الورقة البحثية ” أبرز الأفكار الواردة في التجربة السياسية الليبية بعد سقوط نظام معمر القذافي “
نبين في هذا الملخص أهم الأفكار التي استوحيناها من التجربة الليبية، والتي يمكن الاستفادة منها في المشروع السياسي للثورة السورية. وهي أفكار أولية بحاجة لمزيد بحث واستقصاء.
تتمثل أهم الأفكار التي استوحيت من التجربة الليبية بما يلي: فكرة اللوياغيريا- فكرة الحرس الوطني- الانتخابات وبناء مؤسسات الدولة- قانون العزل السياسي- موقف الثوار من مؤسستي الجيش والأمن.
أولاً- الوضع القبلي في ليبيا وفكرة اللوياجيرغا:
اللوياجيرغا سنة قبلية وتقليد قديم ضارب الجذور في التاريخ الأفغاني وتحديدا في القبائل البشتونية التي تمتد في انتشارها إلى بعض أجزاء باكستان، حيث يجتمع رؤساء القبائل ووجهاؤها السياسيون والدينيون وسواهم للتشاور في حل مشاكلهم المتعلقة بشؤونهم السياسية والعامة، وتقليديا كان يستمر اجتماعهم إلى حين التوصل إلى قرار يتخذونه بالتفاهم والإجماع، دون تصويت رسمي.
تشير معظم الكتابات إلى الطبيعة القبلية لهذا النظام، وتوافقه مع بنية المجتمع الأفغاني حيث ما تزال القبيلة محتفظة بمكانتها على الرغم من وجود سلطة الدولة، وما ترتب على ذلك من وجود أعيان وشيوخ قبليين يحتفظون بسلطة ما على أفراد قبيلتهم وعشيرتهم.
يعد هذا النظام مزيجاً بين الانتخاب العام والأعيان ومجالس شورى المقاطعات، حيث تختلف نسبة هذه الفئات من مجلس إلى آخر، وهو بذلك يشبه الهيئات العامة التي تجمع مجلسين (أحدهما منتخب والآخر معين، وذلك في الدول التي تأخذ بهذا النظام، كالولايات المتحدة، وبريطانيا، ومصر).
كانت الغاية من دراسة هذه الفكرة، وهو بحث إمكانية تطبيق نظام “اللوياجيرغا” في سوريا، بقصد إيجاد آلية أخرى إلى جانب آلية الانتخاب في الوصول إلى ممثلي الشعب.
ثانياً- صندوق الاقتراع وبناء مؤسسات الدولة: لمن الأولوية؟
من خلال دراستنا للواقع الليبي تبين أن الثوار لم يقبلوا بنتائج الانتخابات التي أجريت بعد وضع الدستور الليبي، فحاولنا دراسة الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك، والاستفادة من هذه الحالة لوضع أفضل تصور لفكرة لتطبيق فكرة “الانتخابات” ضمن المشروع السياسي للثورة.
اعتقد المجلس الوطني الانتقالي الليبي أن الطريق إلى الديمقراطية طريق مرسوم، يبدأ بانتخابات هيئة تأسيسية، تنبثق عنها حكومة مؤقتة، تليها عملية صياغة الدستوري، وتأتي بعدها انتخابات عامة.
تجاوبت بعثة الأمم المتحدة مع رغبة المجلس الانتقال، وجرت الانتخابات التي اعتبرت ناجحة بكل المعايير، وأظهرت نتائجها ترجيح كفة الليبراليين (غير الإسلاميين). غير أن كتائب الثوار التي تحمل السلاح لم تر نفسها قادرة على المشاركة بالعملية الانتخابية ترشيحاً لا اقتراعاً، وساورها الشك تجاه الأحزاب التي تشكلت بسرعة، لا سيما حيال تحالف القوى الوطنية الذي حاز على أغلبية الأصوات، والذي ضم شخصيات متنوعة بمن فيها شخصيات من النظام القديم، الذين انقلبوا عليه في آخر لحظة.
انقسم الليبيون بين من قال بأن الثورة لم تستكمل ولا بد من اقتلاع النظام القديم من جذوره، ومن أراد طي هذه الصفحة والقبول بصندوق الاقتراع وإجراء مصالحة وطنية.
لا شك أن الاحتكام للصندوق يتطلب حداً أدنى من حكم القانون ووجود المؤسسات وثقافة سياسية وتمييزاً بين الوصول إلى السلطة والاستحواذ على الدولة. فالانتخابات المستعجلة في بلد منقسم وغير مستقر، والتي تجري قبل توفر الحد الأدنى من حكم القانون، من شأنها أن تعمق الشرخ بين أبنائه.
لقد جرت الانتخابات وكانت ليبيا مثل غابة من السلاح والمسلحين الذين استمر عددهم بالازدياد تحت مسميات كتائب الثوار، الذين بلغ عددهم وفق اللوائح الرسمية 250 ألف عنصر. بالمقابل لم يكن هنالك في ليبيا لا جيش ولا شرطة بالمعنى المؤسساتي الاحترافي.
ثالثاً- كتائب الثوار ومؤسسة الجيش والأمن:
كانت الغاية من دراسة هذه الفكرة، وضع تصور عادل ومنطقي للعلاقة بين الثوار ومؤسستي الجيش والأمن.
- واقع الجيش الليبي: لم يكن في ليبيا جيش وشرطة بالمعنى المؤسساتي، فكتائب القذافي التي قادها أولاده وأقرباؤه والتي كانت الأفضل تسليحاً وتنظيماً من الجيش، انهارت وقتل منها من قتل واعتقل منها من اعتقل.
لقد كان هرم الضباط في الجيش الليبي مقلوباً، حيث يوجد عدد كبير من العقداء –وهي أعلى رتبة عسكرية في الجيش الليبي- وعدد أقل من الرواد، وأقل من النقباء…إلخ. وكان الضباط الكبار (العقداء) في معظمهم قد تخطوا سن التقاعد، ولكن القذافي لم يقعدهم حتى يبقوا تحت ناظريه ويسهل عليه مراقبتهم. كان السواد الأعظم من هؤلاء الضباط محروماً من العمل الميداني ومن التدريب المستمر. وكانت المجموعات المدربة في الجيش والشرطة قليلة العدد الصغيرة.
- كتائب الثوار والحلول محل مؤسستي الجيش والشرطة: رأى المجلس الانتقالي والحكومة المؤقتة التي عينها أن تتولى كتائب الثوار مهام الجيش –وهذه هي أولى المشاكل-، سميت بـ “دروع ليبيا” وبات المنضوون فيها يتلقون رواتبهم من الدولة، والتي كانت أعلى من رواتب الجيش.
عهد لفئة أخرى من الثوار بمهام الشرطة وسميت بـ “اللجنة الأمنية العليا”، وصار أفرادها بمثابة موظفين في الدولة. بطبيعة الحال ظلت ولاءات الكتائب السياسية وقواعدها الاجتماعية والعلاقات بين أفرادها على ما كانت عليه إبان الثورة وما بعدها، مما جعلها في حقيقة الأمر أقرب إلى المليشيات التي تميل إلى تغليب مصالحها وحساباتها المحلية الصغيرة على أدوارها الوطنية الكبيرة.
نتيجة اكتساب كتائب الثوار الصفة الشرعية وحصولها على الإمكانيات المادية، فقد الكثير من أفرادها حافز العودة إلى الحياة المدنية مع ما يرافق ذلك من احتمال البطالة، والرغبة في الانضواء فرادى في الجيش والشرطة. لقد أدى ذلك إلى تعثر بناء الجيش والشرطة بفعل غياب إرادة سياسية تدفع نحو إعادة تأسيسهما. لم تكن المشكلة تقنية أو بعدم توفر الخبرات، ولكن الحكومة كانت منقسمة في تصورها لدمج المسلحين في الجيش والشرطة وترددت في التعامل معهم، ولم تقم حواراً معهم، واكتفت بمسايرتهم حيناً، والشكوى من ابتزازهم حيناً آخر.
مارست بعض كتائب الثوار ضغطاً على المؤتمر العام وعلى الحكومة في آن معاً، ولم يقدموا تصوراً لمستقبلهم، بل توقفوا عند إعلانهم “عدم الاستعداد للانضمام للجيش أو الشرطة طالما أن فيه أعداداً كبيرة من ضباط النظام السابق ممن ليسوا جديرين بثقتهم“.
انسحب موقف الثوار ومعهم حلفاؤهم من أعضاء المؤتمر الوطني العام من الإسلاميين الرافض للاندماج في الجيش والشرطة، على باقي أجهزة الدولة.
رابعاً- فكرة الحرس الوطني:
وهي فكرة تم اقتراحها لضم الثوار إلى جهاز ومؤسسة بعيداً عن الجيش والأمن، وميزته أن العناصر تخدم في مناطقها، فشلت هذه الفكرة لعدم وجود إرادة سياسية للتعاطي مع مثل هذه المقترحات.
أيضاً، تم وضع هذه الفكرة بالحسبان من أجل منح كتائب الثوار غطاءً قانونياً وشرعياً فيما لو رفضوا الدخول في مؤسستي الجيش والأمن. ميزة هذه الفكرة، أنها تحقق توازناً عسكرياً داخل الدولة بين النظام القديم ممثلاً بالجيش والأمن (وذلك في حال عدم القدرة على حلها أو إعادة هيكلتها أو رفض كتائب الثوار الانضمام لها)، وبين النظام الجديد ممثلاً بالثوار.
خامساً- قانون العزل السياسي وآثاره:
كذلك بُحثت هذه الفكرة من أجل وضع تصور مقبول لهذا القانون بحيث يتم تفادي آثار السلبية، والتي يمكن أن تنسف جهود بناء مؤسسات الدولة بعد نجاح الثورة.
تجربة قانون العزل السياسي وآثاره في ليبيا:
أدت الضغوط والمناورات “الضغوط على المؤتمر الوطني، والمناورات داخله” إلى إقرار قانون العزل السياسي في أيار 2013، والذي جاء واسع النطاق شاملاً كل من احتل منصباً على شيء من الأهمية منذ عام 1969، أو عمل في اللجان الشعبية التي أنشأها القذافي.
لقد ترتب على صدور هذا القانون آثار عدة أهمها:
- حرم هذا القانون فئة واسعة من الليبيين من الحق في تولي المناصب العامة، كقانون اجتثاث البعث في العراق وربما أسوأ. وعلى الرغم من النصائح المتكررة من مفاعيله تغلب منطق الانتقام لدى الثوار ممن حسبوهم أعداء الثورة على منطق المصالحة الذي لا يستبعد إلا من تلطخت أيديهم بدماء الليبيين أو نهبوا المال العام.
- لقد أنذر هذا القانون بإفراغ الوزارات والمؤسسات العام من الكفاءات التي خدمت في السابق الدولة الليبية دون أن تكون بالضرورة شريكة في حكم القذافي أو جرائمه، وهذا ما زاد في صعوبة بناء مؤسسات الدولة ليس العسكرية فحسب بل المدنية أيضاً.
- عمّق إصدار القانون المذكور الانقسام السياسي، وغيّر موازين القوى داخل المؤتمر الوطني العام، فبعد أن كانت هنالك أغلبية ليبرالية وأقلية إسلامية، أصبح الأمر معكوساً بعد القانون، فخسر تحالف القوى الوطنية عدداً من أعضائه ممن طالهم القانون، وانفك عنه عدد آخر لا سيما أن رئيسه محمود جبريل وقع ضحية العزل المذكور، ولم يكن جبريل الشخصية الوحيدة التي أدى صدور القانون إلى إبعادها، فالدكتور محمد المقرافي زعيم المعارضة ضد القذافي طيلة ثلاثة عقود اضطر للاستقالة استباقاً لاحتمال إقالته بموجب هذا القانون لأنه كان سفيراً في الهند بين عامي 1978-1980.
موقف القوى الليبرالية (غير الإسلامية) بعد صدور قانون العزل السياسي:
انتهجت القوى السياسية غير الإسلامية طريق الدفاع عن النفس، وبدأت تشكك في شرعية المؤتمر الوطني العام، واستاءت من تنامي نفوذ كتائب الثوار الإسلاميين المنحدرين من مدينة مصراته، والتي كان لها دوراً مهماً في الثورة. حيث اختلف الليبيون حول حق كتائب مصراته في اقتطاع حصة من السلطة مكافأة لها على دورها في الثورة.
لقد بدأت هذه القوى السياسية “غير الإسلامية” معركتها ضد “الإسلاميين” على صعيدين:
- سعت من جهة إلى تعبئة الليبيين ضد كتائب الثوار الذين نعتوا بوصف الإسلاميين ووصموا بالإرهاب.
- اعتمدت بشكل متزايد على كتائب أخرى وجماعات مسلحة تناصب الإسلاميين وكتائب مصراته العداء، منها: كتائب القعقاع والصواعق وكتائب الزنتان.
لم تتبع القوى الوطنية غير الإسلامية نهجاً سياسياً منسجماً، فبينما كانت تحث المدنيين على رفض المسلحين، كانت تلعب لعبة المسلحين وتحاول إيجاد نوع من توازن القوى العسكرية، أي توازن الرعب الذي أعاق التقدم في طريق بناء الدولة.
استمر الطعن في شرعية المؤتمر الوطني العام، وأطلقت حمله ضده “لا للتمديد”، ونتيجة ذلك عُين موعد حزيران لإجراء انتخابات مبكرة، كانت حرة ونزيهة وشاركنا في تنظيمها، ولكن تبين أن عدداً كبيراً من الليبيين (500 ألف من أصل 1.7 مليون) عزفوا عن ممارسة حقهم في الاقتراع معبرين بذلك عن خيبة أملهم في العملية السياسية، ومسجلين اعتراضهم على سلوك النخب السياسية.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة