها عدد الشاحنات التي أرسلتها الجهات الإنسانية والأممية وكانت الدليل الأبرز على تعاضُد السوريين العابر للجغرافية[11].
وبعيداً عن هذا الواقع المؤلم الذي تتفاقم فيه الاحتياجات الطارئة، وتتأخر فيه المساعدات عن طرفٍ على حساب أطراف أخرى، وتتلاعب الأدوات السياسية بحياة الناس وفرص نجاتهم، ويستثمر الجميع في المأساة الإنسانية لتحقيق أكبر قدر من المنافع؛ فإنّ الحاجة تبدو ملحّة عند المعارضة السورية ومؤسساتها السياسية والمنظمات الإنسانية العاملة إلى إعادة النظر ودراسة الواقع بشكل استراتيجي، والتعاطي مع الحدث الطارئ والاستفادة من الفرص المتاحة – على قلتها – لضمان تحقيق أثر إيجابي يسعى إلى تحسين واقع المتضررين، والضغط من أجل تحقيق التوازن وتحمُّل المسؤولية من قبل الجميع، والتفكير في المراحل اللاحقة كونها الأطول زمناً والأكثر تأثيراً والاستعداد لها، وذلك من خلال تطوير سياسات الاستجابة والتفاعل مع الكارثة بما يضمن تحقيق مكاسب أكبر على المستوى المنظور.
لطالما قدَّم التاريخ الكثير من العِبر والعظات؛ حيث إن دراسة التجارب الشبيهة واستخلاص الدروس المستفادة من شأنه تطوير أنماط أفضل من العمل الإنساني وتجنُّب الأخطاء والمشاكل، وتوقُّع التحديات والاستعداد لها، لاسيما حالة زلزال هايتي عام 2010؛ إذ يتشابه في ظروفه وملابساته مع أوضاع الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، خاصة مناطق سيطرة المعارضة، ويتوقع أن تتشابه الآثار الآنية والمتوسطة وبعيدة المدى مع ما سيشهده السوريون، وهو ما يمكُّنهم من التحضير المسبق لها بهدف التخفيف من آثارها والاستفادة من الخبرات الأخرى.
زلزال هايتي 2010؛ دراسة حالة:
تقع جمهورية هايتي في جزر الأنتيل الكبرى في البحر الكاريبي، تفصلها مياه البحر الكاريبي غرباً عن كوبا وجامايكا، وهي دولة تضاريسها جبلية ومناخها استوائي، قُدّر عدد سكانها عام 2010 بـ 10 مليون نسمة، وهي من أكثر الدول اكتظاظاً في المحيط الكاريبي[12]، عانت هايتي قبل حدوث الزلزال من الفقر المدقع ونقص البنية التحتية وضعف الأداء في المؤشرات الصحية، وارتفاع معدلات الوفيات بين الرضَّع والأطفال تحت الخمس سنوات، وارتفاع معدلات التسرُّب المدرسي[13].
تقع هايتي على صدع إنريكيو الذي يمتد من الشرق إلى الغرب على الحدود الشمالية للصفيحة التكتونية لمنطقة البحر الكاريبي، وهي منطقة تعرضت تاريخياً للعديد من الزلازل؛ إلا أن زلزال 2010 كان الأعنف والأكثر بعدد الضحايا، فقد بلغت ضعف أعداد ضحايا أي زلزال سابق بقوة 7 درجات، وقد صُنّف زلزال 2010 رابع أسوأ زلزال في العالم منذ عام 1900م من حيث عدد الوفيات، وذلك بسبب سياسات البناء غير المنضبطة وغير الخاضعة للإشراف التي سمحت بها الحكومة[14]، حيث تسبب ذلك في مقتل ما يزيد عن 220 ألف شخص وجرح أكثر من 300 ألف، وتشريد أكثر من 1.5 مليون شخص، وخلّف أزمة إنسانية هائلة[15].
الاستجابة الإنسانية للكارثة:
كان للأمم المتحدة نشاط إنساني في هايتي قبل الزلزال، وأنشأت مكتباً لتنسيق الشؤون الإنسانية في المنطقة، ومع وقوع الكارثة وصل فريق تنسيق تقييم الكوارث التابع للأمم المتحدة في غضون 24 ساعة، ورغم أن مكتب تنسيق العمل في هايتي كان متضرراً بشدة فإنه تمّت تعبئة الموظفين الموجودين ودعم عمليات الاستجابة التي استمرت لثلاثة أشهر؛ فقد كان التجاوب العام مع الكارثة واضحاً، سواءٌ في سرعة صرف الأموال أو القدرة على جمع التمويل اللازم، فسرعان ما تم إعداد صندوق مركزي للطوارئ بناءً على التقديرات الأولية من العاملين على الأرض بعد 3 أيام من وقوع الزلزال، ترافق ذلك مع وصول مئات المنظمات أيضاً وتم التنسيق فيما بينها[16].
كانت إزالة الأنقاض إحدى التحديات الأساسية خلال الاستجابة الإنسانية؛ حيث قُدّر حجم الأنقاض بـ 26 مليون ياردة مكعبة، أي 20 مليون متر مكعب، وهو ما تسبب بإعاقة عمل فرق الإغاثة الإنسانية، كما أنّ نقاط الضعف الموجودة سابقاً عزّزت شدة الأزمة نفسها وزادت من صعوبة وضع استراتيجيات استجابة فعّالة، لاسيما مع هشاشة الحوكمة وانعدام الأمن السياسي، وانخفاض ثقة الجمهور بالحكومة، والفقر المنتشر، وضعف البنية التحتية، والتحديات الهيكلية، والتعرُّض المستمر للكوارث الطبيعية الذي أثّر في الزراعة والبنية التحتية في هايتي، فانتشرت حالات سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي حتى قبل زلزال عام 2010[17].
رغم الحجم الهائل من المساعدات والفرق الإنسانية فإن عملية الإغاثة الإنسانية لم تكن ميسَّرة، وإنما واجهت العديد من التحديات، منها: النقص العام في وسائل النقل، وأنظمة الاتصالات المحدودة، والبنية التحتية المتضررة، والازدحام في الطرقات، والهزّات الارتدادية. وقُدّر حجم الأضرار بين 8-14 مليار دولار، وانقسمت عملية الإغاثة إلى مراحل: البحث والإنقاذ، والعلاج والبقاء والمأوى وإعادة التأهيل، والتعافي المبكر وإعادة الإعمار[18].
تحديات صحية طويلة الأمد:
تدهور الوضع الإنساني في هايتي عقب الزلزال في العام الأول رغم جهود الاستجابة الإنسانية؛ حيث تسببت العواصف الاستوائية في مزيد من الدمار، وانتشرت الكوليرا بعد 10 أشهر من وقوع الزلزال متسببة بوفاة الآلاف، وذلك نتيجة الفوضى وغياب المياه النظيفة للشرب وغياب برامج المياه والصرف الصحي[19]؛ فقد تسبب الزلزال بتلوث المياه الجوفية والينابيع والمياه السطحية بمياه الصرف الصحي، وهو ما جعل مياه الشرب المتاحة سبباً لنقل العديد من الأمراض، في حين أن الاستجابة غير المنضبطة بمعايير منظمة الصحة تسبّبت أيضاً بمفاقمة هذه المشكلة[20].
كما تسبب زلزال هايتي بعدد لا يُحصى من الإعاقات الجديدة لمختلف الشرائح العمرية، وتعرض العديد من الرُّضَّع والأطفال والشباب والمسنّون لعمليات بتر أو إصابات في النخاع الشوكي والدماغ أو كسور متعددة معقدة، وقُدّرت أعداد الذين فقدوا أصابعهم أو أطرافهم بين 6-8 ألاف شخص، كما أصيب العديد بجروح مروعة تعرضت للتلوث، وازدادت حالات تعفُّن الدم والغرغرينا التي أصبحت من الأمور الشائعة والمهدِّدة للحياة، ورفض بعض المرضى إجراء عمليات البتر لإنقاذ أنفسهم على أمل الشفاء بشكل ما، كما كانت الكراسي المتحركة أيضاً نادرة في هايتي فلم تكفِ لتلبية احتياجات المعاقين حديثاً ولم تتناسب مع وعورة تضاريس المنطقة[21].
ارتفعت معدلات الوفيات بعد الزلزال، وارتفعت معدلات التبليغ عن الاعتداءات الجنسية والجوع، وارتفعت معدلات المرض التي أعاقت متابعة الأنشطة اليومية كالعمل والدراسة؛ حيث شاع الإسهال والصداع والحمّىى، وبرزت الاستجابة للاحتياجات العاطفية للأسر التي فقدت أطفالها، والاحتياجات الأخرى للأطفال الذين فقدوا عائلاتهم، وقد انعكس هذا الوضع على الوضع الاقتصادي العام[22].
وبرزت المشاكل النفسية ضمن الآثار الواضحة والسريعة؛ فقد أُصيب السكان بصدمات نفسية شديدة، فرفضوا النوم في داخل الأبنية أو طلب الرعاية الطبية داخل المستشفيات بسبب الخوف من توابع الزلزال، وعلى الرغم من التقييمات التي قامت بها الفرق على المنازل للتأكد من سلامتها الإنشائية لاحقاً فقد رفضت الكثير من العائلات العودة إليها وفضّلوا البقاء في المخيمات أو في العراء رغم الظروف الجوية الصعبة، وذلك نتيجة مخاوف عامة من التعرُّض لإصابة أو سقوط الأبنية مجدداً نتيجة الهزات الارتدادية[23].
الأضرار المجتمعية؛ استغلالٌ وفوضى وغيابٌ للأمن:
تسببت عمليات الإنقاذ والنزوح الجماعي بتشتت كبير للعديد من العائلات، وتم معها اختطاف بعض الأطفال وضياع أطفال آخرين عن عائلاتهم، فلم يكن من السهل التمييز بين المهرّبين والآباء والأقارب، خاصة الذين يعبرون الحدود، وتم استغلال العديد من الأطفال المفقودين لتقديم خدمات جنسية في المنتجعات السياحية الموجودة[24].
وقد أشارت بعض التقارير إلى أن عمليات اختطاف الأطفال من المشافي نشطت خلال انشغال الناس بعمليات الإغاثة ورفع الأنقاض، خاصة ممن هم دون الخامسة[25]، وكان البحث عن عائلات المفقودين من أهم التحديات التي كان من المفترض الانتباه إليها خلال مرحلة الطوارئ وتوزيع المساعدات، لاسيما وأن طلبات التبنّي والاستفسارات حوله في هايتي ارتفعت بشكل ملحوظ عند بعض الوكالات المتخصصة بالأمر[26].
ومن جهة أخرى ارتفعت معدلات استغلال الأطفال والاتّجار بالقُصّر في الفترة ما بعد الزلزال، وظهر مصطلح “Restavèks”، ويُقصد به إرسال الأطفال للخدمة ضمن عائلات أخرى بعيداً عن عائلاتهم مقابل أجر أو مقابل أن تتكفل العائلة الجديدة بمصاريف الطفل واحتياجاته ودراسته[27]، ولم تتورط العائلات الغنية فحسب بهذا الشكل من الانتهاكات، فحتى بعض الأسر الفقيرة استقبلت أطفال عائلات أخرى خدماً وأجبرتهم على العمل مقابل الغذاء والتعليم[28].
وعلى الرغم من أن حكومة هايتي وقّعت على العديد من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الطفل ومنع الاتّجار بالبشر؛ إلا أنها لم تستطع كبح هذه الظاهرة التي كانت تتم عبر وسطاء يتلقون مبالغ مالية ويستفيدون من الأطفال المقيمين في مناطق ريفية للعمل عبيداً عند أُسر حضرية، فقامت عصابات بنقل الأطفال المرشحين ليكون خدماً إلى دور الأيتام التي أصبحت نقاط تجميع للأطفال المتاحين للتبنّي، ريثما يتم إرسالهم خدماً أو أطفالاً متاحين للتبنّي[29].
بعد خمس سنوات على الكارثة قُدّر عدد خدم المنازل من الأطفال ممن تتراوح أعمارهم بين 5-17 عاماً بين 170-230 ألف طفل، وهو ما يشكّل 10% من عدد الأطفال ضمن هذه الشريحة العمرية، وتشير التقارير إلى أن هؤلاء الأطفال تعرضوا لسوء المعاملة إذ عُوملوا كالعبيد، وتعرضوا للاستغلال الاقتصادي والعنف الجنسي والبدني، كما تم التخلي عن العديد من هؤلاء المراهقين بعد تقدمهم في السنّ وإلقائهم في الشوارع ليصبحوا ضحايا لاستغلال جديد[30]، ولم يكن أمام هؤلاء الأطفال والقُصّر القدرة على الإبلاغ عما يتعرضون له أو عن حالتهم الصحية، مما تسبب في نتائج سلبية صحية ونفسية؛ فكانت معدلات الاكتئاب والانتحار والصدمات والقلق مرتفعة بين هؤلاء الأطفال[31].
عامٌ بعد الزلزال؛ ما الذي تغيّر؟
بعد مرور عام على الزلزال لم يتغير شيءٌ على الصعيد المادي بشكل واضح، وبقيت المدن المتضررة في حالة خراب، ولم تتم إزالة الأنقاض، وظل مليون شخص في المخيمات معرَّضين للعوامل الجوية، وانتشرت العصابات، ولم تتلق هايتي سوى 38% من الأموال التي تم التعهُّد بها للمساعدة ، ودفعت موجة العنف الكثير من السكان المحليين للهجرة غير الشرعية[32].
وازدادت حالات انعدام الأمن الغذائي لتبلغ 1.2 مليون شخص يشكّلون 10% من إجمالي عدد السكان، وارتفع متوسط الإنفاق على الغذاء من 35% إلى 85%، كما ازدادت نسبة الأسر ذات الاستهلاك الغذائي السيئ من 17% إلى 30% بعد الزلزال، وكانت الأسر التي تعولها نساءٌ أكثر عرضةً لانعدام الأمن الغذائي، وارتفعت مستويات الفقر بنسبة 30-50%، ووصلت في بعض المناطق إلى 80%، ولجأت العديد من العائلات لمواجهة الفقر إلى تقليل عدد الوجبات أو اقتراض الأموال وبيع الأصول والانخراط في الخدمات الجنسية[33].
وبالإضافة إلى انتشار الفقر المدقع انتشرت الأمية بنسبة مرتفعة بلغت 40%، وانخفض متوسط العمر المتوقع ليصبح أقل بحوالي 18عاماً عن المتوسط الإقليمي، وارتفعت معدلات وفيات الرُّضّع وحالات سوء التغذية ومعدلات التقزُّم، وكان نصف السكان محرومين من الوصول إلى الخدمات الصحية، و80% لا يشربون مياهاً نقية، وقد توزعت الخسارات على الأسر الفقيرة والغنية؛ إلا أن الخسارات المادية والبشرية كانت أوضح في الأسر الفقيرة التي استمرت خساراتها أكثر فأكثر بعد الكارثة، في حين تمكنت الأسر الأكثر ثراءً من التعافي[34].
ومما فاقم من آثار الزلزال وضعُ هايتي السابق؛ إذ كانت تعاني من هشاشةٍ وضعفٍ في الحوكمة والتنمية، فقد أدى الجوع والاكتظاظ السكاني والإفراط في الاحتطاب إلى إجهاد الموارد الطبيعية واستهلاك الغطاء النباتي الذي كان يغطي مساحات واسعة، إلى جانب ضعف واضح في البنية التحتية، وهو ما جعل البلاد عرضة للانهيارات الطينية، لاسيما مع تكرر الأعاصير والكوارث الطبيعية، فجاء الزلزال ليفاقم حالة عدم الاستقرار وتفكُّك المجتمع المدني وانتشار المخدرات، وحملَ مخاطر أكبر من مجرد وفيات تحت الأنقاض؛ إذ يرى بعض الخبراء أن الكوارث لا تحدث من تلقاء نفسها، وإنما تكون نتيجة سلسلة من الخيارات المجتمعية التي غالباً ما تكون غير مرئية[35].
ومن جهة أخرى ارتفعت معدلات التحرُّش والاغتصاب في مخيمات اللاجئين التي ضربها الزلزال[36]، وكانت آثار الزلزال أكثر وضوحاً على النساء، سواءٌ ما يتعلق بالوصول إلى الخدمات الصحية أو الاستجابات الطبية المتعلقة بالأمراض المزمنة أو خدمات الصحة الإنجابية، بالإضافة إلى الحاجة للبحث عن مأوى وارتفاع عوامل انعدام الأمان وزيادة خطر العنف، ووضع الاستجابات الخاصة بالعائلات التي تعولها نساء[37].
الدروس المستفادة من زلزال هايتي:
خضعت حالة زلزال هايتي لكثيرٍ من البحث والدراسة كونها الكارثة الأكبر والأحدث؛ فقد عمل الخبراء – المحليون والأجانب – من مختلف الأصعدة على استخلاص الكثير من الدروس والعبر من هذه الكارثة التي يمكن الاستفادة منها في تطوير نهج أكثر فعالية في التعامل مع الأزمات وحالات الطوارئ.
ويرى بعض الخبراء أن زلزال هايتي كشف عن حالة ضعف ونقص في القدرات المؤسسية داخل المجتمع الدولي بداية، وهو ما انعكس على قدرة المؤسسات الدولية في تقديم الاستجابة المطلوبة، وكشف حاجة العاملين في تلك المؤسسات إلى بناء القدرات للتعامل مع حالات الطوارئ قبل أن تقع الكارثة، وإلى عمل تقييمات متكررة لأنماط التدخلات الإنسانية المختلفة التي لا تركز على الاحتياجات المعروضة فحسب، وإنما تقيّم قدرات العاملين واستجابتهم أيضاً. بالإضافة إلى الحاجة لتطوير إطار مفاهيمي وإنشاء موقف تنظيمي وتطوير رؤية استراتيجية، مع هيكل تنظيمي مناسب لهذه المؤسسات الدولية قبل أن تقوم برفع قدرات المنظمات والفرق المحلية[38].
لقد أظهر الزلزال الحاجة إلى إنشاء وتطوير قيادة محلية قوية قادرة على التحرك في حالات الطوارئ المعقدة؛ إذ يُفترض أن تكون القدرات الحكومية قادرة على التحرك بفعالية ووعي لمساعدة نفسها ابتداءً وفق خطط ورُؤى معدّة مسبقاً، وليس بمنطق ردّ الفعل، ويتوجب على هذه القيادة التعامل مع كل التحديات والتوجه إلى الجمهور بخطاب وطني مطمئن؛ حيث إن الصمت والحزن ممن هم في مراكز صناعة القرار غير كافٍ لإدارة مثل هذه الأزمات[39].
ومن جهة أخرى أظهر زلزال هايتي الحاجة إلى التحسين والتوحيد وتنسيق الجهود وإنشاء قيادات فاعلة داخل الإطار الإنساني، يتضمن دعم صانعي القرار بالمعلومات التي لا يمكن جمعها إلا من خلال البيانات المنسقة؛ فقد عكست التجربة الهايتية حالة من عجز التنسيق في المرحلة الأولى من عمليات الإغاثة وعدم التنسيق فيما يتعلق بفهم حالة الطوارئ والاحتياجات وأدوار المستجيب، ومما فاقم الأمر نقص المعلومات السابقة التي تساعد في المقارنة، فبدأت عمليات تقييمٍ للاحتياجات الأولية وجمعٍ للبيانات بسرعة، إلا أنها لم تكن ذات فعالية بسبب تضارب النتائج واختلاف المنهجيات والمعايير فيما بينها، مما جعل تخطيط الاستجابة مقيداً بالتداخل أو الاختلاف في قواعد المنهجية، وهو ما دفع إلى إعادة تقييم أفضل وأوسع نطاقاً للاحتياجات لتكون المجموعة على مستوى المعلومات التكميلية المقدمة من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي[40].
لقد استقبلت هايتي الكثير من التبرعات الخيرية للإغاثة من الكوارث بمعدل غير مسبوق، وجاء هذا التمويل من عدد كبير من المنظمات الجديدة؛ إلا أن وصول هذه الإغاثة الجديدة عقّد جهود الوكالات، وجعل عملية توحيد جمع البيانات وإجراءات التشغيل صعبة، لاسيما وأن هذه الجهات الفاعلة الجديدة قد اتجهت لإعطاء الأولوية للعمل الأحادي على التنسيق[41].
ومن جهة أخرى استُخدمت خلال عملية الاستجابة التكنولوجيا من قبل بعض المنظمات الإنسانية بشكل فعال؛ حيث طُوّرت بنية تحتية تكنولوجية للمعلومات القابلة لإعادة الاستخدام وللمراسلات المحسنة للاستجابة للطوارئ، وتم تجميع التغريدات والرسائل النصية حول الإغاثة أو التبليغ عن مرض أو لطلب معلومة، وكان هناك فريق يتلقى بعض أشكال التبليغات بلغات مختلفة ويترجمها للإنكليزية، كما تم تجميع التغريدات على مواقع التواصل والرسائل والاتصالات، وتحاول إيصالها للمعنيين[42].
وعلى المدى المتوسط برزت مشاريع الدعم الاقتصادي ضمن المشاريع ذات الجدوى التي أثبتت فعاليتها في هايتي، خاصة مشاريع النقد مقابل العمل التي قُدمت للعائلات التي ليست لديها مهارات، والمنح المالية الخاصة بتلبية الاحتياجات الأساسية غير المشروطة التي قُدمت للمتضررين لمرة واحدة، بالإضافة إلى مشاريع دعم سُبل العيش لأصحاب المشاريع التجارية الصغيرة، ودعم المطابخ الجماعية التي قدمت وجبات مجانية للمتضررين من الزلزال على مدى شهور، والمنح المخصصة لشراء الوقود لبعض الأسر، والدعم المقدم لأرباب بعض الأسر لمنعهم من بيع أصولهم ، ودعم أصحاب المطاعم في تعافيهم، إلى جانب المنح مالية التي خُصصت لدعم العمال المهَرة ومساعدتهم على إعادة بناء تجارتهم وشراء الأدوات، ودعم محلات البقالة[43].
من الاستجابة العاجلة إلى الاستجابة الاستراتيجية؛ من أين نبدأ؟
تتشابه حالة زلزال هايتي في بعض الجوانب مع واقع الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا؛ حيث تبدو المقاربة أشد وضوحاً مع المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية، والتي تعاني منذ أكثر من عشر سنوات من الاستنزاف وعدم الاستقرار السياسي والأمني والإنساني[44]، وتراجعت فيها معدلات الاستجابة الإنسانية عاماً بعد عام، وارتفعت معدلات الفقر لتصل إلى نسب قياسية، وبلغت معدلات اضطرابات ما بعد الصدمة وحالات التقزُّم نِسباً عالية، وتفاقمت حالات الانتحار، وانتشرت الكوليرا وبعض الأمراض المعدية قبل حدوث الزلزال.
ومع تعدُّد سلطات الأمر الواقع وغياب أي سلطة مركزية لم تكن ثمّة أية سياسة أو استراتيجية لإدارة الكارثة ابتداءً، ولم تكن هناك أية منظومة واضحة تحكم عملية البناء العشوائي الذي ازداد مؤخراً لتلبية الاحتياجات دون وجود معايير أو ضوابط تضمن سلامة الأبنية؛ مما زاد عدد الأبنية المدمرة بشكل كامل أو جزئي، ورفع حجم الخسائر البشرية بشكل كبير.
وقد أدى غياب التدخل الجادّ من قبل الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية والتذرع بعوائق لوجستية وسياسية وبيروقراطية لتفاقم الخسائر البشرية، لاسيما وأن الاستجابة لأضرار الزلزال في الأسبوع الأول كانت استجابة محلية خالصة عانت من غياب المعدات والآليات المطلوبة، ومن غياب أي دعم حقيقي كان من شأنه إنقاذ المزيد من الأرواح.
ومع الإعلان عن انعقاد مؤتمر أوربي لجمع التبرعات لمتضرّري الزلزال يواجه السوريون في مناطق سيطرة المعارضة تحديات كبيرة، لاسيما مع غياب أية جهة تمثيلية يمكن أن تضغط باتجاه حقوقهم؛ فمن غير الواضح إن كانت تركيا ستكون المسؤولة عن عملية الاستجابة الإنسانية في مراحل لاحقة في مناطق سيطرة المعارضة السورية، أم سيكون للمنظمات السورية دورٌ في قيادة هذه الاستجابة أو جزء منها.
وبالنظر إلى ما سبق وإلى تشابه ملامح الكارثة السورية مع الكارثة الإنسانية في هايتي تبرز العديد من التحديات الإضافية أمام العاملين في الشأن الإنساني، إلى جانب تحديات المأوى والاستجابة العاجلة؛ إذ يُفترض أن تستحضر المنظمات الاحتياجات المتوقعة مستقبلاً وتتحضر لها، وترسم سياسة واضحة للحدّ من آثارها الإنسانية.
ومن جهة أخرى يُفترض عدم التعويل بشكل كامل على المساعدات الأوروبية التي ستُقدم في المؤتمر القادم، كما يلزم عدم تجاهلها وعدم الاستفادة منها؛ فالتجارب السابقة تشير إلى أن وفاء الدول بتعهداتها يستغرق الكثير من الوقت، ولا يتناسب عادة مع حجم الاحتياجات اللازمة؛ ولذا يُفترض بالسوريين التفكير باستراتيجيات أخرى لتوظيف المساعدات في القطاعات ذات الأولوية تحقق حالة من الاستدامة، والعمل على تسريع تعافي المجتمع، وإعادة بناء البنى التحتية بشكل رئيسي.
وفي هذا السياق تبرز عشرة تحديات رئيسة أمام السوريين؛ سواءٌ أكانوا أجساماً سياسية أو مجالس محلية أو سلطات أمر واقع أو منظمات مدنية، يُفترض بهم أن يتفاعلوا معها بشكل مبكر، وهو ما يتطلب بناء هيئة للحماية المدنية للطوارئ والكوارث تتبنّى آلية ومنهجية الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي والجامعة العربية ذاتها، تضم ممثلين عن جميع الفاعلين السوريين على مختلف المستويات، وفق مرجعية وأهداف وسياسات واضحة وشفافة، تعمل على وضع ميثاق شرف وبرامج وآليات وخطة استجابة مسبقة للتعامل مع حالات الطوارئ، والعمل على تأمين دعم مادي ولوجستي، وتزويدها بما يتطلب من تدريبات ومهارات وأدوات تنفيذية ومنح مالية، وبما يلزم من لوجستيات وقواعد بيانات حول المتطوعين والآليات والموارد والعلاقات التي يمكن الاستفادة منها؛ لتكون هذه الهيئة الحامل الوطني المتخصص الذي يقدّم الحلول والمشاريع الخاصة بتذليل التحديات المتوقعة، والتي يمكن إيجازها بما يلي:
- التعامل مع الأنقاض: تشكّل الأنقاض مشكلة لوجستية وبيئية يلزم التفكير بها؛ نظراً لكونها قد تعيق العمليات الإنسانية من جهة، وتشكل خطورة على حياة المدنيين من جهة أخرى، فقد تتحول إلى بؤر لانتشار الأمراض المعدية والأوبئة، فضلاً عن المخاوف من سرقة الأنقاض[45]، أو إعادة استخدام الأنقاض المهدمة في بعض عمليات البناء التي لا يمكن أن تحقق المتانة المطلوبة.
وحتى الآن لا تبدو هناك سياسة واضحة في التعامل مع هذه الأحجام الهائلة من الأنقاض؛ سواءٌ تلك التي خلّفتها عمليات القصف أم التي خلّفها الزلزال، وهذا يقتضي المزيد من البحث والدراسة حول الحلول الممكنة والمتاحة للتعامل مع هذه المشكلة بشكل يراعي القواعد البيئية، ويؤمّن موارد اقتصادية وفرص عمل إذا تمّت إدارة المشكلة على نحو فعّال.
- إعطاء الأولوية لبرامج المياه والإصحاح في عمليات الاستجابة القادمة، وهي فرصة للمنظمات لزيادة الضغط باتجاه استجلاب المزيد من الدعم الذي يهدف إلى تقييم شبكات توزيع المياه والصرف الصحي وتطويرها وإعادة تصميمها وتوسيعها لتخدم جميع التجمعات البشرية الموجودة، والحرص على التأكد الدوري من سلامة المياه وصلاحيتها للشرب، خاصة مياه الآبار، وإنشاء محطات لمعالجة المخلفات بطريقة آمنة تراعي المعايير البيئية.
- إدارة وضبط عمليات البناء و الإيواء؛ سواءٌ ما يتعلق منها بإنشاء مخيمات جديدة تطابق المعايير الدنيا لميثاق اسفير على الأقل، وإعادة حوكمة المخيمات الموجودة والعمل على التأكد من مطابقتها لتلك المعايير التي لم تتحقق حتى الآن[46]، بالإضافة إلى ضبط عمليات البناء الإسمنتي الجديد، سواءٌ ذاك الذي تقوم به المنظمات العاملة على الأرض أو الشركات الخاصة؛ إذ يلزم التشدُّد في تطبيق معايير الترخيص والدراسة والإشراف والتحقق من جودة الإنشاء ومن مطابقة شروط الإنشاء لمتطلبات السلامة العامة والأمان من الزلازل، بالإضافة إلى وضع قيود على توسع العمران بشكل عشوائي على الأراضي الزراعية.
- تفعيل الدور الرقابي لنقابة المهندسين الأحرار؛ لجعلها مرجعية أساسية تقوم بتقييم حالة الأبنية العامة والخاصة والمرافق الخدمية كاملة من حيث السلامة والأمان، وتطوير معايير تزوّد تلك المباني بمخارج خاصة للطوارئ، وتقوم بعمليات التدعيم اللازمة، بالإضافة إلى تفعيل دورها في عمليات التخطيط لتوسع المدن والبلدات المنتظم وتحديد المقاسم والأماكن التي يسمح بها بالبناء والعمران بما يضمن عدم تآكل الأراضي الزراعية او انتشار العشوائيات[47].
- تفعيل جهود الدعم النفسي، ودعم كوادره ومؤسساته، وزيادة برامج تدريب الاختصاصيين والمتطوعين المخصصة للتعامل مع أشكال الأزمات المختلفة، خاصة عند الأطفال والنساء، وإقامة برامج وأنشطة طويلة المدى تساعد الكوادر العاملة في هذا المجال على تجاوز الصدمة التي تعرضوا لها حتى يكونوا قادرين على تقديم الدعم لغيرهم، وتدريبهم على تقديم هذه الخدمات بشكل منضبط تشرف عليه هيئة نفسية مختصة تراقب هذا المجال والعاملين فيه وتتأكد من كفاءتهم.
- التركيز على ضبط الأمن ودعم جهود الفرق والهيئات المحلية ومساعيها في الحدّ من انتشار العصابات وتجارة المخدرات[48]، ومن انتشار السرقات وعمليات الخطف والاغتيالات والفلتان الأمني الذي يُتوقع أن تتزايد في المدى المنظور[49].
- التركيز على حماية الفئات الهشّة والضعيفة من نساء وأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة والمصابين، وحمايتهم من الاستغلال بكل أشكاله، والعمل على إنشاء مؤسسات متخصصة وشبكات قادرة على التفاعل مع التبليغات وتقديم الدعم المادي والمعنوي، وتتبع حوادث التحرش والاغتصاب وعمليات التبنّي والاتّجار والاستغلال الجنسي والتسوُّل المنظَّم.
- دعم القطاع الزراعي وفق خطة زراعية تسعى لإعادة تأهيل الأراضي واستثمارها بالطريقة الأمثل التي تؤمّن موارد غذائية محلية، وتعزّز مفهوم الأمن المائي[50]، وتدعم مشاريع التعافي المبكر، وتؤمّن فرص عمل للعديد من الأسر التي فقدت موارد رزقها. بالإضافة إلى تشديد الرقابة الحكومية والشعبية على حماية الموارد الطبيعية؛ فقد كانت زيادة الاحتطاب والعبث بالموارد الطبيعية من أسباب تفاقم آثار زلزال هايتي، وهو ما ينطبق على العديد من المناطق في الشمال السوري.
- الاستخدام الفعّال للتكنولوجيا في التبليغ عن المفقودين والمتوفين والحالات الحرجة التي تستدعي تدخلاً عاجلاً، وتتبع الأمراض والأوبئة وحجمها ومراكز انتشارها، والاستفادة من المعلومات المنتشرة على مواقع التواصل بعد التحقق منها في دعم عملية الاستجابة للكارثة؛ سواءٌ الاستجابة الآنية أو متوسطة المدى.
- الضغط من أجل تطوير أنظمة الاستجابة المحلية للمنظمات العاملة والفرق التطوعية والقيادات المجتمعية، وتطوير قدرات أفرادها والتنسيق فيما بينهم؛ سواءٌ على نطاق تشارُك البيانات أو ضبط العمل الإنساني أو التشبيك بينهم في حالات الطوارئ، وزيادة الاهتمام بمشاريع التوعية المجتمعية للتعامل مع الزلازل والكوارث الطبيعية، وذلك من خلال المدارس والمراكز الشبابية والاتحادات الطلابية.
ومن الضروري أن تتحرك المنظمات السورية للضغط ومساءلة المنظمات الإنسانية المعنية لمعرفة أسباب التراخي والتباطؤ في الاستجابة، لضمان عدم تكرار هذه المشكلة في المستقبل، والسعي لتخفيف العوائق البيروقراطية وسدّ الفجوات، والتعويض ودعم الجهات المحلية والمنظمات العاملة على الأرض بشكل متوازن وفي كل المناطق المتضررة بهدف تأمين أفضل استجابة ممكنة للمتضررين.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
أعتقد أن الآلية المتبعة في التعبئة العامة عند حدوث الكوارث في تركيا كانت هشة للغاية ولم تكن تملك أي خطط استراتيجية بعيدة الأمد رغم التفاخر بحجم مشاريع منظمة الكوارث التركية ( الآفاد ) محلياً وإقليمياً ودولياً وأما إمكانيات منظمة الدفاع المدني
(الخوذ البيضاء ) في المناطق المحررة ورغم قلة إمكانياتها اللوجستية والمادية كان أداؤها افضل ألف مرة من أداء إدارة الكوارث التركية ولا أعتقد أن طرح أوجه التشابه بين زلزال هاييتي وزلزال تركيا وسورية مهم من حيث النتائج الكارثية التي دفع ثمنها عشرات الآلاف من الأبرياء في كل من تركيا وسورية واختم أن الفساد وعدم وجود رقابة هندسية في إنشاء الأبنية القادرة على الصمود عند الكوارث الطبيعية وعدم وجود خطط للتنمية المستدامة وبنى تحتية متطورة كانت السبب الأكبر في حجم تفاقم الكارثة ..!!!