تصدير الثورة والتحولات في السياسة الإيرانية
تقرير تحليلي
مقدمة:
شكّلت حالة صعود الثورة الإيرانية في العام 1979م تحوُّلاً خطيراً في المنطقة عموماً، لاسيما بعد تبنّي النظام الإيراني الجديد استراتيجية “تصدير الثورة” إلى البلدان المجاورة، الأمر الذي مثّل تهديداً أمنياً لتلك الدول، وصولاً إلى ما نشهده حالياً من تغلغل الأذرع الايرانية المسلحة وغير المسلحة في مختلف الدول العربية، ابتداءً من العراق، وليس انتهاءً بسورية واليمن [1].
وفي السياق ذاته حملت الثورة الايرانية مع مجيئها شعارات أيديولوجية جاذبة، كنصرة المظلومين والمستضعفين، عزّزها ما ظهر من توترٍ مع الولايات المتحدة، وقطعٍ للعلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”، وتحويل السفارة الإسرائيلية إلى سفارة فلسطين، وحدوث عدة احتكاكات إيرانية مع الولايات المتحدة، كان أبرزها أزمة السفارة الأمريكية واحتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين في طهران. وذلك بالتزامن مع ممارسات ذات دلالات متناقضة؛ كالإصرار على الحرب الإيرانية العراقية، ثم لاحقاً حدوث التعاون الأمريكي الإيراني في العراق وأفغانستان،الأمر الذي أثار جدلاً حول حقيقة تعاملات النظام الإيراني مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وديناميكات العلاقة بينهما، مع ظهور بعض المحاولات لاخترال توصيف العلاقة بتوصيفات بسيطة، كالعداء، أو التحالف السري أو التبعية، وهو ما بات يُعرف بـ “نظرية المؤامرة”؛ التي ترى أنَّ كل ما يحدث من مواجهات أمنية وعسكرية وسياسية بين الطرفين لا تعدو أن تكون تمثيليات ضمن خطة للهيمنة على العالم العربي وتقاسم النفوذ فيه[2]. وفي المقابل يتحدث آخرون عن “صراع وجودي” حقيقي مستمدٌّ من الإيديولوجيا، وله أبعاد دينية تعيق إيران و”إسرائيل” تحديداً من الوصول إلى حلٍّ شامل لإنهاء حالة التوتر المستمر بينهما[3].
تأتي هذه الورقة جزءاً من سلسلةٍ للإضاءة على هذا الموضوع، في محاولةٍ للوصول إلى فهم واقعي موضوعي متكامل للأحداث والديناميكات، وكشف الغموض عن العلاقة المعقّدة المتداخلة التي جمعت إيران و”إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية. وقد أُعدت هذه الدراسة التحليلية بناءً على استقراءٍ وتحليلٍ للأحداث والمنعطفات المتعلقة بالعلاقات الإيرانية الإسرائيلية الأمريكية قبل ثورة الخميني، وأثناءها، وبعدها، من خلال الرجوع إلى ما توفر لدى الفريق البحثي من الدراسات والتحليلات والوثائق التي كُتبت عن تلك الأحداث من مختلف الباحثين أو السياسيين، باعتبارها معلومات تحتاج التحقق والمقارنة والمعالجة التحليلية للخروج بنتائج، وهو ما سعى إليه فريق البحث للوصول إلى الحقائق قدر المستطاع.
وبعد أن استعرضنا في الجزء السابق العلاقة الإيرانية الأمريكية الإسرائيلية؛ بدءاً من انتهاء الحرب العالمية الثانية، مروراً بحكم الشاه، وانتهاءً بانتصار الثورة الإيرانية وصعود الخميني إلى سدة الحكم في طهران[4]؛ فإننا سنركّز في هذا الإصدار على منهج “تصدير الثورة” الذي تبناه الخميني للتوسع إقليمياً ولنشر أيديولوجيته السياسية إلى الجوار العربي، لما أحدثته جهود التمدد الإيراني في المحيط العربي من اصطدامٍ بالنفوذ الأمريكي وطموحات القوى الإقليمية الأخرى، الأمر الذي أدى إلى نشوء ديناميكية جديدة في طبيعة العلاقات الإيرانية الأمريكية الإسرائيلية.
أولاً. منهج “تصدير الثورة” وتأثيره على العلاقة الإيرانية الإسرائيلية الأمريكية:
شكَّل مفهوم “تصدير الثورة” رؤية القيادة الإيرانية الجديدة للتمدد إقليمياً ومحاولة مدّ نفوذها إلى الجوار العربي؛ فعلى الرغم من تغيّر النظام السياسي الإيراني بعد ثورة 1979م والإطاحة بنظام الشاه، وتبنّي الرؤية الدينية “على الطريقة الخمينية”؛ فقد بقيت الأهداف الاستراتيجية الإيرانية الكبرى متشابهة إلى حدٍّ بعيد؛ وتتمثّل في محاولة النهوض بإيران كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها في المنطقة [5].
1. 1. حلم القيادة الإقليمية الإيرانية، من الشاه إلى الخميني:
إنَّ الطموحات الإيرانية في الحصول على دور “القيادة الإقليمية” وتوظيفه لصالح جهودها لانتزاع دور دولي مؤثر لم تنقطع بانقضاء عهد الشاه، بل استمرت مغلفة بالتوجه الثوري الإيراني بعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979م وصعود الخميني إلى سدة الحكم في إيران.
وبينما بدا واضحاً سعي الشاه للحصول على التفوق الإقليمي الإيراني وفرض هيمنته على الخليج العربي وعلى أجزاء من المناطق المطلة على المحيط الهندي، من خلال الاعتماد المباشر على الدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي، ومحاولة التودد والتقارب مع المحيط العربي، وذلك عبر منح مساعدات مالية وعسكرية سخية للعديد من البلدان العربية، وتوقيع عدّة اتفاقيات تعاونية مشتركة مع الجار العراقي[6]؛ فإن إيران في ظل الخميني سعت للوصول إلى قيادة العالم الإسلامي من خلال تبنّيها نموذجها الخاص عبر “ولاية الفقيه”[7]، معتمدةً بذلك على “الخطاب الثوري المظلومي” وتقويض الأنظمة العربية التي تعارض هذه الطموحات الإيرانية عبر منهج ما يُسمى “تصدير الثورة”[8]، وهو ما أكّد الخميني استحالة تراجع إيران عنه([9])، وقال في الذكرى السنوية الأولى للثورة: “إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم”[10]؛ لأن أيديولوجيّة الثورة الإيرانية هي أيديولوجية عابرة للحدود، فالمراد بـ”تصدير الثورة”[11]: تنفيذ برامج وسياسات من طرف مؤسّسي الثورة بغاية التأثير في المجتمعات الأخرى؛ “انطلاقاً من أنَّ إيران هي قلب العالم الإسلامي بوصفها القلب المذهبي للإسلام الصحيح؛ فهي المخلّص لدول العالم الإسلامي من الديكتاتوريات التي تحكمها، لتخلص لها القيادة وإنقاذ العالم”[12]. ويُضاف إلى ذلك أبعاد نظرية الإمامة التي تعتقد أنَّ الإمام ليس إماماً للشيعة وحسب، بل له سلطة عالمية تمتد إلى المسلمين عموماً[13]. ولإعطاء مفهوم “تصدير الثورة” أولوية على باقي الأهداف الاستراتيجية للنظام الإيراني الجديد غلَّفه الخميني بمادة أساسية من مواد الدستور الإيراني؛ وهي المادة التي تنص على وجوب “تصدير الثورة الإسلامية” و”إقامة الحكومة الإسلامية العالمية”، الأمر الذي حدّد الطبيعة العقائدية لتكوين الجيش الإيراني ومهام الحرس الثوري الإيراني[14]، معتبرًا أن القوات المسلّحة لا تلتزم بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أيضًا أعباء رسالتها التي حددها المشرع وهي “بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم”[15].
1. 2. اصطدام النظرة الإيديولوجية بالواقع السياسي:
تشير قراءة الواقع ودراسة التاريخ إلى أنَّ المصالح الاستراتيجية لدولةٍ ما ضمن مجالاتها الحيوية الإقليميّة والدولية لا تتغيّر بتغيّر النظام أو الحكومة[16]، وهو ما أكّدته الحالة الإيرانية؛ فعلى الرغم من إسقاط الملكية البلهوية وتحول إيران إلى جمهورية “إسلامية” تحت حكم الخميني؛ فقد بقيت الحقائق الجيوسياسية ثابتة منيعةً أمام النظرة الإيديولوجية والخطابات النارية التي جاء بها الخميني في معاداته لـ “إسرائيل” والولايات المتحدة، حيث إنَّ إيران باستراتيجياتها التي جاء بها الخميني لتصدير الثورة الإيرانية ونشر إيديولوجيتها السياسية عن طريق استنهاض الروح الدينيّة الطائفية “الشيعية”، وتبنّي الشعارات الطائفية مع استبطان الهوية القومية الإيرانية[17]، وجدت نفسها محاطةً بدول عربية معادية لنموذجها السياسي[18]؛ إذ شعرت الحكومات العربية بالذعر والقلق، ولاسيّما دول الخليج العربي، وكذلك العراق الذي يضم أعداداً كبيرة من الشيعة تستهدفهم “الدعاية الخمينيّة”[19]. ونتيجةً لذلك فإنَّ الجهود التي بذلتها إيران لتغيير الواقع الإقليمي ولتغيير كامل النظام في المنطقة، عبر “تصدير الثورة” إلى الجوار العربي من خلال إثارة النعرات الطائفية ومعاداة أنظمة الدول المحيطة لها والعمل على إسقاطها؛ جعل منها دولةً منبوذةً يخافها ويتحاشاها الجميع [20]، وكان هذا –على ما يبدو- أحد محددات العلاقة التي جمعت لاحقاً “إسرائيل” بإيران على طاولة المصالح المشتركة؛ وهو الخوف المشترك من المحيط العربي المعادي.
وانطلاقاً من المحدد السابق فيبدو أنَّ “إسرائيل” لم تعتبر تبنّي طهران مفهوم “تصدير الثورة” ومحاولة التمدد إلى الجوار العربي مهدداً لأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية العليا في المنطقة[21]، بل إنَّ أي خطوة إيرانية قادرة على زعزعة الاستقرار في المنطقة، وإضعاف الدول العربية المعادية لها قد تصبُّ تماماً في مصلحتها وهدفها الاستراتيجي[22]؛ المتمثّل بالضغط على الحكومات العربية للقبول بشرعيتها والتطبيع العلني معها، وهذا يعني إخراج “إسرائيل” من العزلة التي تكبّلها وتمنعها من التمدّد في محيطها أيضاً[23].
في الواقع تتصدر المنطقة العربية ــــــ وفق الوثائق الإيرانية ـــــ أهداف قوة إيران الناعمة لتصدير ثورتها[24]، ولا سيّما العراق؛ الذي مثّل محور اهتمام إيران منذ القدم لتصورها أن العراق هو العثرة الأساسية للمدّ الإيراني في الخليج[25]؛ وانطلاقاً من تلك الطموحات الإيرانية الإقليميّة في التمدّد في المحيط العربي وجد صانع القرار الإيراني فرصته للحشد والدعاية لتصدير الثورة كوسيلة لنشر النفوذ الإيراني من خلال إظهار العداوة العلنية لـ “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية وقطع العلاقات الدبلوماسية، بدلاً من التعاون العلني معها[26]، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الدول العربية ــــــ باستثناء مصر ــــــ في حالة عدم تطبيع مع “إسرائيل”، في محاولة إيرانية –على ما يظهر- لكسب الشرعية القيادية لشعوب العالم العربي، وإيهامها أنَّها الدولة الوحيدة القادرة على لعب دورٍ مركزي في مواجهة “إسرائيل”[27]، وهو ما كان واضحاً في رفضها القاطع بناء تحالفات وشراكات مع مصر وقطع العلاقات الدبلوماسية معها بعد توقيعها اتفاقية السلام مع “إسرائيل” عام 1979م[28].
وفي السياق ذاته يبدو أن تراجع الموقف الإيراني في العالم وتزايد عزلة إيران الدولية بفعل العقوبات الأمريكية بعد حادثة احتجاز الرهائن الأمريكيين في طهران قد دفع حكومتها الثورية إلى البحث عن مصالحها، وإن كان سيؤدي ذلك إلى تناقض صارخ مع ما تتبناه من خطاب يركز على شيطنة الولايات المتحدة و”إسرائيل”، مما دفعها لإعادة إحياء تعاونها السريِّ مع تل أبيب بعد أعوام من القطيعة والمعاداة، وهو ما وجدته تل أبيب فرصةً ذهبيةً لإعاد إحياء تعاونها القديم مع طهران[29]، مناقضةً بذلك سياسة واشنطن القائمة على عزل إيران دولياً لتأمين تحرير الرهائن الأمريكيين، وهو ما سبّب توتّراً ملحوظاً في العلاقات الإسرائيلية الأمريكية[30].
بناءً على ما سبق فإنَّ الخوف الإيراني ـــــ الإسرائيلي المشترك من المحيط العربي المعادي بقي محور العلاقة البرغماتية التي جمعت طهران وتل أبيب[31]؛ إذ إنَّ “إسرائيل” وعلى الرغم من كسرها طوق العداوة العربية المحيطة بها من خلال إبرام معاهدة السلام مع مصر، الدولة العربية الأقوى والأكثر كثافةً سكانيّة[32]؛ فإنَّ “الخطر العراقي” المتنامي من الجهة الشرقية صار يقلقها ويزعزع أمنها القومي، لأن “إسرائيل” ظلّت تعاني من إشكالية وقوعها تحت تهديد حرب عليها ضمن نطاقها الجغرافيّ الضيق، الأمر الذي جعلها تبحث عن ثقلٍ إقليميٍّ موازٍ للعرب، وهو ما وجدته في إيران؛ إذ إنَّ الموقع الاستراتيجي الذي تتمتّع به إيران، إضافة إلى روابطها الاقتصادية والعسكرية القديمة وثرواتها النفطية، ومعاداتها التقليدية للعراق[33] وللاتحاد السوفيتي الذي دعم تسليح الدول العربية في حربها ضد “إسرئيل”[34]؛ كل هذا جعل -على ما يبدو- من استغناء “إسرائيل” عنها أمراً بالغ الصعوبة[35]. وفي الجهة المقابلة عملت طهران على الموازنة بين علاقتها البرغماتية السريّة مع تل أبيب وهدفها الإستراتيجي بعيد المدى المتمثّل في قيادة العالم الإسلامي عن طريق تصدير ثورتها إلى المحيط العربي؛ حيث اعتمدت على تبنّي خطاب معادٍ لـ”إسرائيل” لا يتطابق مع سياستها الفعلية العملية، وهو ما كان واضحاً في الخطابات الاستهلاكية النارية للقيادة الإيرانية والإدانة العلنية لسياسة “إسرائيل” في المنطقة، واستخدامها كرافعة سياسية وتموضع دبلوماسي، في سبيل رفع مكانة إيران الريادية في العالم العربي والإسلامي وخفض الأخطار التي تواجهها من المحيط العربي، مع إبقائها على القنوات الخلفية السريّة للتواصل والتعاون مع “إسرائيل” في المسائل الأمنية، لإيجاد محور موازٍ للمحور العربي؛ الذي كان يتصدره العراق آنذاك[36].
ثانياً. الحرب العراقية – الإيرانية وتأثيرها على علاقات إيران مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”:
اندلعت الحرب العراقية ــــ الإيرانية في أيلول عام 1980م بعد أن تراكمت مسبّباتها بين طرفين لم يشتبكا بشكل مباشر منذ أواسط القرن التاسع عشر[37]؛ ولسنا في صدد مناقشة الأسباب المباشرة للحرب والمسؤول عن اندلاعها[38]، لكنّ من المهم أيضاً ملاحظة أنَّ الوحدة الترابية العراقية تهدّدت جدّياً من إيران حتى قبل اندلاع الحرب بينهما؛ لأنَّ محاولات إيران الخمينيّة تصدير ثورتها إلى الجار العراقي، كونه يعدُّ البوابة الرئيسية لدخولها إلى المنطقة العربية، وضعَها على طرفي نقيضٍ مع النظام العراقي؛ الذي اتهم النظام الإيراني بالتدخل في الشؤون الداخلية العراقية، وتحريض المكون الشيعي على التمرد[39].
ومن ناحية أخرى فإنَّ الظروف الصعبة التي كانت تعاني منها إيران بعد تدهور علاقاتها الدبوماسية مع العديد من دول العالم، كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والتكتّل العربي بعد سياسات الخميني العدائية؛ قد أضعفت فيما يبدو خياراتها السياسية، ووضعتها في موقف صعب أمام طموحات النظام العراقي الهادفة إلى التمدد في منطقة الخليج العربي واستعادة شط العرب من إيران، بعد خسارة أجزاء منه في اتفاقية الجزائر 1975م، وهو ما قد هيّأ لاندلاع الحرب العراقية الإيرانية[40].
1.2 الصفقات الإيرانية الأمريكية الإسرائيلية السرية خلال الحرب العراقية الإيرانية:
عزّزت الحرب العراقية ــــ الإيرانية من تصور إيران و”إسرائيل” للخطر العراقي المشترك عليهما؛ إذ إنَّ الدعم السوفيتي العسكري للعراق[41]، إلى جانب التمويل الهائل الذي قدّمته الدول الخليجية للجيش العراقي، جعل العراق ينفق المليارات من الدولارات على شراء الأسلحة والتجهيزات العسكرية، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى ازدياد حجم جيشه عدة أضعاف عما كان عليه قبل الحرب، وهذا بدوره قد عزّز من القدرات الهجومية العراقية؛ التي تضمنت مخزونات من الأسلحة الكيميائية والصواريخ البالستيّة، وبالتالي فقد باتت “إسرائيل” أيضاً في متناول الضربات العراقية[42].
وربما أسهم توحّد الموقف العربي -لاسيّما الخليجي- الداعم للعراق عقب اندلاع الحرب[43]، إلى جانب تدهور العلاقة بين طهران والمنظمات الفلسطينية على خلفية موقف القيادة الفلسطينية المؤيد للعراق في حربه مع إيران[44] في عودة المحور الإسرائيلي ـــــ الإيراني إلى طور التعاون والتحالف السري؛ إذ إنَّ محاولات إيران صد الهجوم العراقي قد بات محكوماً عليه بالفشل دون توسيع قنواتها مع “إسرائيل” والولايات المتحدة، من أجل شراء الأسلحة وقطع الغيار لأسلحتها الحربية؛ وبالتالي فقد هرعت “إسرائيل” لنصرة إيران وتقديم الدعم العسكري والاستخباراتي لها، أملاً فيما يبدو بإنهاء حالة التوتر في علاقاتها مع طهران، وربما خوفاً من خروج العراق منتصراً من الحرب، ما يعني زيادة سطوته على منطقة الخليج العربي، إضافةً إلى كون العراق بات يمتلك جيشاً يقدّر بأربعة أضعاف الجيش الإسرائيلي[45]، وهذا بدوره قد جعل خطورة “الجبهة الشرقية” بالنسبة لتل أبيب أكبر من أي وقت مضى.
إنَّ التعاون والتنسيق بين طهران وتل أبيب ضد “العدو العراقي” المشترك كان واضحاً في أيام الحرب الأولى؛ إذ إنَّ سعي العراق للتوسع في منطقة الخليج العربي ومحاولته التمدد إقليمياً قد أثار كما يظهر المخاوف الإيرانية الإسرائيلية حيال ذلك، وهو ما تجسّد عمليّاً في تقديم الاستخبارات الإيرانية معلومات إلى السلاح الجوي الإسرائيلي مكّنته عام 1981م من إلقاء القنابل فوق مفاعل “تموز1” العراقي لعرقلة تنفيذ البرنامج النووي العراقي[46].
وعلى صعيد آخر ظهر أنَّ الاستراتيجية الأمريكية في الحرب العراقية الإيرانية قامت على أساس التوازن في دعمها لكل من العراق وإيران، والعمل على عدم تحقيق نصر حاسم لأحد الطرفين على الآخر؛ ربما رغبة منها في إنهاك الطرفين بعضهما بعضاً، والتأكد من عدم خروج قوة وحيدة مسيطرة على منطقة الخليج العربي الغنية بالنفط، إيرانيةً كانت أو عراقية[47]، وهو ما كان واضحاً في دعمها الاستخباراتي والعسكري شبه التام للعراق منذ بداية الحرب؛ قابله تغاضي إدارة ريغان الأمريكية عن التحركات الإسرائيلية لتقديم الدعم العسكري والسماح لها بشحن أسلحة سرية وقطع غيار أمريكية لطهران[48].
2.2. الاجتياح “الإسرائيلي” للبنان وأثره على العلاقات الإيرانية الإسرائيلية الأمريكية:
في 6 حزيران من عام 1981م بدأت “إسرائيل” حملةً عسكريةً بريّة وجويّة لاجتياح الأراضي اللبنانية، وكان من ضمن الأهداف “الإسرائيلية” المعلنة لهذا الاجتياح تدمير البنية العسكرية الفلسطينية في لبنان تدميراً تاماً، ومنعها من استخدام أراضي الجنوب اللبناني كقاعدة لضرب مناطق شمال “إسرائيل”، والعمل على إقامة نظام حكم لبناني جديد يعقد معاهدة سلام معها[49]. وفي خضم الغزو “الإسرائيلي” للأراضي اللبنانية قامت جماعات مختلفة بحمل السلاح لمقاومة الهجوم؛ ومن ضمن هذه الجماعات ظهرت مجموعات شيعية لبنانية ارتبطت مذهبياً وأيديولوجيّاً بالحكومة الإيرانية، ويبدو أنَّ هذا الارتباط الأيديولوجي والفقهي بإيران سرعان ما تقاطع مع رؤية إيران وهدفها الاستراتيجي في تصدير ثورتها وزرع بذرة “ثورة إسلامية” على نهج ثورتها في بلد عربي كلبنان[50]؛ حيث سارعت طهران لتقديم الدعم العسكري واللوجستي السريع والمباشر عبر “الحرس الثوري الإيراني” لهذه المجموعات الناشئة، التي توحدت لاحقاً “بفضل المساعدات والدعم الإيراني” متخذةً من “حزب الله” اسماً لها[51].
ونتيجةً للاجتياح الإسرائيلي أرسلت إدارة ريغان الأمريكية 1800جندياً من مشاة البحرية إلى لبنان، إلى جانب قواتٍ فرنسية وبريطانية؛ خوفاً من تحوُّل المواجهات مع “إسرائيل” إلى صراع إقليمي متعدد الأطراف، ولكن لم تلبث تلك القوات أن تعرضت لهجمات انتحارية عديدة، كان من ضمنها التفجير الانتحاري عام 1983م في ثكناتٍ تُؤوي قوات أميركية وفرنسية في بيروت،خلّفت مئات القتلى والجرحى الأمريكيين والفرنسيين[52]، وسرعان ما توجّهت أصابع الاتهام لـ”حزب الله” اللبناني؛ فقد اتهمت الإدارة الأمريكيّة الحزب بالوقوف خلف تلك الهجومات الانتحارية، وعلى الرغم من عدم تبنّي “حزب الله” تلك العمليات ونفي صلته بها[53] فيظهر أنَّه قدّم لإيران ما هو أغلى من ذلك؛ إذ استطاع تقديم الكثير من الرهائن الأمريكيين الذين وفّروا لها ورقةً تفاوضيّةً قيمة مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وأداة ضغط لدفع الولايات المتحدة لاحقاً لعقد صفقة أسلحة مع إيران، عُرفت بصفقة إيران ـــــ كونترا[54].
3.2. إيران ــ كونترا؛ صفقة السلاح التي أنهت حكم الرئيس الأمريكي “رونالد ريغان”:
على الرغم من العلاقات الأمريكية الإيرانية المتوتّرةً، ولاسيّما بعد الدعم الأمريكي للعراق في حربه مع إيران؛ إلا أنَّ الإدارة الأمريكية وجدت نفسها مضطّرةً لفتح قنوات سرية للتواصل مع طهران بعد احتجاز “حزب الله” رهائن أمريكيين وغربيين في لبنان، ويبدو أنَّ “إسرائيل”وجدت فرصةً سانحةً للعب دور الوسيط بين طهران وواشنطن لإطلاق سراح الرهائن؛ ربما لإبعاد واشنطن عن دعم العراق، ومحاولةً منها لإعادة طهران إلى الحظيرة الغربية كسابق عهدها زمن الشاه، وبناء علاقات استراتيجية موسعة مع النظام الإيراني الجديد.
وعلى الجانب الآخر نجحت المفاوضات الإيرانية ــــ الأمريكية بوساطة “إسرائيلية”عام 1985م في التوصل لعقد صفقة سريّة تقضي بشراء إيران أسلحة من الولايات المتحدة مقابل إطلاق سراح الرهائن الغربيين في لبنان[55]، وتمت الصفقة رغم قوانين الكونغرس الذي كان يحظر حينها بيع الأسلحة لإيران، إضافة إلى أنها شكلت خرقاً لعقوبات الأمم المتحدة على بيع الأسلحة لإيران. وبعد تفجّر الفضيحة توقفت الولايات المتحدة عن التعامل مع إيران وبيع الأسلحة والعتاد لها [56].
تُحيلنا قضية “إيران ـــــ كونترا” إلى الوقوف وراء الهدف الإيراني الحقيقي في التواصل مع الإسرائيليين على الرغم من رفضها المستمر الاعتراف بذلك؛ إذ إنَّ السياسة الخارجية الإيرانية في تلك الفترة تأرجحت بين التوفيق لحاجاتها الأمنية قصيرة المدى؛ والتي تمثّلت بموازنة التهديد العراقي المباشر عليها ببناء تحالفها السريِّ مع “إسرائيل”، وبين مستلزماتها الإستراتيجيّة بعيدة المدى، المتمثلة في الفوز بالقبول العربي والإسلامي لقيادتها الإقليميّة؛ وهو ما تمَّ في الغالب عن طريق لعب ورقة معاداة “إسرائيل” علنياً، وفي السياق ذاته شاركت “إسرائيل” إيرانَ في هواجسها الأمنية تجاه العراق، إلى جانب تخوفها من التقارب الأمريكي العراقي على حساب مصالحها الاستراتيجية، وهو ما كان واضحاً في محاولاتها المتكررة كسب إيران وإعادتها ثانية إلى المعسكر الغربي، والعمل على التوسط بينها وبين الولايات المتحدة وإيجاد بيئة تفاوضية بين الطرفين، بعد الذكريات المذلّة لأزمة الرهائن الأمريكيين التي بقيت حاضرةً في الذهن الأمريكي. ولكن وعلى الرغم من حالة الجفاء السياسي التي مرت بها العلاقة الأمريكية الإيرانية عقب أزمة الرهائن؛ فقد أبقت الإدارة الأمريكية قنوات سرية للحوار والتفاوض مع إيران بالتنسيق مع “إسرائيل” لرغبتها أولاً في إطلاق سراح الرهائن الأمريكين والغربيين لدى طهران، إضافة إلى حرصها فيما يظهر على إنهاك الطرفين المتصارعين، لكن جهودها باءت بالفشل بعد فضيحة إيران ــــ كونترا وما سبّبته من حرج للولايات المتحدة.
وفي العام 1983م استعادت القوات الإيرانية زمام المبادرة من العراق، واستطاعت طرد القوات العراقية وتحويل المعارك إلى الأراضي العراقية، وقد تقدّم العراق بالعديد من العروض لوقف الحرب والتوصل إلى السلام بين الجانبين؛ لكنها لاقت الرفض من الجانب الإيراني، الذي آثر مواصلة الحرب على الأراضي العراقية طمعاً في كسب المعركة لصالحه[57]، وقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية على التحرك دولياً لإيقاف الحرب عندما بدأت فى التأثير المباشر على مصالحها في الخليج، ولاسيما في خضم تصاعد “حرب الناقلات”[58]،حيث زادت من دعمها الاستخباراتي والعسكري للعراق، ومنعت حلفاءها -لاسيّما الإسرائيليّين- من توريد المعدات العسكرية لإيران بعد القرار الإيراني في مواصلة الحرب داخل الأراضي العراقية، وسرعان ما جفّت مصادر طهران من السلاح والعتاد، وزادت حاجتها الماسّة للأسلحة بعد استمرار الحرب واستخدام العراق الأسلحة الكيميائية، واستهدافه المدن الإيرانية الكبرى بالصواريخ البالستية المدمّرة[59].
ثالثاً. السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” بعد الخميني:
في 20 آب عام 1989م وبعد شهور من المفاوضات المكثّفة وافق الطرفان العراقي والإيراني على قرار مجلس الأمن 598 الداعي للوقف الفوري للأعمال العسكرية، والانسحاب إلى حدود البلدين الدولية، والانخراط في مفاوضات بإشراف دولي[60]. وفي المجمل يمكن القول: إنَّ طريقة انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، وخروج إيران من الحرب باقتصاد مدمّر مفلس، وتحوّلها إلى دولة منبوذة معزولة نتيجة سياستها في تصدير ثورتها، إلى جانب رحيل الخميني عن المشهد السياسي عام 1989م؛ كل ذلك يبدو أنه قد أدى فعليّاً إلى إحداث تأثير جوهري في التفكير الإيراني، مع صعود النهج البراغماتي المنفتح الذي تمثّل بانتخاب “علي أكبر هاشمي رفسنجاني” رئيساً للبلاد عام 1989م.
1.3. التحول من الخطاب الأيديولوجي إلى الخطاب الواقعي:
بعد قبول طهران وقف الحرب، ومع رحيل الخميني كانت إيران تتجه نحو خطابٍ أكثر واقعيةً، وذلك في إطار جهود الرئيس الإيراني “هاشمي رفسنجاني” الذي أراد تغيير السياسة التي حكمت إيران طوال فترة الحرب[61]؛ إذ برزت على رأس أولويات عمله السياسي ضرورة إخراج إيران من عزلتها الدولية من خلال ترميم روابطها مع الحكومات العربية، والاهتمام بسياسة بناء الثقة المتبادلة، وبناء علاقات مباشرة مع دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والاستفادة من الاستثمار الغربي وجذب الاستثمارات الخارجية لإنعاش الاقتصاد الإيراني. ويبدو أنَّ فشل الاستراتيجية الخمينية في تصدير الثورة وإعطاء إيران الدور الإقليميَّ القيادي في المنطقة عبر الإطاحة بالحكومات الإقليميّة قد أدّى لاحقاً إلى تبنّي رفسنجاني نهج تصدير نموذج إيران عبر تقديم نفسها كدولة إسلامية عصرية مستقلة؛ حيث قاد حملة انفتاح على دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما عبرت عنه اللقاءات والزيارات المكثفة للمسؤولين الإيرانيين للسعودية التي تُوّجت لاحقاً بتوقيع الاتفاقية الأمنية بين الجانبين خلال زيارة تاريخية لولي العهد السعودي نايف بن عبد العزيز إلى إيران عام 2001م[62].
وعلى الصعيد الاقتصادي نحت السياسة الخارجية الإيرانية في تلك الفترة نحو إعادة بناء الاقتصاد الإيراني المنهار نتيجة الحرب، وكان لابدَّ من تحسين العلاقات مع واشنطن وحل النزاعات العالقة معها، عبر فتح باب الحوار والتفاوض لجذب الاستثمارات الأجنبية للحد من تدهور الوضع الاقتصادي؛ وهو ما عملت عليه القيادة الإيرانية الجديدة عبر تبنّي سياسة براغماتية وأكثر انفتاحاً وليونةً في التعامل مع الغرب[63]، ورفض السياسة الخارجية القائمة على التوتر ومواجهة الولايات المتحدة الأمريكية [64].
ومن رحم هذه التغيرات والتحولات التي هزّت “الجمهورية الإسلامية الوليدة” خرج شعار رفسنجاني “البناء”، وأصبح الانفتاح على الخارج هدفاً للحكومة الإيرانية الجديدة؛ لتحسين علاقاتها مع الغرب ومع الأنظمة العربية المجاورة، وإنهاء حالة التصدير العنيف للثورة، ويظهر أنَّ الجهود الإيرانية التي رمت إلى تحرير سياستها الخارجية من التوجهات الأيديولوجيّة، والتحول لمنطق الدولة بدلاً من منطق الثورة ومعاداة المخالفين؛ قد حققت نجاحاً أوليّاً تمثّل في عودة الدفء للعلاقات الإيرانية الخليجيّة بعد سنين من العداوة والجفاء[65]. وأما بالنسبة لعلاقتها مع واشنطن فقد حاولت إيران تمهيد الطريق أمام تحسين علاقاتها معها عبر التوسط لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين في لبنان، أملاً منها بوقف التوتر المتبادل بين الطرفين، ولكنَّ الإيماءات الإيرانية لم تلقَ المقابل المرجو من الولايات المتحدة، وهو ما اعتبرته المؤسسة الإيرانية الحاكمة إصراراً أمريكيّاً على التصعيد ضدها على الرغم من “السلوك المثالي” الذي سلكه النظام الإيراني بالنسبة للولايات المتحدة إبان حرب الخليج الثانية عام 1990-1991م، وكذلك في حربَي أفغانستان والعراق عام 2002 و2003م[66].
يُعد ما سبق إضاءة تاريخية تحليلية على الحرب العراقية الإيرانية، وما تسببته من عزلة إيران وتحولها إلى الخطاب الواقعي بدلاً من الخطاب الثوري الإيديولوجي، والتأثير المباشر لتلك الحرب في العلاقات الإيرانية الأمريكية ـــــ الإسرائيلية، على أن يتم استكمال استعراض التأثيرات في الجزء اللاحق.
الخاتمة:
مثّلت نظرية “تصدير الثورة” على الدوام مصدر احتكاك سلبي مع الجوار العربي بعد سعي إيران الخميني للوصول إلى قيادة العالم الإسلامي، من خلال تبنّيها نموذجها الخاص للتشيع السياسي عبر اعتمادها “الخطاب الثوري المظلومي”، ومحاولتها تقويض الأنظمة العربية التي تعارض الطموحات الإيرانية الإقليمية التوسعية.
وبدا واضحاً أنَّ الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التي كانت تعاني منها إيران نتيجة تدهور علاقاتها الدبوماسية مع العديد من دول العالم بعد سياسات الخميني العدائية قد أضعفت خياراتها السياسية، ووضعتها في موقف صعب أمام طموحات حكومة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الهادفة إلى التمدد في منطقة الخليج العربي واستعادة شط العرب من إيران، وهو ما قد هيّأ لاندلاع الحرب العراقية الإيرانية، التي حاولت مختلف الأطراف الدولية الفاعلة الاستثمار في تطويل أمد الحرب فيها وتكلفتها الباهظة على الجانبين العراقي والإيراني، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية؛ التي اعتمدت بشكل رئيسي في تعاملها مع الحرب على الحرص على إنهاك الطرفين، بحيث لا يمكن لأحدهما الخروج بنصر حاسم على الآخر، وقد ترجمت الإدارة الأمريكية ذلك عملياً بإبقاء قنوات سرية للحوار والتفاوض مع إيران بالتنسيق مع “إسرائيل”، وتغاضيها عن التحركات الإسرائيلية لتقديم الدعم العسكري والسماح لها بشحن أسلحة سرية وقطع غيار أمريكية لطهران خلال حربها مع العراق، في حين كانت واشنطن تقدّم الدعم الاستخباراتي والعسكري بمستوى عالٍ للعراق.
وأسهمت محركات علاقة إيران مع الولايات المتحدة و”إسرائيل” في إفشال مشروع تصدير الثورة من خلال التحكم في مسار الحرب العراقية الإيرانية، ومنع ترجيح كفة إيران، واستنزاف الطرفين، وصولاً إلى اضطرار الخميني إلى القبول بـ “تجرع كأس السم” في إيقاف الحرب مع العراق.
وفي السياق ذاته بقي الخوف الإيراني – الإسرائيلي المشترك من المحيط العربي المعادي هو محور العلاقة البراغماتية التي جمعت طهران وتل أبيب على طاولة المصالح المشتركة، حيث ظلّت “إسرائيل” تعاني من إشكالية وقوعها تحت تهديد حرب عليها ضمن نطاقها الجغرافيّ الضيق، الأمر الذي جعلها تبحث عن ثقلٍ إقليميٍّ موازٍ للمحيط العربي المعادي، وهو ما وجدته في إيران. وهذا ما قد يفسر التغاضي الإسرائيلي بداية عن مشروع إيران التوسعي ومحاولتها التمدد إلى الجوار العربي؛ إذ إنَّ “إسرائيل” لم تعتبر فيما يبدو تبنّي طهران مفهوم “تصدير الثورة” مهدداً لأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية العليا في المنطقة، بل إنَّ أي خطوة إيرانية قادرة على زعزعة الاستقرار في المنطقة، وإضعاف الدول العربية المعادية لها قد تصبُّ تماماً في مصلحتها وهدفها الاستراتيجي؛ المتمثّل بالضغط على الدول العربية للقبول العلني بشرعيتها والتطبيع العلني معها، وهذا يعني إخراج “إسرائيل” من العزلة التي تكبّلها وتمنعها من التمدّد في محيطها أيضاً. وعلى الجانب المقابل تأرجحت السياسة الإيرانية في تلك الفترة بين محاولة التوفيق بين حاجاتها الأمنية قصيرة المدى التي تمثّلت بموازنة التهديد العراقي المباشر عليها ببناء تحالفها السريِّ مع “إسرائيل”، وبين مستلزماتها الإستراتيجيّة بعيدة المدى المتمثلة في الفوز بالقبول العربي والإسلامي لقيادتها الإقليميّة؛ وهو ما أرادته في الغالب من لعب ورقة معاداة “إسرائيل” دعائياً وسياسياً.
ويظهر أن الآثار المدمرة التي جاءت بها حرب الخليج الأولى على إيران سياسياً واقتصادياً، وتحولها إلى دولة منبوذة معزولة قد أدى فعلياً إلى إحداث تأثير جوهري في التفكير السياسي الإيراني، المتمثل في صعود النهج البراغماتي المنفتح والذي مثّله وصول “علي أكبر هاشمي رفسنجاني” إلى سدة الحكم في طهران؛ وهو الذي تبنّى سياسةً خارجية منفتحة على العالم، ولاسيما الدول الخليجية، ورفضَ السياسة الخارجية القائمة على التوتر والمواجهة مع الغرب عموماً والولايات المتحدة على وجه الخصوص، في محاولة لتصدير نموذج إيران عبر تقديم نفسها كدولة إسلامية عصرية مستقلة.
وبعد الوقوف على منهج “تصدير الثورة” الذي تبنّاه الخميني للتوسع إقليمياً ولنشر أيديولوجيته السياسية، إلى جانب الوقوف على أبرز محددات العلاقة الإيرانية الأمريكية ــــ الإسرائيلية في ظل حكم الخميني وبعده؛ يجدر بنا الانتقال إلى دراسة الأحداث التاريخية بعد انتهاء الحرب البادرة، وتحول النظام الدولي من ثنائي إلى أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة، وصعود التيار الإصلاحي بقيادة رفسنجاني وما حمله ذلك من تأثيرات في مسار العلاقات الإيرانية الأمريكية ـــــ الإسرائيلية، وهذا ما سنخصص له الجزء الثالث من هذه السلسلة.
لتحميل التقرير:
التقرير التحليلي “تصدير الثورة والتحولات في السياسة الإيرانية”
لتحميل التقارير السابقة:
التقرير التحليلي “كواليس دعم الولايات المتحدة الأمريكية للخميني”
لمشاركة الصفحة:
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
2 تعليقات