التغلغل الإيراني الاقتصادي في سوريا بعد عام 2011
دراسة بانورامية صادرة عن مركز الحوار السوري و مركز ماري للأبحاث و الدراسات - آذار 2022
بين يدَي الدراسة:
تمثّل سوريا إحدى القواعد الرئيسة في المشروع الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وقد ظهر هذا الاهتمام خلال فترة حكم الشاه؛ لكنها تبدّت بشكل ممنهج وأكبر مع وصول نظام “الولي الفقيه” إلى السلطة؛ فحينها بدأت التدخلات الإيرانية في سوريا تتطور وتتعاظم، خصوصاً مع دخول إيران بقوة في العراق بعد 2003، حيث بدأت تتطلع إيران لاستكمال هلالها الشيعي.
مع انطلاق الثورة السورية ألقت إيران بكامل قوتها خلف نظام الأسد، وقد بنَت استراتيجيتها في سوريا على ثلاثة أسس:
الأول: الدعم العسكري وإنشاء الميلشيات، واختراق المؤسسات العسكرية التابعة لنظام الأسد: وقد عمدَ مركز الحوار السوري إلى تغطية التدخلات العسكرية الخشنة التي قامت بها إيران في سوريا عبر سلسلة أوراق بعنوان: “ميليشيات المشروع الإيراني في سوريا” في ثلاثة أجزاء، والتي غطّت التصنيف وعوامل الحشد والأدوار والمستقبل والأثر الإقليمي[1].
الثاني: القوة الناعمة: التي تشمل مختلف الأدوات الدينية والتعليمية والاجتماعية والإعلامية والديموغرافية؛ إذ تُدرك إيران أن حربها الثقافية الحضارية في سوريا طويلة الأمد، ولذا ما زالت تبذل كل ما تستطيع لإنجاح التغلغل الثقافي داخل سوريا، فأصبحت تستخدم أدوات القوة الخشنة والناعمة لتحقيق التغيير الثقافي والاجتماعي؛ وهذا الجانب قام مركز الحوار السوري بتغطيته عبر سلسلة أوراق بعنوان: “التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا”[2].
الثالث: التدخلات الاقتصادية: يُعد هذا القطاع بمثابة الداعم للركنَين السابقَين؛ فهو يمثّل القطاع الذي تعتمد عليه إيران لتمويل تدخلاتها الخشنة والناعمة، ولربط الاقتصاد السوري باقتصادها، في مشهدٍ يذكّرنا بسرديات “الاستعمار الحديث” الذي اعتمد على ربط اقتصاديات الدول المستَعمَرة باقتصاداتها؛ وهذا ما نسعى لدراسته في الإصدار.
يمثّل المشروع الإيراني في سوريا بأبعاده الأيديولوجية والقومية والثقافية والاقتصادية أحد أخطر المشاريع التي تهدّد وجود الهوية الوطنية السورية، وبالتالي كان لزاماً على مختلف المكونات والفئات والمؤسسات الوقوف في وجهه وفضحه والتوعية بأخطاره. لاسيما وأن الحرب التي تخوضها إيران ضد الشعب السوري تشمل مختلف النواحي والقطاعات؛ وبالتالي لابد أن تكون مواجهتها كذلك شاملة تتضافر فيها كل الجهود السورية المخلصة لوطنها وشعبها.
وحدة التوافق والهوية المشتركة – مركز الحوار السوري
ملخص الدراسة:
ارتبط النظامان السوري والإيراني بتحالف استراتيجي منذ ثمانينيات القرن الماضي؛ إلا أن التحالف السياسي والعسكري والأمني بينهما في المنطقة لم ينعكس على الجانب الاقتصادي على مدار سنوات ما قبل الثورة السورية، وبشكل خاص في مرحلة حكم الأسد الأب، كما أنها لم تشهد زيادة تتناسب طرداً مع المدّ الثقافي بعد توريث الابن، لاسيما عند مقارنتها بمستوى العلاقات السورية مع دول أخرى كتركيا ودول الخليج.
إلا أن هذه العلاقات قد اختلفت تماماً بعد انطلاق الثورة السورية، خاصة بعد عام 2015 م؛ فقد سعت إيران إلى التمركز في كل القطاعات الرئيسة في سوريا، ورغم بذلها جهوداً كبيرة في هذا المجال فإن نجاحها الفعلي ومستوى سيطرتها يختلف ما بين قطاع وآخر، مع وجود محاولات إيرانية مستمرة ومتواصلة لزيادة التمركز في كل منها على حدة.
بشكل عام يُلحظ وجود سمه عامة صبغت التوجهات الاقتصادية الإيرانية في سوريا، وهي: النجاح في إبرام الاتفاقيات مع الفشل في تحويلها إلى واقع، وذلك نتيجة ثلاثة عوامل رئيسة هي: المنافسة الروسية، وتأثير العقوبات الغربية، والضعف الاقتصادي في سوريا.
وعلى الرغم من العوائق فقد نجحت إيران نسبياً في الاستحواذ على عدة مفاصل، كما تُظهر باستمرار أن لديها التصميم والعزم للدخول بشكل أكبر ومواجهة التحديات التي تعترضها، وهي النتائج التي تَظهر من جراء تتبع الخطوات الإيرانية وتحليلها في الخريطة الاقتصادية السورية.
ففي القطاع الأول “وهو الزراعة والثروة الحيوانية” سعت إيران بشكل محدود للاستثمار الزراعي؛ إلا أنها ركزت على التجارة الزراعية وتأمين مستلزمات القطاع، وفرض نفوذ على طرق التجارة، كما سيطرت على الكثير من أراضي السوريين بتسهيل من نظام الأسد وقامت باستغلالها في نواحٍ متعددة، تتمثل بشكل رئيس في كل من: بناء المراكز الدينية والقطعات العسكرية، والاستثمار الزراعي المحدود للمليشيات، بما في ذلك زراعة الحشيش.
أما في القطاع الصناعي فقد فشلت إيران بشكل كبير في الصناعات الاستخراجية – أي الثروات الباطنية – عموماً، وذلك لحساب المنافس الروسي، حيث اقتصرت سيطرتها على بعض الآبار الصغيرة في منطقة البوكمال، إلى جانب الحصول على اتفاقية رسمية للتنقيب في المنطقة ذاتها.
أما على صعيد منشآت تكرير النفط فحصلت إيران بشكل غير مباشر عبر أحد أذرعها المحليين “قاطرجي” على استثمار بناء مصفاتَي نفط، ومهمة تطوير مصب النفط في طرطوس، وإنشاء منظومة نقل متطورة تربط بين المحافظات، لكنها فشلت في الحصول على استثمار لميناء نفطي أو إنشائه حتى الآن، في حين أنها تركز جهودها لاستخدام سوريا ممراً للوصول إلى المتوسط عبر محاولات إحياء مشروعين استراتيجيين قديمين هما: أنبوب “الصداقة الإسلامي” وخط سكة حديد (شلمجة – اللاذقية).
أما على صعيد البناء والتشييد “القطاع العقاري” فقد قامت إيران باستثمارات مكثفة عبر شراء العقارات، كما قامت بالاستيلاء على الكثير من عقارات السوريين المهجَّرين في مناطق مختلفة في سوريا، بما يرتبط بشكل رئيس بمخططات التغيير الديمغرافي وتوطين المليشيات المدعومة من قبلها.
أما على صعيد الصناعات الأخرى بما فيها الصناعات التحويلية فإن إيران نجحت في الحصول على استثمارات واسعة في القطاع، في كل من صناعة الطاقة الكهربائية وما يرتبط برغيف الخبز “صناعة المطاحن”.
أما في قطاع إنتاج الخدمات فقد تركزت المساعي الإيرانية في مجال الخدمات التعليمية والسياحية التي يبدو أن الهدف منها أيديولوجي ثقافي أكثر منه اقتصادي، في حين أن تدخلاتها في قطاع الاتصالات والقطاع المصرفي لم تنجح حتى الآن.
أما على صعيد التبادل التجاري فقد سعت إيران إلى رفع مستوى التبادل التجاري مع سوريا، ولذلك حصلت على اتفاقية التجارة الحرة مع نظام الأسد في عام 2011، ونجحت في إنشاء الغرفة التجاريّة الإيرانيّة السورية المشتركة في العام 2019. وعلى الرغم من هذه الخطوات والكثير من التصريحات واللقاءات والاتفاقيات الأخرى لم تنجح محاولات تطوير العلاقات التجارية بين البلدين؛ إذ تُقدر حصة طهران حالياً من التجارة السورية بـ 3 % فقط، بينما تبلغ حصة تركيا على سبيل المثال 30%.
مع المحاولات المستمرة لإيران للتدخل في مفاصل الاقتصاد السوري يلزم التنبه لمخاطر ذلك؛ فدخول إيران في الاقتصاد السوري ينطوي على مخاطر كبيرة؛ من أبرزها: تحويل سوريا إلى سوق لتصريف البضائع الإيرانية، وإمكانية تحويل أموال إعادة الإعمار أو قسم كبير منها للجيوب الإيرانية، وجعل الاقتصاد السوري أحد الموارد لتمويل مليشيات المشروع الإيراني مستقبلاً.
وأما سياسياً وأمنياً فتتمثل أبرز الآثار في مساعدة إيران على تطبيق نموذج “دولة داخل دولة” اقتصادياً، وبالتالي عرقلة أي جهد للحل السياسي، وامتلاك أحد أدوات السيطرة على القرار السيادي السوري، إلى جانب إضعاف السلطة المركزية لحساب الحكم الميليشياوي. كذلك اجتماعياً قد يسهم الحضور الاقتصادي لإيران في تغيير الهوية الحضارية لسوريا، وإنشاء منظومة عشائرية موالية، والقيام بـ “التجنيد الاقتصادي” في المجتمع.
لا تقتصر آثار هذا التغلغل الإيراني على المستوى الوطني فحسب، بل تمتد إقليمياً للعبث بـ “الأمن الإقليمي” وتعريضه لمخاطر عديدة؛ نتيجة تحويل سوريا إلى منطقة غير مستقرة، ومصدر للتجارة غير المشروعة كالتهريب والمخدرات وتجارة الأعضاء.
مقدمة:
لم يقتصر دعم إيران على مدار العقد المنصرم لنظام الأسد على الجانب العسكري؛ إذ ترافق ذلك مع دعم مالي كبير منعَ انهيار نظام الأسد من البوابة الاقتصادية، ومع تغيير الخريطة العسكرية وابتعاد النظام عن حافة الانهيار الشامل بدأت تتوالى الخطوات الإيرانية للتموضع في الاقتصاد السوري؛ سعياً لاسترداد الأموال التي أنفقتها وتمهيداً لمرحلة إعادة الإعمار عبر التحكم بمفاصل رئيسة لحصاد “غنائم الحرب”.
على الرغم من انطلاق الاستراتيجية الإيرانية في سوريا من مبدأ “المحافظة على نظام الأسد” باعتباره النظام الذي يحقق المصالح الإيرانية في سوريا بشكل شبه كامل؛ فإن الأدوات الإيرانية التي لجأت إليها في سوريا لم تقتصر على دعم هذا النظام، بل تعدته إلى محاولة بناء وجود طويل الأمد عبر المؤسسات السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية والثقافية السورية، في محاولةٍ منها لتغيير وجه سوريا، وإنشاء بيئة اجتماعية حاضنة للمشروع الإيراني المتمثل في كل من “ولاية الفقيه” و”نظرية أم القرى”[3].
ولتحقيق هذه الاستراتيجية قام المشروع الإيراني في سوريا على أعمدة ثلاثة: الأول يقوم على الأدوات الخشنة، وهو ما تمثل في إنشاء عشرات الميليشيات الطائفية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني مباشرة، والثاني: يستند إلى الأدوات الناعمة المتمثلة في الأدوات الثقافية والدينية والاجتماعية والتعليمية، في حين أن الثالث -وهو الداعم للسابقَين- يتمثل في المجال الاقتصادي الذي تحاول إيران جعله قطاعاً داعماً لأدواتها الناعمة والخشنة في آن معاً.
ومع تعدُّد الدراسات والتقارير التي تتحدث عن الخطوات الاقتصادية الإيرانية في سوريا[4] إلا أنه ليس ثمّة دراسة تتحدث عن تلك الجهود الإيرانية بطريقة مسحية شاملة، وهو ما نسعى إليه في هذه الدراسة التي هي أقرب إلى دراسة بانورامية ترصد مجمل الخطوات الاقتصادية الإيرانية في سوريا، وتقوم بتحليلها واستشراف مستقبلها.
من هنا يسعى هذا التقرير إلى الإجابة عن الأسئلة الآتية:
- ما هي الخطوات الاقتصادية التي قامت بها إيران في سوريا بعد عام 2011؟
- ما آثارها الآنية والمستقبلية على الوجود الإيراني في سوريا؟
- هل تستند إلى استراتيجية واضحة أم هي مجرد خطوات متفرقة؟
- ما هي العوامل المؤثرة في السلوك الاقتصادي الإيراني في سوريا؟
تتمثل أهمية هذه الدراسة في أنها تساعد في تجميع الصورة الكاملة لمجمل التدخلات الاقتصادية الإيرانية في سوريا، بما يسهم في الوقوف على مستوى هذه التدخلات والتعرف إلى المدى الذي وصلته؛ من جهة إمكانية توصيفها باستراتيجية كاملة أو مجرد خطوات متفرقة لتحصيل مكاسب مالية، إلى جانب التعرف على مدى مواكبتها للتدخلات الأخرى العسكرية والثقافية والتعليمية والاجتماعية، واستشراف مآلاتها في مختلف المجالات، وليس في المجال الاقتصادي فحسب.
وحيث إن هدف الدراسة هو رصد الخطوات الإيرانية على الصعيد الاقتصادي وتحليلها فقد كان المنهج الوصفي التحليلي -الذي يهدف إلى تحليل السلوك وأهدافه- هو المنهج الأنسب. وقد اعتمدت بصورة أساسية على المصادر الثانوية، والتي تتضمن ما نُشر من مقالات ودراسات عربية وأجنبية حول موضوع التدخلات الاقتصادية الإيرانية في سوريا، خاصة في الفترة بين عامي 2011-2021، وعلى مجموعة من البيانات المنشورة في موقع البنك الدولي وبعض المواقع الاقتصادية كمصادر أولية.
تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسة، نستعرض في القسم الأول تاريخ العلاقات الاقتصادية بين إيران وسوريا وأبرز معالمها ومحطاتها، ونستعرض في القسم الثاني الخطوات الإيرانية الاقتصادية للتموضع في سوريا بعد 2011 في كل من القطاعات الثلاثة وفق أدبيات علم الاقتصاد الرئيسة (القطاع الزراعي والثروة الحيوانية، وقطاع إنتاج السلع، وقطاع إنتاج الخدمات)، لنختم في القسم الثالث الأخير مع الآثار الآنية والمستقبلية المتوقعة للتدخلات الاقتصادية الإيرانية.
1- العلاقات الاقتصادية الإيرانية السورية قبل 2011: زاوية هشّة في منظومة العلاقات
تُعد العلاقات الاقتصادية بين الدول محركاً ودافعاً رئيساً لجميع أشكال العلاقات الأخرى، وفق دائرة من التأثر والتأثير بمدى تطور العلاقات الاقتصادية، لذلك تحول هذا الجانب إلى محرك جديد في العلاقات الدولية، كما أصبحت العلاقة الاقتصادية بين الدول ثمرة للمبادئ السياسية والاتجاهات الأيديولوجية[5].
وباستعراض تاريخ العلاقات الاقتصادية بين نظام الأسد وإيران يمكننا رسم ملامحها العامة عبر تتبع ثلاثة جوانب رئيسة، هي: مستويات التبادل التجاري، والاستثمارات، والاتفاقيات الاقتصادية المؤسسة لكل منهما؛ فهي التي يمكن أن تمثل مؤشرات مهمة لفهم طبيعة العلاقات الاقتصادية بين البلدين في الفترات السابقة.
1-1- العلاقات الإيرانية- السورية على صعيد التبادل التجاري:
بدأت أولى مظاهر العلاقات الاقتصادية منذ فترة حكم الشاه في إيران؛ إذ وقّعت اتفاقية اقتصادية في عام 1969 [6]، تبعها في السبعينيات اتفاقيات أخرى أسفرت عن قروض إيرانية لسوريا بقيمة 500 مليون دولار، ليبدأ التبادل التجاري عبر تصدير فوسفات ومحاصيل زراعية سورية واستيراد عربات نقل إيرانية في تلك الفترة[7].
تطورت هذه العلاقة الاقتصادية بعد سقوط نظام الشاه في إيران عام 1979، وترسخت بشكل واضح وجليّ في ظل الحرب (العراقية-الإيرانية)؛ إذ تحالف نظام الأسد مع إيران ضد العراق سياسياً وعسكرياً[8]، فكانت بداية العلاقات الاقتصادية الحقيقة في هذه المرحلة كعامل ثان رديف للشق الأمني والعسكري، ظهرت من خلال سلسلة اتفاقيات تجارية ونفطية في عام 1982، كان أهمها الاتفاق على تبادل النفط الإيراني بالفوسفات السوري، وحصول سوريا على نفط مدعوم إيرانياً مقابل إغلاق خط النفط العراقي الذي يمرّ في سوريا[9].
استمرت العلاقات الاقتصادية على ذلك إلى أن بدأت ملامح مأسسة العلاقات الاقتصادية بين البلدين اعتباراً من عام 1996، مع تأسيس أول لجنة اقتصادية مشتركة في دمشق بهدف الارتقاء بالعلاقات الاقتصادية ورفع حجم التبادل التجاري[10].
في مرحلة حكم الأسد الابن ومع التغييرات في السياسة الاقتصادية في سوريا عبر تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي[11]، وازدياد التبادل التجاري السوري مع منطقة الشرق الأوسط من جهة، والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 الذي أزال العراق كعائق برّي ما بين إيران وسوريا من جهة ثانية فإنّ حجم التبادل التجاري تضاعف بين البلدين قرابة عشر مرات؛ إلا أنه بقي تبادلاً محدوداً[12] لسوريا كبلد، فعلى سبيل المثال: كان الاتحاد الأوروبي مصدر 25%من إجمالي واردات 17 مليار دولار إلى سوريا، في حين شكلت إيران 300 مليون دولار فقط[13]، مما نسبته 1.8% تقريباً.
1- 2- العلاقات الإيرانية- السورية على صعيد الاستثمارات:
تشير تقارير هيئة الاستثمار السورية[14] إلى وجود /11/ مشروعاً استثمارياً إيرانيا في سوريا من عام 1991 حتى عام 2010 بتكلفة تقارب /500/ مليون دولار[15]، إلا أنه من اللافت في تلك المرحلة توجه المساعي الاستثمارية الإيرانية إلى مواطن النفوذ بعيد المدى أكثر من التركيز على الجدوى الاقتصادية الساعية لجني الأرباح[16].
وقد ارتبط قسم من هذه الاستثمارات في تلك المرحلة بالسياحة الدينية؛ فقد زار مئات الآلاف من “الحجاج” والسياح الإيرانيين سوريا، وقامت الشركات الإيرانية باستثمارات مرتبطة بهذا الجانب[17]، إلا أن أبرز الاستثمارات في تلك الفترة كان إنشاء محطتي تشرين وجندر لتوليد الكهرباء (بقيمة حوالي 500 مليون دولار)، وإنشاء شركة مشتركة إيرانية سورية لإنتاج السيارات (بقيمة قاربت 60 مليون دولار)[18].
لم تكن الاستثمارات الإيرانية ذات دلالة؛ إذ إنها أقل من استثمارات أجنبية أخرى في سوريا في الفترة ذاتها، كتركيا التي كانت تستثمر في 40 مشروع بتكلفة تقدر بقرابة الـ 600 مليون دولار، والسعودية التي استثمرت في 22 مشروعاً بتكلفة تقدر 1300 مليون دولار[19]، كما أنها تشكل رقماً صغيراً ضمن الرقم الكلي البالغ 13 مليار دولار للاستثمار الأجنبي المباشر[20].
شكل (1) للمقارنة بين حجم استثمارات الدول الثلاث في سوريا
1- 3- العلاقات الإيرانية- السورية على صعيد الاتفاقيات الاقتصادية:
أبرم نظام الأسد مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية مع إيران بعد عام 2000م، ومن أهمها: اتفاقية التجارة التفضيلية عام 2006[21]، واتفاقيات مؤتمر اللجنة الاقتصادية السورية الإيرانية المشتركة عام 2008[22]، واتفاقية لتأسيس مصرف سوري إيراني مشترك لم ينشأ فعلياً على أرض الواقع على الرغم من ترخيصه كشركة مساهمة سورية باسم “مصرف أمان” عام 2009م[23]، واتفاقية منطقة التجارة الحرة السورية الإيرانية عام 2010م، وتوقيع اتفاقية التجارة الحرة في 8/3/2011 [24].
إلى جانب هذه الاتفاقيات التي ركزت على الجانب التجاري أبرم نظام الأسد مع إيران عدة اتفاقيات استراتيجية، مثل: اتفاقية “خط الغاز الإسلامي” أو “خط الصداقة” بداية عام 2011؛ وهو خط لنقل الغاز الإيراني إلى سوريا عبر العراق كان أحد التعبيرات الاقتصادية عن تفضيل نظام الأسد لإيران؛ إذ كان بديلاً عن عروض خط الغاز القطري[25]، لكن هذا الاتفاق لم يُنفذ في حينها، كما هو حال الاتفاق الموقع في 2009 والمتعلق بنقل الغاز الإيراني أيضاً[26].
لكن على الرغم من كل تلك الاتفاقيات فإنها لم تنعكس على العلاقات الاقتصادية بشكل فعلي لعوامل عديدة، أرجعها بعضهم إلى الاختلافات الشعبية في الثقافة وإلى الصعوبات الجغرافية[27]، في حين تبرز بعض الأسباب الموضوعية الأخرى؛ كالعقوبات الأمريكية على إيران وسوريا، وتشابه الإنتاج الزراعي والصناعي بين البلدين، والفشل في تذليل اختلاف الأنظمة القانونية والإدارية ذات الصلة بالأعمال التجارية بين البلدين وتضاربها، وعدم وجود خط بحري مباشر، إلى جانب صعوبات تتعلق بنقل الأموال وتحويلها عبر شركات الصرافة أو المصارف[28]، يُضاف لذلك كله الفشل المتكرر للشركات الحكومية الإيرانية في تنفيذ مشاريع تم الاتفاق عليها في سوريا[29].
يوحي تتبع العلاقات السورية الإيرانية ما قبل الثورة السورية بنتائج غير متوافقة مع نصوص الاتفاقيات المتعددة التي تم توقيعها؛ فقد ارتبط نظامَا الأسد وإيران بتحالف استراتيجي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتجلى هذا التحالف عملياً في المجالات السياسية والعسكرية والأمنية في المنطقة[30]، إلا أن هذه الشراكة لم تنعكس بشكل يتناسب مع طبيعتها وعمقها على الجانب الاقتصادي في علاقات البلدين على مدار سنوات ما قبل الثورة السورية؛ فقد استمرت العلاقات الاقتصادية محدودة طوال حكم الأسد الأب، ورغم تناميها بعد فترة توريث الأسد الابن مع تنامي مظاهر المد الثقافي الإيراني في سوريا[31] إلا أنها بقيت متواضعة بشكل عام حتى انطلاق الثورة السورية عام 2011 إذا ما قارناها بالعلاقات الاقتصادية السورية مع دول إقليمية أخرى[32].
بناءً على ما سبق يمكن القول: إن تاريخ العلاقات الاقتصادية السورية لم يكن يرقى إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، ولم تعكس نظرة إيران لسوريا على أنها تمثل العمود الفقري الجيوسياسي للتأثير الإيراني في بلاد الشام والعالم العربي الأوسع، مع ملاحظة التزايد التدريجي في سنوات ما قبل الثورة السورية في الأهمية الاقتصادية لسوريا بنظر إيران كداعم تكتيكي فقط للاستراتيجية الكلية. إلا أن الأمور ستتغير مع انطلاق الثورة السورية، ووقوف إيران إلى جانب نظام الأسد في مختلف الجوانب، بما فيها الجانب الاقتصادي الذي سيشهد تضخماً بشكل كبير، وهو ما سنناقشه في القسم الثاني من هذه الدراسة.
شكل (2) يوضح خلاصة تاريخ العلاقات الاقتصادية بين إيران وسوريا قبل عام 2011 م
2- الخطوات الإيرانية الاقتصادية للتموضع في سوريا بعد 2011: محاولات فاشلة وأخرى ناجحة
بعد انطلاق الثورة السورية هرعت إيران لمساندة نظام الأسد عسكرياً وسياسياً وأمنياً بكل القدرات المتاحة بغية قمع السوريين ومنع سقوطه عبر عشرات الميليشيات التي جندتها لذلك[33]. وقد تطلب هذا التدخل الإيراني تقديم مبالغ مالية كبيرة قدمتها إيران بسخاء رغم وضعها الاقتصادي المتعثر[34].
تجلت أساليب الإنفاق المالي الإيرانية لانتشال نظام الأسد من السقوط في مظهرين اثنين: الأول الإنفاق المباشر لتغطية متطلبات الجانب العسكري المرتبط بالمليشيات والمعارك والذي يبلغ أرقاماً كبيرة سنوياً تبلغ حسب بعض التقديرات /6/ مليار دولار سنوياً[35]، والمظهر الثاني: القروض الرسمية من خلال ما يُعرف بـ (خطوط الائتمان)[36] لتلبية احتياجات خزينة النظام المنهكة لأسباب متعددة، من أبرزها: تلاشي الإيرادات ومتطلبات الإنفاق على الحرب، وهروب الكفاءات واليد العاملة الخبيرة والاستثمارات إلى خارج البلاد[37].
مع تغير الظروف العسكرية في سوريا وتراجع العمليات العسكرية، وسيطرة نظام الأسد على قسم كبير من الأراضي بدأ حلفاء نظام الأسد خصوصاً إيران السعي لاسترداد ما تم إنفاقه من أموال، بالإضافة إلى حصاد الجهود العسكرية المبذولة عبر التحضير لإعادة الإعمار، وبهدف ضمان وجود طويل المدى في سوريا عبر عدة أدوات، من أهمها الأدوات الاقتصادية.
وبغية الإحاطة بمستوى التدخلات الإيرانية في القطاعات الاقتصادية الرئيسة في سوريا نستعرض خريطة هذا النفوذ المتشكل في القطاعات الاقتصادية الثلاثة، وهي: القطاع الزراعي والثروة الحيوانية، والقطاع الإنتاجي، والقطاع الخدمي[38]، ومن ثم نبحث في مستويات التداول التجاري.
شكل (3) يوضح نسبة مساهمة كل قطاع في الناتج المحلي الإجمالي حسب القطاع 2000-2010[39]
2- 1- الوجود الإيراني في قطاع الزراعة وتربية الحيوان: جهود ضعيفة في قطاع حيوي مجهول المستقبل
يُعد قطاع الزراعة من أهم القطاعات الحيوية في سوريا بوصفها ركيزة للاقتصاد السوري قبل عام2011[40]. وبعد انطلاق الثورة السورية تعرض هذا القطاع -كغيره من القطاعات- لدمار واسع نتيجة الحرب التي شنّها نظام الأسد على شعبه؛ فشهدنا عمليات حرق للمحاصيل الزراعية، وبقيت أراضٍ واسعة دون استثمار نتيجة تهجير فئات واسعة من السوريين من أراضيهم[41]، كما أسهمت ظروف الفساد في تدمير القطاع ونهبه[42]، إلى جانب الظروف الموضوعية الصعبة التي أضرّت به[43].
أما على صعيد الثروة الحيوانية فقد امتلكت سوريا ثروة كبيرة، وكانت المصدِّر الرئيس إلى دول الجوار بسبب مزايا الصادرات السورية[44]، وهو ما ساعد على زيادة مساهمة الثروة الحيوانية في الناتج المحلي حيث وصلت نسبته قبل عام 2011 لأكثر من 37% من الإنتاج الزراعي في سوريا[45].
في السنوات الثلاث الأولى بعد انطلاق الثورة السورية قدّرت وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي في حكومة نظام الأسد انخفاض عدد الأغنام والماعز والماشية والدواجن بمعدل 43% تقريبًا[46]، وتصدر تصريحات من الوزارة أو الجمعيات المعنية بين الحين والآخر لتعلن أن الثروة الحيوانية قد انخفضت بما يصل لـ 60% [47].
أبدت إيران اهتماماً في القطاع الزراعي والحيواني في سوريا منذ عام 2015، وتجسد ذلك من خلال التموضع في القطاع الزراعي بشكل متزايد منذ ذلك الحين، ويبدو أن هذا التموضع قائم على ثلاث ركائز رئيسة:
- التجارة الزراعية.
- الاستثمار المباشر في الأراضي والثروة الحيوانية.
- الاعتداء على الأراضي واستغلالها بأشكال مختلفة.
لذلك سنعمد إلى تتبع أبرز الخطوات الإيرانية في كل محور من هذه المحاور بما يسمح بتقديم صورة كلية للتموضع الإيراني في القطاع بشكل عام.
2- 1- 1- الخطوات الإيرانية على صعيد التجارة الزراعية:
بدأت أولى ملامح هذا التمدد من خلال ربط القطاع السوري بالمنتج الإيراني، وذلك عبر السعي لإغراق السوق السورية بالبضائع الإيرانية المختلفة “مستلزمات القطاع”؛ إذ عملت إيران منذ عام 2015 على تسويق اللقاحات الحيوانية ومنتجات الدواجن الإيرانية والأسمدة والمعدات الميكانيكية الزراعية، إلا أن هذه الجهود الإيرانية في سوريا عانت من نكسات شديدة منذ عام 2016، ويرجع ذلك جزئياً إلى الفشل في الاتفاق على شروط خط ائتماني جديد، بالإضافة إلى تزايد نسب التجارة الزراعية الروسية مع سوريا التي شكلت عائقاً أمام توسع أهداف إيران التجارية في هذا القطاع [48]، ومع بداية عام 2018 قام كلٌّ من اتحاد الفلاحين واتحاد غرف الزراعة بالتعاقد مع شركة “تراكتور مانفاكتورنك” الإيرانية لاستيراد أكثر من ثلاثة آلاف جرّار زراعي[49]، مع توقُّف شركة الفرات لصناعة الجرّارات في سوريا والنقص الكبير في الجرارات المطروحة في الأسواق[50].
رغم ذلك استمرت المحاولات الإيرانية للتوسع في المجال التجاري الزراعي، وذلك عبر أسلوبين جديدين: الأول من خلال سيطرتها على تسويق المحاصيل السورية في الخارج، وفي هذا الصدد توصل عدد من رجال الأعمال والتجار الإيرانيين مع وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في عام 2018م إلى اتفاق يتضمن تصدير مادة البطاطا من سوريا إلى عدة دول عبر التجار الإيرانيين، وتضمنت المفاوضات الاتفاق على دراسة تأسيس شركة مشتركة بينهما لتصدير الفائض من بعض المنتجات الزراعية السورية إلى دول مختلفة[51]. أما الأسلوب الثاني فكان عبر المقايضة الزراعية الذي جاء حلاً بديلاً لعدم النجاح في إغراق السوق السورية بالمنتجات الزراعية الإيرانية، وبهدف الإفادة من المنتجات الزراعية السورية، وكانت أول منتجات المقايضة هي زيت الزيتون والعدس من سوريا مقابل زيت دوار الشمس من إيران[52] .
هذه الخطوات في التبادل التجاري للمنتوجات الزراعية تمثل عملية تأمين مواد غذائية يحتاجها الجانب الإيراني تدخل تحت حسابات استحقاقات مالية اتجاه نظام الأسد، ومقايضته بما لا يتم تصريفه من السلع الإيرانية بسبب قلة جودته أو سمعة منتوجه[53].
وفي نطاق آخر بعيداً عن خطوط التجارة الرسمية في القطاع الزراعي تملك إيران قوة كبيرة مؤثرة على صعيد التجارة الزراعية في سوريا تتمثل بدور المليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني؛ فعلى سبيل المثال: تتحكم هذه الميليشيات المتركزة في المناطق الحدودية القريبة من الحدود مع العراق بتجارة الخضروات والفواكه، والتي أضحت أحد مصادر تمويلها عبر الإتاوات التي تفرضها[54].
هذه السيطرة للمليشيات الإيرانية على خطوط التجارة في الجانب السوري تبدو سياسية تسير على خطى نموذج المليشيات الإيرانية في العراق، والتي تسيطر بالفعل على أراض واسعة وتتولى القيام بعمليات تجارية بنفسها، أو تتحكم عن طريق فرض “الأتاوات” على العمليات التجارية مع سوريا بما يعود عليها بعوائد بملايين الدولارات[55].
لذلك نعتقد أن سيطرة المليشيات الإيرانية على خطوط التجارة الزراعية في سوريا مع العراق ستحقق العديد من الأهداف، منها: تمويل هذه المليشيات بما يسمح بنموها وزيادة نفوذها من جهة، وتحقيق مصالح بعيدة المدى لإيران نفسها ربما تتمثل بإزالة المنافسة الزراعية السورية في الأسواق العراقية المهمة لمصلحة الزراعة الإيرانية[56].
2- 1- 2- الخطوات الإيرانية على صعيد الاستثمارات في قطاع الزراعة:
سعت إيران إلى الحصول على مساحات من الأراضي الزراعية للقيام باستثمارات زراعية؛ ففي عام 2017 تم توقيع اتفاقيات بين نظام الأسد وإيران تضمنت تأمين 386 هكتار في محافظتي حماة وحمص للبدء بالعملية الاستثمارية، ومشروع تطوير محطة زاهد للأبقار في محافظة طرطوس، وهي ثاني أكبر مَبقَرة في سوريا، وتسلمتها إيران بالفعل بتاريخ 22/12/2021[57]، وإنشاء معمل إيراني في سوريا لإنتاج لقاحات للثروة الحيوانية، بحيث يكون مدة الاستثمار 25 عاماً[58].
كما كان القطاع الزراعي حاضراً ضمن أكبر اتفاقية اقتصادية بين نظام الأسد وإيران، والتي تكونت من ستة عقود تم توقيعها في طهران في 17/1/2017؛ إذ تم الاتفاق على تسليم إيران خمسة ألاف هكتار من الأراضي الزراعية، وتسليمها مشروع تربية الماشية والأراضي المحيطة به[59] .
كذلك سعى سفيرها في لقاءاته بوزارة الزراعة التابعة لنظام الأسد للبحث عن فرص الاستثمار في هذا القطاع، فعلى سبيل المثال: تضمنت لقاءاته عام 2017 مناقشة مقترحات إنشاء معمل لإنتاج لقاحات الحمى القلاعية ومسلخ للدواجن، مع برادات لتسهيل عمليات تسويق منتجات الدواجن، خاصة الفروج، والمساعدة في إنشاء معمل للأعلاف[60].
كما حاولت إيران منذ عام 2017 الاستحواذ على الشركة العامة للأسمدة في حمص التي تعد أكبر مجمع صناعي كيميائي في سوريا، يؤمّن حاجة القطاع الزراعي من الأسمدة على اختلاف أنواعها، وقد توقفت الشركة عن العمل منذ عام 2015 بسبب عدم توفر مستلزمات الإنتاج، مما جعل البديل هو الأسمدة الإيرانية المستوردة (اليوريا) التي كانت بأسعار مرتفعة[61].
2- 1- 3- الخطوات الإيرانية على صعيد الاستيلاء على الأراضي الزراعية:
قامت مليشيات المشروع الإيراني في سوريا بأعمال إجرامية عديدة عبر الاستيلاء على أراضي السوريين بتسهيلٍ من نظام الأسد، واستغلالها بشكل رئيس في بناء المراكز الدينية والقطعات العسكرية، أو في الاستثمار الزراعي بما فيه زراعة الحشيش.
فاستولت ميليشيات المشروع الإيراني في سوريا على /150/ مزرعة نخيل وزيتون في منطقة المزارع التي تبعد 20 كم عن مدينة الميادين، وتعود ملكيتها لأهالي المدينة[62]. كذلك في أقصى جنوب غرب سوريا سيطرت مليشيات “حزب الله” اللبناني على منطقة “مثلث الموت” بين درعا والقنيطرة ودمشق ومنعت الأهالي من العودة لمنازلهم وأراضيهم، وهي منطقة كان يقطنها قبل عام 2011 قرابة 80 ألف شخص، معظمهم من المشتغلين في تربية المواشي والزراعة غالبيتهم من القبائل البدوية[63].
أما عن استغلال الأراضي المسلوبة في الزراعة وتجارة الحشيش فقد عملت المليشيات الإيرانية في مناطق عديدة هَجَّرّت سكانها على استيطانها؛ ففي قرى ريف حلب الشمالي كبلدة “حيّان” التي تقطنها عائلات عناصر هذه الميليشيات استولوا على عقارات المُهجّرين من منازل وأراضٍ زراعية، وأدخلت هذه المليشيات زراعة الحشيش بكثافة في الأراضي الزراعية الممتدة من حيّان إلى مدينة حريتان جنوباً[64]، والأمر ذاته ينطبق على أراضٍ زراعية عديدة في ريف حمص الجنوبي والشرقي، وبشكل خاص في منطقة القصير جنوبي حمص وسكّرة وقرى جُبّ الجرّاح، إضافة لغزيلة ورسم الأرنب شرقي حمص، وصولاً إلى مدينة القريتين بمساحة تتجاوز 200 دونم، بدعم من الحرس الثوري الإيراني الذي يؤمّن البذور والتصريف والحماية[65].
كما تحصل إيران على استثمارات زراعية في مناطق سورية عديدة عبر الانخراط في نظام “المزادات العلنية لأراضي السوريين المهجَّرين”، وهو أسلوب ابتكره نظام الأسد لاستغلال أراضي المهجرين الزراعية، كتلك المنتشرة في أرياف حماه وإدلب الغنية بالفستق الحلبي[66]، إلا أن استيلاء إيران على الأراضي المعروضة للاستثمار بهذه الطريقة يبدو جلياً أكثر في شرق سوريا، كمزادات ريف دير الزور ومدينة البوكمال[67] وفي ريف حلب الجنوبي؛ حيث تستثمر المليشيات الإيرانية الأراضي المعروضة للاستثمار في زراعة القمح[68].
تقدم لنا الأمثلة السابقة نماذج واضحة على تأثير ميليشيات المشروع الإيراني في سوريا في القطاع الزراعي السوري، من خلال حرمان السوريين من مصادر رزقهم، وحرمانهم من أراضيهم الزراعية. وصحيحٌ أن الدافع الرئيس للميليشيات في استيلائها على الأراضي ليس دافعاً اقتصادياً فحسب، إذ ثمّة دوافع أخرى، مرتبطة تارة بإحداث التغيير الديمغرافي كما هو حال سيطرتها على الأراضي في البوكمال، ومرتبطة تارة أخرى بالضغط على “إسرائيل” عبر الوجود في منطقة محاذية لحدودها. إلا أن تبعاتها الاقتصادية السلبية مباشرة على المزارع السوري، لاسيما وأن الإطار الزمني لهذه السيطرة غير محدد بوقت معين غالباً، مما قد يدفع أبناء هذه المناطق إلى بيع أراضيهم، خصوصاً إذا كانت السيطرة العسكرية مترافقة مع اقتلاع الأشجار أو حرقها، حيث يكون ذلك دافعاً إضافياً لبيع الأراضي.
إجمالاً يسهم القطاع الزراعي في مجمل الناتج المحلي السوري بنسبة مرتفعة (في حدود 23 % من قيمة الناتج المحلي الإجمالي)، وهو ما يعادل قبل 2011 حوالي 60 مليار دولار، مع ثبات النسبة بعد الثورة (من مجمل ناتج إجمالي محلي يعادل 10 مليار دولار)؛ وهذا الأمر يشير إلى أهمية هذا القطاع في الاقتصاد السوري، وفي الوقت ذاته مستقبله الواعد.
يبدو لنا من خلال مجمل ما تم استعراضه من خطوات إيرانية ضمن القطاع الزراعي السوري أن الجهود الإيرانية متنوعة ومستمرة للتدخل في هذا القطاع، مع تنوع الأهداف الإيرانية، ما بين الحصول على مكاسب مالية تعوض جزءاً من المبالغ التي أنفقتها على دعم نظام الأسد، وتسكين جبهتها الداخلية من خلال إبراز فوائد مالية للإنفاق الخارجي، وتحقيق فوائد مباشرة للاقتصاد الإيراني في المستقبل، بعيداً عن القطاع النفطي عبر تنويع قائمة الصادرات، بالإضافة إلى استخدام القطاع الزراعي في سوريا كمصدر لتمويل المليشيات الإيرانية، بما يخفف من الاعتماد الكلي على إيران وفتح المجال أمام استدامة تمويلها الذاتي، ويتيح لها البقاء طويلاً في المناطق السورية المختلفة. وأخيراً يبدو أن القطاع الزراعي السوري وإن لم يشكل هدفاً مهماً بالمقارنة مع القطاعات الأخرى من الناحية الاقتصادية لإيران إلا أن تدخلاتها المتعددة فيه تشير إلى إمكانية تحقيقها مجموعة فوائد مباشرة وغير مباشرة تتمثل في إبعاد القطاع الزراعي السوري عن خريطة المنافسة الإقليمية للمنتجات الزراعية الإيرانية[69]، وهذا ما بدا واضحاً في سيطرة الميليشيات المحسوبة على إيران على المعابر الحدودية، وتفعيل فكرة “الترفيق الميليشياوي”[70] التي أدت إلى زيادة التكلفة على المزارعين وابتزازهم في الوقت ذاته.
في المقابل ثمة مجموعة من العوامل تحول دون انخراط إيران بقوة في هذا القطاع على الأقل حالياً، من أهمها: تشابه القطاع الزراعي في سوريا وإيران، وعدم سيطرة نظام الأسد على أجزاء مهمة من الأراضي الزراعية الأغنى في سوريا (إدلب وشمال شرق سوريا)، وعدم وضوح مستقبلها السياسي، إلى جانب انخفاض الطلب على المنتجات الزراعية نتيجة تراجع عدد السكان في مناطق سيطرة النظام، لاسيما وأن المناطق الخارجة عن سيطرته تعتمد على تركيا وعلى إنتاجها المحلي الذي يذهب قسمٌ منه إلى مناطق سيطرته.
شكل (4) يوضح خلاصة التدخلات الإيرانية في قطاع الزراعة والثروة الحيوانية
2- 2- الوجود الإيراني في قطاع إنتاج السلع: سعي حثيث ونتائج مؤجلة
شهد القطاع الصناعي في سوريا نمواً كبيراً في مراحل عديدة من عمر الدولة السورية الحديثة؛ إلا أن مستوى الاستثمار العام والخاص في قطاعات التصنيع سجّل تراجعاً متواصلاً منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي نتيجة تسارع سياسات التحرير الاقتصادي[71]؛ ففي عام 2009 لم يسهم قطاع التصنيع إلا بـ 6،9% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين وظّف 15% من القوة العاملة السورية، على الرغم من أن نظام الأسد حاول دفع الصناعة قدماً عبر إنشاء المدن الصناعية[72].
وكغيره من القطاعات الاقتصادية في سوريا تعرض القطاع الصناعي لأضرار كبيرة، تتمثل بالخسائر المادية الضخمة وتراجع كبير في عدد المنشآت الصناعية[73]، ومما يؤشر على استمرار انهيار القطاع الصناعي في سوريا ما حصل في الفترة الأخيرة من عام 2021؛ حيث بدأت موجة هجرة كبيرة للصناعيين من سوريا يراها البعض شبيهة بهجرة عام 2012[74].
وبالنسبة إلى إيران بلغت قيمة المشاريع الصناعية الإيرانية في سوريا قبل عام 2011 حوالي 1.3 مليار دولار، وقد تركزت في مشاريع إنتاج سيارات ومحطات إنتاج الأسمنت ومحطات توليد الكهرباء وقنوات المياه والصوامع في سوريا، مع وجود 36 شركة إيرانية تعمل في سوريا[75].
أما بعد 2011 فقد بذلت إيران جهوداً مختلفة للتموضع في القطاع الصناعي السوري، ويمكن أن نقسم السياسية الإيرانية في هذا السياق إلى مجالَين رئيسَين: الأول هو الحصول على استثمارات مباشرة في القطاع الصناعي، والثاني عبر جهود التأسيس للسيطرة المستقبلية على القطاع.
2- 2- 1- الخطوات الإيرانية للدخول في مجال الصناعات الاستخراجية (الثروات الباطنية):
ليست سوريا من الدول الغنية بالثروات الباطنية؛ إلا أنها تمتلك ثروات باطنية جيدة ومتنوعة، أهمها النفط والغاز والفوسفات؛ فعلى صعيد النفط بدأ الإنتاج التجاري في سوريا منذ عام 1968 ووصل ذروته في عام 2002 بمعدل 625 ألف برميل يومياً[76]، أما في مجال الغاز فقد أقيمت عدة مشاريع لاستثمار الغاز وهي: الحسكة، وحقول جبسة، ومشروع غاز عمر، ومشروع القرية، يضاف إليها مشروع معمل غاز جنوب المنطقة الوسطى الذي بنته ستروي-ترانس- جاز في نهاية 2006[77]، أما على صعيد الفوسفات فتحتل سوريا المرتبة الخامسة عالمياً على قائمة الدول المصدِّرة للفوسفات حتى عام2011، ويُمثِّل خام الفوسفات في سوريا المرتبة الثانية من حيث الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية بعد خامات النفط والغاز الطبيعي بالنسبة إلى الموارد الباطنية المعدنية وشبه المعدنية[78].
ركزت الخطوات الإيرانية الهادفة للسيطرة على الثروات الباطنية في سوريا على العمل على محاور مختلفة، يمكن لنا تصنيفها في ثلاثة محاور رئيسة: أولها محاولة السيطرة على ثروات الفوسفات، وثانيها محاولة السيطرة على ما تبقى من آبار نفط وغاز، والثالث السعي للاستثمار في منشآت ذات صلة بالثروات الباطنية.
أ-الخطوات الإيرانية للسيطرة على الفوسفات السوري:
استوردت إيران الفوسفات السوري منذ سبعينيات القرن العشرين، ولذلك فليس من المستغرب أن أكبر مناجم الفوسفات في سوريا (السلسلة التدمرية) كانت ضمن أكبر اتفاق اقتصادي أبرم في بداية عام 2017 في طهران، والذي تضمن تأسيس شركة مشتركة لهذا الغرض تشرف على الاستخراج وتصدير الإنتاج إلى طهران[79].
إلا أن نظام الأسد -في شهر نيسان من العام نفسه، أي قبيل شهر من استعادة السيطرة على مناجم الفوسفات (خنيفيس والشرقية)- وقَّع عقداً مع “STNGLOGESTIC” الروسية التابعة لمجموعة “ستروي ترانس غاز”، بهدف تنفيذ أعمال الصيانة اللازمة لهذه المناجم وتقديم خدمات الحماية والإنتاج والنقل[80]، وبالفعل باشرت تلك الشركة عملها في حزيران بعد أيام من استعادة نظام الأسد السيطرة على المناجم[81]، وبذلك فشلت مساعي إيران للسيطرة على الفوسفات بسبب تفضيل نظام الأسد روسيا التي منحها استثماراً لمدة 50 عاماً.
بعد هذا الفشل الإيراني في السيطرة على عملية استخراج الفوسفات في الحقول السورية أو السيطرة على شركة التصنيع يبدو أنها تحولت باتجاه جعل نفسها الجهة الرئيسة المستوردة للفوسفات السوري بوصفه مصدراً ثانوياً مهماً للحصول على اليورانيوم الذي تحتاجه إيران في برنامجها النووي[82]. فعلى الرغم من تحكُّم روسيا بثلاثية الإنتاج من المناجم، والتصنيع لقسم من الفوسفات في شركة الأسمدة، والتصدير عبر ميناء طرطوس؛ إلا أن بعض المؤشرات تُوحي بعدم خروج إيران من الملف، منها وجود ملامح تفاهم روسي إيراني لأن تكون إيران وجهة لتصدير الفوسفات[83].
مما سبق: يظهر بوضوح محاولة إيران المستمرة للحصول على حصة كبيرة من الفوسفات السوري وعدم رضوخها للسيطرة الروسية شبه المطلقة على القطاع، بما يلبّي حاجات السوق الإيرانية سواء الزراعية أو متطلبات استخراج اليورانيوم، وبما يُظهر وجود مكاسب مالية تستردها من سوريا سداداً للديون الإيرانية أو المبالغ التي تم إنفاقها على إبقاء نظام الأسد. كما تُوحي الأرقام التي تتحدث عنها إيران – سواء ألف مليون طن أو 200 مليون طن[84] – بوجود خطط إيرانية للسيطرة على الإنتاج السوري من الفوسفات لمدة لا تقل عن 50 عاماً إذا ما نظرنا إلى معدل الإنتاج الوسطي الحالي البالغ 2 مليون طن سنوياً.
ب-الخطوات الإيرانية للسيطرة على حقول النفط والغاز في سوريا:
شكّل ما تبقى من حقول النفط والغاز القليلة في البادية السورية هدفاً إيرانياً عبر ميليشياتها العسكرية؛ ففي بادئ الأمر سيطرت ميليشيات تابعة لإيران بينها «حزب الله» العراقي و«فاطميون» على حقول نفط وغاز في ريفي دير الزور والرقة، لكنّ تدخل الشرطة العسكرية الروسية لصالح «فاغنر» و«الفيلق الخامس» أدى لطردها والحلول محلها في الكثير من الحقول[85]، كما تبعه دخول شركتَين روسيتَين هما فيلادا وميركوري استحوذتا على ثلاثة مواقع للتنقيب عن البترول، بموجب عقود مع وزارة النفط في نظام الأسد في أيلول من عام 2019، وتشمل بلوكات (تقسمات مكانية جغرافية) تقع في المنطقة الوسطى وفي دير الزور شرق سوريا [86].
بعد ذلك توجهت هذه المليشيات للسيطرة على الحقول الصغيرة في منطقة البوكمال وما يقرب منها الخاضعة أصلاً للسيطرة الإيرانية على الحدود العراقية كجائزة ترضية على ما يبدو، لتترجم لاحقاً هذه السيطرة الفعلية من خلال اتفاقية رسمية وقعت بين سوريا وإيران في بداية عام 2020 م لاكتشاف البترول وتنميته وإنتاجه في البلوك رقم (12) في منطقة البوكمال بريف دور الزور[87].
أما عن الثروات الباطنية في المياه السورية فقد خرجت إيران من السباق أيضاً؛ فقد استحوذت موسكو على عقود استثمار النفط والغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة لسوريا في البحر المتوسط، عبر عقد شركة إيست ميد عمريت عام 2013 م، وعقد آخر مع شركة كابيتال عام 2021[88].
ج- الخطوات الإيرانية على صعيد منشآت تكرير المواد النفطية:
بدأت إيران التخطيط لإنشاء ثالث محطة تكرير نفط في سوريا منذ عام 2006 بشراكة (سورية إيرانية فنزويلية ماليزية)، وذلك في بلدة الفرقلس بمحافظة حمص[89]؛ إلا أن هذا المشروع لم يرَ النور بسبب انطلاق الثورة السورية.
في عام 2017 تضمن أحد بنود الاتفاقيات الاقتصادية التي وقّعها نظام الأسد مع إيران إنشاء مصفاة نفط كبرى في حمص، وتطوير المصافي السابقة؛ إلا أن ذلك لم يحصل كحال بقية بنود الاتفاقية[90].
في بداية عام 2019م خرجت أنباء عن عروض لنظام الأسد للجانب الروسي عبر وزارة النفط والثروة المعدنية لإنشاء وتشغيل مصفاة الفرقلس ذاتها، من خلال إضافتها شريكاً دون أن يتم أي شيء رسمي في هذا الصدد[91].
ثم ليظهر في بداية عام 2020 على خط بناء المصافي أحد رجالات إيران في سوريا “حسام قاطرجي”[92]؛ إذ صادقَ رأس النظام على مشروع بناء مصفاتي نفط، إحداهما في البادية والثانية في المنطقة الساحلية، ويضاف لهما مهمة تطوير مصب النفط في طرطوس، وإنشاء منظومة نقل متطورة تربط بين المحافظات[93]، وهو ما يعني نجاح إيران بشكل غير مباشر في اختراق هذا المجال الاستثماري[94].
د- الخطوات الإيرانية على صعيد نقل الثروات الباطنية:
شكّل موقع سوريا المطل على الأبيض المتوسط أهمية استراتيجية كبرى لإيران كممر للطاقة، بما فيها الغاز بشكل رئيس باتجاه أهم الأسواق العالمية وهي أوربا، وانطلاقاً من هذه الأهمية فقد انطلقت إيران باكراً في السعي لتنفيذ ثلاثة مشاريع استراتيجية هي: السيطرة على ميناء في المتوسط للتصدير النفطي، وأنبوب “النفط الإسلامي”، وخط سكة الحديد (شلمجة – اللاذقية)[95].
- السعي للسيطرة على ميناء في المتوسط للتصدير النفطي[96]: تضمنت اتفاقية 2017 بين نظام الأسد وإيران عقداً سادساً غامضاً يرتبط بإنشاء ميناء للتصدير النفطي؛ إلا أن السنوات اللاحقة لم تُفضِ لتحقق الآمال الإيرانية، إذ أُبرم عقد بتاريخ 28-4-2019بين الشركة العامة لمرفأ طرطوس وشركة “اس.تي.جي. اينجينير ينغ” المحدودة المسؤولية الروسية لإدارة مرفأ طرطوس واستثماره لمدة 49 عاماً [97]. هنا توجهت الأنظار الإيرانية نحو ميناءَي اللاذقية وبانياس، حيث ركزت إيران منذ بداية 2019م على محاولة استثمار ميناء اللاذقية، وتواردت أنباء عن توقيع الاتفاق أثناء زيارة رأس النظام لطهران في 25 شباط من عام 2019[98]، فأكدت بعض الصحف الأجنبية إبرام العقد في حينه؛ إلا أن الواقع جاء مغايراً حتى اللحظة، إذ لم تحصل إيران على استثمار للميناء نتيجة العرقلة الروسية والتهديدات الإسرائيلية[99]، بل على العكس شهدنا في الآونة الأخيرة دوريات عسكرية روسية داخل الميناء، الأمر الذي فُسّر على أنه تمدُّد إضافي للنفوذ الروسي في الموانئ السورية[100].
أما عن جهود السيطرة على الميناء الثالث وهو ميناء بانياس فقد بدأت مدينة بانياس السورية تتحول تدريجياً إلى قاعدة عسكرية لإيران تزامناً مع وصول ناقلة نفط إيرانية إلى ميناء بانياس في 5 أيار من عام 2018، ولميناء بانياس أهمية استراتيجية كبيرة؛ إذ يقع بين قاعدة حميميم والقاعدة العسكرية الروسية في طرطوس، كما أن هناك خط أنابيب للنفط يربط العراق بميناء بانياس[101]، إلا أنه حتى اليوم لم تستطع إيران الحصول على استثمار رسمي، وبذلك تكون فشلت على صعيد استثمار أحد الموانئ الثلاثة.
مما سبق يمكن القول: إن إيران لم تيأس جرّاء الفشل الحالي في الحصول على ميناء على الساحل السوري؛ إذ تملك إيران طموحات كبيرة ترتبط بالتصدير إلى أوروبا عبر المتوسط، لذلك تبدو الأدوات غير الرسمية كوجود المليشيات وعمليات تفريغ النفط المستمرة عبر ميناء بانياس مؤشراً على التمسك بالفكرة وعدم التخلي عنها، لكن استمرار العقبات الروسية النابعة من مخاوف وجود قاعدة إيرانية قوية في الساحل السوري[102]، والتي تتقاطع مع التوجهات الإسرائيلية في منع النفوذ الإيراني في الساحل السوري، حالَ دون تحقيق هذه الطموحات الإيرانية[103]؛ إذ كان من اللافت تعدُّد الحوادث التي تواجه ناقلات النفط الإيرانية أمام السواحل السورية[104].
- “خط الغاز الإسلامي أو خط الصداقة”: خططت إيران لمشروع خط أنابيب الغاز الذي يوفر منافذ استراتيجية بديلة عن مضيق هرمز ويكون حلاً بديلاً عن استبعادها عن خط سابق يُسمى “نابوكو” لنقل الغاز من بحر قزوين باتجاه أوربا[105]، وبما يسمح بتوسيع نطاق صادراتها من الغاز الطبيعي غرباً في حقبة ما بعد العقوبات [106] .
وقد أسفرت الجهود الإيرانية عن توقيع اتفاقية أولية في 25 /7/ 2011 حول المشروع الذي اصطلح على تسميته “خط الغاز الإسلامي” أو “خط الصداقة” بهدف نقل الغاز إلى أوروبا عبر الموانئ السورية [107]، فضلاً عن خطط لربط الخط بشبكة الغاز العربي[108]، تبع ذلك في عام 2012 توقيع وزراء النفط الإيراني والعراقي والسوري على مذكرة تفاهم لنقل الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر العراق وسوريا ولبنان، تبعها الموافقة النهائية على اتفاقية ثلاثية حول المشروع في العام ذاته[109].
شكل (5) يوضح مشاريع خطوط الغاز (نظرياً وفعلياً) في المنطقة[110]
شكل (6) يلخص أبرز المحاولات الإيرانية للسيطرة على الثروات الباطنية ونتائجها حتى الآن.
يبدو لنا من خلال مجمل ما تم استعراضه من جهود إيرانية في مجال قطاع الثروات الباطنية السورية أنها جاءت متنوعة ومستمرة للولوج إلى هذا القطاع على غرار القطاع الزراعي، وذلك عبر أربعة محاور رئيسة، وبجهود مركّزة أكثر من القطاع الزراعي، وهو ما يُعدّ أمراً منطقياً كون الفرص متوفرة على صعيد الثروات الباطنية وما يتصل بها من استخدام سوريا بوابةً نحو أوروبا.
إلا أنه من الملاحظ في هذا السياق شراسة المنافسة الروسية ضمن هذا القطاع، على عكس القطاع الزراعي الذي لم تظهر فيه المنافسة بشكل واضح، ولذلك يبدو أن المكتسبات الإيرانية حتى اليوم قد جاءت جوائز ترضية فقط ولم ترقَ للطموحات الإيرانية، وهو ما تعبر عنه النخب الإيرانية باستمرار.
2- 2- 2- الخطوات الإيرانية للدخول في قطاع صناعة الطاقة الكهربائية:
تَحظَى إيران بنفوذ واسع في قطاع الطاقة في سوريا، وهو ما تُرجم عبر الكثير من الاتفاقيات، ومع اتساع نفوذ نظام الأسد في سوريا بعد عام 2017 جاءت أولى الاتفاقيات في هذا الصدد بتوقيع اتفاقية في طهران في 12 أيلول 2017، تتضمن عقدَين ومذكرة تفاهم لتسليم معدات وتكنولوجيا وخبرة إيرانية لقطاع الكهرباء، وتضمنت: بناء محطة كهربائية في اللاذقية، وتزويد محطات بانياس والمحطة الحرارية في حلب بالقطع، وإعادة تأهيل محطة تيم، وصيانة محطة جندر. وقد حصلت بالفعل شركة “مبنا” الإيرانية ووزارة الطاقة الإيرانية على هذه المشاريع[111]، تبعها التعاقد مع شركة مبنا عام 2018 لبناء محطة طاقة باستطاعة 540 ميغاواط في اللاذقية بقيمة 411 مليون يورو[112].
مع نهاية عام 2019 وبداية عام 2020 استمر حصول الشركات الإيرانية على العقود؛ فقد حصلت الشركة الإيرانية “نوفين” على اتفاقية لتوليد الطاقة الكهربائية ” البديلة” في المناطق بين حمص وحسياء[113]، وفي السياق ذاته وقّع نظام الأسد في شهر تشرين الأول من عام 2021 اتفاقية جديدة مع إيران لإعادة تأهيل محطة محردة مع شركة “بيمانير”، وقد بدأت أعمالها التنفيذية[114].
يمكن ملاحظة تركيز الجهود الإيرانية قبل الثورة وبعدها على قطاع الطاقة الكهربائية بشكل خاص ضمن استراتيجية وضع اليد على المشاريع القريبة من الناس، من أجل خلق حاضنة لاستثمارات طويلة الأجل ذات أرباح[115]، ولتعميق دورها في إحدى المؤسسات السيادية السورية كتموضع يتدافع مع السيطرة الروسية على المؤسسات، واستراتيجية للمستقبل تؤسس حاضنة كبيرة لها داخل مؤسسات الدولة للسيطرة عليها لاحقاً، كما يمكن أن يؤمّن تحرير أسعار الكهرباء أرباحاً كبيرة مستقبلاً[116]، بالإضافة إلى فرص تصدير الكهرباء إلى لبنان[117].
وهذا التركيز شبيهٌ إلى حد ما -وإن بشكل أقل- بالسيطرة الإيرانية على قطاع الكهرباء في العراق؛ حيث تُعدّ هذه السيطرة إحدى أهم أوراق الضغط التي امتلكتها إيران لضمان التبعية والخضوع لنفوذها، إذ تمثّل الحصة الإيرانية (الغاز والكهرباء الإيرانيَين المصدّرَين للعراق) الثلث تقريباً من إجمالي إنتاج العراق من الكهرباء[118]، بما قد يشير إلى أهداف إيران من التموضع في قطاع الطاقة في سوريا لضمان النفوذ في سوريا مستقبلاً[119].
ومما يجدر ملاحظته هو أن إيران تتفرد في قطاع الطاقة الكهربائية توريداً وتنفيذاً لمحطات الكهرباء عن الشركات الروسية، على عكس قطاع المطاحن كما سنرى لاحقاً، وهو ما يمكن أن يرجع في أحد أسبابه إلى خلو الساحة لها بسبب العقوبات على نظام الأسد، كما أن هذه الاتفاقيات وبشكل متميز عما سواها دخلت حيز التنفيذ تدريجياً، ولم تبقَ حبراً على ورق[120].
شكل (7) التغلغل الإيراني في صناعة الطاقة الكهربائية
2- 2- 3- الخطوات الإيرانية للدخول في مجال في البناء والتشييد “القطاع العقاري”:
شهد هذا القطاع نشاطاً إيرانياً ملحوظاً طوال السنوات الماضية؛ إذ اشترى الإيرانيون أحياء سكنية مدمرة وأحياء أخرى تم ابتزاز سكانها، وقامت الحكومة الإيرانية بتشجيع الشركات والتجار والمقاولين على تملك العقارات المختلفة في سوريا، وجنّدت شبكة ضخمة من المؤسسات والسماسرة، وسط تسهيلات عملية وقانونية من نظام الأسد[121].
وقد أكدت مواقع إيرانية أن التجار والأثرياء الإيرانيين دفعوا مبالغ مالية كبيرة جداً لشراء البيوت الأراضي والبنايات المحيطة بمزار السيدة زينب، وأن الحكومة الإيرانية عقدت عدة اجتماعات مع العاملين في قطاع البناء الإيراني لتُؤكد لهم أن هناك فرصاً واعدة في مجال الاستثمار في سوريا[122].
ومع تغيُّر خريطة السيطرة العسكرية بعد التدخل الروسي عمدت المليشيات الإيرانية إلى توسيع نطاق عمليات شراء العقارات، بما فيها الأراضي المعدة للبناء في الغوطة الشرقية وحمص، وفي مدينة حلب التي عُقد في جامعتها مؤتمر سوري-إيراني لإعادة الإعمار ركزت محاوره على إعادة إعمار منطقة حلب القديمة التي تُعد من أهم المناطق الاقتصادية لاحتوائها العديد من الصناعات السورية، بالإضافة إلى كونها وجهة سياحية[123].
كذلك تتمدد إيران في شراء العقارات في مناطق نفوذ النظام شمال شرق سوريا، كما في بعض أحياء الحسكة والرقة التي رُصد فيها شراء 135 عقار في 2021 فقط[124]، كما قام حزب الله والمليشيات الإيرانية بالتركز على مناطق الحدود السورية اللبنانية، في حين تنفذ مليشيات أخرى عمليات شراء كبيرة في مناطق دير الزور[125].
نجحت إيران في الحصول على العديد من المشاريع في القطاع؛ كعقود تنفيذ /16/ منطقة تطوير عقاري في /6/ محافظات سورية، وتوقيع 11مذكرة تفاهم للانطلاق إلى تنفيذ العقود المُبرمة منذ منتصف العام 2011، ومن أهمها: تنفيذ أعمال بناء مدينة مؤلفة من 200 ألف وحدة سكنية في العاصمة دمشق، وتنفيذ إعمار المنطقة “ب” من مشروع “باسيليا سيتي”، وتنفيذ مشاريع ما يُسمى “سوار دمشق”، ومنطقة وادي الجوز في محافظة حماه، ومنطقة حسياء في محافظة حمص، ومنطقة الحيدرية في مدينة حلب، وفي مدينة جبلة، وحي بابا عمرو في حمص، وتنفيذ مشروع “زيتون سيتي” الذي يمتد على مساحة 15 كيلو متر مربع من الأراضي الزراعية على طريق “دمشق – حمص”[126].
تتنوع الأدوات الإيرانية في التغلغل في القطاع؛ إذ إنها تُزاوج بين الشركات الاقتصادية التي منحها نظام الأسد تراخيص للعمل داخل سوريا، ومن أبرزها وأضخمها: شركة خاتم الأنبياء التي تتبع للحرس الثوري الإيراني بشكل مباشر[127]، إلى جانب شبكة من الجمعيات الخيرية والثقافية والحوزات الدينية الإيرانية التي يبلغ عددها أكثر من 44 مؤسسة، بالإضافة الى الوكلاء المحلين وأبرزهم “عبد الله نظام” وكيل الخامنئي في سوريا[128]، وجمعية البستان الخيرية؛ وتُدار هذه المنظومة بشكل رئيس من قبل المستشارية الثقافية الإيرانية والسفارة الإيرانية في دمشق[129].
كما تمتلك إيران نفوذاً كبيراً داخل المؤسسات الرسمية السورية ذات الصلة بالقطاع، كـ “الهيئة العامة للتطوير والاستثمار العقاري” التي من مهامها إحداث مناطق تطوير عقاري، ووزارة الإدارة المحلية والأشغال، والمؤسسة العامة للإسكان[130].
يبدو أن من أسباب إعطاء إيران قطاع العقارات أهمية خاصة أنها تستطيع من خلاله أن تملك أقوى أدوات التحكم بالمجتمع السوري؛ وذلك استكمالاً لمخططات التغيير الديمغرافي في سوريا الذي بدأته بجرائم التهجير القسري، وتبعها عمليات التجنيس وتوطين المليشيات الإيرانية، وهو ما سيجعل لإيران مسوغاً لحمايتهم في المستقبل[131]؛ فضلاً عن الأرباح التي تحققها الشركات الإيرانية نتيجة ارتفاع أسعار العقارات بسبب زيادة الطلب عليها، وكل ذلك سيعقّد عملية إخراجها في المدى القريب. وقد يُعد ما تقوم به خطوة استباقية لأخذ حصتها من عملية إعادة الإعمار مهما كانت سيناريوهات الحل السياسي.
شكل (8) التغلغل الإيراني في قطاع البناء والتشييد “القطاع العقاري”
إلى جانب ما سبق لم تكتفِ إيران بالعمل على هذه المجالات الصناعية في سوريا، بل ما تزال تسعى للدخول بقوة في مجالات صناعية أخرى؛ حيث تسعى حالياً للاستفادة من حضورها السابق في قطاع صناعة السيارات الذي شهد محاولات إيرانية لإعادة تفعليه[132]، وتركز على بعض المجالات التي تمثل قيمة مضافة لها، كما هو الحال في صناعة الحديد التي شهدت تدخلات إيرانية واضحة؛ نظراً لحيوية هذا القطاع ومستقبله في إعادة الإعمار، وإمكانية مساهمته في تنفيذ مشاريع النقل والسكك الحديدية التي تسعى إيران لإقامتها[133]، وكذلك في مجال المطاحن من جهة ارتباطه بقُوت الشعب “الخبز”[134]، مما قد يمهد مستقبلاً لقدرتها في التأثير المباشر في المجتمع عبر هذا المجال المهم. كل ذلك إلى جانب وجود بعض الجهود الإيرانية للدخول بشكل هامشي في بعض المجالات الصناعية، كصناعة حليب الأطفال والأدوية[135]، وصناعة الأدوات الكهربائية[136]، والاستحواذ مؤخراً على اتفاقية تطوير تتضمن توريد وتركيب عدة خطوط إنتاجية في شركة بطاريات حلب[137].
أما خارج هذه الصناعات الرئيسة فلا تظهر حتى الآن عمليات استحواذ واسعة إيرانية -سواء للقطاع العام أو الخاص- على المنشآت الصناعية المختلفة، أو القيام بافتتاح معامل ومنشآت صناعية إيرانية جديدة؛ وربما يعود ذلك إلى تردُّد القطاع الخاص الإيراني، والظروف المرتبطة بالعقوبات الاقتصادية، وعدم اليقين المستقبلي[138].
بعيداً عن جانب القطاعات الصناعية برزت في الآونة الأخيرة تحركات إيرانية نحو العاصمة الاقتصادية السورية “حلب”، التي تُوّجت بافتتاح قنصلية إيرانية فيها، في خطوة عبرت بشكل واضح عن توجه اقتصادي قادم في المحافظة يوازي السطوة الفعلية للميليشيات الإيرانية فيها، بالإضافة لأهداف أخرى ترتبط بالتشييع والمد الثقافي[139]، والتي ترافقت مع تمكين طبقة الأثرياء الجدد (قادة المليشيات) المحسوبين في معظمهم على إيران، في مقابل التضييق على الطبقة التجارية التقليدية فيها[140].
ختاماً لفقرة قطاع إنتاج السلع يمكن القول: فشلت إيران بشكل واضح في الدخول إلى قطاع الصناعات الاستخراجية أي (الثروات الباطنية) عموماً وذلك لحساب المنافس الروسي؛ حيث خسرت أكبر مناجم الفوسفات في سوريا (السلسلة التدمرية)، مع وجود ملامح تفاهم روسي إيراني لأن تكون إيران وجهة لتصدير الفوسفات، كما سيطرت روسيا في نهاية المطاف على معظم حقول النفط والغاز، في حين حصلت إيران فقط على جائزة ترضية في منطقة البوكمال عبر السيطرة على بعض الحقول الصغيرة، والحصول على اتفاقية رسمية للتنقيب.
كما فشلت إيران في السيطرة على ميناء طرطوس ولم تنجح محاولاتها بالحصول على استثمار ميناء اللاذقية الذي شهد مؤخراً حضوراً روسياً، في حين تحظى بنفوذ في منطقة بانياس ومينائها. مع استمرار جهودها لاستخدام سوريا ممراً نحو العالم عبر محاولات إحياء وتنفيذ مشروعين قديمين استراتيجيين هما: أنبوب “الصداقة الإسلامي” وخط سكة الحديد (شلمجة – اللاذقية)[141]. ويبدو أن معوِّقات تنفيذها خصوصاً المعارضة الأمريكية ومن خلفها “الإسرائيلية”، فهي أكبر من قدرة إيران على تجاوزها على المدى القريب والمتوسط إلا في حال دخول مثل هذه المشاريع ضمن صفقة النووي الإيراني، واستطاعة إيران تحصيل موافقة أمريكية ضمنية مقابل الموافقة على العودة إلى الالتزام بالاتفاق.
أما على صعيد المنشآت فقد حصلت إيران على حق إنشاء مصفاة نفط كبرى في حمص، وتطوير المصافي السابقة ضمن اتفاقية 2017؛ إلا أن هذه البنود لم تُنفذ كبقية بنود الاتفاقية. مع ذلك استطاعت إيران عبر أحد أذرعها المحلية “قاطرجي” الحصول على حق استثمار بناء مصفاتي نفط، ومهمة تطوير مصب النفط في طرطوس وإنشاء منظومة نقل متطورة تربط بين المحافظات، وهو ما يشي بإمكانية اعتماد إيران على وكلائها المحليين في هذا القطاع بدلاً من دخولها المباشر فيه.
بالنسبة إلى قطاع الطاقة الكهربائية فقد دخلته إيران بشكل واضح كاتفاقات وتنفيذ، الأمر الذي يُحسب نجاحاً نسبياً لها في هذا القطاع الواعد، مع التنبيه إلى أن خطتها في هذا القطاع قد تكون قريبة لتلك التي سلكتها في العراق؛ حيث استخدمتها كإحدى أوراق الضغط. كل ذلك إلى جانب دخولها في قطاع صناعة الحديد والبناء والتشييد لأهداف متعددة، منها ما يدخل في مجال التغيير الديموغرافي ومنها ما يتعلق بتحقيق أرباح واعدة على اعتبارها تدخل في عملية إعادة الإعمار، ولضعف المنافسة الروسية فيها، بالإضافة إلى صناعة المطاحن التي تُعد قطاعاً حيوياً لدخول “الخبز” في الغذاء الأساسي للسوريين.
شكل (9) الاستثمارات الإيرانية في القطاع الصناعي
2- 3- الوجود الإيراني في قطاع إنتاج الخدمات[142]: حيث للخدمات أيديولوجيا
سعت إيران منذ سنوات إلى التمدد في قطاع الخدمات؛ وذلك عبر تمويل جملة من المشاريع الخدمية في مختلف القطاعات، خاصة البتروكيميائية والسيارات، وتبلغ قيمة هذا الاستثمارات حوالي مليار دولار[143] .
وقد تركزت المساعي الإيرانية في قطاع إنتاج الخدمات على ستة محاور رئيسة، هي: الاتصالات، والخدمات التعليمية، والسياحة، والقطاع المصرفي، والخدمات الصحية، والنقل.
2- 3- 1- الخطوات الإيرانية في قطاع الاتصالات:
في عام 2017 استطاعت إيران أن تحصل على اتفاق يمنحها رخصة تشغيل الهاتف المحمول الثالث في سوريا، على أن يبلغ حجم الاستثمار في المشغّل الجديد نحو 300 مليون دولار، بحيث تكون حصة الجانب السوري 20% في مقابل 80% لشركة إيرانية، وقد انخرطت منذ ذلك الحين شركة “MCI” الإيرانية بمفاوضات للتنفيذ، لكن رغم مرور عدة سنوات لم يتم تطبيق الاتفاق ومنح الرخصة للشركة وسط أنباء عن انسحاب الأخيرة[144].
ومنذ عام 2019 أُعيد طرح ملف مشغّل الاتصالات الثالث في سوريا على الطاولة؛ لكن وسط أنباء عن نوايا أسماء الأسد ومن خلفها الروس بالسيطرة على هذا المشغّل كبديل عن الإيرانيين، في ظل تأسيس شركة “وفا تيليكوم” المساهمة المغفلة التي يُشار إلى أن مالكها الحقيقي هو يسار إبراهيم المقرب من أسماء الأسد[145].
غير أن المؤسسة العامة للاتصالات التابعة لنظام الأسد نفت حصول المشغّل الثالث للاتصالات في سوريا على الترخيص النهائي[146]، لتأتي مؤخراً مؤشرات جديدة على توجه الروس للتمدد في قطاع الاتصالات[147].
يبدو أن حساسية قطاع الاتصالات وارتباطه المباشر في مجال التحكم الأمني داخل سوريا دفع الروس لمزاحمة إيران وحرمانها من فرصة الحصول على رخصة المشغل الثالث؛ إضافة إلى وجود معارضة أمريكية لمثل هذا الوجود[148].
2-3-2- الخطوات الإيرانية في مجال خدمات التعليم:
عملت إيران من قبل الثورة للدخول إلى قطاع التربية والتعليم في سوريا، ثم ضاعفت جهودها بعد الثورة، وقد استخدمت في هذا المجال عدة أدوات، منها: نشر اللغة الفارسية، واختراق الجامعات السورية واستقطاب كوادرها، وافتتاح جامعات إيرانية، والسيطرة على المدارس، وتغيير المناهج وإدراج اللغة الفارسية ومعسكرات الكشافة[149].
وقد جاءت الخطوة الأبرز في التغلغل الإيراني في الخدمات التعليمية مع عام 2019، حين وقّعت حكومة نظام الأسد ما أسمتها اتفاقية “تعاون تربوي” مع إيران لتشمل هذه الاتفاقية تأهيل المدارس، والتعاون في مجال طباعة الكتب، وضبط الامتحانات، ودعم التعليم المهني والتقني[150]. ولم تكن هذه الاتفاقية هي الأخيرة؛ فما بين عامي 2019 و2020 وصل عدد الاتفاقيات ومذكرات التعاون بين وزارتَي التربية والتعليم العالي التابعتين لنظام الأسد والإيرانية إلى ما يقارب الـ 12 اتفاقية ومذكرة [151]. وتشهد الفترة الأخيرة نشاطاً كبيراً في مجال الاتفاقيات بين الجامعات والمراكز الإيرانية وكل من جامعة دمشق وحمص، ومؤخراً حلب من خلال زيارات متكررة بينهم[152].
2- 3- 3-الخطوات الإيرانية في قطاع السياحة:
تُعد سورية مقصداً سياحياً مهماً؛ إذ إنها موطن لمجموعة من المعالم السياحية المتميزة لحضارات متعاقبة، لذلك شكّل قطاع السياحة جزءاً رئيساً من الاقتصاد السوري، حيث يمثل 14.4%من الناتج المحلي الإجمالي للدولة. وقد تضرر القطاع بشدة خلال السنوات الماضية نتيجة تعرض الكثير من المواقع للدمار الكلي أو الجزئي أو عمليات النهب، كما أن المخاطر المختلفة أدت لاعتبار سورية بلداً غير آمن، وهو ما أدى لانخفاض عائدات السياحة من حوالي 577 مليون دولار عام 2010 إلى ما يقارب 33 مليون دولار عام 2015 [153].
لكن على الرغم من هذه الظروف التي تجعل الاستثمار السياحي غير ذي جدوى لعدم توافد السياح أساساً كانت طهران نشيطة في القطاع عبر تكثيف استثماراتها في المزارات الشيعية في عدة مناطق سورية[154]، وقد جاءت تحركات إيران في هذا القطاع من خلال محورَين أساسيَين هما: السياحة الدينية، والاستثمار في المواقع السياحية المتعددة.
أ- على صعيد السياحة الدينية:
من الناحية التاريخية كان توافد الشيعة إلى ُسوريا بصفة الزيارات الدينية على الأغلب، وبلغ عدد الزائرين من شيعة إيران مليون زائر عام 2011[155]، أما بعد عام 2011 فيصعب تحديد إحصائيات دقيقة لعدد الزوار الإيرانيين بعد حادثة أسر 48 إيرانياً جلُّهم من العسكريين على أيدي مجموعة من ثوار الغوطة الشرقية في عام 2012، حيث توقفت السياحة الدينية الإيرانية إلى سوريا بشكل كلي لعدة سنوات بقرار من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، ليعود النشاط مجدداً منذ عام 2015؛ حين وقّعت وزارة السياحة التابعة لنظام الأسد مذكرة تفاهم مع منظمة الحج والعمرة الإيرانية لزيادة أعداد السائحين[156]. وفي عام 2017 أعلنت وزارة السياحة التابعة لنظام الأسد أن عائدات السياحة الدينية قد ارتفعت بمعدل ثلاثة أضعاف عن العام السابق، وبلغ عدد السيّاح 117 ألف سائح، مع وضع أهداف لاستقبال مليون سائح ديني، وإعلان استثمارات فندقية في منطقة السيدة زينب[157].
في عام 2019 كانت أول قافلة رسمية مرخصة من منظمة الحج والزيارة الإيرانية التي أعلنت حينها أن استئناف الزيارات الدينية إلى سوريا سيكون محدوداً بـ 7200 شخص سنوياً[158].
تعطلت هذه الرحلات الرسمية لاحقاً بسبب مخاطر وباء كوفيد-19 وصولاً لأواخر عام 2021؛ إذ تم الإعلان عن توقيع مذكرة تفاهم بشأن استئناف رحلات السياحة الدينية بين الطرفين في تشرين الثاني 2021 بهدف إرسال 100 ألف سائح[159]، وقد تبع هذا الإعلان أنباء عن إعداد خطة أمنية جديدة تقضي بانتشار مكثف للمليشيات الإيرانية على محاور طريق دمشق دير الزور-دمشق الرقة، والقيام بدوريات لتأمين سلامة قوافل السّيّاح[160].
ب- على صعيد الاستثمار في المواقع السياحية:
يرتبط هذا الاستثمار ارتباطاً مباشراً بسوق العقارات؛ لذا يشكّل الاستحواذ على الأراضي والعقارات أحد المكونات الرئيسة لاستراتيجية إيران، والتي اعتمدت في الغالب على السوريين وسطاء في هذه العملية، أو اعتمدت على جمعيات سورية مثل “الجعفري” و”لجنة إعمار العتبات المقدسة”، للتوسع والاستحواذ على أراضٍ جديدة في “الأماكن المقدسة” أو بالقرب منها حول دمشق ودير الزور وحلب[161].
أما في المواقع الأثرية السورية فقامت إيران باتباع سياسة النهب الممنهج عبر المليشيات؛ إذ قام الحرس الثوري باستخراج كميات كبيرة من الآثار من مدينة تدمر في البادية السورية[162]، كما استحوذت مليشيات إيرانية على مواقع أثرية واستخدمتها مقرّات ومستودعات سلاح خاصة في البادية السورية [163].
كذلك قامت مليشيات إيرانية أخرى بسرقة آثار المنطقة الجنوبية، حيث يتم التنقيب بشكل مستمر عن طريق خبراء من خارج سوريا وبحمايةٍ وتأمينٍ كاملٍ من قوات الفرقة الرابعة، وقد تم كشف أكثر من ستة عشر موقعاً في محافظة درعا فقط[164]، كما تشارك منظمات إيرانية في نهب الآثار السورية، ومنها “منظمة التراث الثقافي” التي تنشط في أحياء مدينة حلب القديمة، ومنظمة “خلاني الثقافية” التي تقوم بإدارة عمليات البحث في مدينة الرصافة وتقوم بنقل الآثار إلى إيران[165].
ولم تكتفِ إيران بسياسة نهب الآثار؛ إذ تُظهر التصريحات الإيرانية وجود مخطط للتوسع الإيراني في القطاع عبر بوابة ترميم المواقع الأثرية أو المنشآت السياحية أو الاستثمار في منشآت جديدة[166]، ويبدو أن أحد أسباب هذه الرغبة الإيرانية هو منافسة الروس الذين أعلنوا مسبقاً عن اهتمامهم في المواقع الأثرية السورية، وطالبوا المجتمع الدولي -وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)- بتمويل إعادة ترميم المواقع الأثرية في مساعٍ ذات أهداف اقتصادية وسياسية وثقافية متعددة[167].
بشكل عام استخدمت إيران القطاع السياحي كأحد الأدوات الناعمة التي تهدف من خلالها إلى تشويهه الوجه الثقافي والديني لسوريا بصورة أساسية، أكثر من كونها لتحصيل مكاسب اقتصادية.
شكل (10) الاستثمارات الإيرانية في القطاع السياحي
2- 3- 4- الخطوات الإيرانية في القطاع المصرفي:
منذ بداية الثورة السورية -كما أشرنا في أكثر من موضع- دعمت إيران المؤسسات المالية السورية من أجل سدّ العجز الحاصل في الميزانية تجنباً لتوقفها عن العمل؛ فقد فتحت إيران خطاً ائتمانياً لدمشق في هذا الإطار، ومنحتها العديد من القروض المالية المعلنة خلال السنوات الماضية آخرها كان عبر توقيع اتفاقية في دمشق بتاريخ 17/ 6/ 2020 المعدلة لاتفاقية خط التسهيل الائتماني، والمبرمة بين المصرف التجاري السوري وبنك تنمية الصادرات الإيراني، وذلك على الرغم من وجود العقوبات الاقتصادية على إيران[168].
تشكل القيود المصرفية الناجمة عن العقوبات الأمريكية على كل من طهران ودمشق عقبة كبيرة تقف أمام تطوير العمل المصرفي بين الطرفين؛ ولذلك فقد بحث الجانبان عن حلول لتجاوز هذه العقوبات، وفي هذا السياق تم التطرق إلى مسألة إنشاء البنوك المشتركة بين البلدين، كما تم توقيع اتفاقيات تعاون مصرفي بين البنكَين المركزيَين في عام 2019[169]، كما تم الاتفاق نظرياً أيضاً على حذف الدولار الأمريكي من تعاملاتهما والقيام بالتجارة بالعملات المحلية، إلى جانب إنشاء لجنة مصرفية مشتركة للعمل على تطبيق الاتفاقيات[170]، وإطلاق نظام “سويفت” محلي للاتصال بين المصارف الإيرانية والسورية لمواجهة الحظر المفروض[171]؛ غير أن هذه الاتفاقيات بقيت نظرية ولم تدخل حيز التنفيذ.
تهدف إيران من خلال السعي لامتلاك هذه الأدوات داخل القطاع المصرفي السوري إلى إدارة الأموال الإيرانية في سوريا من خلال ضخّ السيولة عبر التحويل بعيداً عن شركات الحوالات، ونوعاً ما عن البنك المركزي السوري[172]، والالتفاف على العقوبات الأمريكية، والانخراط في القطاع المصرفي السوري والاطلاع على ما لديه من علاقات بالمصارف في الدول العربية؛ لممارسة تمدده الاقتصادي كقاعدة لنقل أموال إيران إلى لبنان وإلى بلدان أخرى، إلى جانب تذليل العقبات المصرفية التي تعترض مجمل الأنشطة الاقتصادية الإيرانية في سوريا كالتبادل التجاري والاستثمارات الصناعية، بما يمكّنها من استكمال بناء الكيان الاقتصادي المتكامل في سوريا[173].
2- 3- 5- الخطوات الإيرانية في قطاع الصحة:
اتصف القطاع الصحيّ في سورية قبل عام 2011 بتراجع إسهام القطاع العام وتنامي إسهام القطاع الخاص، بما يشير لعملية خصخصة تدريجية غير معلنة للقطاع الصحي[174]. أما على صعيد الأمن الدوائي فتشير الأرقام إلى وجود نحو 70 معملاً مطلع عام 2011، تغطي منتجاتها ما نسبته 93% من احتياجات السوق المحلية البالغ حجمها آنذاك وفق تقديرات رسمية نحو 400 مليون دولار[175].
خلال سنوات الثورة السورية تعرض القطاع الصحي لأضرار كبيرة في كل من البنى التحتية والموارد البشرية، ويعود ذلك لأسباب عديدة في مقدمتها انتهاكات نظام الأسد وحلفائه[176]، وقد بلغ حجم العجز في تقديم الخدمات الصحية الحكومية مستويات صادمة[177]، والأمر ذاته ينطبق على قطاع إنتاج الأدوية الذي انخفضت فيه القدرة على تلبية الاحتياج المحلي لتصل إلى 30% فقط[178].
أنشأت إيران ما لا يقل عن 38 منظمة “إنسانية” عاملة في مختلف المناطق السورية تقدّم خدمات طبية إلى جانب أنشطتها الأخرى، كخطوة لتمويل مشاريع طبية من قبل المؤسسات الدولية والأمم المتحدة[179]. كذلك تنشط جمعيات إيرانية، خاصة في المناطق الحدودية مع العراق أو في دمشق، في تقديم خدمات طبية إلى المليشيات وعوائلها وعناصر من الشبيحة وبعض السكان بغية خدمة مشروع التشييع والتجنيد[180].
ويبدو أن اهتمام إيران بالجانب الطبي في سوريا قد يكون على صلة بكونها تحولت لواجهة عالمية لزراعة وتجارة الأعضاء، وهو يطرح تساؤلاً كبيراً عن مصادر هذه الأعضاء، لاسيما وأن إيران أصبحت الدولة الوحيدة في العالم التي تسمح بتجارة الأعضاء البشرية، كما كشفت تحقيقات صحفية عن دور تجارة إيرانية بالأعضاء من سوريا[181]. وتظهر التطورات الأخيرة في الواقع السوري زيادة كبيرة في انتشار الإعلانات في الطرق العامة في مناطق سيطرة النظام – ولاسيما العاصمة دمشق- التي تبحث عن متبرعين بالأعضاء البشرية، أو تقدم عروضا للبيع؛ مما يعطي مؤشراً على حجم هذه الظاهرة [182].
على الصعيد الدوائي انتشرت الأدوية الإيرانية بكثافة في الأسواق نتيجة توجه نظام الأسد لاستيرادها من إيران؛ بسبب انخفاض أسعارها على الرغم من أنها تُعد غير آمنة ولا تخضع للتحليلات المطلوبة، كما أنها ذات سمعة سيئة عالمياً؛ حيث أُوقف استيرادها وسُحبت من الأسواق في فنزويلا والمكسيك، وتعاني منها السوق اللبنانية[183]، ومع ذلك فثمّة إصرار إيراني على ما يبدو لإغراق السوق السورية بها، بل -وكما أشرنا عندما تحدثنا عن قطاع السلع- هناك توجه إيراني لإنشاء مصنع للأدوية في سوريا، ولعل ذلك يعود إلى جاذبية الاستثمار الدوائي في سوريا؛ إذ يُعد مجالاً مربحاً وبوابة للسيطرة على الخدمات الطبية[184].
2- 3- 6- الخطوات الإيرانية في قطاع النقل:
تتمثل أبرز المشاريع الإيرانية في قطاع النقل عبر مشروع استراتيجي قديم هو خط سكة “شلمجه- اللاذقية”، والذي بدأ التخطيط له منذ عام 2010 م، ويتضمن من حيث النتيجة ربط “ميناء الإمام الخميني” الواقع على الجانب الإيراني من مياه الخليج العربي مع ميناء اللاذقية السوري على البحر الأبيض المتوسط، لكن الإعلان الرسمي عن المشروع لم يأتِ حتى آب عام 2018، حين أُعلن عن البدء بتنفيذ المرحلة الأولى من مشروع ربط ميناء “الإمام الخميني” في الخليج بمدينة “خرمشهر” جنوب غربي البلاد من خلال خطوط حديدية، على أساس أن يتم اتصاله بخطوط “الشلامجة (الإيرانية)- البصرة [185]“.
استمرت المفاوضات الإيرانية العراقية حول التنفيذ الفعلي للمشروع حتى الشهر الخامس من عام 2021، من دون استجابة فعلية له من العراق الذي أشار بعض مسؤوليه إلى أنه لم يتم البت به حتى اللحظة؛ لأسباب تتعلق بوضع العراق الاقتصادي، ووجود ضغوط أمريكية تحول دون تنفيذه[186] .
هذا الحماس الإيراني للمشروع يصطدم حتى الآن بعقبات أمريكية على ما يبدو؛ إذ ترى واشنطن أن الطرق البرية أو السكك ستكون ممراً للاستخدام العسكري وتقوية النفوذ الإيراني في كل من سورية ولبنان، وهو موقف يتطابق مع المواقف “الإسرائيلية” المعلنة[187].
