الجفاف والصّراع: تأثيرات متداخلة على الأمن المائي في شمال سوريا
تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
يُعدّ الحصول على المياه وخدمات الصّرف الصحي والنظافة الصحية حقّاً أساسياً من حقوق الإنسان، وأحد أهداف التنمية المستدامة وهو من الضرورات الأساسية لصحة الإنسان، كما أنّ توفير المياه يلعب دوراً مهماً في القضاء على الفقر، وضمان الأمن الغذائي وتحقيق السلام، والحفاظ على النُّظم الإيكولوجية[1]، وتعتبر الاستثمارات في البنية التحتية ومرافق الصرف الصحي أساساً لضمان توفير مياه شرب آمنة وميسورة التكلفة للجميع، فتحسين كفاءة استخدام المياه يُعدّ عاملاً رئيسياً في تخفيف الضغط المائي وأحد المفاتيح للحد من الإجهاد المائي[2].
تتأثر الموارد المائية خلال النزاعات، ويمكن أن تسهم المياه في زيادة حدّة الصراع، كما أنها تخلق نزاعات جديدة، وفي سوريا كانت هناك العديد من المؤشرات التي دقّت ناقوس الخطر مُبكّراً حول الأمن المائي، فقد وُصِفت الموارد المائية بأنها قليلة ومحدودة، وصُنّفت سوريا ضمن البلدان الفقيرة بالمياه منذ عام 2000[3]، مما يعني أن الأزمة الحالية التي نعيشها اليوم ليست نتيجة الظروف الحالية فقط، بل تعود إلى عقود طويلة وسياسات خاطئة قبل ظهور آثار التغيُّر المناخي الحالي.
تُعزى أزمة المياه في الشمال السوري إلى مجموعة أسباب طبيعية وسياسية متداخلة تمتدّ جذورها إلى ما قبل الثورة السورية، إضافة إلى المستجدّات التي أدّت إلى تفاقمها وزيادة الآثار المترتبة على الناس، وسيحاول هذا التقرير الإضاءة على هذه الأسباب، باستخدام المنهج المكتبي من خلال دراسة وتحليل الوثائق المنشورة من قبل المنظمات الإنسانية والتقارير الإعلامية التي تساعد في وصف هذه الأزمة، وتحديد مستجداتها، وتسليط الضوء على العوامل الإضافية الطارئة عليها.
سياسات إدارة مصادر المياه في سوريا:
تشمل الموارد المائية التقليدية في سوريا الموارد المائية السطحية التي تتكوّن من مجموعة من المجاري المائية، أي الأنهار الداخلية والخارجية وموارد المياه الجوفية، إضافة إلى الموارد المائية غير التقليدية التي تشمل مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي ومياه التحلية، وتنقسم سوريا إلى سبعة أحواض: حوض بردى والأعوج، حوض العاصي والسهوب، حوض دجلة والخابور، حوض الساحل، حوض اليرموك، وحوض الفرات[4].
بالإضافة إلى ذلك، توجد تسع بحيرات رئيسية تمتد على مساحة 1,174 كيلومتراً مربعاً، ويتدفق في سوريا 16 نهراً وروافدها، خمسة منها مشتركة دولياً (الفرات ودجلة والعاصي واليرموك والنهر الكبير الجنوبي)، ويمثل تدفقها حوالي 75% من إجمالي موارد المياه السطحية المنظمة في البلاد وأكثر من 45% من موارد المياه المتاحة للاستخدام، وتُسهم الأمطار في توفير نحو 20% من الموارد المائية المتجددة الداخلية، حيث يبلغ متوسّطها السنوي حوالي 46 مليار متر مكعب، إلا أن هذا الرقم تراجع بشكل ملحوظ خلال سنوات الجفاف، أمّا المياه الجوفية فإنها تتوفر في معظم التكوينات الجيولوجية، ولكن سحبها يتجاوز بشكل كبير معدّل تغذيتها الطبيعية، خاصة في الطبقات غير القابلة للتجديد[5].
وفقاً لتقارير عالمية، كانت نُدرة المياه وسوء إدارتها وتلوّثها قضايا ذات أهمية بارزة في سوريا قبل اندلاع الثورة السورية، وقد ذكرت عدة دراسات أُجريت بين عامي 2000 و2010 أن حكومة نظام الأسد فشلت في إدارة الطلب المتزايد على المياه في ظل ما تعانيه البلاد من تغيُّر المناخ وتكرر الجفاف، كما أنّها تجاهلت العديد من التقارير التي تدين سوء إدارتها لملف المياه على مختلف المستويات[6] ، والتي دعت على سبيل المثال، إلى إصلاحات عاجلة لواحد وثلاثين سداً لتجنُّب إخفاقات كبيرة مثل انهيار سد زيزون في عام عام2002[7]. وفي عام 2009 أفاد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن حصة الفرد الواحد في سوريا سنوياً هي 300 متر مكعّب فقط من المياه العذبة المتاحة مقارنة بالمتوسط العالمي السنوي الذي لا يقل عن ألف متر مكعّب لكل فرد، إضافة لذلك كانت هناك توقّعات بحدوث أزمة مياه شاملة للمنطقة لم تؤخذ بعين الاعتبار، ففي عام 2015 تم تصنيف سوريا ضمن الدول المُرجّح أن تواجه إجهاداً مائياً بحلول عام 2050[8]، وكالعادة لم تكن حكومة نظام الأسد قد اتخذت إجراءات استباقية حتى في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وتسبّبت سياسة نظام الأسد العقابية التي مارسها على المناطق الخارجة عن سيطرته بظهور آثار سريعة وواضحة، كما أنّ المناطق التي استعاد نظام الأسد السيطرة عليها قوبلت بإهمال شديد تسبّب بتعميق الأزمة.
وحتى في مناطق سيطرة مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” تظهر أزمة المياه كأحد أبرز المعالم على الفشل في إدارة هذا الملف من قوى الأمر الواقع، فعلى الرغم من سيطرة “قسد” على الحسكة منذ سنوات وما تملكه من موارد نفطية هامّة، إلا أن المحافظة تُعاني أزمة مياه تكاد تكون الأكبر على مستوى سوريا، فالمياه تنقطع عن مئات الآلاف من الناس في الحسكة لفترات طويلة منذ عملية “نبع السلام” التي أطلقتها تركيا في تشرين الأول 2019[10]، وذلك في ظل فشل “قسد” بإيجاد البديل عن المياه التي تصل من محطة “علوك” الواقعة ضمن مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري[11]، الأمر الذي أدخل سكان الحسكة في دوامة غير منتهية من المعاناة واضطرارهم لشراء مياه الصهاريج غير معروفة المصدر.
الشمال السوري.. من الخصوبة إلى العطش:
تُعتبر مناطق شمال غرب سوريا وخاصة إدلب من المناطق الزراعية الخصبة في سوريا، يخترق المحافظة نهر العاصي ورافده نهر الأبيض، كما أن سهول إدلب غنيّة بالمياه الجوفية وتكثر الينابيع غربي جبل الزاوية كينابيع عين الطاقة واللج وعرّى، وتُغذّي سهلي الغاب والروج، وهناك الحمامات المعدنية الحارة في الشيخ عيسى وعين الزرقا وشق العجوز[12].
كما تعتمد إدلب على المياه الجوفية، إذ يتجاوز عدد الآبار الجوفية المرخّصة في إدلب وحدها 4500 بئر، بالإضافة إلى مئات الآبار العشوائية التي تم حفرها خلال سنوات الثورة، في محاولة لتأمين الاحتياجات المتزايدة من المياه نتيجة الكثافة السكانية المتزايدة بسبب موجات النزوح للمنطقة واحتياج القطاع الزراعي[13].
أما منطقة عفرين، فتشتهر بكونها منطقة زراعية خصبة بفضل تنوّع تضاريسها ووجود نهر عفرين وسد ميدانكي فيها، ما جعلها مركزاً لإنتاج زيت الزيتون والحبوب والكثير من المحاصيل الزراعية، لكن قلة الأمطار والجفاف المستمر إلى جانب الاستهلاك المفرط للمياه بعد الزلزال حوّلها إلى منطقة تعاني من العطش[14]، بالإضافة لدور تركيا في إدارة المياه من خلال التدخُّل في التحكُّم بمنسوب المياه المتدفقة إليها، الأمر الذي أدى إلى تقليل الموارد المائية المتاحة للمزارعين وتحول الأراضي فيها إلى العطش[15].
اعتمد ريف حلب وبرغم افتقاره لمصادر المياه الخاصة به على نهر الفرات لتزويده بالمياه، إلا أن نظام الأسد قطع إمدادات المياه عن المنطقة بعد خروجها عن سيطرته، مما دفع بهذه المناطق إلى اعتماد المحطات المحلية، فعلى سبيل المثال اعتمدت مدينة الباب على محطتي “عين البيضا” و”الخفسة”، لكن هذه الحلول المحلية لم تكن كافية، إذ تفاقمت أزمة المياه، وأدت إلى فترات عطش، نتيجة الجفاف وخروج عدد من الآبار المحلية عن الخدمة[16].
أسباب أزمة المياه:
ساهمت مجموعة من الأسباب الداخلية والخارجية بتفاقم أزمة المياه، وتراكمت آثار الإدارة السيئة للأزمات السابقة، لذلك وصلنا في وقت متأخر لإدارة هذه الأزمة، وهناك عدة أسباب سنقوم بشرحها:
1- الحملات العسكرية وآثار النزوح:
لم يكتفِ نظام الأسد باستهداف المدنيين والبنية التحتية الحيوية كالمدارس والمستشفيات، بل توسّع في جرائمه ليشمل القصف محطات المياه والصرف الصحي[17]، كما استخدم الكلور كسلاح في هجماته على محطات المياه مما أدى إلى تلوّثها بمواد سامّة وخطيرة[18]، هذه الهجمات حرمت السكان من الوصول إلى المياه النظيفة، مما زاد من معاناتهم اليومية[19]، ولم تقتصر الهجمات على محطات المياه والصرف الصحي في سوريا على نظام الأسد وحده، بل شاركت الطائرات الروسية أيضاً في عملية التدمير الممنهجة[20]، فمنذ تدخُّلها العسكري في سوريا، قامت الطائرات الروسية بتنفيذ ضربات جوية استهدفت البنية التحتية المدنية ومحطات الصرف الصحي[21]، كما لم يقتصر نهب نظام الأسد والميليشيات التابعة له على المنازل والمتاجر فقط، بل امتد ليشمل محطات المياه[22]، فقد قامت قوات الأسد والميليشيات الموالية له بنهب معدّات وأدوات البنية التحتية لمحطات المياه[23]، مما أدى إلى توقّفها عن العمل[24].
لقد تسبّبت هجمات نظام الأسد بموجات نزوح وتهجير متكررة، أدت إلى تجمُّع الملايين من النازحين في رقعة جغرافية محدودة، متسبّبة بزيادة الكثافة السكانية والاكتظاظ السكاني في مناطق الثورة، ففي المناطق الواقعة ضمن الحدود الإدارية لمحافظة إدلب (الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام-هتش”) زادت نسبة الكثافة السكانية بنسبة 272% بين عامي 2011 و2022، بينما شهدت المناطق الواقعة في ريف حلب ارتفاعاً في الكثافة السكانية بنسبة 324% خلال نفس الفترة[25].
وأدى هذا النزوح والتهجير إلى إقامة المخيمات بشكل غير مُخطّط وعشوائي فوق الأراضي الزراعية المتبقية، مع غياب البنية التحتية اللازمة لمعالجة مياه الصرف الصحي وتصريفها بشكل صحيح[26]، ولم يتم إنشاء منظومة صرف صحي، فتمّ تخزين مياه الصرف الصحي في بعض المخيمات ضمن حفر فنيّة غير نظامية[27]، كما دفع هذا الوضع بالكثيرين إلى استجرار الماء واستنزاف الآبار الجوفية بشكل غير قانوني، فاعتمد السكان في بعض الأحيان على حفر آبار عشوائية دون مراعاة للمعايير البيئية في محاولة لتأمين احتياجاتهم الأساسية من الماء، مما أدى إلى تدهور الموارد المائية في المنطقة[28].
تسبّب استجرار الماء وحفر الآبار بشكل جائر، بالإضافة إلى المشاكل في أنظمة الصرف الصحي بتداخل المياه العذبة والمالحة بشكل أدى إلى تلوّث المياه الجوفية، ونتيجة لذلك تداخلت المياه وتلوّثت كما حصل في سد كفر روحين، والذي تحوّل من كونه سداً ترشيحياً يساهم في دعم المياه الجوفية في منطقة إدلب ومحيطها، إلى أكبر مستنقع للمياه الآسنة في شمال غربي سوريا، ما فاقم من الأوضاع الصحية والبيئية في هذه المناطق، وانتشرت الحشرات والبعوض والروائح الكريهة، كما شهدت المخيمات انتشار الكثير من الأمراض المعدية كالليشمانيا[29].
2- موجات الجفاف:
عانت سوريا من موجات جفاف متتالية بين عامي 1999 و2001[30]، وتكرّر الجفاف بين عامي 2006 و2009، مما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من سكان مناطقهم الأصلية وانتقالهم إلى ريفي حلب ودمشق، هذه المناطق التي استقر فيها النازحون كانت مستبعدة مسبقاً من خطط التنمية الحكومية والدعم[31].
ووفقاً لتقارير أمميّة، تجاهلت سياسات نظام الأسد الحقائق ولم تتخذ الخطوات اللازمة لاحتواء هذه الأزمة، بل عمّقتها، ففي بداية عام 2008، قامت حكومة نظام الأسد بتحرير أسعار بعض المنتجات الزراعية وزادت أسعار المحروقات، مما أدى إلى انهيار القطاع الزراعي[32]. أما بين عامي 2020 و2023، شهدت سوريا عودة متوقعة لموجات الجفاف نتيجة الانخفاض الكبير في مُعدّلات هطول الأمطار، حيث تراجع مُعدّل الهطول المطري السنوي من 400 ملم إلى 140 ملم[33]. وقد أثّر بشكل بالغ على مخزون المياه الجوفية وجعل التربة أكثر جفافاً، وساهم ارتفاع درجات الحرارة في زيادة معدّل التبخّر، مما قلّل من كمية المياه المتاحة للري والشرب وساهم في تدهور التربة وزيادة احتمال التصحُّر[34]، وقد أفادت لجنة الإنقاذ الدولية أن جفاف عام 2021 هو الأسوأ الذي شهدته سوريا منذ سبعين عاماً، بينما وصفته تقارير أخرى أنه من بين الأسوأ في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، كما أشار أحد الاختصاصيين الزراعيين إلى أن شمال شرق سوريا يواجه “كارثة حقيقية” بسبب الجفاف[35].
تعرَّض القطاع الزراعي لآثار سلبية نتيجة موجة الجفاف، وقبل أن يتعافى جاءت كارثة الزلزال لتزيد من المعاناة، فقد تسبّب الزلزال في تضرُّر مساحة واسعة من الأراضي الزراعية وأدى إلى اقتلاع الأشجار وغمر البساتين بالمياه، كما تطلبت الانهيارات والتصدعات الترابية إعادة تأهيل الأراضي بإنشاء مساطب ترابية ونقل تربة جديدة للبساتين المتضررة[36].
إلى جانب ذلك، حوّلت موجة الجفاف المستمرة مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية إلى أراضٍ جافة، وتراجعت المحاصيل الزراعية الاستراتيجية خصوصاً القمح والشعير، كما ازدادت الصعوبات التي تواجه المزارعين الذين يعتمدون على الزراعات البعلية[37]، وفي الشمال الغربي من سوريا الذي يُعدّ منطقة زراعية رئيسية أظهرت قياسات مؤشر الغطاء النباتي الموحد (NDVI) تدهوراً في “خضرة” الغطاء الأرضي والتي تشمل المحاصيل الزراعية في هذه المنطقة كالبطيخ، وأشجار الفاكهة مثل الفستق والزيتون، والخضروات المُبكّرة، والشعير، والقمح، والذرة، وبنجر السكر[38].
كما تسبّب الجفاف المستمر في انخفاض حادّ في الكتلة الحيوية للحبوب في البلاد، ممّا أثر بشكل كبير على محصول القمح الذي يتم إنتاج الخبز منه، والذي شكّل العنصر الأساسي في النظام الغذائي للعائلات، ولذلك فإن نقص إمدادات القمح خلق أزمة كبيرة في تأمين مادة الخبز للعائلات في ظل ارتفاع سعره لمرات متتالية، كما أدّى هذا النقص إلى حدوث تنافس متزايد على القمح المتبقي بين الأطراف المختلفة، بما في ذلك نظام الأسد، و”حكومة الإنقاذ” الذراع الإداري لـ”هتش” في إدلب، والحكومة السورية المؤقتة في شمال وشمال غرب سوريا، و”الإدارة الذاتية” التابعة لـ”قسد” في الشمال الشرقي[39].
كل هذه الظروف أدّت إلى تدهور القطاع الزراعي في سوريا، مما تسبّب في تراجع الصادرات السورية، وبالتالي تناقص العملات الأجنبية التي تعتمد عليها البلاد بشكل كبير، هذا التدهور فاقم الأزمة الاقتصادية وأضعف القدرة على تأمين الموارد الضرورية المستوردة من الخارج[40].
كما تأثّر قطاع المواشي بشكل كبير بالجفاف في سوريا، حيث أدى نقص نمو الغطاء النباتي إلى تراجع المراعي ومصادر المياه لمئات الآلاف من المواشي، ومع استمراره عانت المجتمعات الرعوية بسبب انخفاض أسعار المواشي وتدهور الظروف الجوية مما دفعها نحو الفقر، ونظراً لانتهاء الرعي الطبيعي[41]، اضطر المربون للاعتماد على الأعلاف الاصطناعية، الأمر الذي أضعف مناعة المواشي وزاد من تعرُّضها للأمراض[42]، كما أن هذه الأزمة دفعت بالكثير منهم للتخلُّص من المواشي عن طريق بيعها وذلك في ظل سوق كاسد[43]، كما تسبب الجفاف الواسع في انتشار حرائق الغابات بشكل كبير وفقدان المساحة الخضراء في الشمال السوري وتصحّره[44].
3- سياسات التوزيع المائي الإقليمية:
يُعدّ نهر الفرات نهراً دولياً بحسب القانون الدولي، كونه يمر من عدة دول، وفي عام 1987وافقت تركيا على توقيع بروتوكول مع سوريا يضمن تدفُّق مياه نهر الفرات بمقدار 500 متر مكعب في الثانية على الحدود السورية، بما يعادل 56.2% من التدفق الطبيعي، وذلك لحين إبرام اتفاقية ثلاثية في عام 1990 حيث تم تحديد حصص المياه بين سوريا والعراق وشكّلت حصة سوريا 42%[45].
تظهر المعطيات مؤخراً أن التدفُّق المائي عند الحدود السورية لم يتجاوز 200 متر مكعّب، مما يمثّل انخفاضاً بنسبة 60% عن الكمية المتفق عليها، حيث أن السلطات التركية تبنّت سياسات استباقية لمعالجة أزمة الجفاف في المنطقة، وذلك ببناء العديد من السدود على أراضيها، مما أدى إلى تقليص حصة سوريا من مياه نهر الفرات والذي يعتمد عليه الملايين في سوريا كمصدر رئيسي للحصول على مياه الشرب وتوليد الكهرباء[46]، كما قامت باستجرار المياه التي يُفترض أن تغذّي منطقة عفرين وسد ميدانكي إلى سد الحمام، الذي أنشأته حديثاً، لتزويد الأراضي التركية بالمياه. هذه السياسة لم تأخذ في الاعتبار احتياجات السكان المحليين المتضاعف عددهم بسبب النزوح أو تعويض النقص الذي تسبّب فيه تحويل الموارد المائية لصالح الأراضي التركية[47].
من جهة أخرى، تسبّب انخفاض تدفّق مياه نهر الفرات بأضرار كبيرة للمزارعين في سوريا، مما أثر سلباً على الأمن الغذائي في البلاد، وفقدت المناطق الزراعية التي تُعدّ سلة البلاد للمحاصيل الاستراتيجية، والتي تعتمد على النهر مصادرَ الري الضرورية، كما أدى الانخفاض إلى زيادة نسبة الملوحة والتلوث في المياه، فضلاً عن حرمان العديد من المدن والقرى من التيار الكهربائي الذي توفّره السدود لفترات قصيرة، نتيجة انخفاض مستويات التخزين في عدّة سدود إلى ما يُعرف بـ “المنسوب الميت”، والذي قد يترتب عليه إيقاف عمل السدود تماماً للحفاظ على مياه الشرب وتخصيص كميات محدودة لري الأراضي[48].
4– تراجع التمويل لمشاريع إمدادات المياه والصرف الصحي:
يُعَدُّ قطاع المياه والصرف الصحي من أكثر القطاعات التي كانت ولا تزال تعاني من نقص التمويل[49]، كما أنه لم تكن هناك سياسة استباقية إنسانية أو تخطيط لمواجهة أزمة الجفاف والأزمة البيئية المتوقعة كأحد آثار الصراع، بل على العكس تم التعامل مع الوضع بطريقة زادت من حجم الضرر.
تراجع التمويل المُخصّص لمشاريع إمدادات المياه والصرف الصحي التي تنفذها المنظمات بالشراكة مع الأمم المتحدة بشكل كبير[50]، فواجهت مخيمات النازحين في مناطق الشمال السوري أزمة كبيرة، ووفقاً لتقرير (WASH)، لا يتوفر دعم للمياه والصرف الصحي في 660 مخيماً (44% من أكثر من 1,500 مخيم) في إدلب وريف حلب الشمالي، مما أثر على أكثر من 907,000 شخص نصفهم من الأطفال[51]، وبالرغم من محاولات بعض المنظمات العاملة على الأرض سد احتياجات الناس، إلا أن الاحتياجات تفوق بكثير قدرتها على الاستجابة[52].
أولى آثار القرار كان بحث العائلات عن بدائل لسدّ احتياجاتهم والتي ليس بالضرورة أن تكون آمنة، فوفقاً لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية الأوتشا[53]، فقد ارتفع مستوى استخدام العائلات للبدائل غير الآمنة للمياه بنسبة كبيرة في شمال سوريا، حيث تجاوزت النسبة أكثر من 50% من السكان، وأكثر من 70% من النازحين الداخليّين المقيمين في المخيمات[54]، ووفقاً لتقرير أممي عام 2022 فقد ”بات يتعيّن على الأُسر الاعتماد بشكل متزايد على المياه التي يُوفّرها البائعون الخاصون الذين ينقلون مياهاً يُحتمل أن تكون غير مأمونة إلى الأحياء والمجتمعات المحلية”[55]، بالإضافة إلى أنّ نقص المياه النظيفة وارتفاع أسعارها دفع بالأسر إلى إنفاق نسبة كبيرة من دخلها على شراء المياه، مما قلّص قدرتها على تلبية احتياجاتها الأساسية الأخرى مثل الغذاء والدواء[56].
كما تسبّب انقطاع المياه عن بعض المخيمات نتيجة توقُّف التمويل في تدهور كبير في الظروف الصحية، حيث واجه الناس صعوبة كبيرة في الحفاظ على النظافة الشخصية بسبب نقص المياه، ممّا خلق بيئة مثالية لتكاثر الجراثيم وانتشار العدوى، كما تراكمت النفايات في تلك المناطق دون وجود وسائل آمنة للتخلُّص منها[57].
ومن جهة أخرى، أدى تداخل مياه الصرف الصحي مع المياه الجوفية، وامتلاء الجور الفنية بمياه الصرف الصحي[58] في انتشار التلوث وتفشي الأمراض مثل الجدري والإسهال والتهاب الكبد والجرب وعدّة أمراض أخرى، خاصةً بين الأطفال والنساء[59]، وأفادت شهادات طبية بأن نسبة الإصابة بالجرب في بعض المخيمات تتجاوز 90%[60]، مما يؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيّة لمواجهة المزيد من الأمراض والأوبئة، يأتي ذلك في ظل ضعف القطاع الصحي وقلّة موارده، كما أنّه ينذر بمخاطر انتشار هذه الأوبئة وإمكانية تفشيها في البلاد المجاورة.
الخاتمة:
تُعتبر أزمة المياه في شمال سوريا أزمة مُركّبة ومتعدّدة الأبعاد، تنبثق من تأثيرات العديد من الأزمات الأخرى التي مرت بها المنطقة، مثل النزوح والهجمات العسكرية لنظام الأسد وحلفائه. فعلى سبيل المثال، كانت الهجمات على ريف إدلب الجنوبي والشرقي وسهل الغاب كارثية استولى فيها نظام الأسد على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، تاركاً وراءه الأراضي القاحلة وغير الصالحة للزراعة. نتيجة لذلك، خسرت المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد جزءاً كبيراً من الأراضي الزراعية الخصبة، مما أثر بشكل سلبي على القطاع الزراعي.
كما أدى النزوح القسري إلى خروج مساحات واسعة من الأراضي عن نطاق الاستثمار الزراعي، إذ إن قرب هذه الأراضي من خطوط التماس وانتشار الألغام ونزوح سكانها، جعل من الصعب على المزارعين الاستمرار في زراعة أراضيهم. هذه العوامل أجبرت العديد من المزارعين على التخلّي عن أراضيهم والبحث عن مصادر دخل بديلة.
إلى جانب ذلك، تعرّضت التربة الزراعية لأضرار جسيمة نتيجة للقصف بمواد كيميائية سامة، مما أدى إلى تلوث الأرض وجعلها غير صالحة للزراعة، كما جُرِفَت وحُرِقَت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية والمشجرة، مما تسبب في فقدان خصوبتها وتدهور حالتها البيئية.
وقد كان من المتوقع أن تصل سوريا إلى عتبة النُّدرة المطلقة للمياه، والتي تُقدّر بـ 500 متر مكعّب للفرد سنوياً بحلول عام 2050، لكن الهجمات التي شنها نظام الأسد وحلفاؤه على البنية التحتية للمياه، وقطع إمدادات المياه عن المناطق التي خرجت عن سيطرته كنوع من العقوبة الجماعية، إلى جانب موجات الجفاف المتتالية وسوء إدارتها، فاقم الأزمة وسرّع من وتيرتها، كما أن التطورات في تركيا التي تُعدّ منبعاً رئيسياً للمياه، زادت من تعقيد المشكلة.
ساهم تجاهل المنظمات الدولية لدعم قطاع الصرف الصحي وضعف الاستجابة الإنسانية أيضاً في تعميق الأزمة، كما فاقم عدم وجود خطط استباقية لمواجهة التأثيرات البيئية وأزمات الجفاف من حدة الأزمة المائية، هذه التحديات قد تؤدي إلى موجات جديدة من الهجرة والنزوح، سواء كنتيجة لتجدُّد هجمات نظام الأسد وحلفائه أو الأزمة المناخية التي قد تؤثر أيضاً على دول الجوار.
يتطلب الحل لهذه الأزمة تضافر الجهود بين المجالس المحلية والمجتمعات المدنية في شمال سوريا، هذا التعاون يجب أن يشمل تطوير استراتيجيات مستدامة لحل مشكلة المياه، وذلك من خلال تبادل المعرفة والخبرات وتنسيق الجهود مع المنظمات العاملة على الأرض، كما يجب أن تركز هذه الجهود على ضمان إدارة فعّالة للموارد المائية.
ويتعين على المنظمات الحكومية والدولية تأمين التمويل اللازم لإعادة تأهيل البنية التحتية للمياه، بما في ذلك إنشاء محطات لتحلية المياه وإعادة تأهيل الشبكات القديمة، يجب أن تكون هناك استجابة إنسانية عاجلة لدعم المجتمعات المتضررة، مع مراقبة مستمرة للوضع وتعديل الاستراتيجيات بناءً على المستجدات.
من جهة أخرى، يجب أن تشارك المجتمعات المحلية بفعالية في هذه الجهود من خلال حملات توعية تهدف إلى ترشيد استهلاك المياه، وتشجيع الحلول المستدامة لإدارة الموارد المائية، بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر دعم البحث والتطوير في مجال تقنيات معالجة وتنقية المياه واستخدام أساليب جديدة لتوفير مياه شرب نظيفة خطوة هامة نحو الحل، يجب أيضاً تعزيز الزراعة المستدامة بهدف تقليل استهلاك المياه وتحقيق كفاءة أفضل في استخدام الموارد. في النهاية، فإن التحرك السريع وتنسيق الجهود بين جميع الأطراف المعنية هو السبيل لتخفيف حدة أزمة المياه وتجنُّب تفاقمها في المستقبل.
أزمة مياه في الحسكة والصهريج بـ50 ألف ليرة، عنب بلدي، شوهد في: 23 / 9 / 2024