المقال التحليلي “نحو “مجلس دُمَى سوري” بخيوط إيرانية “
بدأ مرشَّحو مجلس الشعب السوري للدورة الجديدة 2020 حملاتهم الانتخابية، بعد تأجيل الانتخابات مرتين بسبب الإجراءات التي فرضتها حكومة نظام الأسد نتيجة أزمة كورونا، وارتفعت صور المرشحين في معظم المدن السورية، بعد أن خضع العديد منهم إلى ما عُرف باسم “الاستئناس الحزبي[1] الذي طُبق للمرة الأولى، في محاولةٍ لإنجاح “المسرحية الديمقراطية” في بلد يعيش تحت القبضة الأمنية منذ عقود.
وقد أثارت العديد من الأسماء المرشحة الجدل حول أحقّيّتها أو كفاءتها في قيادة بلد أنهكتْه الحرب الطويلة، لاسيما وأن العديد من الأسماء قد طالتها اتهاماتٌ بالتورط في ملفات فساد مالي أو أخلاقي، أو بانتهاكات لحقوق الإنسان من خلال مشاركتها في عمليات تشبيح أو سلب أو اعتقال أو قتل خارج القانون.
إيران خلف الستار
مع انطلاق الحملات الانتخابية ظهر بين المرشحين العديد من قيادات مليشيات الدفاع الوطني والمقاتلين المعروفين بارتباطاتهم وصلاتهم القوية مع إيران خلال السنوات الماضية، أمثال “عمر حسن” المرشح للمرة الثانية ومؤسس “لواء الباقر”، و”جلال ميدو” أحد أفراد العائلة مؤسِّسة ما عُرف بـ”مجموعات آل ميدو” التي شاركت في العمليات العسكرية في حلب الشرقية، ومُرشحَين من “آل بري” العائلة المشهورة بدورها في قمع المظاهرات في مدينة حلب بعد انطلاق الثورة السورية ثم مشاركتها في العمليات العسكرية فيها، و”حسين جمعة” أحد مؤسسي “لواء السفيرة”، و”وليد البوشي” المقاتل السابق ضمن “قوات النمر” ومؤسِّس جمعية “وسام الخير” التي تُعنى بجرحى المليشيات الرديفة بحلب[2].
وبالنظر إلى الأسماء السابقة ومَن على شاكلتها يبدو أن هناك توجهاً واضحاً عند العديد من مليشيات الدفاع الوطني المدعومة إيرانياً لإنشاء ذراع سياسي لها، يؤمّن غطاءً لها ويمكّنها من تصدير بعض الشخصيات إلى دوائر يفترض منها المشاركة في صناعة القرار، ومنها “مجلس الشعب[3]، وهو ما يوحي أن إيران تسعى لمقاربة ذات صلة – بشكل أو بآخر- بسياساتها السابقة في العراق ولبنان.
وعلى الرغم من أن العضوية في “مجلس الشعب” لا تؤمّن مشاركة حقيقية في صناعة القرار أو الـمُساءلة عليه؛ إلا أنها توفّر للأعضاء بعض الامتيازات، كحصول الأعضاء على نوعٍ من الحصانة والحماية، وهو ما سيسمح لرجالات إيران في المجلس بممارسة أنشطتهم “المشروعة” وغير المشروعة تحت غطاء قانوني، ويسهّل لهم إنجاز الكثير من الأعمال وتمرير الكثير من القرارات؛ فأعضاء مجلس الشعب لا يمكن محاسبتهم إلا في حال الجرم المشهود، ولا يمكن اتخاذ أية إجراءات جزائية أو تنفيذ أي حكم جزائي ضد أي عضو منهم إلا بإذن سابق من المجلس، كما لا يجوز توقيف أي منهم توقيفاً احتياطياً إلا بإذن خاص من المجلس أومن رئيسه في غير أدوار انعقاده[4].
ويبدو أن إيران من خلال تصدير رجالاتها إلى مجلس الشعب تهدف -ربما بشكل استباقي- إلى إكمال حلقة نفوذها على القرار السوري ضمن عدة دوائر وعلى عدة مستويات، وإلى إبقائه مرتبطاً بها وغير قادر على الاستقلال عنها؛ تحسباً لأي تغير سياسي قد يعيد شيئاً من الاعتبار لمؤسسات الحكم المفترضة، ويمكن له أن يهدد المصالح الإيرانية في سوريا، لذا تسعى إيران إلى بناء مجموعة من الشخصيات السياسية وإكسابهم بعض الخبرات من خلال الممارسة، وتمكينهم من توسيع دائرة النفوذ والعلاقات؛ ليكونوا نواة لتشكيل تحالفات مستقبلية قوية من شأنها حماية مصالح إيران، ومنع تقسيم أصوات ناخبيهم، والوقوف في وجه أي مشروع سياسي وطني مستقبلي، أو أي مشروع مدعوم من جهات خارجية مغايرة، وإحباط أي قرار محتمل من شأنه أن يضعف نفوذ إيران أو وجودها في سوريا.
ومن جهة أخرى يُمكّن وجود كتلة برلمانية توالي إيران من إكساب وجودها في سوريا المزيد من “الشرعية”، ومنحها تأثيراً يمكن له أن يعطل أي “طرح سياسي” مستقبلي لا يراعي مصالحها، ويمنع استبعادها من معادلة الحل النهائي؛ لاسيما مع حيث إنها ستكون قادرة عبر استخدم أدوات “ديمقراطية” سورية من عرقلة أو تخريب أي توافقات دولية لا تصب في مصلحة إيران، سواءٌ تعلقت باللجنة الدستورية ومخرجاتها أو باختيار أي وجه بديل عن بشار الأسد، أو أي محاولة قد تسعى روسيا لإنفاذها لإخراج إيران عسكرياً أو اقتصادياً خارج الملعب السوري.
الدرس العراقي
يبدو أن السياسة الايرانية في سوريا تُستَلهم من نموذجها في العراق[5]؛ فقد بدأ التغلغل الإيراني في العراق في وقت مبكر عقب الغزو الأمريكي، من خلال تشكيل ذراع سياسي يدين لها بالولاء؛ إذ تمكّن التحالف الشيعي الموالي لإيران من الحصول على أغلبية المقاعد في البرلمان لثلاث دورات متتالية منذ العام 2005 وحتى عام 2018، وهو ما سمح لها بإبقاء الوضع السياسي في العراق مخلخلاً وضعيفاً تحت سيطرتها، وعزَّز الانقسام الداخلي في البلاد على أسس طائفية[6].
استثمرت إيران هذه التحالفات البرلمانية في عملية استبعاد بعض الخصوم السياسيين[7]، كما اعتمدت سياسة تنويع أدواتها عبر عدد من الحركات والأحزاب السياسية والميليشيات والفصائل في العراق، وشجعت العديد من القيادات والشخصيات فيها على الانشقاق وتشكيل جماعات موالية لها، وهو ما ساعدها في تنويع حقيبتها السياسية والعسكرية في العراق، وقدم لها الكثير من البدائل عن أي جهة تحاول الخروج عن سياستها، ويمكّنها من الاستغناء عنها وإخراجها من الساحة السياسية[8].
وفي هذا السياق قامت إيران في وقت لاحق بدفع بعض الشخصيات من مليشيا “الحشد الشعبي” التابعة لها للترشح في الانتخابات البرلمانية عام 2018، رغم وجود نص دستوري يمنع المليشيات العسكرية من المشاركة في أي عمل سياسي، فتمكنت تلك المليشيات التي شكلت ما عُرف باسم “تحالف الفتح” من الحصول على 47 مقعداً، ثم استطاعت لاحقاً من خلال تحالفات جديدة “تحالف البناء” التأثير في اختيار رئيس مجلس النواب وتسمية رئيس الوزراء، والحصول على عدد من الحقائب الوزارية، وشغل بعض المناصب الوظيفية العليا الحساسة في الدولة[9].
وقد انعكس ذلك على نفوذ إيران في العراق؛ فساعدها في تقوية علاقاتها الاقتصادية فيه والحصول على استثمارات أكبر، وتمرير العديد من الصفقات، وساعدها أيضاً في شرعنة وجود ذراعها العسكري عندما عمل “تحالف البناء” على إقرار قانون جديد حوّل مليشيات “الحشد الشعبي” من مجموعات مقاتلة لا غطاء قانونياً لها إلى مجموعة عسكرية رديفة للجيش العراقي، ووفّر لها جزءاً كبيراً من الموازنة العسكرية، كما تمكّن هذا التحالف لاحقاً من تبنّي قرار برلماني دعا لإخراج القوات الأجنبية من العراق- القوات الأميركية على وجه التحديد- كردّ على العقوبات الأمريكية التي فُرضت مؤخراً على إيران[10].
النسخة اللبنانية
ويبدو التغلغل الإيراني في مفاصل الدولة واضحاً كذلك في الحالة اللبنانية، مع سيطرة وكلاء إيران على معظم مفاصل الحياة السياسية، وتسخيرها لخدمة المصالح الإيرانية في المنطقة، ومع تحريك هؤلاء الوكلاء لاستخدام القوة في حال تعرضت تلك المصالح للخطر؛ كما حدث في انقلاب حزب الله في أيار 2008[11]، وفي توريط البلاد في قضايا خارجية لا مصلحة للدولة اللبنانية بها؛ كما حدث مع تدخل حزب الله العسكري في سوريا وقتاله إلى جانب نظام الأسد، وتورطه في عقوبات خارحية[12] يمكن لها أن تهدد اقتصاد البلاد بأكمله.
ولم تكتف إيران بذراعها العسكري التقليدي في لبنان (حزب الله)، وإنما شكلت -بتحالفات متعددة عابرة للطائفة- ما يمكن اعتباره ذراعاً سياسياً موازياً[13] استطاع اخترق بنية الدولة ومصادرة قرارها، وهو ما عبَّر عنه قاسم سليماني صراحة بأن حزب الله امتلك أكثر من نصف المقاعد البرلمانية في الانتخابات الأخيرة، في إشارة واضحة إلى حجم النفوذ الإيراني داخل البرلمان اللبناني؛ إذ اعتبر سليماني ذلك “انتصاراً ” لحلفاء إيران أمام الضغوط الإقليمية والدولية التي يتعرض لها “محور المقاومة” في المنطقة[14].
هذا وقد كشفت المظاهرات الشعبية التي اندلعت مؤخراً في كل من العراق ولبنان، والتي ارتفعت فيها شعارات مناهضة لإيران للمرة الأولى حجم الفشل والفساد الحكومي الذي قادته الحكومات المتعاقبة المحسوبة على إيران، والذي أدى إلى تراجع شعبية إيران وانقلاب ولاء الموالين لها حتى من أبناء الطائفة الشيعية، وهو أمر كان بإمكان العديد من الجهات الوطنية استثماره لو كانت تملك تحريك القرار الوطني وضمان عدم إفشاله من قبل الأطراف الأخرى.
الاثار المجتمعية
وبالعودة إلى الانتخابات النيابية السورية تبدو الوجوه الجديدة المرشحة للانتخابات محاولة جديدة للإيحاء بحدوث تغيير، وذلك باستبدال وجوه جديدة بالوجوه القديمة المعروفة بفسادها، ما يمكن أن يتلاءم مع المسرحية المرسومة، إلا أنه وبالنظر إلى خلفيات العديد من المرشحين الذين شاركوا بأدوار مهمة في دعم النظام السوري، سواء بالقتال في المعارك أو بالتأييد العلني والإعلامي؛ يبدو وكأن النظام وداعميه يحاولون مكافأة أنصارهم المخلصين بتمكينهم من السلطة، بعد أن نفدت ميزانيته المالية.
وبالنظر فيما تم استعراضه من التجربة العراقية واللبنانية سيسمح هذا التغلغل من جهة أخرى لرجالات إيران في الحياة السياسية[15] باختراق بنية المجتمع السوري بشكل أكبر، وذلك عبر تصدير بعض الشخصيات المقربة منها كوجهاء وقيادات مدنية ومجتمعية من المفترض أن يمثلوا مختلف شرائح الشعب وتوجهاته؛ إذ إن تسليمهم بعضاً من مقاليد السلطة – ولو كانت شكلية- سيجعلهم مؤثرين في المحيطين بهم، وقادرين أيضاً على ضبط الحاضنة الشعبية المؤيدة وضمان ولائها ومنعها من التمرد.
إلا أن هذه الوجوه الجديدة ستساعد على ترسيخ واقع الانقسام الاجتماعي الذي حدث خلال السنوات الماضية، والذي فرز وقسّم المجتمع السوري وفقاً للمذهب والولاء السياسي، وذلك بتمكين شخصيات شاركت في انتهاكات وأعمال عسكرية وأنشطة مشبوهة على حساب أصحاب الخبرات والمؤهلات، وحرمان الشعب من إيصال صوته أو مطالبه إلى “دوائر صناعة القرار”؛ وهو ما يدل على استمرار النظام في سياسته السابقة، ويؤكد عدم احتمال تقديمه أية تنازلات أو إحداثه أي تغيير في بنيته بغية الاستجابة لمطالب الشعب والتخفيف من معاناته.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
2 تعليقات