شكل (11) مشروع الربط السككي المخطط له بين إيران والعراق وسوريا ولبنان[188]
يبدو من خلال المساعي الإيرانية المستمرة أن الحلم الإيراني في ربط دول “الهلال الشيعي” يسير بخطوات متثاقلة للتنفيذ على أرض الواقع، خاصة الطرق البرية؛ نتيجة الظروف السياسية المحيطة بالمنطقة التي تأتي في مقدمتها المعارضة الأمريكية الروسية لتوسع النفوذ الإيراني باتجاه سوريا، وضعف الاستقرار الأمني في المنطقة، ووجود مشاريع إقليمية تعاكس الأهداف الإيرانية بالتفرد بالسيطرة على العراق وسوريا، كـ “مشروع الشام الجديد”[189] الذي يهدف من حيث النتيجة لربط دول عربية مع بعضها البعض، أو خطط الربط السككي التركية بين إسطنبول والبصرة[190].
في المقابل تبرز بعض العوامل التي تدعم الأحلام الإيرانية، ومن أهمها: المشروع الصيني المسمى “الحزام والطريق” أو “طريق الحرير الجديد”؛ فهو يظهر حالياً كفرصة تدعم الطموحات الإيرانية في تنفيذ مشاريعها، بحيث تصبح خطوطها جزءاً من خطوط أكبر على مستوى عالمي، تتموضع فيها إيران على المسار الصيني في توجُّه مهم للتخلص من سياسة العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، فضلاً عن خلق أرضية استراتيجية للصين لمزاحمة الولايات المتحدة في المنطقة؛ لذلك يُرجح أن يكون إحياء المشروع مرتبطاً باتفاقية التعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران[191].
يُضاف إلى هذا العامل الخارجي المتمثل في المشروع الصيني العالمي عامل محلي داعم للأحلام الإيرانية، وذلك عبر المليشيات الإيرانية في كل من العراق وسوريا، والتي تمتلك قدرة الضغط على السلطات الرسمية فيها لتنفيذ المشروع، وهو ما ظهر فعلياً بشكل واضح في العراق حالياً، من خلال ما تمارسه الكتل السياسية الموالية للمليشيات الإيرانية من ضغوط على حكومة الكاظمي من أجل تمرير مشروع السكك الحديدية وإنهاء المتطلبات القانونية لذلك.
كما يمكن أن تسهم هذه المليشيات في حماية المشروع أثناء تنفيذه على الأرض وبعده، بحكم انتشارها الكثيف في مناطق عديدة من العراق وسوريا؛ غير أن ذلك لا ينفي وجود تحديات أمام تنفيذ هذا المشروع بحكم مروره في مناطق واسعة داخل سوريا لا تمثل عمقاً ديموغرافياً للمشروع الإيراني، كما هو الحال في أرياف دير الزور وحمص، فضلاً عن مرور المشروع بالقرب من قاعدة التنف التابعة للتحالف الدولي، والتي يمكن استثمارها لاحقاً لعرقلته.
وفي ختام قسم قطاع الخدمات يمكن القول: لم تنجح المساعي الإيرانية في دخول قطاع الاتصالات السورية على الرغم من حصولها على اتفاق يمنحها رخصة تشغيل المشغّل الثالث منذ عام 2017، ويبدو أن الروس ووكلاءهم السوريين أقرب لأخذ هذه الرخصة في ضوء المؤشرات التي ظهرت مؤخراً.
أما في المجال التعليمي فيبدو أن الأهداف الرئيسة لإيران ذات بعد ثقافي أيديولوجي أكثر منه اقتصادي. وأما في قطاع السياحة فثمّة تركيز من الإيرانيين على السياحة الدينية والاستثمار في المواقع السياحية، إذ تهدف إلى التلاعب بالهوية الثقافية والدينية السورية، وتأمين مصدر تمويل لها ولميليشياتها؛ سواء بطريقة قانونية عبر إنشاء شركات لترميم المواقع الأثرية، أو بطريقة غير قانونية عبر النهب الممنهج للآثار السورية.
كذلك قامت إيران بإبرام الكثير من الاتفاقيات التي تتضمن خطوط ائتمان لنظام الأسد بغية دعم استمراره، كما سعت إيران لإنشاء بنك مشترك من دون الوصول إلى تفعيله حتى تاريخه، إلا أن أنه لا يتوقع حتى في ظل هذا السعي الإيراني النجاح في توظيف القطاع المصرفي في سوريا لمصلحتها، في ظل العقوبات الغربية التي تشمل كلا النظامَين.
أما في جانب القطاع الصحي فقد ركزت إيران على الجانب الدوائي من خلال السعي لإغراق السوق بالمنتجات الإيرانية، كما عمدت إلى تقديم خدمات طبية من خلال جمعيات مدنية سعياً لكسب الحاضنة الشعبية وأموال الدعم الأممية، بالإضافة إلى وجود مؤشرات على انتهاكاتها في مجال تجارة الأعضاء.
أما في مجال النقل، فيبدو أن الأحلام الإيرانية بالوصول إلى موطئ قدم على المتوسط، وربط عواصم دول “الهلال الشيعي” هي المحرك الأساس لها في هذا القطاع، غير أن الاعتراضات الدولية والدولية حول تحقيق هذا الهدف، فيما يبدو، قد شكلت وتشكل العائق الأبرز في تحقيق هذا الحلم الإيراني.
2- 4- التبادل التجاري بين نظام الأسد وإيران بعد عام 2011: الرجحان لصالح إيران
بلغ حجم التبادل التجاري بين إيران وسوريا مستوى قياسياً في عام 2010 بمبلغ 545 مليون دولار، منها حوالي 516 مليون دولار قيمة صادرات إيران إلى سورية و29 مليون دولار المتبقية قيمة واردات إيران، ولكن نتيجة اندلاع الثورة السورية وتوسعها في جزء كبير من الأراضي السورية انخفض حجم هذا التبادل؛ إذ بلغت قيمة الصادرات الإيرانية 1,3 مليار دولار من عام 2011 وحتى 2017 مقابل نحو 91 مليون دولار قيمة صادرات سوريا[192].
2- 4- 1- صادرات إيران إلى سوريا:
بشكل عام تُعد التجهيزات الصناعية والخدمات الفنية والهندسية وقطع الغيار للتجهيـزات الـصناعية والمواد الكيمياوية وغيرها من المواد الأخرى أهم الصادرات الإيرانية إلى سوريا؛ ففي عام 2018 صدّرت إيران ما قيمته 156 مليون دولار إلى سوريا، وكانت المنتجات الرئيسة التي صدّرتها إيران إلى سوريا هي: أنابيب الحديد (59.3 مليون دولار) والأدوية المعبأة (13.2 مليون دولار) والصمامات (11.5 مليون دولار)[193].
2- 4- 2- صادرات سوريا إلى إيران:
يُعد كل من القطن والألبسة والصناعات النسيجية والزيتون وزيت الزيتون والمحاصيل الزراعية والفواكه والمواد الكيمياوية من أهم الصادرات السورية إلى إيران[194]؛ ففي عام 2018 صدّرت سوريا 6.31 مليون دولار إلى إيران، وكانت المنتجات الرئيسة التي صدّرتها سوريا إلى إيران هي: زيت الزيتون النقي (3.7 مليون دولار)، وفوسفات الكالسيوم (2.42 مليون دولار)، والعطور (138 ألف دولار) .
شكل (12): التبادل التجاري بين سوريا وإيران بين عامي 2011 و2018 [195].
نلاحظ من خلال البيانات الواردة في الجدول السابق ضعف حجم التبادل التجاري بشكل عام بين البلدَين على الرغم من قوة العلاقات السياسية، إلى جانب اختلال كبير في ميزان التبادل التجاري لصالح إيران؛ إذ هيمنت الصادرات الإيرانية إلى سوريا على التعاملات التجارية بين البلدين، حتى مع استمرار نمو الصادرات السورية إلى إيران منذ بداية الألفية الثانية؛ وذلك مع شروع نظام الأسد في تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي[196].
ونتيجة لهذا الانخفاض في أرقام التبادل التجاري تم اتخاذ العديد من الخطوات من أجل تحسينه؛ ففي العام 2012 شرع كل من نظام الأسد وإيران بتطبيق اتفاقية التجارة الحرة وباتت السلع والمنتجات التي يجري تبادلها بين البلدين غير خاضعة للضريبة والتعرفة الجمركية[197]، كما أُنشئت الغرفة التجاريّة الإيرانيّة المشتركة في عام 2019[198]، وعلى الرغم من هذه الخطوات وتوقيع العديد من الاتفاقيات في مجالات متعددة تجارية واستثمارية إلا أنها لم تنعكس على تطور العلاقات التجارية بين البلدين[199]؛ إذ ترى إيران أن العلاقات الاقتصادية هي الحلقة المفقودة في العلاقات الثنائية مع سوريا . ويُعزى ذلك لعدة أسباب، أشرنا لها سابقاً لدى حديثنا عن العلاقات الإيرانية السورية على صعيد التبادل التجاري[200].
ويبدو أن الإنجازات الأخيرة التي حققتها إيران في الاقتصاد السوري تتكون من خطوط ائتمان وقروض أكثر من كونها تجارة؛ حيث زادت خطوط الائتمان الإيرانية ومبيعات النفط إلى سوريا بشكل كبير، كما أن نفوذ إيران الاقتصادي في سوريا يستند إلى اقتصاد “أمراء الحرب” أكثر منه إلى العلاقات التجارية، مع وجود مراكز قوة مختلفة في لبنان تقوم الآن بأعمال تجارية مع إيران[201]. وعلى الرغم من تلك الإخفاقات التجارية فما تزال إيران تسعى باستمرار لرفع مستوى التبادل التجاري لغايات عديدة، من أهمها: استعادة أكبر قدر من الديون؛ لأن هذا التبادل مهم لنفوذ القوة الناعمة التي تحتاجها إيران لتطوير نفوذ طويل الأمد وعلاقات اقتصادية[202].
شكل (13): خلاصة التركز الإيراني في مفاصل الاقتصاد السوري.
3- آثار التدخلات الاقتصادية الإيرانية في سوريا: أبعد من الاقتصاد
تحت ذريعة دعم نظام الأسد نما التغلغل الاقتصادي الإيراني في سوريا بسرعة منذ عام 2011؛ حيث حازت إيران على اتفاقيات واستثمارات في غالبية القطاعات الاقتصادية الرئيسة في سوريا، وما تزال تُبدي رغبات مستمرة بالحصول على المزيد وسط تنافس مع الجانب الروسي في بعض القطاعات المهمة، ووسط هذه الرغبة والنفوذ الكبير لإيران ما زال الباب مفتوحاً لها أمام عقود أخرى في المستقبل[203].
تأسيساً على ما سبق نسعى للوقوف على أبرز آثار التدخلات الاقتصادية الإيرانية، وقبلها التعرف على العوامل المؤثرة في مستقبل هذه التدخلات.
3- 1- أبرز العوامل المؤثرة في التموضع الإيراني في القطاعات الاقتصادية:
قبل الحديث عن آثار التدخلات الإيرانية يُفترض استعراض أبرز العوامل المؤثرة في التموضع الإيراني داخل قطاعات الاقتصاد السوري ومستقبله[204]، ولعل أبرزها:
- مستوى المنافسة الروسية: ينخرط حليفا نظام الأسد “روسيا وإيران” في منافسة على النفوذ وغنائم الحرب في سوريا، وهو ما يتضح من استهداف البلدين للقطاعات الاقتصادية ذاتها بدلاً من التنسيق بينهما في الاستحواذ. وتميل كفة السيطرة الاقتصادية لمصلحة روسيا، وهذا ما بدا واضحاً في أكثر من قطاع؛ فحيثما يتدخل الروس تكن لهم الغلبة، كما حصل في قطاع الثروات الباطنية وميناء اللاذقية والمشغّل الثالث.. وغيرها. والعكس بالعكس؛ فضعف التدخل الاقتصادي الروسي كان يعطي هامشاً كبيراً للإيرانيين للتدخل والتحكم، وبذلك يُعد التدخل الروسي عاملاً رئيساً مؤثراً في تموضع إيران في القطاعات الاقتصادية المختلفة.
- مدى التقاطع مع عملية إعادة الاعمار: تسعى إيران للحفاظ على وضع قدم لها في عملية إعادة الإعمار بغية استعادة جزء – مهما كان يسيراً – من الأموال التي أنفقتها لبقاء الأسد، والحصول على المكاسب المالية من انخراطها في سوريا؛ ومن هنا يبدو أنها تركز على القطاعات التي تشكل مرتكزات أساسية في إعادة الإعمار كالمصانع والبنى التحتية وسوق العقارات.
- سرعة دورة رأس المال وفرص القطاع المستقبلية: تتوجه الأنشطة الإيرانية الاقتصادية إلى القطاعات سريعة دورة رأس المال كالمطاحن والطاقة الكهربائية، والقطاعات التي تمتلك فيها سوريا مزايا مستقبلية للجانب الإيراني كنقل الطاقة والسياحة والخدمات المصرفية والاتصالات.
- مدى الارتباط بالقاعدة الشعبية: على الرغم من وجود دوافع اقتصادية ومالية وراء الخطوات الإيرانية للدخول في الاقتصاد السوري؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن لهذه الخطوات دوافع أخرى ذات بعد أيديولوجي، وبالتالي نرى وجود توجهات إيرانية للدخول في القطاعات الاقتصادية المرتبطة بمعاش الناس كالكهرباء والمطاحن والأدوية.
- إمكانية الالتفاف على العقوبات الغربية: تمثّل العقوبات الغربية على كل من نظام الأسد وإيران عائقاً كبيراً أمام التحرك الاقتصادي لكليهما؛ لذلك تسعى إيران للانخراط في القطاعات التي يمكن أن تمثل نافذة لها للالتفاف على هذه العقوبات، وتخفف من آثارها على الاقتصاد الإيراني، كما هو الحال في محاولة سعيها الولوج إلى القطاع المصرفي في سوريا.
- التموضع الجغرافي على الممرّ الاستراتيجي: تسعى إيران للحفاظ على ممرّ استراتيجي في منطقة وسط سوريا من حدود العراق باتجاه الساحل، ويمثل التغلغل الاقتصادي فيها هدفاً استراتيجياً لإيران، بغضّ النظر عن عائديته وجاذبية الاستثمار فيه اقتصادياً؛ لأن هذه المنطقة تمثل حجر الزاوية في المشروع الإيراني الاستراتيجي للوصول إلى مياه المتوسط وإكمال ربط “الهلال الشيعي” عبر الوصول إلى ميليشيا “حزب الله” في لبنان. لذا نرى أن إيران تسعى في تلك المنطقة للسيطرة على الأرض والاستثمار فيها بغية توطين عوائل الميليشيات الطائفية التي استقدمتها إلى سوريا، بما يؤدي إلى تغيير ديموغرافية لصالحها.
3- 2- آثار التغلغل الاقتصادي الإيراني في سوريا: أبعد من الاقتصاد
لا تقتصر الخطوات الإيرانية الاقتصادية في آثارها على الاقتصاد السوري فحسب، بل يتعدى الأمر في كثير من الأحيان إلى آثار في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والأمنية، وهذا ما نستعرضه بشكل مختصر.
3-2-1- آثار الخطوات الإيرانية على الصعيد الاقتصادي في سوريا:
تأتي الآثار الاقتصادية في مقدمة الخطوات الإيرانية، ونلخصها بما يلي:
- تحويل سوريا إلى سوق لتصريف البضائع الإيرانية: يمكن للخطوات الإيرانية مستقبلاً أن تؤدي إلى الهيمنة على الأسواق السورية، عبر إغراقها بالسلع والخدمات التي تُعد رخيصة نسبياً، مقارنة بمثيلاتها المستوردة من الدول الأخرى. لذلك تسعى إيران إلى التركيز على القطاعات الاستهلاكية لا الإنتاجية، بهدف احتكار منافذ الإنتاج لإيران دون سوريا، وبقدر ما تستطيع إيران الاستحواذ على البنى الاقتصادية والصناعية والزراعية ستزود الأسواق السورية بما يلبي الطلب فيها،
- سيؤدي هذا الاستحواذ على السوق السورية إلى هروب الشركات الأجنبية التي يمكن أن تفكر في الاستثمار داخل سوريا، على غرار ما حصل في النموذج العراقي؛ حيث عمدت إيران عبر ميليشياتها إلى الضغط على الشركات الراغبة في الاستثمار، وهو ما يؤدي لزيادة في السيطرة والتحكم في الأسواق مع غياب المنافس[205].
- الوصول للأسواق الأوربية عبر الشواطئ السورية: يمكن أن يمنح مشروع أنبوب نقل الغاز “الصداقة الإسلامي” إيران في حال تنفيذه فرصاً كبيرة لشحن الغاز إلى أوروبا عبر ميناء اللاذقية أو بانياس، مما يمكّنها مستقبلاً من أن تكون لها حصة كبيرة في الأسواق العالمية، مستفيدة من الأهمية الاستراتيجية لسورية كونها ممراً للطاقة.
- استغلال النظام المالي في سوريا: على الرغم من تعثُّر المحاولات الإيرانية حتى الآن في السيطرة على القطاع المصرفي إلا أنها تواصل خطواتها في هذا المجال، وفي حال نجاحها في ذلك مستقبلاً ستستثمر هذا الأمر لاستغلال النظام المصرفي السوري لتيسير معاملاتها المالية القانونية وغير القانونية، والتهرب من العقوبات الغربية المفروضة عليها؛ فصحيحٌ أن كلا النظامين يخضع في الوقت الحالي للعقوبات الغربية -وبالتالي لا فائدة كبيرة من هذا الوجود- لكنّ الأمر يتعلق بالمستقبل؛ حيث إن هذا التموضع سيمنح إيران مجالاً إضافياً للتهرب من العقوبات.
- زيادة فرص السيطرة على أموال إعادة الإعمار: على مدى السنوات المنصرمة خاطب النظام الإيراني جمهوره بأن استعادة الأموال التي أنفقها في سوريا قادم، وسيكون من خلال الدخول في الاستثمارات التي ستأتي تحت بند إعادة الإعمار في سوريا؛ ولذلك لاحظنا أن ثمّة تركيزاً إيرانياً على بعض القطاعات التي لها حظوظ كبيرة من عقود إعادة الإعمار، مثل قطاع الكهرباء والحديد الصلب.
- تأمين موارد مالية لتمويل ميليشيات المشروع الإيراني في سوريا: يحقق الوجود الإيراني داخل قطاعات من الاقتصاد السوري لها فرصة تأمين موارد مباشرة للميليشيات التابعة لها، بما يخفف من أعباء تمويلها؛ وذلك سواء عبر أنشطة اقتصادية مشروعة مثل تأسيس شركات تحصل على عقود مباشرة من نظام الأسد، أو عبر أنشطة غير مشروعة كزراعة الحشيش والاتجار به أو التهريب وتجارة الأعضاء.
3- 2- 2- آثار الخطوات الإيرانية على الصعيدين السياسي والأمني في سوريا:
تقوم السياسة الإيرانية في مختلف الدول التي تدخلت فيها على نموذج “دولة داخل دولة”، وبالتالي تتأثر السياسات الاقتصادية التي تتبعها إيران بهذه الاستراتيجية العامة، وتمضي الخطوات الاقتصادية التي تتخذها في هذا الاتجاه، مما يجعل لها تأثيراً سياسياً داخل الدولة التي تتدخل فيها[206].
بناءً على ذلك يمكن استشراف عدة آثار سياسية وأمنية للتدخلات الإيرانية الاقتصادية، نلخصها بما يلي:
- عرقلة جهود الحل السياسي: سيعطي الوجود الإيراني داخل الاقتصاد السوري -بغضّ النظر عن مداه وأهميته- ورقة إضافية لعرقلة أية مساعٍ لتحقيق حل سياسي عادل ومنصف للقضية السورية، لاسيما وأن النظام الإيراني ومنذ اليوم الأول للثورة حسم موقفه بتأييد كامل ومطلق لنظام الأسد وللحلول العسكرية والأمنية التي لجأ إليها، بما فيها من جرائم وانتهاكات، وبالتالي ستستخدم إيران أي نفوذ لها داخل سوريا -سواء كان سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً[207]– لتثبيت نظام الأسد، بما يعنيه ذلك فعلياً من رفض أي حل سياسي منصف وعادل في سوريا[208].
- السيطرة على القرار السيادي السوري: تؤثر التدخلات الاقتصادية لأية دولة في استقلالية قرار الدولة المتَدخَّل فيها، وإذا كان هذا الأمر ينطبق على الدول المستقرة التي لديها سلطة مركزية قوية فإنّ من باب أولى أنْ تكون نتائجه أكثر وضوحاً وتأثيراً على الدول التي تضعف فيها السلطة المركزية وتكون خارجة من صراع، كما هو الأمر في الحالة السورية؛ حيث تتشكل سلطات فعلية داخل الدولة بفعل دعم الميليشيات وشبكات التهريب، وتفتقد الدولة لمقومات استقلال القرار من اقتصاد وأمن؛ فهنا تصبح السيادة -بما تعنيه من تحكم الدولة بقراراتها الداخلية والخارجية من دون تدخل خارجي[209]– في مهب الريح[210].
ولعل فيما قام به النظام الإيراني عندما ضغط على نظام الأسد لتوقيع اتفاقية اقتصادية موسعة تقضي بالتزام حكومته إعادة الدَّين إلى إيران خلال 25 سنة دليلاً عملياً على التدخلات الخارجية الإيرانية في صناعة القرار داخل هذا النظام[211].
- إضعاف السلطة المركزية لحساب الحكم المليشياوي مستقبلاً: وهذه نقطة مرتبطة بالسابقة؛ حيث إن الخطوات الاقتصادية الإيرانية واضحة في دعم نموذجها الذي تُنشئه في الدول التي تدخلت فيها، من جهة إنشاء ميليشيات عسكرية تابعة لها مع إضعاف السلطة المركزية، كما هو الحال في دعم ميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق و”حزب الله” في لبنان والحوثي في اليمن.
3- 2- 3- آثار الخطوات الإيرانية على الصعيد الاجتماعي في سوريا:
يقوم المشروع الإيراني في سوريا في أحد أركانه على الجانب الأيديولوجي الذي يستهدف البنية الاجتماعية السورية[212]، ومختلف الأدوات والوسائل التي تستخدمها إيران إنما هي لخدمة هذا الهدف؛ وبالتالي يصبح الاقتصاد والسياسة والعسكرة أدوات لتحقيق هذا المشروع، وليست أهدافاً بحد ذاتها.
لذلك، يمكن الوقوف على بعض الآثار الاجتماعية المدمرة للتدخلات الاقتصادية الإيرانية، ومن أبرزها:
- تغيير الهوية الحضارية لسوريا: شهدت سوريا في سنوات الثورة توسعاً غير مسبوق في انتشار المظاهر الدينية الشيعية في مختلف أنحاء مناطق سيطرة نظام الأسد، خصوصاً في ريف دمشق والبوكمال وحلب، كما أن تنشيط السياحة الدينية في سورية بشكل عام والاستثمار في الآثار والمواقع الدينية والمنشآت السياحية يمثل مشروعاً ثقافياً إيرانياً للتغلغل بشكل أكبر داخل المجتمع السوري، وهو ما بدأ قبل اندلاع الثورة السورية فعلياً، وارتكز على استغلال تردّي الوضع المعيشي لشريحة واسعة من الشعب السوري بعدها.
- إنشاء منظومة عشائرية موالية: تعمل إيران منذ سنوات على إقامة علاقات مع العشائر العربية في المنطقة الشرقية من البلاد، ونجحت في إنشاء مليشيات عديدة، كلواء الباقر من عشيرة ” البكارة ” وقوات مقاتلي العشائر في الرقة، حيث قدمت إيران الدعم العسكري والاجتماعي والمالي لها. وتلعب التنظيمات العشائرية دوراً مهماً في كل من الحياة السياسية والاجتماعية في سوريا، ومع ازدياد الوجود الاقتصادي الإيراني في سوريا سيصبح أداة مهمة بيدها لتجنيد شبكات عشائرية تدافع عن المصالح الإيرانية في سوريا[213].
- التجنيد الاقتصادي في المجتمع السوري: في ظل ارتفاع معدلات البطالة لمستويات غير مسبوقة في سوريا، وتردّي الوضع المعيشي، خصوصاً في مناطق سيطرة نظام الأسد[214]؛ فإن الدخول الإيراني إلى القطاعات الاقتصادية السورية -لاسيما تلك التي تتقاطع مع مشاريع إعادة الإعمار- سيساعدها على جذب اليد العاملة المحلية، وهو ما يرجح أن تستغله من أجل تجنيد هذه الفئات ضمن مشروعها الأيديولوجي[215].
- العبث في البنى الفكرية للشعب السوري: يمكن للسيطرة الإيرانية المتزايدة في مجال الخدمات التعليمية -بما فيها التعليم العالي والمناهج، بالإضافة إلى الأنشطة الثقافية الأخرى- أن تؤدي إلى تغييرات كبيرة في وعي الجيل السوري الناشئ، وتغيير عقائده وربطه بمشروع “الولي الفقيه”، بدلاً من أن يكون سوري الهوية والانتماء[216].
3- 2- 4- آثار التغلغل الاقتصادي الإيراني على الصعيد الاقليمي:
- تهديد الأمن الإقليمي: يسهم نشاط الميليشيات الإيرانية ورسوخه في سوريا في جعلها بؤرة لتجارة المخدرات والتهريب وتجارة الأعضاء، فضلاً عن تهريب الأسلحة؛ كل ذلك سيجعل من سوريا منطقة غير مستقرة وملجأً لعصابات التهريب والمافيات، ومنطلقاً لتهديد دول الجوار الإقليمي التي عانت وتعاني من النشاط غير القانوني لهذه الميليشيات، ويتوقع في حال استمرار نشاطها داخل سوريا أن تكون العواقب الأمنية أسوأ وأشد[217].
- تغيير في خريطة النفوذ “الجيو اقتصادية ” “والجيو سياسية” في المنطقة ككل: إذ إن النفوذ الإيراني يعني التحكم بأهم المنافذ البحرية والبقع الجغرافية في المنطقة، ويفتح لها مجالات المناورة على حدود الدول الأخرى، والتطلع نحو أوروبا التي تحتاج الغاز باستمرار، وتحقيق تحركات استباقية بهدف تضييق الخناق الاقتصادي على “تركيا” منافستها الإقليمية في الشرق الأوسط، ويسمح هذا التمدد في زيادة القوة الذاتية، ويوفر لها حماية استراتيجية لأمنها القومي، وممارسة سياسات “الدفاع الهجومي”[218].
- زيادة النفوذ الإيراني في المنطقة: يرتكز المشروع الإيراني في أحد جوانبه على قاعدة مفادها أن الحضور في المشرق العربي يسهم في الضغط على واشنطن لقبولها شريكاً إقليمياً بارزاً، وبالتالي تقاسم المصالح والنفوذ في المنطقة، ولذا فإن زيادة النفوذ الإيراني في المنطقة بشكل عام وفي سوريا بشكل خاص يعني تقوية هذا النفوذ والحضور، بما يعنيه من تكريس الهيمنة الإيرانية على المنطقة العربية بشكل خاص على اعتبار أن النظام العربي هو الحلقة الأضعف فيها مقارنة ببقية المنافسين الإقليميين[219].
خاتمة:
يتضح مما سبق أن الجهود الإيرانية في المجال الاقتصادي لم تواكب مثيلاتها في الجانبَين العسكري والثقافي لأسباب موضوعية متعددة؛ إلا أن ذلك لم يثنِها عن متابعة تدخلاتها وخطواتها للتغلغل داخل الاقتصاد السوري التي نجحت تارة، وفشلت تارة أخرى.
لقد أظهرت الدراسة أنه يمكن تلخيص أهداف التدخلات الاقتصادية الإيرانية في سوريا على ثلاثة مستويات من حيث الأهمية بالنسبة لمشروع إيران في سوريا، وبما يجعل هذا القطاع مسانداً لمجالات المشروع الإيراني الأخرى، وهي:
المستوى الأعلى: يتمثل في هدف استراتيجي لإيران، وهو الوصول إلى ميناء على شواطئ البحر الأبيض المتوسط؛ بما يعطيها ميزة تنافسية في الوصول إلى أسواق الطاقة والسلع داخل الاتحاد الأوروبي. بناء على ذلك نتوقع أن تضع إيران ثقلها لتحقيق هذا الهدف، سواء عبر إحداث التغيير الديموغرافي أو تركيز انتشار الميليشيات والسيطرة المباشرة على الأراضي السورية في المناطق القريبة من الطريق الواصل إلى البحر، وفي حال فشل إيران في تحقيق الهدف فيمكن أن يمثل لها الحفاظ على الطريق الواصل إلى بيروت وتأمينه الخطة البديلة، بحيث تكون الأراضي السورية الجسر الواصل إلى البحر المتوسط.
المستوى المتوسط: تمويل الميليشيات المدعومة إيرانياً؛ بحيث تكون لها مصادر ذاتية تسدّ -ولو جزئياً- الأموال اللازمة لتشغيل هذه الميليشيات والمحافظة عليها. وهذا ما يتم عادة بوسائل غير مشروعة، كتجارة المخدرات وتهريب الآثار وتجارة الأعضاء والبشر والاستيلاء على الأراضي وتهريب الأشخاص وغيرها، إلى جانب قطاع السياحة وخدمات التعليم؛ حيث يدخل هنا الاقتصادي بالثقافي والأيديولوجي الذي يُعد أحد مرتكزات المشروع الإيراني في سوريا.
المستوى الأدنى: يتجسد في الاستفادة من الاقتصاد السوري بصورة عامة، بما يجعله مرتبطاً بالاقتصاد الإيراني؛ وهذا الهدف وإن كان يبدو أنه صعب المنال نتيجة الظروف الموضوعية المتعلقة بتشابه المنتجات وعدم وجود طريق بري بين الجانبين، إلا أن خطورته تتمثل في سعي إيران للتركيز على بعض القطاعات الرئيسة التي قد تمثل لها صفقة رابحة، كالدخول في المجالات الاقتصادية المرتبطة بإعادة الإعمار، وتلك التي تهم حياة الناس ومعاشهم مثل قطاع الكهرباء والمطاحن؛ بما يؤهلها لاحقاً لربط هذه القطاعات بها، وجعلها حلقة مرتبطة بالاقتصاد الإيراني؛ وهو ما قد يدقّ إسفيناً جديداً بين سوريا وعمقها العربي.
بالعموم قد يُنظر إلى مخاطر التدخلات الاقتصادية الإيرانية في سوريا بنوع من التهاون مقارنة بمخاطر تدخلاتها العسكرية والثقافية؛ ولكن علينا أن نستحضر دوماً أن المقدرات الاقتصادية هي إحدى المفاتيح الأساسية لتقوية النفوذ وتأمين المصالح على أنواعها[220].
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة