مقالات الرأي

القضايا ذات الأولوية في القواعد الناظمة لعمل المؤسسة الدولية المعنيّة بالمفقودين في سوريا

أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام القرار رقم A/77/L.79 والمتضمن إنشاء “المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية “، مستندة في تبريره على “منطلق الواجب الإنساني لتمكين الأسر من معرفة مصير أقربائهم المفقودين”، واستجابة عملية للتوصية الصادرة عن الأمين العام للأمم المتحدة سابقاً والمتضمنة من حيث النتيجة إنشاء مثل هذه المؤسسة.

تضمن القرار الذي أُقرّ بعد “مخاض عسير” كامتناع الكثير من الدول العربية عن دعمه؛ مجموعة من المواد الناظمة للمؤسسة الدولية بلغ عددها عشرة مواد؛ كان أبرز ما تضمنته هو “ضمان حق الأسر في معرفة مصير أقاربهم المفقودين وأماكن وجودهم وتلقي الدعم الكافي” وارتكاز المؤسسة الدولية على مشاركة الضحايا والناجين وأسر المفقودين وتمثيلهم بشكل كامل مع العمل مع المنظمات المدنية السورية، ودعوة الدول والأطراف السورية والهيئات الدولية للتعاون مع الآلية.

وجاءت المواد أرقام 5 و6 من القرار لتكلف الأمين العام بوضع اختصاصات المؤسسة المستقلة وتفويضه باتخاذ الخطوات والترتيبات اللازمة بما فيها: استخدام أو ندب موظفين محايدين وذوي خبرة، وذلك في غضون 80 يوم عمل من تاريخه بالتشاور مع جميع الجهات الفاعلة المعنية وبمشاركة الضحايا والناجين والأسر بعملية وُصِفت بالكاملة والمجدية.

بشكل عام يعدّ القرار بحد ذاته خطوة مهمة في مسار العدالة، وتتويجاً لجهود الكثير من المنظمات والروابط والقوى المناصرة للملف الحقوقي السوري، كما يحمل في طياته إيجابيات كثيرة من أبرزها: إبقاء الملف الحقوقي بشكل عام وملف الإخفاء القسري بشكل خاص حياً في سوريا، والضغط الأخلاقي على الدول المطبّعة مع نظام الأسد.

بالمقابل، ثمة نقاط موضوعية أخرى تجعل من سقف التوقعات من نتائج عمل المؤسسة منخفضاً جداً، ولعلَ أبرزها: طبيعة الولاية الخاصة بالمؤسسة التي لا تحمل آليات إلزامية، وتركيز القرار ذاته على تعاون الأطراف وفي مقدمتهم نظام الأسد المتهم الرئيس بهذه الجرائم، إلى جانب فصل الآلية المنشأة بين الجانب الإنساني والحقوقي؛ أي استبعاد أي مسارات مساءلة لمرتكبي الانتهاكات.

على الرغم من ذلك، وبغض النظر عن قائمة التحديات الكثيرة فإن العديد من القضايا الرئيسة التي ترتبط بعمل المؤسسة وبالتالي قدرتها على تحقيق أكبر إنجاز ممكن في ملف المختفين قسراً في سوريا ضمن المعطيات الحالية لم يتطرق إليها قرار إنشاء المؤسسة وتمت إحالته إلى ما يتضمنه الإطار المرجعي الذي سيتم إعداده خلال 80 يوماً.

 وبما أن القرار قد أشار لدور المجتمع المدني السوري في تقديم مدخلات للأمين العام خلال هذه الفترة يبدو السؤال الرئيسي مرتبطاً بطبيعة القضايا التي يجب التركيز عليها بغية تحقيق أكبر قدر ممكن -رغم التوقّعات المنخفضة- من أهداف إنشاء المؤسسة أو على الأقل تجنب وجود أضرار تلحق بالملف حالياً ومستقبلاً بما يسبّب انتكاسة في آمال السوريين ومناصري الملف.

بشكل عام يمكن القول إن أبرز القواعد الناظمة لعمل المؤسسة يرتبط بشكل رئيس بجانبين؛ الأول إجرائي هو تكوين المؤسسة ومواصفات أعضائها، أما الثاني فموضوعي ويرتبط باختصاصها وصلاحياتها وأنشطتها، وما يُبنى على ذلك من كيفية تنظيم صفوف القوى السورية والضغط الموحد حول القضايا المتفق عليها.

في البعد الإجرائي فإن التجارب المختلفة التي تم من خلالها تشكيل آليات وطنية للبحث في قضايا المختفين قسراً كالأرجنتين (اللجنة الوطنية العليا للأشخاص المفقودين) وتشيلي (اللجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة)، أو هيئات مختلطة (وطنية -دولية) كحال سيراليون؛ تؤكد بأن تكوين هذه الهيئات عملية حساسة ومفصلية وخاصة لجهة اختيار أعضائها وهو ما يخلق جدلاً مستمراً حول الحيادية والاستقلالية ونظرة المجتمع المعني لهم، الأمر الذي يرتبط بقضية رئيسية هي: محددات الاختيار الكلية، ومواصفات الأعضاء المطلوبة، أي شروط العضوية الإيجابية منها والسلبية.

في حالة المؤسسة الدولية ورغم أن الأمين العام هو المكلف باختيار الموظفين والكوادر غير السورية؛ إلا أن القوى المدنية السورية يمكن أن تضغط بشكل مباشر عبر طلب مجموعة من الشروط التي تضمن “الحيادية والكفاءة” منها: شرط الحياد السياسي، وعدم الانتماء لدول مرتبطة بالإخفاء القسري في سوريا والسجل القوي لمناصرة حقوق الإنسان، وتفحّص المواقف السابقة من الأطراف الرئيسة المسؤولة عن الاختفاء القسري والسجل الشخصي الخالي من المخالفات القانونية.

من جانب آخر، يمكن وضع محدّدات كلية لعملية الاختيار كمراعاة تنوّع الاختصاصات في المؤسسة كالخبرة القانونية والقضائية والجنائية والخبرات في الطب النفسي والخبرات الاجتماعية الأخرى، وصولاً إلى الحديث عن منهجية الاختيار بحيث تقدم روابط الضحايا والمنظمات الحقوقية السورية النشطة بالملف الحقوقي مساعدة واضحة في عملية اختيار الأشخاص الذين تنطبق عليهم المواصفات المطلوبة، حيث يسهم التركيز على هذا البُعد في اكتساب المؤسسة ثقة السوريين وبالتالي وجود ضمان أولي لتفاعلهم معها لإنجاحها.

بالانتقال إلى الجوانب الموضوعية وهي المجال الأوسع الذي يمكن للقوى السورية تقديم مدخلات عديدة فيه يمكن الانطلاق من اختصاصات المؤسسة والتي جاءت بمصطلح واسع وهو “المفقودون”، وذلك من خلال تقديم تعريف شامل للاختصاص بما يمتد ليغطي أيضاً الاعتقال التعسفي والقتل تحت التعذيب ومختلف أشكال الانتهاكات التي ترتبط باختفاء الأشخاص كعملية مترابطة لا يمكن الفصل بينها في معرض تحقيقات المؤسسة الدولية وإن كانت ترتكز على بعد إنساني.

كذلك من الأهمية بمكان تقديم رؤية واضحة حول معنى كشف المصير ومضامينه كي لا يبقى مطلقاً وقابلاً لتفسيرات ضيقة،  بحيث يتم التركيز على المعنى الواسع والذي يتجاوز النتيجة النهائية للحياة أو الوفاة ليمتد إلى معرفة الحقيقة كاملة من دون نقصان حتى يتم اعتبار المختفي قسراً قد كُشِف مصيره، وذلك بما يشمل الظروف التي أحاطت بالإخفاء، وتحديد القوى والأفراد التي شاركت فيه، ومعرفةُ الظروف التي وقعت فيها الانتهاكات، وأسبابها وعمليات ابتزاز أهالي المعتقلين، ومنظومة المحاكمات الصورية المساهمة في الإخفاء القسري، بمعنى آخر فإن  كشف المصير الذي ينبغي الضغط لأجل اعتماده يرتبط بكشف ظروف الاختفاء وملابساته، وأماكن الاختفاء وتفاصيل الوفاة -إن حصلت- ومكان الوفاة وحق الضحايا بإعادة الدفن، استناداً بأن هذا النهج فقط يمكن وصفه بالمعرفة التي تحقق أولى خطوات جبر الضرر، وبنهج يتوافق مع القانون الدولي وآليات العدالة.

 كذلك تبرز أهمية -عدم القبول بمبدأ إصدار شهادات الوفاة كمقابل لإغلاق ملفات المختفين وإنهاء البحث والتحقيق واعتماد قاعدة أن المغيّب حيّ حتى يتم اكتشاف جثمانه تجنباً لمخاطر طي الملف وعرقلة المساءلة مستقبلاً كسقوط جرائم القتل بالتقادم.

أما عن اختصاصات المؤسسة من حيث الزمان وعلى الرغم من وجود نص تمهيدي في القرار يتحدث عن الفترة الزمنية المرتبطة بـ (12 عاماً من النزاع والعنف) فإن المطالبة بتوسيع الإطار الزمني من جهة حالات الإخفاء القسري في سوريا منذ استيلاء الأسد على السلطة في سبعينيات القرن العشرين يمثل قضية أخلاقية من المهم الإجابة عليها.

بالانتقال إلى الأنشطة الوظيفية التي ينبغي أن تقوم بها المؤسسة “وفق الظروف المتاحة” يعدّ كل نشاط حالة معيارية يفترض السعي للوصول إليها، على الرغم من احتمالية تعذّر تنفيذ قسم منها بسبب ضعف الصلاحيات والقدرة على الإلزام والتحرك، حيث يمكن إجمال أبرز هذه الأنشطة بما يلي:

  • أنشطة واسعة لبناء العلاقة مع السوريين في كل مكان وتوضيح آليات العمل والمنهجيات المعتمدة وضمان السرية وعدم الإضرار.. الخ بما يسمح بكسب ثقة السوريين وضمان تفاعل الناجين وأسر الضحايا، وهي العملية الحساسة جداً في ظل استمرار وجود نظام الأسد من جهة، وكون الآلية دولية أساساً وليست وطنية، وهو ما يتطلب دوراً واضحاً وفعالاً للقوى المدنية السورية في لعب دور الوسيط وسدّ فجوات الوصول.
  • البناء على قاعدة البيانات الخاصة بعمليات توثيق عمليات الإخفاء القسري سابقاً من قبل المنظمات السورية والدولية، وصولاً لبناء قاعدة بيانات شاملة ومركزية.
  • تلقي الشكاوى والبلاغات المباشرة وبأيسر الطرق والوسائل مع مراعاة اللجان الخاصة بقضايا النساء والعمل على تشجيع ذوي الضحايا على تقديم البلاغات، وسماع الشهادات السرية عبر إجراء المقابلات، وجمع البيانات المرجعية الجينية من عائلات المختفين وحفظها.
  • تنفيذ سلسلة من جلسات الاستماع العلنية للناجين وذوي الضحايا كجزء من كشف الحقائق مع مراعاة توزيع شامل على أساسين: مواضيعي (كحالات إخفاء النساء – التعذيب أثناء الإخفاء – الابتزاز المالي.. الخ) وآخر مناطقي يغطي كل المناطق، كجزء من كسب تفاعل السوريين ومناصرة القضية عالمياً والضغط على القوى المعرقلة.
  • القيام بأنشطة التحري المرتبطة بجمع المعلومات عن الأشخاص المفقودين من كافة المصادر كالسجلات والإفادات وإجراء التحقيقات وتحديد أماكن السجون السرية والمعتقلات، وأماكن المقابر الجماعية، والسعي للوصول إلى كافة الأماكن دون قيود أو شروط وخاصة مرافق الاحتجاز لتحديد أماكن الأفراد المختفين والكشف عن المقابر الجماعية ونبش أماكن الدفن واستخراج الرُّفات واجراء الفحوصات الطبية والتقنية لتحديد هويتها.
  • ضمانات حوكمة عمل المؤسسة من خلال نهج شفافية لاطلاع الرأي العام وخاصة عائلات الضحايا على أهم ما توصلت إليه التحقيقات من نتائج وتقدّم الملف بشكل مستمر وإيجاد آلية فعّالة وسرية للتبليغ، وأن يكون التحقق سريعاً وفعالاً ونزيهاً.
  • اعتماد اللجان المساعدة للمؤسسة والتي تمارس دوراً استشارياً وفعالاً، بحيث تضم في عضويتها ممثلين عن الناجين وذوي المختفين، ومنظمات المجتمع المدني والتي تقوم بدورها بالحصول على تغذية مستمرة من السوريين وتقوم بالتواصل النشط معهم.
  • ضمان آلية للتعاون الدولي من خلال فتح قنوات تعاون مع الدول المستضيفة للاجئين السوريين من أجل تسهيل عمليات جمع البيانات عن المختفين قسراً وتمكين العائلات من التبليغ وسبل الإنصاف المختلفة وتخصيص أماكن ومكاتب في الدول التي تضم أكبر عدد من اللاجئين ان أمكن ذلك.
  • اعتماد برامج خاصة ومعلنة وفعالة لحماية الشهود وتقديم الدعم اللازم لتشجيع تعاون أهم الشهود مع المؤسسة بما فيهم بعض الجناة، وتنفيذ إجراءات لجبر الضرر المستعجل بناء على معايير وآليات واضحة.
  • اجراء أكبر كم من المشاورات والجلسات من أجل تحديد آلية دعم أسر الضحايا والناجين والناجيات مادياً معنوياً ووضع سياسات لتقديم المساعدة الفنية النفسية والدعم الاجتماعي لذوي المختفين وتحديد قواعد ومنهجية الدعم وضمان العدالة أثناء تنفيذه.

ختاماً، يمكن القول إن الكثير من هذه النقاط تحتاج عملياً لمزيد من النقاش والتفصيل والتنظيم إلا أنها مع نقاط أخرى تشكل في مجموعها ضمانات أساسية لتجنّب أي فشل ذريع للمؤسسة وتسهم في ربط نتائج عمل المؤسسة الدولية بمسار العدالة العام بوصفه نهج منظومة متكاملاً، وستسمح بالحد الأدنى بتحقيق فوائد عديدة كمناصرة الملف وحفظ الحقيقة التاريخية من التزوير واحترام ذكرى الضحايا وعذابات السوريين.

كما تشكل مبادئ أولية يمكن للقوى المدنية السورية ومراكز الدراسات والروابط والخبراء السوريين العمل على بلورتها في رؤية محددة “عملية الطابع” تقدم باسم أكبر عدد ممكن من المؤسسات والخبراء للأمين العام خلال الفترة القادمة؛ ولتكون هذه القوى منصة جماعية -وبعيداً عن المصالح الضيقة والدعائية- مشاركة في دعم ومتابعة عمل المؤسسة الذي يتطلب تكاتف الجميع في قضية مقدّسة وتمس النسبة الأكبر من السوريين وتسمو على أي اعتبار آخر.

باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى