الكوارث ومرونة المجتمع؛ مدى حضور القِيَم والشبكات الاجتماعية شمال غرب سوريا في التفاعل مع كارثة زلزال 6 شباط 2023
الملخص
تشير التجارب الدولية -خصوصاً في مطلع القرن الحالي- إلى دور القيم الاجتماعية مثل: التطوع والتبرع والتضامن والمعرفة والخبرات المتراكمة وتبادل المعلومات، إلى جانب دور الشبكات الاجتماعية التقليدية منها أو الحديثة في تعزيز صمود المجتمعات المحلية في المراحل الرئيسة الثلاث لإدارة الكارثة، وهي: الاستعداد، والاستجابة، والتعافي؛ وهو ما تؤكده كذلك مختلف الوثائق التي صدرت عن المؤتمرات والمنتديات الدولية التي اعتنت بقضية الاستجابة للكارثة.
يستعرض هذا التقرير عبر المنهج الوصفي التحليلي حضور القيم والشبكات إبان كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 شباط 2023، وكيفية الاستجابة لها داخل سوريا.
أظهر التقرير أن الاستجابة لكارثة الزلزال في داخل سوريا استندت بشكل رئيس -خاصة في الأيام الأولى للكارثة- إلى ثقافة المجتمع وشبكاته وتنظيماته بطرق مختلفة؛ فقد تفاعلت كل من العوامل الثقافية والمعرفية والشبكات الاجتماعية في مناطق السيطرة المختلفة مع الكارثة، وأسهمت بأدوار إيجابية عديدة لم تخلُ من مظاهر سلبية.
على صعيد قِيم التطوع والتبرع حضرت هذه القيم بشكل عفوي ومباشر من خلال مساعدة الآخرين مستندة إلى مزيج من الدوافع الدينية والاجتماعية والوطنية والإنسانية، وأظهرتها على مستويين فردي وجماعي داخل الجغرافيا السورية وخارجها؛ إلا أن هذه الطاقات الفاعلة اصطدمت بالعديد من التحديات، كان من أبرزها: غياب التنظيم والفوضى، وعرقلتها من قبل الأجهزة الأمنية، تحديداً في مناطق سيطرة نظام الأسد.
أما على صعيد الوعي المسبق بالمخاطر فقد كانت “ذاكرة الألم” حاضرة بفعل مواجهة الانتهاكات والتهجير والنزوح المتكرر -تحديداً في شمال غرب سوريا- عاملاً مساعداً في امتصاص الصدمة لدى بعض الشرائح والتحرك سريعاً للمساهمة في خدمة المجتمع والآخرين، وعلى نطاق أوسع في طريقة الاستجابة الأهلية. مع ذلك فإن حجم الكارثة وانتشار آثارها على نطاق جغرافي وبشري واسع كان مشهداً غير مألوف، سواءٌ بالنسبة إلى الأفراد أو حتى المؤسسات الرسمية منها والمدنية على حد سواء. ولذا كان ضعف الوعي المسبق بكارثة ضخمة ككارثة الزلزال عاملاً مساهماً في ظهور فجوات التدريب والتأهيل، وضعف الاستجابة لدى بعض المنظمات.
أسهمت عمليات تبادل المعلومات وشبكات التواصل في عمليات الإنقاذ والدعم والمناصرة داخل سوريا وخارجها، ومثّلت في شمال غرب سوريا آلية لسدّ الفجوات في التنظيم الرسمي والإدارة الحكومية الفاعلة عبر تبادل المعلومات بين الأصدقاء، في حين ركّز نظام الأسد على استغلال الشبكات لشنّ حملة دبلوماسية موازية للتخلص من العقوبات.
كذلك أظهر التقرير طريقة تفاعل عنصر الثقة؛ إذ دلّت غالبية الحوادث والسلوكيات من انتشار التعاطف والتبرع والتعاطف على مستوى الأفراد والمؤسسات المدنية بشكل عابر للحدود على ارتفاع الثقة، إلا أنها سرعان ما تراجعت وعادت إلى مستوياتها المتدنية مع انتشار حملات التخوين.
بالطريقة ذاتها كان حضور الشبكات الاجتماعية التقليدية “غير الرسمية” وتفاعلها، ابتداءً بالأسرة وصولاً للعشيرة وأبناء المنطقة؛ إذ كان دورها أساسياً في عمليات الإنقاذ والبحث عن المفقودين، وأسهمت في عمليات جمع التبرعات وتقديم الخدمات والدعم المادي والمعنوي، إلا أن آثاراً سلبية عديدة ظهرت بسبب ذلك، فأدّى تضامن الشبكات مع أعضائها فحسب بدوره إلى تعزيز الحساسيات والانقسام في المناطق المنكوبة.
كما لعبت الشبكات الحديثة “تنظيمات المجتمع المدني” دوراً فاعلاً في شمال غرب سوريا عبر جهود متعددة كانت السمة الإيجابية هي السمة الأبرز التي طبعت أعمال هذه المنظمات والفرق التطوعية؛ إلا أن مجموعة سلبيات أدّت إلى تخفيف جودة هذه الاستجابة وفعاليتها، منها ثغرة العامل التنظيمي والتشاركي بشكل عام بين المنظمات.
لقد أظهر التقرير سلبية نظام الأسد حتى في المجال الإنساني والاجتماعي؛ حيث إن طريقة تفاعله مع الكارثة كانت كارثة ليس على المعارضين له فحسب، بل حتى على المقيمين في مناطق سيطرته، فقد وظّف الكارثة عبر أذرعه المدنية “الهلال الأحمر والأمانة السورية للتنمية” للتحكم والسيطرة على المساعدات، كذلك نشطت الأذرع الإيرانية تأكيداً لثقل المشروع الإيراني وحضوره في سوريا.
مقدمة:
لطالما كانت الكوارث الطبيعية ظاهرة مرافقة للحياة الإنسانية في كل مكان وزمان، وهو ما يجعل التفكير ينصبّ على الاستعداد المسبق لها بدلاً من القضاء عليها، وعلى هذا النحو باتت قدرة المجتمعات المختلفة على مواجهة الكوارث الطبيعة محطّ اهتمام كبير من المؤسسات والحكومات والمراكز البحثية؛ على الصعيدين الوطني والدولي معاً.
في هذا السياق غالباً ما يتم التركيز على دور الدولة ومؤسساتها إلى جانب المؤسسات الدولية الرسمية في مواجهة هذه الكوارث بحكم الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها؛ إلا أن ذلك لا ينفي الدور المهم الذي يمكن أن يسهم به المجتمع ومؤسساته الوسيطة في التصدي لآثار هذه الكوارث. من هنا بدأ التركيز على عوامل مرونة المجتمعات في هذه المواجهة الحتمية، التي ترتبط بالجوانب الثقافية والاجتماعية لدى القوى المجتمعية المختلفة التي يُفترض أن لها دوراً مهماً ومباشراً في تحقيق هذه المرونة والقدرة على الصمود؛ كل ذلك بعيداً عن الأدوار الرئيسة التي تُناط عادة بالمؤسسات الرسمية، وعن العوامل المادية التي تتمثل بالتقنيات والتجهيزات والموارد المادية.
بناءً على ذلك أصبحت هذه القضايا التي يمكن تسميتها بالهياكل غير المادية[1] للمجتمعات موضوع اهتمام بحثي وأممي كبير، انطلاقاً من افتراض عام مفاده: “تحمُّل المواطنين والمجتمعات المحلية مسؤوليات الحدّ من مخاطر الكوارث”، وذلك تحت مسمى “القدرة المحلية على التحمُّل”، وهو ما يرتبط بطبيعة الحال بمدى قوة وحضور المجتمع وثقافته وتنظيماته التي تشمل: عوامل ثقافية، مثل: قيم التبرع والتطوع والمعرفة والوعي بالكوارث وتبادل المعلومات والبيانات والثقة المجتمعية من جانب، وتفاعل الشبكات الاجتماعية التقليدية والحديثة من جانب آخر.
قدمت العديد من الدراسات خاصة الغربية والأسيوية في مناطق ذات تجارب مريرة مع الكوارث الطبيعية إضاءاتٍ من وحي ما عانته عن أهمية التنظيم الاجتماعي ودوره، وعن الممارسات والموارد المادية المتعددة التي يمكن أن تستخدمها المجتمعات المحلية للتعامل مع المخاطر والأزمات، وهو ما يكشف رسوخ القناعة بدور الهياكل الأساسية غير المادية كونها مفتاحاً للحدّ من المخاطر، وهو ما تم تأكيده على سبيل المثال في تقريرٍ عن الكوارث في العالم لعام 2014 صادرٍ عن الصليب الأحمر، وإبرازه في عدد متزايد من المنشورات البحثية في العلوم الاجتماعية وحلقات النقاش في المؤتمرات[2].
فضلاً عما سبق فإن أهمية الدور المجتمعي في مواجهة الكوارث الطبيعية تزداد في حالة المجتمعات التي تضعف فيها المؤسسات الرسمية أو تنهار، أو قد تكون هي بحدّ ذاتها مصدراً للكوارث البشرية كما يحصل في سوريا؛ ذلك أن قوة العلاقات والروابط الاجتماعية وحالة التجاوب المحلي وتفاعلها الإيجابي يسمح بزيادة القدرة على تحمُّل الصدمات والتعافي منها وسدّ الفجوة التي أنتجها “خمول مؤسسات الدولة”[3].
في الحالة السورية ومع غياب شبه تام لدور “السلطة ومؤسساتها” أو فسادها و/أو هشاشتها.. إلخ، والتغيرات المجتمعية التي طرأت بفعل الهجرة والتهجير والنزوح؛ فقد برز دور كبير للقيم والشبكات الاجتماعية في التعاطي مع كارثة الزلزال بشكل مباشر أو مع تبعاتها، فهنالك مزاج عام متفق على قوة هذا الدور وأهميته ونجاحه، بغضّ النظر عن التفاصيل وعن مدى الرضا عن كل عامل من عوامله واختلافه من منطقة الى أخرى. فعلى سبيل المثال: ظهرت حالة التضامن الواسعة مع ضحايا الزلزال في المناطق الأكثر تضرراً من طرف نظرائهم في المناطق الأقل تضرراً أو حتى من الجالية السورية في العالم، وتُرجمت إلى مساندة مالية كبيرة وأدوار للمتطوعين في عمليات الإنقاذ والإخلاء وأعمال البر والمعروف، وتشكلت مجتمعات محلية جديدة على شبكة الإنترنت بصورة افتراضية، ونُظمت “الفزعات الاهلية”، وقُدمت المساعدات العشائرية.. إلخ، وهو ما أسهم في نجاة الأفراد -أو على الأقل التخفيف عنهم- بفضل هذه المبادرات المجتمعية.
من هنا فإن هذا التقرير يسعى للإجابة على السؤال الرئيس الآتي: ما هي طبيعة حضور القيم والعوامل الثقافية والشبكات الاجتماعية في حالة الكوارث الطبيعية وأدوارها في مرونة المجتمعات الإنسانية؟ وكيف برزت هذه العوامل داخل سوريا؟[4]
ويتفرع عن هذا السؤال الرئيس مجموعة من الأسئلة الفرعية، لعلّ أبرزها:
- ما هي العوامل المؤثرة في مرونة المجتمعات في مراحل الاستعداد والاستجابة والتعافي في التجارب المختلفة؟ وإلى أي مدى يمكن الارتكاز عليها؟
- ما طبيعة الدور الذي تسهم به مجموعة العوامل الثقافية كالتضامن والثقافة والتراث وقيم التطوع.. إلخ من جهة، ومن جهة أخرى الشبكات الاجتماعية التقليدية كـ“الأسرة، والصداقات، والجيرة” أو الحديثة كـ”تنظيمات المجتمع المدني” في مواجهة الكوارث الطبيعية؟
- كيف كان حضور العوامل الثقافية في الحالة السورية في مناطق السيطرة المختلفة؟
- ما العلاقة بين أنماط السلطة وأدوارها في مناطق السيطرة وطبيعة التفاعل المجتمعي مع كارثة الزلزال؟
- إلى أي مدى أسهمت الشبكات الاجتماعية في سوريا في تعزيز مرونة المجتمع؟
تتمثل أهمية هذا التقرير التحليلي في أنه يسعى لردم فجوة معرفية في الدراسات العربية عموماً والسورية خصوصاً فيما يتعلق بأبحاث الكوارث من زاوية التفاعل الاجتماعي تحديداً، إلى جانب ارتباطه بالمشهد السوري، لاسيما في مناطق شمال غرب سوريا[5] حيث تضعف أدوار المؤسسات الرسمية؛ مما يتطلب التركيز على القدرات المحلية من زاوية مجتمعية باعتبارها مقدِّماً رئيساً للخدمات في ظل شبه غياب للسلطات الواقعية “الرسمية”، وهو ما يبدو حالة غير قصيرة المدى.
اعتمد التقرير المنهج الوصفي التحليلي الذي يهدف إلى تحليل الظاهرة وفهم سياقاتها وتحديد العوامل المؤثرة فيها واستشراف مآلاتها، تمهيداً لوضع توصيات للتعامل معها. وقد استند على نوعين من المصادر:
- المصادر الأولية: من خلال تنفيذ عشر مقابلات نصف مهيكلة “semi- structure” مباشرة أو عبر الاتصال الهاتفي مع فاعلين شاركوا في الاستجابة لكارثة الزلزال في سوريا، وقد رُوعي فيها التوزع المناطقي؛ حيث شملت مشاركين في كل من مناطق إدلب وريف حلب الغربي ودرع الفرات “جرابلس والباب واعزاز” وغصن الزيتون “منطقة عفرين وريفها”، بوصفها الأكثر تضرراً من كارثة الزلزال، وذلك للإحاطة بالموقف بصورة شاملة. وأُجريت المقابلات في شهر آب من عام 2023.
- المصادر الثانوية: تشمل مختلف الدراسات والمقالات والتقارير الصحفية العربية منها والأجنبية.
ينقسم هذا التقرير ثلاث أقسام رئيسة؛ فأما القسم الأول منه فيركّز على الإطار المفاهيمي المرتبط بالكوارث الطبيعية والاستجابة لها، ودور المرونة المجتمعية وآثارها وفعاليتها في درء المخاطر والتعافي. وأما القسم الثاني فيبحث في حضور العوامل الثقافية في كارثة الزلزال في سوريا وما بعده ودورها في مرونة المجتمع. في حين يستعرض القسم الثالث من التقرير حضور الشبكات الاجتماعية بنوعيها التقليدي والحديث، وكيفية حضورها وتعاملها مع الكارثة.
المطلب الأول: الكوارث الطبيعية وجهود الاستجابة؛ إطلالة مفاهيمية:
تُعد الكوارث الطبيعة من أخطر المظاهر التي تهدد البشرية قاطبة؛ إذ تؤدي لآثار تدميرية خطيرة على مختلف الصعد -بشرياً، واقتصادياً، وسياسياً.. إلخ- ولأنها حالة مستمرة فيُفترض الاستعداد للتعامل معها ومواجهة آثارها. وترتبط هذه المواجهة وفعاليتها أساساً بالوعي حول مختلف الجوانب المرتبطة بها، وهو ما مثّل إحدى التحديات الرئيسة لفترة طويلة؛ ولذا فإن الجهود الإنسانية المختلفة انصبّت على تحليل الكوارث وفهمها، وجهود الاستعداد والتعامل معها والتعافي منها، وفق منهجيات وخطط وإجراءات متكاملة.
أولاً: الكوارث والمرونة والمجتمع؛ مفاتيح رئيسة:
تُعرف الكارثة بشكل عام على أنها: حدثٌ غير متوقع[6]، وتنقسم إلى نوعين رئيسَين تبعاً لمصدرها: فتكون طبيعية (مناخية، زلزالية، أو ناتجة عن سبب طبيعي آخر)، أو بشرية “إنسانية”[7]. وتعرّفها الأمم المتحدة بأنها: “اضـطراب خطـير في سـير الحيـاة في جماعـة أو مجتمـع علـى أي نطـاق بسـبب أحـداث خطـيرة تتفاعـل مـع ظروف التعرض للأخطار والضـعف والقـدرة، بما يـؤدي إلى واحـدة أو أكثـر مـن الخسـائر والآثـار التاليـة: الخسائر والآثار البشرية والمادية والاقتصادية والبيئية”[8]، وتأخذ هذه الكوارث أشكالاً متعددة (الجدول رقم 1).
تصنيف الكارثة | تعريف | النوع الرئيسي |
الجيوفيزيائية | أحداث من الأرض | الزلازل – البراكين |
الأرصاد الجوية والمناخ | الأحداث التي تسببها عمليات الغلاف الجوي والتقلبات المناخية | العواصف -الحرائق الهائلة -الجفاف |
الهيدرولوجية | الأحداث الناجمة عن الانحرافات في دورة المياه العادية أو فيضان المسطحات المائية | الفيضانات |
البيولوجية | كارثة ناتجة عن تعرض الكائنات الحية للجراثيم والمواد السامة | الوباء |
تبعاً لهذه المخاطر تولدت الحاجة لأدوات ومناهج جديدة تقوّي من الإدارات المحلية وقدرة المواطنين المحليين؛ من أجل توفير حماية أفضل للأصول البشرية والاقتصادية والطبيعية[10]، ومع تطور الاستجابة للكوارث تطورت تدريجياً مجموعة من المفاهيم التي تشير إلى كيفية التعاطي معها.
في مقدمتها برز مفهوم “إدارة الكوارث” الذي يعني: “وضع تدابير وقواعد تنظيم عملية الاسـتعداد للكـوارث والاسـتجابة في حالـة وقوعهـا والتعـافي من آثارها”[11]. وبما أن هذه المصطلح يركز عادة على المؤسسات الرسمية ممثلة بالدولة وأجهزتها فقد ظهر مصطلح آخر يؤكد الإدارة المجتمعية لمخاطر الكوارث التي تُعرف بأنها : “تعزيــز إشــراك المجتمعات المحليــة المتضــررة في إدارة مخــاطر الكـوارث علـى الصـعيد المحلـي”[12] (الشكل رقم 1)، وهو ما أصبح نهجاً رئيساً لتعزيز مرونة المجتمع التي يُقصد بها: “قدرة النظام أو المجتمع المعرض للمخاطر على مقاومة آثارها واستيعابها وتلبية مقتضياتها والتكيف معها والتعافي منها في الوقت المناسب وبطريقة فعّالة، بما في ذلك الحفاظ على هياكله ووظائفه الأساسية من خلال إدارة المخاطر”[13]. من جانب آخر يشير مصطلح المرونة إلى العملية التي تعكس قدرة الحكومات المحلية وشركاء التنمية الآخرين -وفي مقدمتهم القوى الفاعلة في المجتمع المحلي- على مقاومة التحديات الناجمة عن الكوارث، واستيعاب الصدمات، والتكيَّف، والتعافي وإعادة البناء بنحوٍ أفضل[14].
شكل رقم 1 منهج إشراك المجتمعات المحلية لتعزيز المرونة
نظراً لتزايد الاهتمام الدولي في قضية إشراك المجتمعات المحلية في مواجهة آثار الكوارث والتعافي منها كان واضحاً انعكاس ذلك على مخرجات المؤتمرات والمنتديات الدولية التي كان من أبرز مخرجاتها: تعزيز الصمود، وبناء القدرات المحلية في مواجهة الكوارث من خلال مرونة المجتمعات نفسها[15].
ثانياً: نظرة بانورامية على التجارب الدولية؛ الاعتماد على المجتمع عاملٌ مشتركٌ[16]:
تمثل الكوارث والمخاطر الطبيعية تحدياً متزايداً على نطاق دولي وفق ما باتت تعترف به الأسرة الدولية، وعلى الرغم من أهمية التعاون والتضامن الدولي في مواجهة الكوارث يبقى للسياسات والإجراءات على مستوى الدولة الأثر الأكبر في الاستجابة والوقاية والتعافي، وفي هذا الصدد كانت أكثر الدول تعايشاً مع الكوارث الطبيعة معنية باتخاذ تدابير مستمرة لتحسين مرونة المجتمعات المحلية للصمود، فباتت تلحظ أهمية البُعد المجتمعي والعلاقة بين مكونات رأس المال الاجتماعي وإدارة الكوارث في مراحلها الثلاث: الاستعداد والاستجابة والتعافي[17].
في أستراليا[18]: تركز استراتيجيتها على ثلاثة جوانب بالتوازي، وهي: تحسين وسائل البقاء والتعافي، وتطوير أفكار أكثر ذكاء حول كيفية البقاء والتعافي، وتشجيع مشاركة أكبر للمجتمع. وهو ما أنتج دعوات للتركيز على ثلاثة أنماط من رأس المال، هي: (المادي والإجرائي والاجتماعي)؛ إذ يرتبط الجانب الاجتماعي منه بجانبين يتم العمل عليهما وهما: التماسك الاجتماعي والتحفيز[19].
من هذا المنطلق ركزت التجربة الأسترالية على إشراك جميع القوى المجتمعية إلى جانب المؤسسات العامة في الاستجابة والتعافي من الكوارث عبر العمل الوثيق والتعاوني في التعافي واسترداد عافية المجتمع، حيث يتم التركيز على جهود مجموعات “الإنعاش” المحلي، التي تشمل أفراد المجتمع المحلي ومقدِّمي الخدمات والمنظمات المجتمعية، وذلك ضمن استراتيجية وطنية لمواجهة الكوارث تقرّ بالحاجة لذلك التعاون في سبيل تعزيز قدرات أستراليا في الاستعداد والاستجابة والتعافي من الكوارث، مع اعتماد منهجية التخطيط المحلي القائم على المرونة[20].
في إندونيسيا[21]: اهتمت الدولة بإطلاق برامج للحماية من أثار الكوارث الطبيعية، وركزت على التعليم؛ فكانت المدرسة إحدى المؤسسات الرئيسة التي أسهمت في نشر الوعي لدى الطلاب ومن خلفهم المجتمع الإندونيسي عبر برامج تطلقها الوكالة الوطنية للحماية من الكوارث الطبيعية، وباتت هذه الأنشطة مدمجة في العملية التعليمية[22]. كذلك ركّزت منذ كارثة 2004 التي سببها زلزال سومطرة وتسونامي في المحيط الهندي على التعاون والاستفادة من التجارب الأخرى، وفي مقدمة هذه الخطوات كان التعاون مع اليابان لتأسيس “لجنة الحدّ من الكوارث” التي أسهمت في إطلاق عملية تطوير لنظام اتصالات المعلومات في إدارة الكوارث الإندونيسية، وصياغة “خطة العمل الوطنية للحدّ من الكوارث” ركّزت على الدور الإيجابي الذي يجب أن يلعبه الصليب الأحمر والجيش والسكان والمنظمات غير الحكومية، وإطلاق سلسلة من البرامج التدريبية حول الإجلاء والإخلاء ومحاكات الكوارث في المناطق المختلفة[23]. وفي المرحلة الحالية تعمل الحكومة الإندونيسية على وضع اللمسات الأخيرة على خريطة طريق الحماية الاجتماعية التكيفية (ASP)، التي تهدف إلى الجمع بين الحماية الاجتماعية والتكيف مع تغير المناخ وقطاعات إدارة مخاطر الكوارث[24].
في السويد[25]: يعتمد نظام إدارة الأزمات على ثلاثة مبادئ، هي: مبدأ المسؤولية الذي يعني أن الجهات المسؤولة عن تقديم الأعمال والخدمات في الظروف الطبيعية هي المسؤولة عن العمل والإنقاذ في حالة الكوارث، والمبدأ الثاني هو مبدأ المساواة ويعني أن المؤسسات المختلفة يجب أن تحافظ قدر الإمكان على سير العمل والخدمات في الحالة الطارئة كما هو الحال في الحالات الطبيعية، والمبدأ الثالث مبدأ القرب، أي التعامل مع الكارثة من قبل المؤسسات والقوى المحلية أولاً، وفي حال كانت تحتاج المساعدة فتُدار على مستوى المقاطعة ثم المستوى الأكبر وهو المستوى الوطني؛ وتشكّل هذه المبادئ حجر الزاوية في التأهب للأزمات[26]. في الوقت نفسه تعتمد السويد على تفعيل قوى المجتمع غير الرسمية على ثلاث جهات رئيسة، هي: القطاع الخاص، ومتطوعو الإنقاذ، والجمعيات غير الربحية بما فيها الجمعيات الرياضية والهيئات الدينية. وتتولى البلديات ومجالس إدارة المقاطعات وفقاً للقانون العمل على التنسيق بين الفاعلين المعنيين على المستويين المحلي والإقليمي، وهذا يشمل من بين أمور أخرى إشراك الممثلين الذين يمكن الاستفادة منهم أثناء الأزمات في المرحلة التحضيرية أو قبل حدوث الأزمة، وكذلك أثناء الأزمة نفسها وبعدها. فعلى سبيل المثال: تم تشكيل منظمة الدفاع التطوعي (FFO) من 18 جمعية تطوعية، وهي جمعيات يُنشئها ويديرها الأعضاء، ويتم تنظيم مهامها من قبل القوات المسلحة السويدية وهيئة حماية المجتمع والاستعداد، والغرض منها هو أن تكون مورداً لدعم قدرة المجتمع على التأهب للأزمات أثناء الحوادث والأزمات وبعدها. وهذه المنظمة بدورها جزءٌ من مجموعة الموارد التطوعية (FRG) التي تتولى التدريب والتأهيل.. إلخ، وتم تشكيلها عام 2004 لتكون رديفاً للبلديات أثناء الكوارث، ويتم استدعاؤها بقرار إدارة البلدية للمساعدة في أعمال نشر المعلومات، والإخلاء، والدعم الإنساني للضحايا[27].
بالانتقال إلى التجربة اليابانية في إدارة الكوارث والزلازل تحديداً بوصفها إحدى أهم التجارب؛ فهي تركز جهودها الرسمية والمجتمعية على الاستعداد لمختلف الكوارث كالزلازل وتسونامي والأعاصير وغيرها[28]، وهو ما جعلها إحدى أفضل الدول في الاستعداد للكوارث والوقاية منها؛ إذ ركزت السياسات العامة فيها على عمليات التوعية والتثقيف ابتداءً من المدراس الابتدائية وصولاً للجامعات، بهدف تمكين الأهالي من حماية أنفسهم من المخاطر. كذلك يتم استهداف جمع الأسر والأهالي بطرق مختلفة، وأصبحت شعارات الوقاية من الكوارث تراثاً ثقافياً مجتمعياً ومتناقلاً عبر السنين، كشعار “تسونامي تندينكو”، وتعني “كل واحد على حدة”، لتشجيع الناس على الركض إلى مكان مرتفع بمفردهم بسرعة[29]. وقد طوّرت اليابان -خاصة بعد عام 2015- هيكلاً رباعياً ضمن استراتيجية المساعدة في مواجهة الكوارث يقوم على: المساعدات الرسمية، والاعتماد على الذات “الفرد”، والمساعدة المتبادلة التي تشمل المساعدة داخل الشبكة الاجتماعية أي الأصدقاء والأقرباء والأسرة ويُشار إليها بمصطلح “gojo”، وأخيراً المساعدة المتبادلة الإنسانية أو الخيرية مع الغرباء واصطُلح عليها اسم “kyojo”. وقد أصبح التركيز في الهيكل وفي السياسات العامة على النهج “التعاوني والمشترك” بين الأفراد والأسر والشبكات الاجتماعية والقطاع الخاص والمؤسسات[30]، بدلاً من الارتكاز على المساعدة الرسمية تبعاً للتجارب العديدة ككارثة زلزال وتسونامي عام 2011 التي أظهرت أنه من المستحيل للإدارة العامة أن تقدم المساعدة لجميع الضحايا، لاسيما إذا أخذنا بالاعتبار الخلل الوظيفي الذي يصيب المؤسسات في هذه الحالة[31]. بناءً على هذه الرؤية يتم اتخاذ العديد من التدابير التي تسعى للتركيز على الصمود والدور المجتمعي. فعلى سبيل المثال: يحدد المجلس المركزي لإدارة الكوارث التابع للحكومة المبادئ التوجيهية الأساسية للتدريبات ويحدد “خطة تدريبات الحد من الكوارث”، كذلك يتم تخصيص إعلان أيام رسمية مثل: “يوم الوقاية من الكوارث”، و”يوم التطوع للحد من الكوارث”؛ إذ يتم تطبيق برامج وأنشطة كاملة خلالها ولمدة أسبوع[32].
تبدو التجربة التركية مهمة في هذا السياق[33]؛ فعلى الرغم من سعيها لإيجاد بنية قانونية ومؤسساتية للتعامل مع الكوارث، خصوصاً الزلازل[34]؛ إلا أن فجوات وتحديات عديدة استمرت على مستوى البلاد. منها: فجوة التشاركية مع أصحاب المصلحة كالإدارة المحلية والمنظمات غير الحكومية، وضعف منهجية تقسيم الأدوار وتوزيع المسؤوليات. كذلك فرغم تطبيق برامج تثقيفية مهمة فإنها كانت مركزة في المدارس بشكل رئيس وتركز على “ماذا وكيف”، أي: التصرفات الصحيحة؛ لكنها لم تكن فعالة في طريقة إشراك السكان في الاستجابة[35].
ثالثاً: الارتكاز على العوامل غير المادية والشبكات الاجتماعية في الاستجابة للكوارث؛ المجتمعات مصدّات أولية:
أصبحت القضايا المرتبطة بالمجتمع ذات أهمية كبرى في مواجهة الكوارث، سواءٌ من خلال الوقاية منها، أو التخفيف من آثارها السلبية، أو التعافي من آثارها. ولذا أصبحت طريقة تنظيم المجتمع -خاصة المجتمعات المحلية- تلعب دوراً فعالاً في التعامل مع الكوارث؛ وذلك عبر استثمار تنظيمات المجتمع والجهود والطاقات للأفراد والتنظيمات بما يشكّل معاً ما بات يُعرف بالهياكل الأساسية غير المادية التي تعكس القدرة المحلية على التحمل أو مقاومة المجتمع للكوارث. الأمر الذي يرتبط بدور رأس المال الاجتماعي ومكوناته الرئيسة في الأزمات كالثقة الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي، والقيم، والتطوع، والشبكات.. إلخ. فقد أظهرت المجتمعات ذات شبكة العلاقات القوية استجابة فعالة، وأظهرت الروابط الاجتماعية والشبكة الاجتماعية والقيم المشتركة والمعاملة بالمثل عوامل رئيسة في التخلص من الآثار السلبية للكوارث، وأسهمت في توسع خدمات الدعم المختلفة كمشاركة المعلومات ذات الصلة والموارد المنقذة للحياة في فترة حرجة من قبل الأفراد والجماعات، وأفراد الأسرة، والأقارب، والأصدقاء[36].
في سوريا: إلى جانب معاناة الشعب الممتدة منذ 12 عاماً نتيجة الحرب التي شنّها نظام الأسد على السوريين، وجعلت أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر[37]، وشردّت ما يقارب نصفهم، إلى جانب الأرقام المرعبة على مستوى الخسائر البشرية والاقتصادية، وكذلك غياب مؤسسات الدولة التي بدلاً من أن تكون عوناً للسوريين كانت عبئاً عليهم في ظل سيطرة نظام الأسد عليها واستخدامها أداة لمعاقبة الشعب؛ فقد جاءت كارثة الزلزال الذي ضرب شمال غرب سوريا وجنوب تركيا في 6 شباط 2023، ليزيد من الأعباء المتراكمة على كاهل السوريين ويزيد أوضاعهم سوءاً، لاسيما وأن المنطقة تعاني أساساً من تراجع على مختلف المستويات إنسانياً واقتصادياً وأمنياً[38].
على الرغم من حجم الكارثة التي نجمت عن الزلزال، والحاجة الماسة للمساعدات بمختلف أنواعها في المناطق التي تأثرت به مباشرة في شمال غرب سوريا؛ فقد عمد نظام الأسد -كعادته- إلى استخدام “سلاح الحرمان” ضد المناطق الخارجة عن سيطرته، في انتهاك صارخ لأيسر المبادئ الإنسانية[39]، وترافق ذلك مع تواطؤ أممي فاضح في الخضوع لابتزازات الأسد، وعدم المبادرة إلى توجيه المساعدات إلى السوريين في تلك المناطق، بحجة عدم وجود قواعد قانونية تسمح لهم بالدخول إلى المنطقة خارج معبر باب الهوى الذي توقف لعدة أيام نتيجة تأثر الطرف التركي بالزلزال[40]. كل ذلك جعل المجتمع المحلي ومؤسساته المختلفة محكومة بالمواجهة المنفردة للكارثة[41]، وذلك عبر العوامل المجتمعية بشقَّيها الثقافي أو الشبكات أمام استحقاق غير مألوف؛ وعليه نستعرض طبيعة حضور كل عامل من هذه العوامل على حدة في القسمين التاليين.
شكل رقم 2 يوضح مضمون المرونة المجتمعية
شكل رقم 3 يوضح الهياكل غير المادية
المطلب الثاني: مدى حضور العوامل الثقافية في الاستجابة لكارثة الزلزال؛ إمكانية المراهنة على قِيَم المجتمع:
بات ينظر على نطاق واسع إلى أن سياسات وممارسات الحد من مخاطر الكوارث في جوهرها ثقافية ومعرفية؛ لأنها تنبثق وتتشكل إلى حد كبير من خلال تفاعل الثقافات السائدة في كل من المجتمع والمستوى التنظيمي والمؤسسي. لذلك يجب أن يقوم أي مسعى يهدف إلى تحسين جهود الحد من مخاطر الكوارث على فهم وتقدير شاملين لهذا التفاعل، والأهم من ذلك الدور المؤثر للثقافة في طريقة استعداد الناس للكوارث والاستجابة لها والتعافي منها[42].
يمكن تقسيم العوامل الثقافية والمعرفية الى أربع مكونات رئيسة وهي: التطوع والتبرع، الوعي بالمخاطر، الاتصالات وتبادل المعلومات، الثقة[43]، وهي العوامل التي نستعرض حضورها في حالة الاستجابة إلى الزلزال تباعاً.
أولاً: حضور قيم التطوع والتبرع: حضور استثنائي لقيم متجذرة
ارتبطت حركة التطوع ما قبل الثورة عام 2011 بأنماط محدودة ومشوهة ضمن أطر قسرية لنظام الأسد مثل: يوم “العمل التطوعي” للموظفين، ومع تقيد الحقوق والحريات عموماً ومنها العمل والنشاط المدني التي تعد بوابة رئيسية لتطوع الأفراد كانت ثقافة التطوع بهذا المعنى ضعيفة ومهملة[44]، مع وجود مجالات مجتمعية لتقديم تبرعات عبر الجمعيات الخيرية أو النشاط المجتمعي التطوعي عبر المنظمات الشعبية والمؤسسات الدينية بشكل رئيسي[45]، وقد سعى نظام الاسد بشكل ممنهج وعبر مختلف الأدوات لقتل ثقافة التطوع وقيمه وإجهاض أي مبادرة للعمل التطوعي المجتمعي المستقل، إما بشكل مباشر أو غير مباشر[46].
انقلب الأمر بشكل جذري ما بعد انطلاق الثورة السورية وذلك بفعل زوال القبضة الأمنية من جهة وتراجع دور المؤسسات العامة من جهة أخرى بما فتح المجال لتعاظم الدور المجتمعي في سد وتلبية الاحتياجات وهي الحالة التي فتحت آفاق غير مسبوقة للعمل التطوعي في المناطق المختلفة وخاصة خارج مناطق سيطرة نظام الأسد.
مع كارثة الزلزال حضرت هذه القيم بشكل عفوي ومباشر من خلال مساعدة الآخرين مستندة إلى مزيج من الدوافع الدينية والاجتماعية والوطنية والإنسانية التي عززتها وأبرزتها في مجالات شتى واظهرتها على مستويين فردي وجماعي وفي كل من داخل وخارج الجغرافيا السورية على حد سواء[47].
وبما أن هذه القيم كانت ذات حضور كبير واستثنائي بغض النظر عن المكان المتأثر بالكارثة أو المتضامن معها، يمكن تحليل هذا الحضور عبر المناطق الثلاث تباعاً.
أ- في شمال غرب سوريا:
اندفعت أعداد كبيرة من السوريين والسوريات من داخل سوريا وخارجها نحو العمل التطوعي والانخراط المجتمعي[48]، وذلك من خلال المساهمة في كل من: عمليات الإنقاذ والاجلاء وانتشال الضحايا بما يملكونه من معدات بسيطة[49]، ودعم جهود الإيواء المؤقت والاستجابة الطارئة الغذائية والصحية والنفسية معاً[50]، كما ساهمت في نقل المتضررين من كارثة الزلزال الى المناطق الأكثر أمناً وصولاً لعمليات دفن الضحايا[51].
يمكن وصف المشهد العام من هذه الزاوية بمثابة خلية نحل -إن صح التعبير- تعمل وتتطوع في شتى المجالات في الداخل والخارج السوري معاً، استمدت هذه الحالة من التفاعل السريع طاقتها الإيجابية من مجموعة شاملة ومتداخلة من القيم والمشاعر[52].
أما التبرع بمعناه المباشر أي التبرعات النقدية والعينية، فقد ارتبطت بشكل كبير بحركة التطوع، إذ نشط المتطوعون في جمع التبرعات العينية والنقدية ومن ثم البحث عن المتضررين وايصال هذه المساعدات إليهم، وقد برز في هذا السياق تركيز الكثير من المغتربين السوريين على متطوعين أفراد لاستلام تبرعاتهم النقدية بدلاً من الحملات المؤسساتية المنظمة؛ ولعلَ أبرز الأسباب كان ضرورة الاستجابة السريعة وإشباع الرغبة بالمساعدة المباشرة -من خلال أشخاص موثوقين – بعيداً عن الإجراءات الروتينية التي تسير فيها المؤسسات عادة[53]، فضلاً عن إشكالية الثقة التي تفتقدها شريحة واسعة من الأفراد بها[54].
ولم تكن عملية التطوع لتحمل هذه المسؤولية أي إيصال التبرعات بالعملية البسيطة، حيث انطلق “حاملوا الأمانات” للبحث عن المتضررين من الزلزال في أماكنهم الجديدة أو في المشافي خاصة في الأيام الأولى[55]، وهي عملية طويلة وشاقة في ظل حالة من الفوضى العارمة التي تخللها وجود ادعاءات غير حقيقة عن حالة تضرر أو عدم تلقي مساعدات[56].
بدوره حضرت قيم التطوع والمساعدة والتبرع لدى القطاع الخاص وعبر أشكال عديدة حيث ظهرت أنماط من المبادرات الفردية؛ منها: قيام أصحاب شبكات الانترنت في المنطقة رغم الاضرار الاقتصادية ونقص الخدمات بفتح الانترنت مجاناً للأهالي[57]، ومساهمات المتعهدين والشركات الانشائية وصولاً للأفراد بتقديم الآليات الخاصة بالإنشاءات بدون أجور في المراحل الأولى وبأجور تشغيلية في مراحل لاحقة[58]، وكان لدافع “النخوة” أيضاً حضور لدى عدد من الافراد الذين يعملون على آليات من خلال الاستجابة لنداءات المساعدة رغم تردد أصحاب الشركات في بعض الحالات خوفاً على الآليات[59]، كما قدم البعض تبرعات عينية أو تخلى عن هامش الربح المخصص عند معرفته تخصيص المواد للمساعدات للمتضررين من الزلزال[60].
فضلاً عما سبق برزت القيم الإسلامية للشعب السوري في التكاتف وتأدية الصدقات والزكاة كعوامل مؤثرة ومحفزة للسوريين لمساندة جهود الإغاثة والايواء للمتضررين، حيث ركز الخطاب الموجه من المؤسسات الدينية على هذه القيم من خلال إصدار فتاوى وبيانات عديدة منها ما صدر عن المجلس الإسلامي السوري[61]، أو مؤسسات وعلماء مسلمين في شتى دول العالم بمد يد العون للسوريين وبجواز تعجيل الزكاة[62]، حيث حفز الخطاب الموجه من العلماء والمستند للقيم والأحكام الشرعية عمليات تقديم التبرعات والمساندة بشتى أنواعها[63].
أما في داخل القرى والبلدات والمدن السورية المختلفة فقد أطلقت المساجد نداءات استغاثة وتم حث الأهالي على التبرع والمساعدة بشتى الأشكال رغم ضيق ذات اليد في كثير من المناطق التي تعاني أصلاً[64]، وأصبحت خطب الجمع مخصصة للحديث عن التكافل والتعاضد والمساندة مع تنفيذ حملات لجمع التبرعات[65].
على الرغم من المظاهر الإيجابية الكثيرة لحضور قيم التطوع إلا أن مظاهر سلبية أيضا كانت حاضرة لعل أبرزها: يرتبط بضعف الخبرة والتنظيم لدى المتطوعين، والذي كان له دور مباشر في عشوائية العمل وتكرار الجهود، فضلاً عن اندفاع البعض للتطوع لتحقيق غايات وأهداف شخصية انتهازية لا تخلو منها أي أزمة.
ب- في مناطق سيطرة نظام الأسد:
بعد انطلاق الثورة السورية وبحكم التغيرات الاجتماعية العديدة التي فرضت نفسها، نشطت حركة التطوع في مناطق سيطرة نظام الأسد وأصبحت قيم التطوع بمعناه العام أحد المرتكزات الأساسية لشريحة واسعة من الفقراء والفئات المهمشة، وبغض النظر عن سيطرة نظام الأسد على العمل التطوعي والمدني واستخدام الملف الإنساني كبوابة لاستدامة الحرب عبر واجهات رئيسية أبرزها: الهلال الأحمر والأمانة السورية للتنمية[66]، فقد لعب التطوع والتبرع بمختلف معانيه دوراً في استمرار الحياة مع الضغوط الاقتصادية والأمنية الهائلة.
مع بداية الكارثة أسهم المتطوعون الافراد كحال مناطق شمال غرب سوريا في عمليات الإنقاذ والاجلاء وتأمين الغذاء والاحتياجات الأساسية للشرائح المتضررة من الزلزال، وكذلك في النشاط الإعلامي ومناصرة عمليات الاستجابة والرقابة على عمليات توزيع المساعدات ونهبها[67]، في الوقت الذي نشطت “سياسياً” شريحة كبيرة نسبياً بعملية المناصرة الإعلامية على كافة الوسائل لرفع العقوبات عن نظام الأسد وتبني روايته عن حجم الكارثة وآثارها[68].
بالتركيز على مظاهر التطوع غير المسيسة فقد واجه المتطوعون العديد من العقبات والتحديات الظاهرة، والتي وصلت لحد سرقة المساعدات التي يشرفون على جمعها، أو تقديمها، او اعتقالهم بشكل مباشر، أو ممارسة مختلف أصناف الإساءة والضغط بحقهم[69]، وهي الحالة التي لم تقتصر على السوريين حيث تعرض متطوعون أجانب للتضيق خلال نشاطهم لتقديم المساعدات[70].
كانت السمة العامة للأجهزة الأمنية هي عرقلة تقديم المساعدات عبر رفض إدخال المساعدات الأهلية إلى مراكز الإيواء، وهو ما دفع المتطوعين إلى تقديم رشاوى للمفارز الأمنية المسؤولة عن مركز الإيواء حتى تسمح لهم بالدخول وتقديم المواد الغذائية، ومع محاولة بعض المتطوعين الحصول على تراخيص لمبادراتهم من خلال مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل، تفاجأوا بوجوب إجراء معاملةٍ طويلةٍ ومعقدة، والخضوع لدراسةٍ أمنيةٍ تطال جميع الأفراد المنخرطين في المبادرة، وأن تكون حساباتهم البنكية مراقبةً إلي حين توقّف المبادرة وحصولهم على براءة ذمة من المديرية[71].
إلى جانب التطوع، برز دور التبرعات بشكل مباشر والتي تم تحفيزها بنداءات من المساجد والكنائس لجمع التبرعات من السوريين رغم انخفاض القدرات المادية لهم في ظل انهيار اقتصادي شامل[72]، كذلك تحركت الهيئات الدينية ممثلة بالهيئة الروحية لطائفة الدروز، ودار الطائفة والكنائس والجامع الكبير لتنظيم حملات الإغاثة بالتعاون مع المجتمع المحلي والمغتربين في الولايات المتحدة الأميركية[73]، كما برز دور التبرعات الأهلية كما حصل في درعا وخارجها والتي اشتملت على جمع تبرعات مالية ضخمة، حيث أرسل قسم كبير منها إلى مناطق شمال غرب سوريا في إطار من السرية وبدافع من أن تلك المناطق تأثرت بشكل أكبر من المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد[74].
ج- في مناطق شمال شرق سوريا:
تعد مناطق شمال شرق سوريا منطقة ذات بينة عشائرية من الناحية الاجتماعية بشكل عام، وهو ما ارتبط باحترام مجموعة من القيم المجتمعية الاصيلة المرتبط بالعادات والتقاليد، مثل: قيم الفزعة وإغاثة الملهوف، وهو الأمر الذي انعكس على التطوع لمساعدة الآخرين في شتى المجالات بوصفه فضيلة أخلاقية، وكحال باقي المناطق التي أصبحت خارج سيطرة نظام الأسد بعد الثورة السورية فقد نشط المجتمع المحلي في مجالات عديدة، وتشكلت الكثير من الفرق المجتمعية التي عملت على تعزيز قيم التطوع وتنميتها، وتقديم الخدمات في مجالات متنوعة: مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والإغاثة، والتنمية المجتمعية، على الرغم من التحديات[75].
مع حصول كارثة الزلزال بدأت قيم التطوع في الظهور كدافع للأفراد والنشطاء لمساندة المناطق المنكوبة رغم وجود انقسام جغرافي بفعل خطوط النزاع المرسخة سابقاً، ووجود مجموعة واسعة من التحديات التي أفرزها الانقسام المجتمعي، وقد انطلقت جهود وعمليات واسعة لجمع التبرعات وتنظيمها سواء أكانت عينية أم مادية وتم الإعلان عن حملات ومبادرات تطوعية عديدة، كان من أبرزها حملة “الفزعة الرقاوية” و” فزعة الفرات” وتم إرسال الأموال من خلال الحوالات وإرسال القوافل مع متطوعين لنقلها وتسليمها في المناطق المنكوبة رغم التحديات والمخاطر السياسية العديدة[76]، إلى جانب الحملات الكبرى نشطت مجموعات كبيرة من الأفراد في عمليات جمع التبرعات وإرسالها بعيداً عن أي إشراف وتدخل رسمي[77]. كل ذلك ترافق بسعي “قسد” لتسييس العملية ومحاولة تحقيق مكاسب سياسية ودعائية[78].
ثانياً: مدى الوعي المسبق بخطر الكوارث الطبيعية وتأثيرها: الاستفادة من ذاكرة الألم
تعد معرفة السكان بالكوارث الطبيعية ومنها الزلازل عامل رئيسي وهام في مدى قدرتهم على مواجهة المخاطر بوصفها محفزاً للاستعداد وعاملاً مخففاً للأضرار بشتى أنواعها[79]، وهي المعرفة التي تتولى عادة السلطات الحكومية بشكل أساسي والمنظمات غير الحكومية بشكل مساند مهمة نشرها وتدريب الجمهور عليها[80].
في الحالة السورية ما قبل عام 2011 لم تكن فكرة الكوارث الطبيعية كالأعاصير أو الزلازل حالة حاضرة في الوعي العام على مستوى الفرد والجماعة والمؤسسات، وهو ما يمكن أن يعود فضلاً عن فشل النظام الاستبدادي في شتى المجالات الحوكمية[81]، إلى عامل آخر وهو أن الكوارث الطبيعة لم تكن حالة مألوفة في سوريا على الأقل في العصر الحديث على الرغم من الخطورة الهائلة التي تعود للسياق التاريخي والذي يتضمن تجارب عديدة من الزلازل تبعاً لتموضع سوريا على الصفائح التكتونية ووجودها على خطوط نشطة وخطرة[82].
بالانتقال إلى مرحلة ما بعد انطلاق الثورة السورية استمرت حالة غياب التوعية بالكوارث بما فيها الزلازل في مختلف مناطق السيطرة، ومع اندلاع العمليات العسكرية في مختلف أرجاء سوريا بفعل الحرب التي شنها نظام الأسد وحلفائه، واعتمادهم على سياسة الأرض المحروقة، واستخدام كافة الوسائط النارية بما فيها الأسلحة المحظورة كالبراميل والحاويات المتفجرة[83]، والأسلحة العنقودية[84]، والأسلحة الكيماوية.. الخ[85]، في استهداف المدن والبلدات، فقد انطلقت جهود متعددة لنشر الوعي بمخاطر تلك الانتهاكات وخاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، حيث قامت المنظمات الدولية والمحلية مثل: الخوذ البيضاء وغيرها، بالعمل على نشر الوعي[86]، إلا أن ذلك لم يشمل بطبيعة الحال التوعية بالزلازل في مختلف مناطق السيطرة.
مع كارثة الزلزال، كان ما تعرض له السوريون بعد عام 2011 من قصف وتدمبر على يد نظام الأسد أحد العوامل التي لها أثر واضح في طريقة تعاطيهم مع كارثة الزلزال، وهو ما شكل عاملاً مساعداً في امتصاص الصدمة لدى بعض الشرائح والتحرك سريعاً للمساهمة في خدمة المجتمع والآخرين[87]، رغم ذلك فإن حجم الكارثة وانتشار آثارها على نطاق جغرافي وبشري واسع، كان مشهداً غير مألوف سواء بالنسبة للأفراد وحتى للمؤسسات الرسمية منها والمدنية على حد سواء وهو ما أدى لمظاهر سلبية عديدة كالفوضى وتأخر الاستجابة في شمال غرب سوريا[88].
أما في مناطق نظام الأسد ومع ترهل مؤسساته وفسادها فقد اعتمدت عمليات الإنقاذ في اليوم الأول من الكارثة وخاصة في حلب وحماه بشكل رئيسي على الجهود الشعبية وتطوع الافراد ومع نقص الخبرات والمعدات، وحالة الفوضى العارمة كانت الكثير من الجهود المبذولة غير ذات جدوى[89].
في المقابل وباعتبار مناطق شمال شرق سوريا لم تكن مناطق متأثرة فعلياً بكارثة الزلزال فإن المعرفة والخبرات المرتبطة بجانب الحشد والمناصرة والتنظيم انعكست بشكل إيجابي على سرعة تنظيم الحملات الشعبية والمدنية وتنظيم عمليات التبرع وتجهيز القوافل وإرسالها[90].
ثالثاً: شبكة الاتصالات وتبادل المعلومات: سلاح ذو حدين
تعد الاتصالات التي تربط بين الناس أحد أهم المظاهر الرئيسية لرأس المال الاجتماعي فهي لا تقتصر على تبادل المعلومات فحسب، بل تهدف أيضا إلى التوصل إلى تفاهم متبادل؛ وفي هذا السياق تعد الموثوقية والشمول وحسن توقيت المعلومات أول عناصر وجود فعل اجتماعي في مختلف مستويات المجتمع، كما تشير نوعيتها وكثافتها إلى مدى تطور الشبكات الاجتماعية وتأديتها لوظائفها[91]، وفي حالة الكوارث تحديداً تلعب المعلومات دوراً مهماً في الحد من الكارثة والخسائر، حيث يتطلب الحصول على معلومات كافية وجود بيانات فعالة من حيث التكلفة وفي الوقت المناسب وبمستويات عالية من الدقة والتفاصيل[92].
في الحالة السورية تاريخياً لم تعرف البلاد في ظل نظام الأسد أي انفتاح أو ممارسة حقيقة لنقل المعلومات وتداولها بوصفه حق من الحقوق المكفولة في القانون الدولي تحت مسمى الحق في الحصول على المعلومات وبكونه حقاً شديد الصلة بحقوق أخرى كحرة الصحافة والتعبير[93]، أما بعد انطلاق الثورة السورية، ومع التطورات التقنية ونشوء الكثير من المواقع والشبكات والمجموعات المختلفة لتداول الأنباء والمعلومات، فقد ازداد الاعتماد على هذه الشبكات خصوصاً في ظل الحاجة لها نتيجة تشتت الأسر السورية والشبكات الاجتماعية في مختلف أنحاء سوريا والعالم[94].
مع كارثة الزلزال، يمكن التمييز بين نموذجين لإنتاج المعلومات وتداولها بخصوص عمليات الإنقاذ والخسائر والاحتياجات[95]، حيث أدى غياب الدور الحكومي الفعال في مناطق النفوذ التركي لفجوات في المعلومات وهو ما جعل إنتاج المعلومات وتداولها عملية مجتمعية عبر غرف الواتس آب ومجموعات مواقع التواصل كآلية لسد الفجوات، الأمر الذي أثار إشكاليات حول الدقة والعشوائية والتناقض فضلاً عن عدم التحديث للمعلومة التي تكون صحيحة في زمن وخاطئة في آخر، في حين أن مناطق سيطرة “حكومة الإنقاذ” كانت في حالة إنتاج معلومات مركزية عموماً وتداول معلومات وبيانات رسمية نسبياً مع خفض دور الشبكات الاجتماعية والأفراد في إنتاج المعلومات وتداولها[96].
بالمقابل، كان هنالك عدة أوجه إيجابية في تبادل المعلومات؛ على سبيل المثال: كان للمعلومات التي قدمها الأفراد كالأصدقاء والأقرباء دوراً مهماً في الوصول إلى المصابين تحت الأنقاض[97]، كما أسهم الأفراد والفرق التطوعية والمنظمات بدورهم في تقديم المعلومات وتبادلها حول أماكن وجود المتضررين وبيانتهم، الأمر الذي فتح الباب أمام الوصول لهم فعلياً وتحقيق عدالة نسبية في توزيع المساعدات عليهم[98]، كذلك ركزت شبكات المعلومات والاتصالات على مساعدة الأهالي بمعرفة أخبار أقربائهم ومصيرهم وانتقلت لتتحول لمبادرات تطوعية عبر استخدام الشبكة[99].
بالانتقال إلى مناطق سيطرة نظام الأسد فقد استخدمت شبكة الاتصالات والمعلومات المسيطر عليها من قبل أجهزة نظام الأسد وجيشه الالكتروني في ظل الكارثة كفرصة سانحة لتسييس الكارثة، والحصول على أكبر قدر من المكتسبات، حيث ركزت الحملة الدبلوماسية الموازية عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي على فكرتين أساسيتين هما: ضرورة رفع العقوبات عن نظام الأسد[100]، وأن الزلزال دمر المدن السورية، في محاولة لطمس حقائق تدمير المدن سابقاً على يد النظام نفسه، وبالتالي السعي للحصول على أموال إعادة الأعمار على اعتبار أن هذه الأموال غير متاحة حالياً في حال توصيفها كآثار للحرب والقصف[101]، وهي الامنيات الرئيسية التي يسعى النظام وحلفائه لتحقيقها منذ فترات طويلة[102]، في مقابل ذلك أسهمت الشبكات وعمليات نقل المعلومات في فضح ممارسات نظام الأسد وعمليات سلب ونهب المساعدات[103].
أما في مناطق شمال شرق سوريا فقد أسهم وصول معلومات تفصيلية من أعضاء شبكات اجتماعية وأصدقاء عن الحالة المأساوية والاحتياجات في تعزيز عمليات الدعم والتبرع والثقة في وصولها للمحتاجين، وقد ركز المتطوعون في قيادة هذه القوافل على وضع المجتمعات المتبرعة في صورة تفصيلية عن مصير المساعدات وكيفية توزيعها وهو ما عزز التفاعل العام[104].
رابعاً: الثقة المجتمعية وتأثيرها الإيجابي: صعود مؤقت كاف للاستجابة
يشير مفهوم الثقة عموماً إلى “توقّع متفائل واطمئنان نحو كفاءة وإخلاص الآخرين أفراداً ومؤسسات”[105]، في حين تعرف الثقة على المستوى الفردي بـ: “توقع قصدي تعميمي يكونه الفرد بإمكانية التعويل على ما يصدر عن فرد آخر أو جماعة أخرى من كلمة أو وعد أو تصريح لفظي أو مكتوب”[106].
تؤثر الثقة بمستوى الترابـط الاجتماعي وثقافـة المسـاعدة المتبادلـة وهو ما يؤدي إلـى مخرجـات رئيسـية تتعلـق بأثـر الكـوارث. ولطالمــا تــم الاعتراف بالتماســك الاجتماعي والمشـاركة المجتمعيـة التي تنتج عن الثقة الاجتماعية باعتبارهـا عوامـل رئيسـة للإدارة الناجحـة لمخاطــر الكــوارث، لذلك من المهم فهــم العناصــر الدافعــة للتماســك الاجتماعي وأنماطــه وديناميكيتــه فــي المــدن وتقويــته[107].
واقع الثقة بين السوريين قبل كارثة الزلزال:
تعد الثقة بين السوريين أحد العوامل الرئيسية التي سعى نظام الأسد على مدار عقود لهدمها، من خلال السعي لتأليب المكونات السورية على بعضها البعض (اثنياً وعرقيا وطائفياً. الخ) وتبعاً للاستبداد والفساد والكم الهائل من المظلوميات التي عانت منها المكونات[108].
على مستوى الأفراد، وعلى الرغم من أن مستويات الثقة كانت بينهم مقبولة قبل الثورة[109]، فإن الأحداث التي تلت انطلاقها وسياسة نظام الأسد التي أدت بصورة مباشرة إلى تكريس خطاب الكراهية واستنفار الطائفية وارتكاب المذابح الجماعية وصولاً لارتفاع معدلات الاحتيال والجريمة والخطف.. إلخ، أدت إلى تراجعها خصوصاً في المناطق التي استهدفها نظام الأسد بالقصف والتهجير[110]. إجمالاً، جاءت كارثة الزلزال في ظل مزاج عام من التخوين والشيطنة والاتهامات على مختلف الصعد[111].
تراجع الثقة ليس سمة خاصة بين الأفراد والمكونات فحسب، بل حتى بين منظمات المجتمع المدني، فقد أدت عوامل النزاع المختلفة الى وجود حالة تنافس واستقطاب حاد داخل المجتمع المدني السوري بما شكل حواجز تعيق العمل المشترك، بل تتعدى ذلك نحو الصراع بأشكال مختلفة[112]. إلى جانب ضعف ثقة الأفراد أنفسهم بهذه المنظمات، حيث تميل صورتها للسلبية بشكل عام لديهم[113].
بالانتقال إلى الجانب الثاني من الثقة وهو درجة الثقة في المؤسسات فلم تكن الحالة السورية تاريخياً في ظل نظام الأسد او بعد عام 2011 أفضل حالاً، بل كانت الفجوات ظاهرة بشدة على صعيد العلاقة بين المواطن والسلطات وهو ما يشكل اصلاً أولى أسباب الثورة السورية على سلطة فاقدة للثقة الشعبية، وقد امتدت ازمة الثقة للمؤسسات التي نشأت في ظل الثورة[114].
الثقة ودورها إبان كارثة الزلزال:
هذا السياق السلبي الذي وجدت فيه الثقة المجتمعية، تم تجاوزه إبان كارثة الزلزال، فبدلاً من تجلي ظواهر عدم الثقة على مختلف المستويات الفردية والمؤسساتية، تجسدت مظاهر الثقة التبادلية بصورة واضحة خصوصاً في الأيام الأولى للكارثة، مع تراجعها شيئاً فشيئاً بمرور الأيام.
بداية يمكن ملاحظة مظاهر إيجابية عديدة مستندة لحضور الثقة بين الافراد أو بين الافراد والمؤسسات او بين الجماعات، وهو ما تجلى من خلال:
- الثقة بعمليات جمع التبرعات من قبل الأفراد التي جرت داخل سوريا وخارجها، وتنظيمها توزيعها على المتضررين، والتي سدت إلى حد كبير الفجوة الزمنية التي تخلفها عادة تدخلات المنظمات والمؤسسات المحلية والدولية التي تتطلب وقتاً لتنفيذها، وكذلك من خلال التجاوب السريع مع حملات الفرق التطوعية والمنظمات الإنسانية[115]، وهو ما كان واضحاً عبر سبر التعليقات المختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي أو التضامن الشعبي على أرض الواقع[116].
- حالة التضامن كمؤشر على الثقة بالمكونات الأخرى العابرة للمناطق، سواء عبر الحديث عن المواطنة والأخوة والتكافل واغفال الحديث المعتاد المتضمن الشماتة والكراهية وتحميل المسؤوليات باستثناء بعض الأصوات الشاذة من بعض مؤيدي نظام الأسد[117]. أو عبر ممارسات إيجابية داعمة تمثلت بشكل رئيسي بالمبادرات الأهلية من مناطق شمال شرق سوريا وحملات حوران الجبل والسهل، والتي لاقت أصداء إيجابية واسعة لدى السوريين لتعيد التذكير بالمصير المشترك ووحدة الشعب السوري[118].
- الثقة المتبادلة “نسبياً” بين المؤسسات والفرق التطوعية والقائمين عليها[119]، والتي ساهمت -عند حضورها- في تبادل المعلومات فيما بينهم عن أماكن التوزيع وطبيعة التدخل وحجمه[120]، مما كان له دور مهم في تحقيق عدالة أكبر في الاستجابة[121]، وتفادي التضارب وتكرار الجهود والمشاريع الذي كان سابقاً أقرب إلى السمة العامة في عمل هذه المؤسسات والفرق.
مع مرور الوقت، عادت حالة عدم الثقة إلى ما كانت عليه، ساهمت عدة سلوكيات ومظاهر في عودة الثقة إلى حالتها المتدنية مثل: استغلال الكارثة من البعض لتحصيل أكبر كم من المكاسب مثل قيام بعض سكان المخيمات بترك خيامهم والانتقال لمراكز الايواء الطارئة من أجل الحصول على المساعدات المخصصة لمتضرري الزلزال[122]، وقيام بعض التجار برفع أسعار السلع التي زاد الطلب عليها بشكل مبالغ فيه[123]، إلى جانب انتشار حملات التخوين والتحذير من سرقة المساعدات[124]، وانعدام العدالة في توزيعها وجمع التبرعات الوهمي، أو توزيعها على أساس عرقي أو عشائري[125]، كذلك ظهرت أزمة العلاقة بين المنظمات الإنسانية والفرق التطوعية؛ فالأولى نظرت إلى الثانية على أنها “دخيلة” على العمل الإنساني وضعيفة الخبرة، وبالمقابل اعتبرت الثانية نفسها أكثر موثوقية ومرونة من المنظمات.
بالانتقال إلى مناطق سيطرة نظام الأسد كانت ضعف الثقة حاضرة في عرقلة جهود الاستجابة المجتمعية بشكل واضح، فمع وجود السيطرة الأمنية والميليشياوية من اللحظات الأولى على ملف المساعدات والتبرعات كان الحديث دوماً عن مصيرها حاضراً، وعن جدوى تقديمها لمؤسسات أو جمعيات أو أفراد على حد سواء[126]، وخاصة مع عشرات الحالات التي ظهرت إعلامياً وتحدثت عن سرقة هذه المساعدات من قبل الأجهزة الأمنية والشبيحة[127]، وهو ما جعل البعض يعزف عن تقديم التبرعات للحملات المنظمة في مناطق عديدة كالسويداء، في حين فضل البعض إرسالها كنوع من التضامن الوطني حتى لو كان وصولها غير حتمي[128].
شكل رقم 4 يبين تبدلات الثقة المجتمعية في سوريا قبل الزلزال وعقبه
المطلب الثالث: مدى حضور الشبكات الاجتماعية في كارثة الزلزال: الهياكل التي يعول عليها
على نطاق واسع بات ينظر إلى الشبكات الاجتماعية وأدوارها على أنها ذات أهمية كبيرة في الحياة الاجتماعية عموماً وفي المرونة المجتمعية بمواجهة الكوارث على وجه الخصوص، فهذه الشبكات تعد مصدراً رئيساً للعديد من الجوانب الإيجابية كتقديم المساعدة لأفرادها ومساندتهم للتعافي[129]، وبالمعنى المعاكس فقد أظهرت التجارب أن الفئات التي لا تحوز على شبكات قوية كمجتمعات المهاجرين وكبار السن والمقيمين الجدد أكثر تأثراً بالكوارث ويحتاجون لدعم خاص[130]، على عكس الفئات التي تنتمي لشبكات اجتماعية يمكن أن تمثل مورداً يمكن الاعتماد عليه عقب الكارثة[131].
تنقسم هذه الشبكات إلى نوعين رئيسين، هما: التقليدية والحديثة (ينظر الشكل رقم 5).
شكل رقم 5 يوضح أنواع الشبكات الاجتماعية
أولاً: حضور الشبكات الاجتماعية التقليدية وأدوارها[132]: الأسس الثابتة
تلعب الشبكات المجتمعية التقليدية وأبرزها الروابط على أساس النسب والدم كالعشيرة أو التجمعات المناطقية والهيئات الدينية دوراً هاماً في صمود المجتمعات في الحالات الاستثنائية، ففي الكوارث يظهر دورها كشبكات أمان تساعد في تحمل الصدمات والتعافي منها، كما يسهم خطاب النخب في هذه الشبكات في كيفية تفاعلها وتضامنها، وتعتمد هذه الشبكات عادة في بنيتها على الثقة بين أفرادها.
في حالات الكوارث وخلال الفترة الأولى بعد وقوع الكارثة عادة ما يتعطل النظام العام مؤقتًا ويظهر فراغ مؤسساتي فيه، وهنا تبرز أدوار الشبكات الاجتماعية في جهود البحث والإنقاذ، أي أن أعضاء الشبكة الاجتماعية للأشخاص الضحايا في المنطقة تتحمل بداية العبء الأكبر ريثما تصل كوادر الإنقاذ، وحتى بعد وصولهم عادة ما يحتاجون لدعم الشبكة الاجتماعية مثلاً كمصدر للمعلومات وتحديد ما تبقى من الضحايا، أما بعد الكارثة فيتمثل دورها الرئيس في تقديمها للدعم الاجتماعي بمختلف جوانبه بما فيه الدعم العاطفي[133].
خلال كارثة الزلزال لعبت الشبكات الاجتماعية التقليدية “غير الرسمية” ابتداء من الأسرة وصولاً للعشيرة والمنطقة دوراً بارزاً في عمليات الإنقاذ والبحث عن المفقودين، وأسهمت في عمليات جمع التبرعات وتقديم الخدمات والدعم المادي والمعنوي، حيث ظهرت حالات كثيرة من التبرع الذي قدم داخل إطار الشبكة الواحدة وكان شرط من قبل المتبرعين وخاصة على صعيد شبكات الريف مقارنة بشبكات المدينة[134]، وقد ظهر دور الترابط الأسري بوضوح مع مراعاة عامل الضرر والحاجة كمعيار مقتصر على أعضاء الأسرة الممتدة[135].
ويمكن ملاحظة دور الشبكات الاجتماعية في الايواء بوضوح إ ذ لم تتعرض العوائل المتضررة ذات الشبكات الاجتماعية القوية إلى حالة شتات واعتمدت على الإقامة عند الاقرباء، وهو ما لوحظ مثلاً عند السكان الأصليين وغالبيتهم من المواطنين الأكراد في مناطق عفرين، ذلك أن وجود الاقرباء والأصدقاء في القرى الأخرى القريبة ممن يملكون منازل وأراضي وعقارات مختلفة وتكافل الشبكة الاجتماعية مع بعضها البعض أمّنّ لقسم كبير منهم مساعدة مهمة في اللحظات الحرجة، في مقابل تشرد الغالبية العظمة من النازحين للمناطق ذاتها بسبب عدم وجود أقارب في أماكن آمنة نوعاً ما، ولم تتضرر بالزلزال، أو لأن أعضاء الشبكة الاجتماعية -الذين هم نازحون أيضاً- في حالة مادية أو سكنية لا تسمح لهم بالمساعدة[136].
فضلاً عما سبق، برزت مظاهر إيجابية بين المتضررين أنفسهم بما يمكن تسميته بتضامن الضحايا كشبكة واحدة، حيث أسهم بعض الأشخاص من المتضررين من الكارثة في الإعلام عن أسر أخرى لم تحصل على أية مساعدات أو أنها في أوضاع مادية أسوأ بكثير منهم[137].
إلا أن آثاراً سلبية عديدة ظهرت جراء ذلك حيث أدى تضامن الشبكة فقط مع أعضائها بدوره إلى تعزيز الحساسيات والانقسام في المناطق المنكوبة إذ حصل البعض على مساعدات عديدة تأتي كمساعدة مخصصة لأبناء المنطقة أو العشيرة في مقابل عدم حصول آخرين عليها، وهو ما ظهر بشكل أوضح في منطقة غصن الزيتون التي تتسم أصلاً بوجود تجمعات كبيرة على أساس مناطقي[138].
ثانياً: حضور التنظيمات المجتمعية الحديثة وأدوارها: خطوة جديدة نحو النضج
يقصد بتنظيمات المجتمع المدني مجموعة المنظمات غير الربحية التي تتمتع باستقلالية في اتخاذ القرارات بعيداً عن سلطة الحكومة المباشرة، سواء في النواحي المالية أو الإدارية أو التنظيمية، والتي لديها قدرة على العمل بحرية. وتضم: النقابات العمالية، والمنظمات الخيرية والدينية، والجمعيات المهنية والنسوية والطلابية، والهيئات الحرفية، والمراكز البحثية.. الخ[139].
تلعب تنظيمات المجتمع المدني المحلي في الدولة المتضررة من كارثة طبيعية دوراً رئيسياً في التوعية والتصدي والتعافي من آثار الكوارث[140]. لذلك، أصبحت مشاركة المجتمع المدني أولى “الضرورات العشر” لبناء القدرة على التكيف والصمود وفقاً للأمم المتحدة[141]، كذلك توجهت مجموعة من التشريعات في العديد من بلدان العالم للإقرار بالدور المهم للتنظيمات المدنية في حالات الكوارث ووجوب تقديم التسهيلات المختلفة لها[142]، وأشارت الكثير من المؤتمرات إلى أهمية تعزيز مشاركة المجتمع المدني في خطط الحد من أخطار الكوارث على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية[143].
في سوريا كان للمجتمع المدني السوري بمعناه الواسع بما يشمل المنظمات غير الحكومية والنقابات والتجمعات السياسية دوراً بارزاً في الحياة العامة خلال نهابة العهد العثماني مروراً بمرحلة الانتداب الفرنسي ووصولاً لحقبة الاستقلال الوطني، أما بعد انقلاب البعث عام 1963 وتحديداً بعد سيطرة نظام الأسد على السلطة وترسيخ قبضته على الدولة والمجتمع بمحطات متلاحقة فقد تلاشت أدوار هذه القوى الوليدة وتم تقييد القوى المجتمعية في أطر وقوالب تخدم اجندة النظام وسياساته.
أما مع بداية الثورة بدأت تنظيمات المجتمع المدني السوري بأخذ مكانها في المناطق الخارجة عن قبضة نظام الأسد بشكل أساسي، مع ظهور بعضها داخل مناطق سيطرة الأخير، بهدف استخدامها واجهة لامتصاص الأموال والمساعدات المقدمة للسوريين واستخدامها في حربه ضدهم[144].
مع وقوع كارثة الزلزال برز دور التنظيمات المدنية بشكل واضح، ومارست أدوراً عديدة مهمة خاصة خارج مناطق سيطرة نظام الأسد، وأسهمت في تخفيف الأضرار والعمل على إدارة عمليات الاستجابة والتعافي، وفي مقدمة هذه التنظيمات فقد برز دور المنظمات غير الحكومية والنقابات.
أ- دور المنظمات غير الحكومية السورية في مواجهة كارثة الزلزال:
تشمل المنظمات غير الحكومة في الحالة السورية كما هو حال التجارب الأخرى طيف واسع من الفرق والجمعيات والمنظمات العاملة في قطاعات مختلفة، وبهدف الإحاطة بأدوار المنظمات غير الحكومية في الحالة السورية يمكن تتبع هذه الأدوار في كل من المناطق الثلاث على حدة، وفق ما يلي:
1- في مناطق شمال غرب سوريا:
على الرغم من حجم الدمار الواسع الذي خلفه الزلزال، والإمكانات المتواضعة، كان للدفاع المدني “الخوذ البيضاء” دوراً مباشراً وأساسياً في إنقاذ الضحايا من تحت الأنقاض، وذلك رفقة المبادرات الأهلية والفرق التطوعية بشكل رئيسي في كل من حلب وإدلب بشكل متوازي وهو ما أدى في ظل حجم العمل الكبير إلى وصل الليل بالنهار ولأيام متواصلة لجميع الكوادر، وهو ما دفع السوريين لوصف هذه الأعمال بالبطولية[145].
مع انتهاء عمليات الإنقاذ تحول دور الدفاع المدني لعمليات التعافي حيث أعلن عن إطلاق مرحلة إزالة الأنقاض من المدن والبلدات المنكوبة في شمال غربي سوريا وفق خطة استجابة محددة، بالتعاون مع المؤسسات القائمة، وبما يراعي الحقوق والمتطلبات الأخرى المتعلقة بالممتلكات والمفقودات وطلبات إعادة التدوير[146]، في ذات الوقت انخرطت المؤسسة مع قوى مدنية أخرى في تأسيس تحالف عملياتي لتقدم خدمات بنهج تقاطعي[147].
بالانتقال الى المنظمات غير الحكومية الأخرى فقد أسهمت أبرز المنظمات الإنسانية السورية والفرق المحلية الصغيرة في دعم عمليات التطوع وخاصة عبر تنظيم حملات التبرع وتقديم خدمات الاستجابة الطارئة والمساعدة في إعداد مراكز إيواء عديدة وتقديم المواد الغذائية للمتضررين[148]. إلى جانب المساهمات المهمة للمنظمات الإنسانية السورية في عملية الاستجابة المباشر، أسهمت الفرق الصغيرة التي يغلب عليها الطابع التطوعي بأعمال مهمة قياساً بقدراتها المتواضعة وخبراتها السابقة نظراً لوجود الدافع الذاتي[149]، ولكونها تمتاز بالتحرر من القيود الإدارية، حيث أنها كانت قادرة على اتخاذ القرارات الفورية على ارض الواقع[150]، كما تعاونت هذه الفرق بدرجات متفاوتة مع المنظمات الإنسانية العاملة ومع الحملات الدولية مثل القطرية والسعودية التي دخلت المناطق المنكوبة[151].
لم يكتف البعض من هذه الفرق بمواجهة الاحتياجات بمفردها، بل انتقلت لاحقاً إلى تنظيم نفسها ضمن مجموعات أكبر؛ فعلى سبيل المثال تم تشكيل غرفة طوارئ من فرق محلية في منطقة ريف حلب الغربي لتنظيم الاستجابة، وبدأت بالتواصل ومحاولة حشد الدعم الخارجي عبر تقييم الاحتياجات على الأرض واستلام مشاريع استجابة طارئة وتنفيذها[152].
على النحو ذاته، توجهت المنظمات السورية والإنسانية المختلفة لممارسة الأدوار ذاتها عبر تقديم خدمات الاستجابة بمختلف مجالاتها، مع وجود فارق كبير في سرعة الاستجابة بين المنظمات السورية وبين المنظمات الدولية إذ أن الأولى سارعت لفتح مستودعاتها واستنفار كوادرها في مقابل توقف غالبية المنظمات الدولية عن العمل في الأيام الأولى بانتظار الإجراءات والموافقات المختلفة[153]، وعلى هذا النحو مثلت المنظمات السورية أساس الاستجابة ومحركها.
ومع التأكيد على السمة الإيجابية التي صبغت أعمال المنظمات الإنسانية والفرق التطوعية، إلا أنه ظهرت مجموعة سلبيات أدت لتخفيف جودة هذه الاستجابة وفعاليتها. أتت ثغرة العامل التنظيمي والتشاركي بين المنظمات بشكل عام؛ حيث ظهر في بعض الأحيان الدافع الفردي للظهور والدعاية، وإعادة احياء منظمات تعاني من ضعف سابق في التمويل بغية استجلاب الدعم مجدداً[154]، أما بخصوص الفرق التطوعية، فظهرت إشكالية ضعف الخبرة، وصعوبة تلقي الأموال من الخارج نتيجة غياب الحسابات البنكية، ومزاحمة المنظمات الإنسانية بطريقة غير نزيهة في بعض الاحيان أملاً بالحصول على مشاريع ضخمة ممولة، إلى جانب وجود بعض الفرق التي لم تلتزم بقواعد العمل الإنساني ومبادئه.
2- في مناطق سيطرة نظام الأسد:
خلال السنوات السابقة وتبعاً لحساسية ملف المنظمات المحلية منها والدولية بالنسبة لنظام الأسد وأجهزته الأمنية، فإنه سعى للسيطرة عليها وتسخيرها لمصلحته من خلال ثلاث قواعد أساسية هي الاستغلال والتسويق والوقاية؛ وكل هذه القواعد تنطلق من أرضية مشتركة هي السيطرة والتحكم بالملف عبر ابتزاز المنظمات الدولية بأنواعها وفرض رؤيته، وهو ما نجح به غالباً نتيجة تماهي هذه الجهات معه خوفاً من تقييد وصولها أو إغلاقها ، ويُضاف إلى ذلك بالطبع سيطرته المسبقة على المنظمات المحلية لأهمية دورها في التنفيذ مع الجهات الدولية[155].
مع كارثة الزلزال وعلى الرغم من مساهمة الكثير من الفرق والمنظمات المدنية في عمليات الاستجابة المختلفة، وخاصة في تقديم الغذاء والمساعدات البسيطة، إلا أنها لم تخرج عن القواعد السابقة خصوصاً فيما يتعلق بسيطرة النظام عليها، إلى جانب حالات الفساد والإساءة التي أدت إجمالاً إلى سيطرة نظام الأسد على النصيب الأكبر من المساعدات الدولية وحرمان السكان المتضررين منها[156].
من جانب آخر فقد برز مجدداً خلال كارثة الزلزال وما بعدها دور الأذرع الكبرى الناعمة لتحكم نظام الأسد بالعمل المدني والإنساني، وهما: الهلال الأحمر والأمانة السورية للتنمية[157]، كذلك ظهر بوضوح دور الجمعيات التابعة للمشروع الإيراني في سوريا والتي استغلت الكارثة للظهور المكثف علنيا واستغلال حاجات المتضررين في الدعاية والتغلغل الاجتماعي[158].
وجد الهلال الأحمر في كارثة الزلزال فرصة للتوسع في الدعاية لمركزية دوره وأهميته كشريك للمنظمات الدولية وذلك عبر مجموعة من الأنشطة مستفيداً من قدراته البشرية والفنية واللوجستية[159]، بما فيها شراكات واستراتيجيات سابقة[160]، إلا أن كل ذلك لم ينعكس على أرض الواقع؛ حيث ظهرت عدة حوادث تشير إلى وجود الفساد في هيكله[161]. إلى جانب ذلك استمر الهلال الأحمر بتسيس الملف الإنساني من خلال ترويجه لأجندة نظام الأسد فيما يتعلق بالضغط من أجل رفع العقوبات الغربية عنه، والترويج لروايته الكاذبة حول حجم الكارثة[162]. كل ذلك يؤكد الفارق الكبير بين استجابة المنظمات ذات الأجندة الوطنية مثل “الخوذ البيضاء” التي تفانت لإنقاذ أرواح الآلاف من المدنيين العالقين تحت الركام، وبين منظمات مثل الهلال الأحمر همه الأول والأخير هو تلميع النظام المتحكم به.
أما الأمانة السورية للتنمية والتي نشطت أيضا بالتعاون مع أجهزة نظام الأسد في عمليات الاستجابة حيث ركزت بشكل كبير على الترويج الإعلامي فيما يظهر سعياً لإظهار دور فاعل في الكارثة وبغية فتح علاقات مع مؤسسات دولية جديدة[163]، كما حرصت على الظهور كقائدة لأعمال الاستجابة من اللحظات الأولى للكارثة حيث أطلقت دعوات للتطوع[164]، وأعلنت عن قيادة حملة تبرعات وطنية[165]، وأظهرت حرصها للتكامل مع الذارع الآخر وهو الهلال الأحمر[166]، أو التنسيق مع فعاليات وشركاء دوليين[167].
بالنسبة للمنظمات المرتبطة بإيران، جاءت الكارثة بمثابة فرصة إضافية لتأكيد ثقل المشروع الإيراني وحضوره حيث ظهرت أدوات المشروع الخشنة والناعمة معاً[168]، حيث قامت الجمعيات بتوزيع مساعدات للمتضررين وبتقديم خدمات متعددة طبية واجتماعية ممزوجة دائماً بشعارات وصور للتمدد الثقافي والتغلغل الأيديولوجي[169]، كما ركزت هذه المنظمات على تقديم الدعم للحواضن الاجتماعية للمليشيات الإيرانية استمرارا في نهج التجنيد الاقتصادي والمجتمعي[170].
لقد كان هذا النشاط الإيراني غطاء مباشراً لاستمرار سيطرتها في سوريا من خلال مظهرين رئيسين: الأول نقل الأسلحة وتمدد المليشيات تحت غطاء نقل المساعدات الإنسانية، والثاني التهجير والتغيير الديمغرافي في سوريا، عبر إلزام المدنيين ببيع بيوتهم بذريعة أنها “آيلة للسقوط”، أو عبر افتتاح مشاريع إسكان قد تكون في المستقبل مجرّد “مستوطنات” تقوم إيران بإيواء عناصر ميليشياتها فيها[171].
3- في مناطق شمال شرق سوريا:
نشط المجتمع المدني خلال الأعوام القليلة الماضية في شمال شرق سوريا، وقد قامت “قسد” بتنظيم إداري وقانوني للعمل المدني اتسم بشكل عام بمحاولة السيطرة والتحكم.
تمثلت استجابة المنظمات غير الحكومية في المنطقة بشكل عام في مناصرة المنكوبين في المناطق الأخرى وجمع حملات التبرعات، وقد أعلن أكبر تجمع للمنظمات وهو “تحالف منظمات المجتمع المدني في شمال وشرق سوريا” المؤسس عام 2021 بعضوية 178 منظمة محلية في شتى القطاعات[172] عن إطلاق حملة هنا سوريا وارسال المساعدات للمناطق المحررة ومناطق نظام الأسد[173].
ب- دور النقابات في مرونة المجتمعات المحلية بمواجهة كارثة الزلزال:
بعد انطلاق الثورة، تم تنظيم نقابات حرة عديدة، أبرزها: نقابة المحامين الأحرار ونقابة المهندسين الأحرار لتمثل الحالة النقابية الحرة في مناطق قوى الثورة والمعارضة في مقابل استمرار النقابات المسيطر عليها من قبل نظام الأسد، وقد لعبت النقابات في مناطق قوى الثورة والمعارضة أدوارا مهمة وخاصة خلال السنوات الأخيرة من بوابة العمل المجتمعي والسياسي، فضلاً عن قضايا تنظيم المهنة[174]، في مقابل استمرار الأدوار التقليدية للنقابات في مناطق نظام الأسد مع تنفيذ الأجندة السياسية والأمنية له محلياً ودولياً[175].
مع حصول كارثة الزلازل وتبعاً لطبيعة الكارثة بوصفها مرتبطة بالمباني والمنشآت فقد برزت الحاجة لدور نقابة المهندسين في عمليات الاستجابة والتعافي، ودعم عودة الحياة الطبيعة بوصفها من تمتلك الخبرات الفنية المطلوبة إلى جانب المؤسسات المحلية والبلدية.
في مناطق شمال غرب سوريا يمكن تتبع دور نقابة المهندسين في كل من مناطق سيطرة “هتش” ومناطق النفوذ التركي كل على حدة تبعاً لاختلاف أنماط السيطرة، ففي مناطق النفوذ التركي لعبت نقابة المهندسين السوريين الأحرار وفروعها دوراً مهماً في عمليات تقييم الاضرار في الأبنية عبر اللجان الفنية الجوالة، حيث تم الإعلان عن مجموعة طوارئ وتخصيص أرقام معلنة على معرفات النقابة[176]، بهدف إعطاء المشورة حول سلامة البناء وصلاحيته للسكن، وذلك في إطار ” مشروع المسح الهندسي الشامل للمنشآت والمباني”[177]، هذا المشروع الذي قدم خدمة مجانية وبجهود مكثفة لعدد كبير من المباني المحتاجة للتقييم، وفي إطار التنسيق مع المجالس المحلية[178]. وقد كان هذا الجهد المبذول من النقابة والتنسيق مع الهيئات المحلية قد مهد لاحقاً للتنسيق بين عدة جهات من بينها الأخيرة لعقد مؤتمر هندسي لاعتماد ميثاق تشاركي لسلامة المنشآت والبنى التحتية وترشيد الموارد[179].
أما في مناطق “حكومة الإنقاذ”، قامت النقابة وفي إطار لجنة الاستجابة الطارئة[180] بالعمل على الكشف على الحالة الفنية للمباني العامة والخاصة والتي شملت مناطق (إدلب وسلقين وحارم والاتارب وسرمدا وترمانين)[181]، ضمن معايير موحدة في شمال غرب سوريا[182]، فيما أطلقت النقابة أيضا بالتعاون مع منظمات مدنية مجموعة تدريبات ونشرت مجموعة من الفيديوهات التوعوية[183].
بالمقارنة بين أنشطة النقابتين في شمال غرب سوريا يظهر وجود حالتين، تأثرت كل منهما بطريقة التنظيم الحوكمي؛ ففي حين انفردت نقابة المهندسين في مناطق النفوذ التركي في عمل اللجان والمسح بالتعاون مع منظمات راعية، فإنها تعاونت مع لجنة الاستجابة الطارئة، وانخرطت في اللجان المشتركة بين الجهات العامة وبينها، كذلك توجهت نقابة إدلب للتركيز على ترميم الخبرات عبر التعاون مع منظمة دولية لتقديم تدريبات فنية ورفع سوية المهندسين في حين تعذر ذلك في مناطق النفوذ التركي[184].
بالانتقال إلى مناطق سيطرة نظام الأسد فقد شكلت نقابة المهندسين لجاناً تطوعية لتقييم سلامة المباني وتحذير السكان[185]، مع فتح باب التطوع للمهندسين بأسلوب نظام الأسد للتطوع “التطوع القسري”[186]، وإقامة ورشات حوارية وتدريبية. كذلك انخرطت النقابة في اللجان الحكومية المشكلة لأعمال الدراسات الهندسية والعلمية، ولجان السلامة الانشائية[187]، إلى جانب تعاونها مع الأمانة السورية للتنمية في هذا المجال[188].
بشكل عام شاب أعمال هذه اللجان إشكالات عديدة حيث لم تكشف اللجان على جميع الأبنية المتصدعة على الرغم من مطالبات سكانها المتكررة بالكشف عليها، كما سادت الفوضى والعشوائية والفساد عمل بعضها، وسط تدخلات من المسؤولين الأمنيين والعسكريين في عملها[189]. فضلاً عن ذلك فقد حضرت اللمسات الأمنية لنظام الأسد عبر استغلال الكارثة من أجل الاستمرار في مخططات التغيير الديمغرافي من جهة وطمس الحقائق من جهة أخرى عبر التوسع في عمليات الهدم للأبنية وخاصة في أحياء حلب التي دمرها سابقا خلال عمليات القصف تحت ذريعة عدم سلامة هذه الأبنية وهو ما يخدم الأجندة الإيرانية التي تركز على التغيير الديموغرافي وإحلال ميليشياتها محل السكان السوريين الذين هجرتهم رفقة نظام الأسد من مساكنهم[190].
خاتمة:
كان واضحاً الحضور الكبير لثقافة المجتمع وشبكاته وتنظيماته في مواجهة كارثة الزلزال في سوريا بطرق مختلفة، وقد اتضح وخاصة في مناطق شمال غرب سوريا هذا الدور في الأيام الأولى عبر نهج الاعتماد على طاقات وقوى المجتمع المحلي مع تأخر المساندة الخارجية، وهو ما يتوافق مع الحالة العامة التي تجادل في أهمية المجتمع المحلي النشط الذي يوجه المقيمين والأعضاء فيه للعمل التطوعي والجماعي على أساس التفاعلات الاجتماعية والأعراف التاريخية، والذي يحافظ على العلاقات الاجتماعية المتبادلة كشبكات الأمان في الظروف الصعبة.
كشفت التجربة السورية الأليمة عن إمكانية التفكير مجدداً في نماذج جديدة لتعزيز مرونة المجتمع المحلي بما يشمل كيفية استعداده لمواجهة الكوارث واستجابته لها ومن ثم التعافي منها وهو الأمر الذي يمكن أن يعمم في حالات الأزمات الطبيعية والبشرية معاً، كما أظهرت بوضوح جدوى المراهنة على المجتمع السوري في الداخل والخارج وحجم الطاقات الإيجابية الحاضرة بعيداً عن “السلطة الرسمية” التي يمثل غيابها فجوة حوكمية أحياناً إلا أن وجودها بطريقة نظام الأسد يعد أكبر العوائق وأبرز التحديات.
وبما أن السوريين كانوا وما يزالوا أمام كوارث بشرية متجددة تؤدي في كثير من جوانبها لآثار الكوارث الطبيعة ذاتها مثل: التشرد والنزوح وخسارة الأرواح والممتلكات والصدمات النفسية.. إلخ، يبدو أن صانعي السياسات – سواء من السوريين أو المانحين – مدعوون للمحافظة على هذه العوامل المجتمعية وتفعيلها في الاستجابة للكوارث والتعافي منها عبر قواعد ونصوص تساهم في حوكمتها خصوصاً ما يتعلق منها بتكريس الوعي المسبق وإيجاد قواعد لتبادل المعلومات خصوصاً أن هذين الجانبين يحظيان باهتمام متزايد على الصعيد القانوني، بحيث أضحت لهما قواعد قانونية متطورة تنظمهما.
كما يمكن القول بأن العوامل غير المنظورة عادة كالعلاقات والقيم حضرت كمحرك حاسم في مرحلة صعبة ومعقدة، وهو ما يؤكد النظريات التي تنادي بضرورة الانفتاح على المواطنين والتنظيمات المجتمعية بهدف زيادة مشاركتهم في الاستعداد، والتخطيط، والتنفيذ، والتقييم ليس فقط في الظروف الاستثنائية فحسب، وإنما كنهج دائم في مجتمع حيوي ومفتوح.
كان للتطوع والتبرع للأفراد والجماعات وكذلك القطاع الخاص في مختلف المناطق دوراً حاسماً لجهة عامل الزمن والانتشار في تقديم الاستجابة وتخفيف الأضرار، كذلك كان حضور القيم مساهماً في تلافي الآثار السلبية للعامل البيروقراطي للعمل المؤسساتي، إلا ان مظاهر سلبية مختلفة كانت حاضرة في هذا السياق وأبرزها غياب التنظيم والعشوائية والفردية.
كان للخطاب والمؤسسات الدينية دوراً محورياً في تعزيز قيم التطوع والتبرع في مختلف المناطق، وهو ما يظهر العلاقة الإيجابية بينهما. والأمر ذاته ينطبق على شبكة العشيرة التي كان لها دورها الإيجابي أيضاً في تعزيز هذه القيم.
على مستوى الشبكات، كان للشبكات التقليدية كالأسرة والعائلة والعشيرة في مختلف مناطق السيطرة الدور الأبرز في الاستجابة الأولية والمباشرة المتجاوزة للبيروقراطية عقب الكارثة، وهذا ما ترك الأفراد الذين لا يحظون بمثل هذه الشبكات في مناطق وجودهم مثل النازحين، عرضة للهشاشة. إلا أنه بالمقابل لابد من التنويه إلى بعض آثارها السلبية التي تمثلت في انحصار عملية التطوع والتبرع ضمن الشبكة، وهذا ما يفترض معالجته من خلال تعزيز كليهما بحيث يتكاملان خصوصاً على المديين المتوسط والطويل في مجتمع متنوع مثل المجتمع السوري، على اعتبار أن تعزيز هذه القيم يفترض أن يكون حالة وطنية وليس حالة مقتصرة على الشبكة[191].
على الرغم من تشابه الأدوار التي قام بها المهندسون في مختلف مناطق السيطرة من جهة تقييم الخسائر وصلاحية الأبنية من الناحية الإنشائية، إلا أن طبيعة السلطات القائمة كان لها دور مباشر في التأثير على فعاليتها وجودة أعمالها،
لقد كان الطابع الإيجابي هو الطاغي على استجابة القيم والشبكات في شمال غرب سوريا، ومع ذلك كانت هنالك سلبيات في تلك الاستجابة، مثل الفوضى والاتهام بالفساد والهدر ونقص المعلومات وتضاربها أحياناً، كل ذلك يتطلب قواعد حوكمية تكرس المساءلة والشفافية عن كيفية التصرف في أموال التبرعات إن على المستوى الفردي أو المؤسساتي.
على مستوى المناطق، مثلت ذاكرة الألم للسوريين في شمال غرب سوريا -أفراداً ومؤسسات- عاملاً ايجابياً في الوعي للتعامل مع الكارثة الطبيعية من جراء الخبرة المترتبة على مواجهة الانتهاكات المستمرة، مثل: استهداف الأعيان المدنية وعمليات التهجير القسري، إلا أن هذه الذاكرة لم تكن كافية وحدها للتعامل مع كارثة الزلزال نظراً لحجم الدمار وآثاره؛ فالوعي المسبق وإن كان موجوداً حول الآثار نفسها، إلا أنه لم يكن كذلك بالنسبة لحجمها.
لقد ساهمت كارثة الزلزال خصوصاً في الفترة القصيرة التي تلتها في تعزيز الثقة بين الأفراد والمكونات والمنظمات على حد سواء، الأمر الذي أعطى مؤشراً إيجابياً على مستوى عنصر الاتصال وتبادل المعلومات من جهة، وعلى عمل الشبكات الاجتماعية الحديثة التي كان لها الدور الأساسي في الاستجابة والتعامل مع آثار الزلزال، في مقابل ذلك كان لضعف معدل الثقة المجتمعية -ولو نسبياً- أثر واضح على طبيعة الاستجابة، وهو ما يعيد التذكير مجدداً بأهمية التركيز على عوامل تعزيز الثقة المجتمعية بين السوريين وحجم الجهود المطلوبة ابتداء من الأسرة وانتهاء بالمؤسسات[192].
في شمال شرق سوريا، على الرغم من طبيعة النموذج الحوكمي الذي أسسته “قسد” والقائم على الاستبداد والرقابة، إلا أنه منح منظمات المجتمع المدني فضلاً عن المؤسسات التقليدية هامشاً واسعاً للتفاعل الإيجابي مع كارثة الزلزال، تبدى ذلك في قدرة الشبكات الموجودة في تلك المناطق على القيام بحملات مناصرة لجمع التبرعات والتطوع، وتقديم المساعدات العابرة للمناطق.
مثل نظام الأسد بعقليته وسلوكياته البقعة السوداء الأبرز في المشهد السوري عقب الزلزال، حيث أنه لم يكتف فقط بمعاقبة معارضيه والرافضين لوجوده من خلال حرمانهم من المساعدات الإنسانية، بل انسحب الأمر حتى على حاضنته. حيث كانت للسياسات التي تبناها على مدى نصف قرن من حكمه لسوريا، أثرها السلبي والكارثي على معظم القيم والشبكات الاجتماعية، وهو ما تبدى في استجابته بعد الكارثة، حيث دمر قيم التطوع والتبرع من خلال إجراءاته البيروقراطية وسيف الرقابة الأمنية، فقد تعرض المتطوعون والمبادرات الأهلية في مناطقه للكثير من المضايقات التي وصلت إلى تعرض المتطوعين للأذى والاعتقال وهو ما يعيد التذكير بدور النظام في قمع المجتمع وحيويته، كذلك طغت العشوائية على طريقة استجابة المناطق الخاضعة لسيطرته بما يظهر فجوة الوعي المسبق بها، فضلاً عن تسخيره وسائل الاتصالات وجيشه الالكتروني وتسييس المعلومات الخاصة بالاستجابة الإنسانية وحجم الدمار، للمطالبة برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، وبهدف تحصيل أكبر قدر ممكن من المساعدات ومن ثم السيطرة عليها وعدم دفعها لمستحقيها. كل ذلك ساهم في تقويض الثقة في مؤسساته وحتى في منظمات المجتمع المدني العاملة في مناطقه، والتي تحولت إلى ذراع له خصوصاً الهلال الأحمر السوري والأمانة السورية للتنمية، وهو ما يؤكد فرضية أن هذه الشبكات هي أدوات تحكم سلطوية، أكثر منها روافع مجتمعية ومحلية. لم يكتف نظام الأسد بكل ذلك، بل وفي تماه منه مع المشروع الإيراني، منح الميلشيات الإيرانية والمنظمات المرتبطة بها مساحة كبيرة للتدخل وتوظيف الكارثة لتحسين صورتها من جهة، واستخدام المساعدات غطاء لإدخال السلاح من جهة ثانية، في دلالة واضحة على استغلالها الحدث لتكريس نفوذها في سوريا.
ملحق يوضح أبرز المظاهر الإيجابية والسلبية لتفاعل المجتمع وهياكله غير المادية في شمال غرب سوريا
العامل | المظاهر الايجابية | الفجوات والتحديات | |||
العوامل الثقافية والمعرفية | قيم التطوع والتبرع | انقاذ الضحايا واسعافهم | ضعف التنظيم | ||
الاستجابة عبر نقل المساعدات وتوزيعها | ضعف الخبرات | ||||
تأمين المأوى والمسكن | التصدي لمهمات معقدة | ||||
الآليات والمعدات والمواد الأساسية | الغايات الشخصية | ||||
التبرعات النقدية والعينية | |||||
الحشد والمناصرة | |||||
نقل المعلومات | |||||
الوعي المسبق بالكوارث | خبرات الاستجابة الطارئة | غياب الوعي بالكوارث الطبيعية | |||
خبرات الحشد والمناصرة | غياب التدريب والتـأهيل | ||||
خبرات الإنقاذ والاسعاف في انهيارات الأبنية | غياب الخطط والاستراتيجيات | ||||
خبرات جمع التبرعات | غياب الوعي بالتنظيم الجمعي | ||||
شبكة الاتصالات وتبادل المعلومات | دعم عمليات الاستجابة وتنظيمها | فوضى المعلومات | |||
حشد الرأي العام | تكرار المعلومات | ||||
المساهمة في تعزيز العدالة | خطاب الكراهية | ||||
تعزيز الروح الإنسانية والرواية الايجابية | حملات التخوين | ||||
الثقة الاجتماعية | التجاوب مع نداءات الاستغاثة | التخوين | |||
سيادة الروح الوطنية | النزاع بين الشبكات الاجتماعية | ||||
حملات كاسرة لخطوط النزاع | عرقلت توزيع المساعدات | ||||
سرعة تنفيذ عمليات الاستجابة | عرقلت جمع التبرعات | ||||
ترميم فجوات المعلومات | انكفاء عمليات الاحسان والتبرع | ||||
ترميم فجوات غياب الحوكمة | الانغلاق على الشبكة | ||||
الشبكات الاجتماعية | الشبكات التقليدية | الانقاذ | اثارة الحساسيات والنعرات | ||
تقديم المعلومات | |||||
الايواء | |||||
الدعم المادي والتبرعات | |||||
الشبكات الحديثة | الفرق المحلية | انتاج المعلومات وتبادلها | إساءات ناجمة عن نقص الخبرة التنظيمية | ||
الحشد الدولي والمحلي | |||||
الاستجابة الطارئة | |||||
مساندة المؤسسات الأخرى | |||||
تنظيم الطاقات التطوعية | |||||
المنظمات الوطنية | الاستجابة | ضعف الحوكمة | |||
تنفيذ مشاريع التعافي | |||||
النقابات | الحشد والمناصرة | نقص الخبرات والموارد | |||
الدعم التقني الهندسي |
K. Behera, Role of social capital in disaster risk management: a theoretical perspective in special reference to Odisha, India, International Journal of Environmental Science and Technology, 2023.
كرس خطابه للتشبيح لـ “بشار” .. مسؤول لدى النظام: “تردي المعيشة نتيجة طبيعية للصمود”، شبكة شام الإخبارية، 2/5/2023، شوهد في: 8/8/2023.
- بناء سليم(قابل للسكن): لا توجد أي مظاهر خطورة فيه، توجد بعض الشقوق الشعرية البسيطة في العناصر غير الإنشائية.
- ضرر بسيط(قابل للسكن مع ضرورة الإصلاح): توجد مؤشرات (شقوق) متعددة في العناصر غير الإنشائية وبعض المؤشرات البسيطة غير الخطرة في العناصر الإنشائية.
- ضرر متوسط(الإخلاء المؤقت لحين الإصلاح): توجد مؤشرات (شقوق) متعددة في العناصر الإنشائية، وتصدعات خطرة في العناصر غير الإنشائية.
- ضرر جسيم(إخلاء فوري وإحالة الملف للجنة السلامة): توجد مؤشرات على بداية حدوث انهيار، المبنى يشكل خطر على سلامة شاغليه والجوار.