شهد لبنان منذ بداية شهر نيسان 2023 تصاعد موجات العداء ضد اللاجئين السوريين بشكل غير مسبوق، رافق ذلك قيامُ الجيش اللبناني وفرق من الأمن بملاحقة السوريين والقبض عليهم وترحيل بعضهم قسراً إلى الحدود السورية، وتسليم بعضهم بشكل مباشر لقوات نظام الأسد؛ في انتهاكٍ صارخٍ لحقوق اللاجئين المتفق عليها دولياً.
يُلقي هذا التقرير المختصر الضوء على تطورات هذه الأزمة منذ بدايتها، وذلك عبر استعراض ما نشرته وسائل الإعلام اللبنانية والعربية حول هذه القضية، وما أورده ناشطون سوريون ولبنانيون متابعون للأوضاع في لبنان.
ملف اللاجئين إلى صدارة المشهد السياسي اللبناني مجدداً
بدأ موضوع إعادة اللاجئين السوريين في لبنان إلى بلادهم يتصدر الرأي العام بشكل كبير في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وذلك بعد أن أعلن الرئيس اللبناني ميشيل عون عن عزمه تنفيذ خطة جديدة أعلنها أحد وزرائه قبل شهرين بشكل مستقل دون التعاون مع المنظمات الأممية تقضي بترحيل 15 ألف لاجئ سوري إلى بلادهم شهرياً، بحجة انتهاء الحرب في سوريا وإمكانية عودة اللاجئين إليها بأمان[1].
وكانت تلك الخطة قد أعلنها وزير المهجرين اللبناني “عصام شرف الدين” في شهر آب/أغسطس من عام 2022، وتقوم على التفاوض مع نظام الأسد لتحديد المناطق الآمنة داخل سوريا وإعطاء اللاجئين الموجودين في لبنان مهلة للعودة إلى تلك المناطق[2].
تتذرع السلطات اللبنانية بأن وضع اللاجئين في لبنان لم يعد يُحتمل، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية والفقر المدقع الذي أثّر في حياة نسبة كبيرة من المواطنين اللبنانيين؛ إذ تدّعي أن كلفة وجود اللاجئين السوريين في لبنان تُقدر بنحو 3 مليار دولار سنوياً، مقابل دعم دولي غير كافٍ، ومطالبة الأمم المتحدة بدفع تعويضات بقيمة 30 مليار دولار عن السنوات الماضية، والتعاون مع الخطط اللبنانية التي تهدف لإعادة اللاجئين بعد أن صار الوضع في سوريا “مستقراً وآمناً”[3].
وتنصّ الخطة على إعادة 15 ألف لاجئ ممن تعود أصولهم إلى تلك المناطق “الآمنة” كل شهر، بمعدل يصل إلى قرابة 180 ألف لاجئ في السنة، على أن يكونوا محميين ولهم مراكز إيواء مؤمنة في بلادهم، مع كافة مستلزمات العيش والحياة، من بنى تحتية وكهرباء ومياه صرف صحي وطرقات ومدارس وغير ذلك[4].
وقد قُوبلت هذه الخطة بانتقادات منظمات دولية من بينها “هيومن رايتس ووتش” باعتبارها “خطة غير آمنة، وغير قانونية”، مشيرة إلى أنّ اللاجئين السوريين الذين عادوا بين 2017 و2021 واجهوا انتهاكات حقوقية جسيمة؛ إذ تعرّضوا للخطف والتوقيف والاعتقال والتعذيب والقتل، وذلك رغم نيلهم الإذن من المخابرات السورية[5].
من التحريض إلى التنفيذ
لم تقم السلطات اللبنانية بأية خطوة عملية في الأشهر اللاحقة لإعلان الخطة، باستثناء حملة من التصريحات الإعلامية الواسعة تضمنت العديد من الافتراءات والأخبار الكاذبة، في محاولةٍ لكسب القبول الشعبي وتهيئة الرأي العام؛ فبدأت بشيطنة وجود اللاجئين السوريين في لبنان، وبتحميلهم مسؤولية كل المشاكل التي تعاني منها البلاد، خاصة أزمة الوقود والقمح، ومهاجمة مفوضية اللاجئين بسبب تقديمها مساعدات للاجئين السوريين؛ حيث ادّعت الحكومة اللبنانية أن قيمة المساعدات تتجاوز رواتب الوزراء وموظفي الدرجة الأولى في القطاع العام[6].
وقد شهدت الأشهر اللاحقة جرائم عنصرية تم على إثرها قتل لاجئين سوريين وحرق آخرين في بعض المخيمات، وتعرض بعض العمال السوريين للضرب والاستهداف والسرقة خلال ذهابهم للعمل، وانتشرت فيديوهات مهينة تظهر عمليات تعذيب تعرض لها عدد من الشبان السوريين واللبنانيين، بينهم قاصرون، بالإضافة إلى ارتفاع وتيرة عمليات الاعتقال التي قامت بها مخابرات الجيش اللبناني والقوى الأمنية بتهم تتعلق بالإرهاب، وتعرضهم للتعذيب وحرمانهم من الحصول على المحاكمة العادلة[7].
وفي مطلع شهر نيسان 2022 تجددت التصريحات العنصرية بوتيرة متسارعة، كان من أبرزها تصريح البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي ادّعى فيه بأن السوريين يعكّرون الأمن الاجتماعي للبنان[8]، وتلاه إطلاق الاتحاد العام لنقابات عمال لبنان حملة أسماها “الحملة الوطنية لتحرير لبنان من الاحتلال الديموغرافي السوري”[9].
وتزامنت حملات التحريض تلك مع حملات أخرى شنّها الجيش اللبناني والمخابرات اللبنانية، تحت ذريعة ملاحقة المخالفين قانونياً، وقام باعتقال مئات اللاجئين السوريين، بعضهم من المطلوبين أمنياً لنظام الأسد في مناطق برج حمود وعاليه وزحلة والشوف وبر إلياس، بينهم عوائل كاملة وأطفال، وتم نقل العديد منهم إلى نقاط حدودية مع سوريا قرب مدينة القصير، أو تسليمهم مباشرة لنظام الأسد الذي باعتقال بعضهم وسوقهم إلى الخدمة العسكرية الإلزامية. وقد بلغ عدد السوريين المعتقلين في لبنان خلال شهر نيسان فقط قرابة 450 شخصاً، وقد يكون العدد مرشحاً للزيادة بعد ذلك في ظل تصاعد الحملات العدائية ضد السوريين[10].
ونقل عدد من الناشطين المتابعين لتطورات الأوضاع في لبنان شهادات من لاجئين سوريين داخل لبنان حول ما يجري مؤخراً، أظهرت جانباً من رعب السوريين في لبنان من الحملة الأخيرة عليهم بهدف ترحيلهم وتسليمهم لنظام الأسد، لاسيما مع التحقق من ترحيل 168 لاجئاً سورياً بينهم العديد من المنشقين عن نظام الأسد أو المطلوبين له بسبب نشاطهم في الثورة السورية، بما يعنيه تسليمهم للنظام من اعتقالهم واختفائهم[11].
وتدّعي السلطات اللبنانية أن الحملات الأمنية الأخيرة تستهدف السوريين المخالفين للقانون؛ إما بدخولهم البلاد بشكل غير شرعي، وإما لعدم حملهم إقامة شرعية سارية المفعول[12]، وإما تحت ذريعة تنظيم العمالة الأجنبية وتسوية أوضاعها، وتنظيم حركة تجول النازحين الأجانب حفاظاً على السلامة والأمن العام[13]. إلا أن شهادات النشطاء تشير إلى أن السلطات اللبنانية عقّدت عمليات الحصول على الإقامات أو تجديدها، بشكل جعل العديد من السوريين يسقط في خانة المخالفين رغماً عنهم[14].
وقد أصدرت السلطات اللبنانية في 26 نيسان2023 مجموعة قرارات بخصوص التعامل مع اللاجئين السوريين، كان أبرزها تأكيد التشديد في تطبيق التدابير القانونية ضد المخالفين، والتشديد في تطبيق باقي القوانين على اللاجئين السوريين النظاميين، والاستمرار في متابعة العودة الطوعية للاجئين السوريين، وإسقاط صفة “النازح” عن كل سوري يغادر الأراضي اللبنانية، واستمرار التنسيق مع نظام الأسد لتسليم المطلوبين والمحكومين له الموجودين في لبنان بشكل فوري[15].
تجدُّد الموقف الشعبية والدولية من حملة الترحيل
مع تصاعد الاحتقان مؤخراً ظهرت دعوات بين السوريين للتظاهر أمام مقرّ مفوضية اللاجئين في بيروت للاحتجاج على الحملات الأخيرة التي نفّذتها الحكومة اللبنانية، والتي جعلت الأخيرة تتخذ قرارات بنشر تعزيزات أمنية مكثفة أمام مقرّ المفوضية لمنع أي مظاهرات أو صدامات قد تخلّ بالأمن[16].
وقد أثارت الحملة المعادية للاجئين السوريين استياء العديد من الجهات اللبنانية والدولية؛ إذ نشرت هيئة العلماء المسلمين في لبنان بياناً تضامنياً مع اللاجئين السوريين استنكرت فيه ترحيلهم قسراً[17]، كما استنكر الحزب التقدمي الاشتراكي عمليات ترحيل اللاجئين قسراً، وطالب بالالتزام بمبادئ حقوق الإنسان[18]، وأدان مركز “وصول” اللبناني لحقوق الإنسان هذه الخطوات ودعا الحكومة اللبنانية لاحترام حقوق الأفراد على النحو المنصوص عليه في القانون الدولي[19].
كما طالبت منظمة العفو الدولية مجدداً بإيقاف عمليات ترحيل اللاجئين السوريين من لبنان على الفور، مؤكدةً ضرورة احترام مبدأ عدم الإعادة القسرية المعترف به دولياً، خصوصاً في ظل تصاعد احتمالات تعرُّض اللاجئين المرحَّلين قسراً لخطر التعذيب والاضطهاد على يد قوات نظام الأسد[20].
ومن جهته، طالب أشرف ريفي أحد النواب اللبنانيين بخروج ميليشيا “حزب الله” من قرى وبلدات سوريا أولاً ليعود اللاجئون السوريون إلى أراضيهم، محملاً كلاً من نظام الأسد “وحزب الله” مسؤولية تهجير الشعب السوري واحتلال قرى اللاجئين ومدنهم وتدميرها، واعتبارهم المسؤولين الأساسيين عن استمرار كارثة اللجوء[21].
الخاتمة
من الصعب اعتبار ما تقوم به الحكومة اللبنانية مبادرة فردية، لاسيما وأن وزير المهجَّرين اللبناني أعلن عن خطته في إعادة اللاجئين بالتزامن مع حديثه عن تشكيل لجنة ثلاثية تضم نظام الأسد ومفوضية شؤون اللاجئين، وعقب تشكيل لجنة رباعية تتكوّن من تركيا والعراق والأردن ولبنان اجتمعت عدة مرات لمناقشة موضوع عودة اللاجئين[22].
ومن الصعب عزل سياق هذه الخطوة عن مسار التطبيع المحموم الذي ترعاه بعض الدول العربية واستغلت مأساة الزلزال الذي حدث في سوريا لإعادة العلاقات السياسية مع نظام الأسد تحت بند الديبلوماسية الإنسانية[23]، وعملت على إحداث حراك ديبلوماسي سياسي يهدف إلى إعادة العلاقات العربية مع نظام الأسد بعد سنوات من القطيعة، مستغلة حالة التجاهل الأوروبي الأمريكي.
ويشير المشهد العام إلى أن الأمور ستتجه نحو مزيدٍ من الضغط والتضييق بهدف إجبار اللاجئين على العودة، خاصة مع غياب أية مساعٍ قانونية أو حقوقية دولية جادّة لإيقاف هذا المسار، وسيظلّ اللاجئون في كل مكان -خاصة في لبنان- ورقة للابتزاز السياسي من أجل الحصول على المساعدات، وشمّاعة تُلقي عليها الحكومات مسؤولية إخفاقاتها المتكررة.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة