الإصداراتاللجنة الدستورية وأفق الحل السياسيالمقالات التحليليةوحدة الهوية المشتركة والتوافق

المقال التحليلي “هل تحتاج سوريا عقداً اجتماعياً أم دستوراً؟ أولوية الاجتماع السياسي قبل “دسترته” “

ظهرت فكرة العقد الاجتماعي كأساس لنشأة الدولة[1]؛ إذ استخدمها كثير من رجال الفكر والدين كوسيلة لدعم آرائهم واتجاهاتهم السياسية في تأييد السلطان المطلق للحكّام أو محاربته[2].

ومع ظهور الدساتير المكتوبة التي كانت بدايتها مع الدستور الأمريكي 1787م[3]، ثم انتشار فكرة “الدستور” وتطبيقها في غالبية الدول حالياً[4] صار يدور النقاش في الكتابات السياسية والقانونية عن مدى الارتباط بين الدساتير والعقود الاجتماعية موضوعياً وشكلياً؛ لأن البعض يرى أن الدساتير ما هي إلا التعبير القانوني للعقود الاجتماعية[5]، فيما يذهب آخرون إلى خلاف ذلك لاختلافٍ يرونه بين المفهومَين[6].

في ضوء الحديث عن أهمية كتابة دستور جديد لسوريا وربطه بالعقد الاجتماعي تبرز تساؤلات متعددة، منها: هل يختلف العقد الاجتماعي عن الدستور في سياق الحالة السورية؟  وهل الأولوية بالنسبة للسوريين في استكمال بناء عقدهم الاجتماعي أم في كتابة دستور جديد؟ وما هي البيئة المناسبة لبناء عقد اجتماعي جديد بشكل عام وفي الحالة السورية بشكل خاص؟ وهل يمكن أن يسهم الدستور الجديد في تحقيق الاستقرار المنشود؟

العقد الاجتماعي والدستور: نظرة مقارنة

تفسّر نظرية العقد الاجتماعي نشأة الاجتماع السياسي[7] وبقاءه واستمراره، متخذة من العقد أو الميثاق أو الاتفاق الاجتماعي الذي يُقرُّه الناس طواعيةً فيما بينهم أساساً للحقوق والواجبات التي تنظم شؤون الحياة المشتركة[8].

أي أن نظرية العقد الاجتماعي تركّز على أن الدولة ناشئة عن عقد يتوافق عليه جميع المشاركين فيه (الشعب أو مكونات الشعب)، ويقوم على عدة أسس أبرزها التوافق على أسس الدولة التي سيعيشون فيها والقواعد المؤسسة للسلطة التي ستحكمهم، إلى جانب احترام حقوق الأفراد وحرياتهم؛ إذ لا يعقل أن يتنازلوا عنها إلا بالقَدْر الذي يتطلبه العيش المشترك.

وفي المقابل يُعرف الدستور[9] في الأدبيات القانونية بأنه: “القواعد التي تبيّن طبيعة الدولة، أي شكلها، فتحدد ما إذا كانت الدولة بسيطة أم مركبة “فيدرالية”، وتبين شكل الحكومة من حيث كونها جمهورية أم ملكية، كما تتضمن المبادئ العامة والأساسية المتعلقة بنظام السلطات العامة الكبرى واختصاصاتها، والعلاقة فيما بينها، إلى جانب تحديد حقوق الأفراد وحرياتهم”[10].  

إذاً: ثمّة تطابقٌ في المبادئ الموضوعية لكلٍّ من العقد الاجتماعي والدستور؛ فكلاهما يركز على القواعد الأساسية لتنظيم السلطة وضمان الحقوق والحريات[11].

في الحالة المثالية التي تتمكّن الإرادة الشعبية من صياغة عقد اجتماعي صريح أو ضمني يكون هذا العقد سابقاً على الدستور؛ وبالتالي يكون المجتمع السياسي من الناحية القانونية والمثالية ممهداً للدستور أو القواعد الدستورية[12]؛ أي يكون العقد الاجتماعي أقرب إلى مسيرة حوارية بين المكونات والأفراد تُتوج بوثيقة الدستور. غير أنه في كثير من الحالات الواقعية نفتقد العقد الاجتماعي كفكرة أساسية يقوم عليها الاجتماع السياسي “الدولة الوطنية”، ومع ذلك يكون هنالك دساتير في مثل هذه الدول “المصنعة خارجياً”[13] تُوضع بطريقة ما، قد تكون ديمقراطية أو غير ديمقراطية[14]، ويكون لهذه الدساتير “شرعية” ما بغضّ النظر عن مدى تعبيرها عن الإرادة الشعبية[15]. أي أننا نكون غالباً أمام دساتير لها شرعية ظاهرية لا تستند إلى توافق شعبي “عقد اجتماعي” كامل وواضح.

هذا التمييز بين الحالتين المثالية والواقعية يقودنا إلى قضية أخرى، وهي أثرُ العامل الخارجي في نشأة كلٍّ من العقد الاجتماعي والدستور؛ إذ يُعتقد أنه قد يكون للعامل الخارجي أثرٌ محدود في بلورة هوية وطنية “اجتماع سياسي”، بمعنى أن هذا العامل لا يمكن أن يطور عقداً اجتماعياً في ظروف وبيئات متناقضة ومن العدم، ولكنه قد ينجح في حال وجود عوامل اجتماعية وجغرافية وتاريخية داخلية تساعده في بلورة ذلك العقد، على عكس الدساتير التي قد تلعب العوامل الخارجية أثراً أكبر في كتابتها وصناعتها.

ولا حدود فاصلة وواضحة كذلك بين العقد الاجتماعي والدستور زمنياً، لاسيما في الدول التي يترافق فيها تشكيل الدولة (الاجتماع السياسي) -ولو نظرياً- مع كتابة الدستور، كما هي حال غالبية الدول العربية والإسلامية[16]، وبالتالي يمكن أن تكون فرصة كتابة الدستور هي نفسها البيئة التي ينبثق عنها العقد الاجتماعي، ولكن ذلك منوط بتحقق الشروط اللازمة لكتابة هذا العقد والتي سنشير إليها لاحقاً في ثنايا هذا المقال.

في الخلاصة: يُفترض أن يكون لكل دولة “اجتماع سياسي” ودستور؛ فالدساتير هي التعبير القانوني العرفي أو المكتوب عن العقد الاجتماعي، وتتضمن الأحكام الخاصة بنظام الحكم والهيئات الحاكمة والعلاقة بينها وبين المحكومين؛ أيّاً كان أساس تنظيم هذه العلاقة[17]. غير أنه في كثير من الحالات قد يتوفر دستور غير مستند إلى عقد اجتماعي بشكلٍ يخالف الفرضية أعلاه، وهنا يثور التساؤل الآتي في حالتنا السورية: هل نحن بحاجة لدستور أم لعقد اجتماعي؟

ضرورة العقد الاجتماعي قبل الدستور: التجربة الغربية كنموذج للاجتماع السياسي

لو أننا قمنا بنظرة مقارنة لوجدنا مثلاً أن الجمهور في الولايات المتحدة الأمريكية يهتم -عند المحكات- بالدستور “العقد الاجتماعي” أكثر من اهتمامه بالحكومات المتعاقبة وسلوكها؛ لأن الدستور أنشأ الولايات المتحدة بشكل توافقي، ولا يزال يجد الدعم في قلوب الناس[18]. أي أن الدستور الأمريكي جاء متناغماً ومتطابقاً إلى حد كبير مع العقد الاجتماعي الضمني الذي أنشأ الولايات المتحدة، ولعل هذا ما يفسّر استمرار هذا الدستور الذي يُعد الدستور المكتوب الأقدم في العالم.

والأمر ذاته ينطبق على عدة دول أوروبية؛ إذ كان نشوء الدولة “الاجتماع السياسي” نتيجة ظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية جعلت هذا الاجتماع نابعاً من الجماعة التي صاغت عقدها الاجتماعي تتويجاً لهذا التطور، وإيذاناً بالتحول من مرحلة ما قبل الدولة الحديثة إلى ما بعدها[19]، وأعقب ذلك كتابة دساتيرها التي تُعد الأقدم في العالم[20]، والتي لا يزال قسم كبير منها -كما هو في الحالة الأمريكية- نافذاً[21]، وبالتالي يتكرر التطابق بين العقد الاجتماعي والدستور.

وفي المقابل ليست الدولة والدستور في العالم الثالث نتاج تطور تاريخي أو ثمرة المحيط الاجتماعي والاقتصادي؛ لأن الاستقلال أدى إلى إمساك نخبة مطلعة على الثقافة الغربية بالسلطة، في حين أن أغلبية الشعب تعيش نمطاً من الحياة مشبعاً إلى حد كبير بولاءات ما قبل الدولة. فالدولة “الاجتماع السياسي” والدستور كانت أفكاراً مستوحاةً من الخارج، أكثر من كونها نابعةً من ظروف هذه الدول التاريخية والاجتماعية[22]. بمعنى أن هذه الدول افتقدت لعقد اجتماعي يؤسس الدولة، وإن احتوت على دساتير مكتوبة؛ إلا أن هذه الدساتير كانت أشبه بالنصوص فاقدة الفاعلية لضعف الأساس الذي تبنى عليه “العقد الاجتماعي”، فضلاً عن افتقاد البيئة الاجتماعية لثقافتها ومؤسساتها القادرة على حمل هذه النصوص وتطبيقها.

لقد ساهمت الأنظمة الدكتاتورية والشمولية التي حكمت العالم العربي في تأخير أي تفاعل مجتمعي وسياسي ينبني هوياتياً على الإطار الجغرافي الوطني الذي فُرض بإرادة خارجية، بل على العكس ساهمت هذه الأنظمة في ظل القمع والكبت السياسي الذي مارسته في إيجاد هوية وطنية وهمية مزعومة مغطاة بقشرة دستورية وشرعية خارجية، سرعان ما انكشفت بانهيار هذه الأنظمة في ظل الثورات العربية، لتشهد معها هذه المجتمعات العربية حالة صراع هوياتي.

لذا مثّلت الاحتجاجات الأخيرة التي جرت في دول عربية متعددة كالسودان والعراق ولبنان فرصة للتفاعلات السياسية الاجتماعية التي قد تمهد لاحقاً لإعادة بناء عقد اجتماعي جديد، يقود إلى توافق سياسي وقانوني فعلي وفق النموذج المثالي الذي يتوافق فيه العقد الاجتماعي مع الدستور. 

موقع العقد الاجتماعي والدستور في سوريا: دستور لاجتماع سياسي هزيل

حينما أُعلن استقلال سوريا في 8 آذار 1920 أكّد المؤتمر السوري العام[23] أن ذلك الاستقلال وفق الحدود الطبيعية لسوريا، والتي تشمل إلى جانب “سوريا” كلّاً من لبنان وفلسطين “بلاد الشام”[24]، كما أشار بعض الكتّاب إلى ارتباط شرعية النظام السياسي الناشئ في الدول العربية آنذاك “الاجتماع السياسي بتعبيرنا” بالدِّين الإسلامي، ولو بصيغ مختلفة، كالقول: دين الدولة الإسلام، أو المصدر الأساسي للتشريع هو الإسلام[25]. وفضلاً عن ذلك ثمّة مَن يعتقد أن الرابطة الوطنية التي بُنيت عليها الدولة السورية، والتي نادى بها الملك فيصل عندما تأسست المملكة السورية لم تكن محل إجماع لدى شرائح من المكونات المسيحية والعلوية والدرزية التي كانت تطالب بالاستقلال آنذاك[26].

إذا أخذنا هذه المعطيات بعين النظر، وافترضنا أنها تمثّل الواقع الاجتماعي والسياسي المرافق لنشوء الدولة السورية فإننا نرى أن الدساتير السورية ابتداءً من مشروع دستور 1920 قد تجاوزت -لأسباب متعددة- هذه المحددات الأساسية للهوية الوطنية السورية “الاجتماع السياسي السوري”، وصاغت دستوراً مبنياً على فرضيات على الأقل لا تتوفر مؤشرات رسوخها في الهوية الجمعية السورية حينها؛ إذ أضحت سوريا جغرافياً مقتصرةً على ما آلت إليه بعد استقلال كل من لبنان وفلسطين والأردن، وتبنت الدساتير خصوصاً مشروع دستور 1920 توجهاً علمانياً[27]، كما أنها اعتبرت أن الهوية السورية التي تضم جميع المكونات المقيمة ضمن الحدود الجغرافية الحالية مؤمنة بالهوية الوطنية[28] “الاجتماع السياسي”[29].

ومع هذا النشوء المشوَّه للهوية الوطنية السورية فقد ساهم الحكم العسكري الذي وقعت سوريا تحته لاحقاً، ولاسيما حكم البعث ومن بعده عائلة الأسد في إيهام السوريين بوجود هوية وطنية حقيقية بينهم، خصوصاً وأن مقومات الدولة “الاجتماع السياسي” الظاهرية[30] كانت متحققة ومفروضة بقوة العسكر، بعيداً عن أي معنى من معاني التوافق الطوعية بين المكونات والأفراد.

وما تقدّم إنما هي مؤشرات أثبت الواقع السوري بعد قيام الثورة السورية في 2011 صحتها؛ فما زالت الأسئلة الجوهرية التي أشرنا إلى بعضها أعلاه خاصةً ما يتعلق بعلاقة الدين بالدولة والهوية الوطنية السورية” بـ “الاجتماع السياسي السوري” من دون أجوبة ناجزة واضحة وصريحة.

لا يعني ذلك بالتأكيد انعدام مقومات “الاجتماع السياسي السوري”، أو نسفها؛ بقدر ما هي يكشف أنها فرصة لتأكيد أمرين مهمين قد يكونان متباينين؛ الأول منهما: وجود بذور هوية وطنية سورية تتطلب نقاشات صريحة وواضحة بين المكونات السورية، تمهّد لقواعد توافقية لإدارة العلاقة فيما بينها. والثاني: أن الوثائق الدستورية السورية المتعددة لم تكن سوى غطاء قانوني -يبدو مثالياً للوهلة الأولى – لاجتماع سياسي هزيل، اهتم ببناء مؤسساته شكلياً أكثر من توضيح قواعد العلاقة لمكوناته التي يُفترض أن هذه المؤسسات أُنشئت لحكمها.

هل تتوفر الظروف اللازمة لترسيخ العقد الاجتماعي السوري؟

نعتقد أن الظروف الأساسية الواجب توفُّرها -حتى يتمكن الشعب من صياغة عقده الاجتماعي الجديد- تتلخص في ثلاثة أمور أساسية افتقدتها التجربة الدستورية العربية في المئة سنة الأخيرة على الأقل: أولها الحرّية، وثانيها الاستقرار، وثالثها الأمانة في تمثيل الشعب في العقد الاجتماعي[31].

أمّا الحرية فتُعدّ أولوية ضرورية لا غنى عنها إذا ما أردنا كتابة عقد اجتماعي جديد؛ وذلك من خلال التحرر من أي قيد مفروض علينا، ومن كل مانع لنا من التعبير عن إرادتنا الحرّة وتضمينها في عقدنا الاجتماعي.

وأمّا الأولوية الثانية فهي الاستقرار، وهي حالة تأتي طبيعياً بعد معركة التحرر التي تتّسم بعدم الاستقرار والاضطراب والتضحيات، وهي مرحلة لا تقلّ عن سابقتها صعوبةً؛ فالاستقرار لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال “قوّة ضامنة” له[32]، وهذه القوّة الضامنة تكتسب شرعيّتها من انتصارها في معركة التحرر، وتستمر هذه الشرعية حتى الانتهاء من كتابة “العقد الاجتماعي”.

وأمّا الأولويّة الثالثة -بعد معركة التحرر والاستقرار- فهي حُسن ومصداقية تمثيل الشعب في هذا العقد الاجتماعي، وهنا لا بد من الاتفاق بين أفراد الشعب ومكوناته على الوسائل والأدوات التي سيتم من خلالها التوافق على مضامينه.

وفق هذه المحددات: هل تتوفر شروط ترميم عقد اجتماعي حقيقي في سوريا؟

في ظل وجود عدة جيوش أجنبية على الأرض السورية دون إرادة شعبها، وتشرُّد غالبيته ما بين لاجئ ونازح، ومع وجود نظام مفروض بقوة النار وبدعم أجنبي، وقوى معارضة ذات بُنى هزيلة تكاد تكون فاقدة للشرعية الشعبية، ووجود تشكيلات يفترض أنها تأسيسية – كاللجنة الدستورية الحالية- لا تحمل همّ إيجاد عقد اجتماعي للسوريين بمقدار المناكفة وترحيل الاستحقاقات الحقيقية؛ يكون الحديث في ظل هذه الظروف عن إعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري ضرباً من الخيال. ويكون الحديث عن إعادة كتابة دستور جديد فرصة لإضافة وثيقة “قانونية شكلية” جديدة لعشرات الوثائق السابقة التي أوهمت بوجود “هوية وطنية حقيقية للسوريين”.

خاتمة:

في ضوء الظروف الحالية، وفي ظل افتقاد البيئة المناسبة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري سيكون أي دستور جديد لسوريا، وإن كان مُصاغاً وفق أفضل المعايير التقنية العالمية مجرد وثيقة دستورية شكلية جديدة تُضاف إلى عشرات الوثائق التي سبقتها، والتي لا يقيم لها الشعب السوري أي اعتبار.

فالمسيرة الحالية التي تقتصر على مناقشة نصوص دستورية تفصيلية تحت حراب المحتل والتدخلات الخارجية لكل شيء سوى مصلحة السوريين، متجاوزة في ذلك كله جوهر الإشكالية السورية وهي: عدم شعور السوريين -كل السوريين- بهويتهم السورية القائمة على توافق وطني؛ ما يؤكد أننا نسير بعيداً عن الخطوات المنطقية من إعادة بناء عقد اجتماعي حقيقي يُفضي إلى دستور بشرعية سورية. هذه المسيرة المشوَّهة ستُبعد أجيالاً قادمة من السوريين عن استقرار بلدهم وانتمائهم الإيجابي له، تماماً كما حدث في بداية تشكيل الدولة السورية قبل مئة عام؛ فالبدايات الصحيحة تُفضي إلى نتائج صحيحة، والعكس بالعكس.

غير أنه يمكن في حال تغيُّر الظروف الحالية أن تكون مناسبةُ كتابة الدستور فرصةً لترسيخ الهوية الوطنية السورية “الاجتماع السياسي السوري”؛ غير أن ذلك منوط بوجود بيئة حرة مستقلة تتيح للشعب السوري الدخول في حوارات اجتماعية ونخبوية صريحة، بعيداً عن الاستقواء بالأجنبي أو التلويح بذلك، وهذا ما يجعل الدستور بأفكاره ومبادئه عقداً اجتماعياً سورياً، ولا يمكن أن يتحقق هذا ما لم تكن المبادئ التي سيرسخها العقد الجديد متوافقة مع الواقع التاريخي والاجتماعي السوري، الذي ما زال خاضعاً للجدل بين المكونات والنُّخَب على حدّ سواء.

ولا شك أن تحقُّق هذه البيئة المثالية أمر صعب في ظل الظروف الحالية، ولكن ذلك هو الطريق الوحيدة لإعادة “الاجتماع السياسي السوري” الذي يكاد يكون مستحيلاً بحوارات شكلية أو في ظل ضغوط خارجية؛ فقد علمتنا التجارب أن العقود الاجتماعية للدول تُبنى بأيدٍ وطنية ولا تُصنع خارجياً. ولعل ذلك يفرض على السوريين، خصوصاً منهم النُّخَب والشباب، التفكير بأدوات وآليات لتغيير هذا الواقع وإيجاد البيئة المناسبة لاستكمال العقد الاجتماعي السوري وترسيخه، وتحقيق ذلك -على ما يبدو- لا يقع في المدى القريب، ما يؤكد ضرورة البحث عن أدوات بديلة تتوافق والواقع الحالي، وتهيئ المناخ المناسب للحوار الوطني المستقبلي، ولعل أبرزها العمل على حوارات محلية لبناء توافقات محلية[33] تحضّر للاجتماع السياسي السوري العام، بعيداً عن تدميره أو تمزيقه أو إضعافه.

 


[1] نود الإشارة إلى أننا لن نتعرض إلى نظرية العقد الاجتماعي بمضامينها التفصيلية، ولا إلى الانتقادات التي تعرضت لها، وإنما سنأخذها كمدخل لمناقشة الدستور.

[2] حول العقد الاجتماعي يُنظر على سبيل المثال: د. نعمان أحمد الخطيب، الوجيز في النظم السياسية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الثانية، 2011، ص62 وما بعدها. وعقد اجتماعي، موقع المعرفة، شوهد في: 6-8-2020، الرابط: https://bit.ly/39DCJxg.

[3] يتفق فقهاء القانون على أن هنالك وثائق دستورية مكتوبة سابقة وقديمة ولعل أبرزها وثيقة العهد الأعظم في إنكلترا عام 1215م، ولكن الدستور المكتوب الأول في العصر الحديث الذي كتب لدولة حديثة هو دستور الولايات المتحدة عام 1787، والذي سبقه دستور ولاية فرجينيا عام 1776.

[4] تتضمن غالبية الدول الحالية دساتير، حيث يكاد يصل عددها إلى 170 دستوراً.

See; Jonathan Fox & Deborah Flores, Religions, Constitutions, and the State: A Cross-National Study, The Journal of Politics, Vol. 71, No. 4, October 2009, p.1499.

[5] يُنظر في هذا الرأي: مروان حبش، الدستور والعقد الاجتماعي، موقع جيرون، 19-7-2019، شوهد في: 6-8-2020، الرابط: https://bit.ly/3jSkx7V، وجاد الكريم الجباعي، العدالة والعقد الاجتماعي، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 4-8-2020، شوهد في: 6-8-2020، الرابط: https://bit.ly/2EO1sUd. يُنظر بالإنكليزية:

Caroline Pearson, The U.S. Constitution as an Active Social Contract, 1 February 2016, p.2, link; https://bit.ly/339njje.

[6] يُنظر في هذا الرأي: طارق نافع المطيري، نحو عقد اجتماعي عربي جديد، الجزيرة نت، 4-5-2017، شوهد في: 6-8-2020، الرابط: https://bit.ly/2Pt5eVb. ويُنظر بالإنكليزية: 

 Paul Lermack, The Constitution Is the Social Contract So It Must Be a Contract … Right? A Critique of Originalism as Interpretive Method, William Mitchell Law Review, Volume 33, Issue 4, 2007, p.1433.

[7] يُقصد بالاجتماع السياسي من الناحية النظرية: الدولة الحديثة نفسها؛ حيث يكون الاجتماع السياسي= الدولة الحديثة= الدولة الوطنية. كل ذلك وفق الحالة المثالية التي يكون فيها نجاح -إن صح التعبير- للعقد الاجتماعي في تشكيل الدولة الوطنية.   

[8] د.نعمان أحمد الخطيب، الوجيز في النظم السياسية، مرجع سابق، ص62 وما بعدها.

[9] يُعرَّف الدستور وفق معايير متعددة، هي: المعيار اللغوي، والمعيار الشكلي، والمعيار الموضوعي. والرأي الغالب في الفقه يأخذ بالمعيار الموضوعي بمفرده أو بالمعيار الموضوعي والشكلي.

يُنظر: د.سام دلة، القانون الدستوري والنظم السياسية، جامعة حلب، 2004، ص16-17.

[10] يُنظر في تعريف القانون الدستوري على سبيل المثال: المرجع السابق، ص16-17، ود.حسن البحري، القانون الدستوري والنظم السياسية، الجامعة الافتراضية السورية، 2018، ص24 وما بعدها.

[11] يُنظر: سام دلة، مرجع سابق، ص11-12، وحسن البحري، مرجع سابق، ص27 وما بعدها.

[12] موريس هوريو، القانون الدستوري، الطبعة الثانية، 1929، ص119، نقلاً عن د.مصطفى أبو زيد، الدستور المصري، الطبعة الأولى، 1957، ص10.

[13] هذا ما حدث في غالبية الدول النامية التي استقلت عن الاحتلال الغربي في منتصف القرن العشرين.

[14] بحسب الفقه الدستوري تنقسم طرق كتابة الدساتير إلى: طرق ديمقراطية (الجمعية التأسيسية، الاستفتاء التأسيسي)، وطرق غير ديمقراطية (المنحة، العقد).

يُراجع: حسن البحري، مرجع سابق، ص93 وما بعدها.

[15] ميشيل براندت وآخرون، وضع الدستور والإصلاح الدستوري: خيارات عملية، انتربيس، بيروت، 2012، ص15.

[16] تزامن نشوء الدولة الحديثة “العقد الاجتماعي” في هذه الدول إلى حد ما مع كتابة الدستور؛ فمثلاً في سوريا بعد خروج العثمانيين منها في أواخر 1918 جرت محاولة كتابة الدستور في بداية عام 1920 وانتهت مسودته على عجل في منتصف 1920، وكذلك أُعلن في العراق عن المملكة العراقية في 1921، وكُتب دستورها الأول في عام 1925.

[17] د. عبد الفتاح ساير، القانون الدستوري، دار الكتاب العربي بمصر، الطبعة الثانية، 2004، ص108.

[18]  Caroline Pearson, The U.S. Constitution as an Active Social Contract, 1 February 2016, p.2, link; https://bit.ly/339njje.

[19] يُراجع: د.سعاد الشرقاوي، النظم السياسية في العالم المعاصر، دار النهضة العربية، 2007، ص93-94.

[20] ظهرت الدساتير المكتوبة في الدول الأوروبية الحديثة بعد الدستور الأمريكي، على سبيل المثال كتب الدستور الفرنسي للجمهورية الأولى عام 1791، والدستور السويدي عام 1809، والدستور الإسباني عام 1812، والدستور البلجيكي عام 1831.  

[21] نعتقد أن معيار استمرار الدستور لفترات طويلة هو أحد المؤشرات المهمة على توافق الدستور مع العقد الاجتماعي للدولة.

وفي هذا السياق تُعد الدساتير في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية هي الأطول عمراً مقارنة بدساتير بقية الدول، خصوصاً تلك الدول التي تشهد أزمات وانقلابات عسكرية وحروباً. حيث يبلغ متوسط عمر الدساتير في دول أوروبا الغربية /32/ عاماً، بينما يكون: في آسيا /19/، وفي أمريكا اللاتينية /12.4/، وفي أفريقيا /10.2/.

يُراجع في أعمار الدساتير:

Thomas Ginsburg, Zachary Elkins, and James Melton, The Lifespan of Written Constitutions, University of Chicago Law School, 15 October 2009, link; https://bit.ly/3fcXj8Q.

[22] د. سعاد الشرقاوي، النظم السياسية في العالم المعاصر، مرجع سابق، ص99.

[23] تشكّل “المؤتمر السوري العام” في حزيران/يونيو 1919 من أكثر من ثمانين مندوباً من مختلف أنحاء سوريا الداخلية والساحلية الجنوبية، كان بينهم نخبة صالحة من متنوّري البلاد ورجال الحركة العربية وشبابها، وقد انتُخب ممثلو منطقة سوريا الداخلية انتخاباً نيابياً وفقاً لقانون الانتخاب وبإشراف الحكومة من قبل المندوبين الثانويين في انتخابات المجلس النيابي العثماني الأخير. ولما لم يكن هذا ممكناً بالنسبة للبنان والسواحل التي تسيطر عليها السلطات الفرنسية، وكذلك لم يكن ممكناً بالنسبة لفلسطين التي تسيطر عليها السلطات الإنكليزية، فقد تولى انتخاب مندوبي هذه المناطق وتوكيلهم الجمعيات والأندية والشخصيات البارزة حسبما أمكن.

يُنظر: محمد عزة دروزة، حول الحركة العربية الحديثة “تاريخ ومذكرات وتعليقات، “الجزء الأول”، المطبعة العصرية، 1950، ص96-97.

[24] جاء في قرار المؤتمر السوري العام سنة 1919 الموجه إلى لجنة كينغ كراين ما يلي: “إننا نطلب الاستقلال السياسي التام الناجز للبلاد السورية، التي تحدها شمالاً جبال طوروس وجنوباً (رفح) فالخط المار من الجنوب (الجوف) إلى جنوب (العقبة الشامية) و(العقبة الحجازية)، وشرقاً نهر الفرات فالخابور والخط الممتد شرقي (أبي كمال) إلى شرقي (الجوف)، وغرباً البحر المتوسط، وبدون حماية ولا وصاية”.

كما جاء في بيان استقلال سوريا الذي أعلنه المؤتمر السوري العام سنة 1920 ما يلي: “فأعلنا بإجماع الرأي استقلال بلادنا السورية بحدودها الطبيعية، ومن ضمنها فلسطين، استقلالاً تاماً لا شائبة فيه على الأساس المدني النيابي، وحفظ حقوق الأقلية”.

يُنظر: وثائق سورية” قرار المؤتمر السوري الموجه إلى لجنة كينغ كراين، موقع الجمل بما حمل، الرابط: https://bit.ly/2RYPwST، وبيان استقلال سورية الذي أعلنه المؤتمر السوري في عام 1920، موقع التاريخ السوري المعاصر، الرابط: https://bit.ly/3kOLfhn.

[25] سليمان تقي الدين، المسألة الدستورية: تاريخ وإشكاليات، تبين للدراسات الفكرية والثقافية، المركز العربي للدراسات والأبحاث، العدد 3، المجلد الأول، 2013، ص61.

[26] يُراجع: د.بشير زين العابدين، الجيش والسياسة في سوريا “دراسة نقدية”، دار الجابية، الطبعة الأولى، 2008، ص33 وما بعدها.

[27] يُنظر: محمد جمال باروت، مئوية الدستور السوري الأول: إشكالية العلمنة وسياقاتها المجتمعية -السياسية التاريخية (1920-1918)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020، ص17، وإليزابيث ف. تومسون، رشيد رضا والدستور العربي السوري لعام 1920: كيف قوّض الانتداب الفرنسي الليبرالية الإسلامية، ترجمة: يسرى مرعي، معهد العالم للدراسات، 2017 الرابط: https://bit.ly/2krBOIM.

[28] أشارت دراسة د.بشير زين العابدين المشار لها سابقاً، إلى أن فئات واسعة من الأقليات الموجودة في سوريا آنذاك لم تكن مؤيدة للحكم القومي الفيصلي، ولذلك كانت تميل إلى دولة مستقلة تحت الانتداب الفرنسي، وأورد شواهد في هذا المجال عن الأقليات المسيحية والدروز والعلويين.

ينظر: الجيش والسياسة في سوريا، مرجع سابق، ص33 وما بعدها.

[29] نعتقد أن الأمر بحاجة لدراسة مستقلة تبحث في الواقع الاجتماعي والسياسي السوري آنذاك، وكيف كان التعبير عنه في مشروع دستور 1920، مع تلمُّس الاختلافات بينهما، والأسباب التي أدت إلى ذلك. 

[30] مثل الحدود الجغرافية السورية، وإيمان جميع المكونات السورية بالهوية الوطنية.

[31] طارق نافع المطيري، نحو عقد اجتماعي عربي جديد، مرجع سابق.

[32] “إن هذه القوّة الضامنة هي القوة الأولى التي تكون في بداية كل الأمم والأفكار، وتتّخذ هذه القوّة صوراً مختلفة عبر التاريخ؛ فأحياناً تكون على هيئة نبيّ، وأحياناً على هيئة ملِك متفرّد أو زعيم استثنائي، وأحياناً على هيئة طليعة ثوريّة أو آباء مؤسّسين”.  المرجع السابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى